تتجاوز أهمية انتخابات التجديد النصفي الأميركية المقبلة قدرتها على تعزيز أجندة إدارة بايدن، أو تعطيلها، في العامين المقبلين، إلى تأثيرها في استقرار النظام السياسي الأميركي برمته. وتُعد الانتخابات مفصليةً؛ ليس فقط بالنسبة إلى الجمهوريين والديمقراطيين داخل الولايات المتحدة، بل إنها تتعدّى هؤلاء جميعًا إلى العالم كلّه، وذلك بالنظر...
تجري انتخابات التجديد النصفي الأميركية في 8 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، وتشمل جميع مقاعد مجلس النواب البالغ عددها 435 مقعدًا، إضافة إلى 35 من مقاعد مجلس الشيوخ البالغ عددها 100 مقعد، وحكام 36 ولاية من أصل خمسين ولاية. ويتنافس الحزبان، الديمقراطي والجمهوري، على الحصول على الأغلبية في الكونغرس، بمجلسيه؛ النواب والشيوخ. ويتنافسان، أيضًا، على الظفر بمزيد من الولايات. ويسيطر الديمقراطيون حاليًّا على مجلس النواب بأغلبية بسيطة لا تتجاوز تسعة مقاعد، في حين يقتسمون مع الجمهوريين مجلس الشيوخ مناصفة (50+50)، مع صوت نائبة الرئيس، كاميلا هاريس، مرجحًا.
أما على مستوى الولايات، فتوجد 28 ولاية يحكمها حاكم جمهوري، و22 ولاية يحكمها حاكم ديمقراطي. وفي بعض الولايات، يقتسم الحزبان السيطرة على منصب حاكم الولاية والأغلبية في المجلس التشريعي الخاص بالولاية. وترجّح استطلاعات الرأي تفوقًا للحزب الجمهوري في انتخابات مجلس النواب والولايات، في حين تنقسم الآراء بشأن السيطرة على مجلس الشيوخ.
انتخابات مفصلية
ترجح جلُّ استطلاعات الرأي تقدّم الجمهوريين في الانتخابات النصفية المقبلة، التي يعتبرها كثيرون مفصلية في ظل الانقسام العميق السائد في المجتمع الأميركي، ويُتوقع أن تكون نسبة الإقبال فيها مرتفعة[1]. ويُظهر تحليل أجرته صحيفة ذي واشنطن بوست أن الحركة المنبثقة من مزاعم الرئيس السابق دونالد ترامب، المتمثلة في أن انتخابات 2020 قد جرى تزويرها وسرقتها منه لمصلحة جو بايدن، أصبحت أكثر قوة وتجذرًا داخل الحزب الجمهوري، مقارنةً بما كانت عليه من قبل. ويتبنى 291 مرشحًا جمهوريًّا على المستوى الوطني تلك المزاعم، ومنهم 171 مرشحًا يتنافسون على مقاعد جمهورية تُعد محسومة بالنسبة إليهما؛ على المستوى الفدرالي أو على مستوى الولايات، في حين يخوض 48 آخرون من المرشحين انتخابات متقاربة جدًّا.
ويشير تحليل آخر لـ “Cook Political Report” إلى أن 230 مرشحًا جمهوريًّا لعضوية مجلس النواب الأميركي هم من الرافضين لنتيجة الانتخابات الرئاسية 2020، وأنّ 147 منهم مرشحون لمقاعد محسومة لمصلحتهم، و29 آخرين يخوضون سباقات تنافسية. ويوجد في مجلس النواب الحالي 139 عضوًا جمهوريًّا ممن عارضوا تصديق نتائج انتخابات 2020 التي فاز فيها بايدن، وأغلبهم يشغل مقاعد محسومة، وقد ينضم إليهم نحو 33 عضوًا آخر بعد انتخابات تشرين الثاني/ نوفمبر.
بناءً على ذلك، يُتوقع أن تشهد الانتخابات المقبلة مزاعم تزوير ورفض اعتراف بالنتائج على غرار ما جرى قبل عامين. إلا أن الأخطر هو تداعيات ذلك على انتخابات 2024، التي ستشمل منصب الرئاسة. ففي ضوء ترجيح استطلاعات الرأي تحقيق الجمهوريين نصرًا كبيرًا، بعد أسابيع قليلة، في الانتخابات النصفية، على الأقل في مجلس النواب، وفي بعض المناصب الحساسة في بعض الولايات المتأرجحة التي تشرف على الانتخابات، مثل أريزونا وبنسلفانيا وويسكونسن، فإن المشككين في شرعية الانتخابات سيكون لهم نفوذ كبير في تصديق نتائجها واختيار الرئيس المقبل، في حال التنازع عليها. إنْ حدث ذلك، فستكون الولايات المتحدة الأميركية؛ أمام أزمة دستورية عميقة، وتقويض الثقة بالنظام الديمقراطي.
لا تتوقف هواجس الديمقراطيين بشأن فوزٍ جمهوري محتمل في الانتخابات المقبلة، أو التشكيك في النتائج إنْ خسر المرشحون الجمهوريون هذه الانتخابات، بل يتخوف البعض من أن يسعى مجلس النواب في حال سيطرة الجمهوريين عليه إلى محاولة عزل الرئيس بايدن، بضغط من ترامب الذي جرى التصويت على عزله مرتين عام 2020 في ظل الأغلبية الديمقراطية، والذي يسعى لـ "الانتقام"[2]. ورغم أنّ الجمهوريين لن ينجحوا في خلع بايدن حتى لو فازوا بأغلبية مجلس الشيوخ، لأن هذا الأمر يتطلب موافقة ثلثي الأعضاء، فإنّه يؤسس لفوضى كبيرة في الولايات المتحدة تؤدي إلى اضطراب قدرة الإدارة على الحكم، داخليًّا وخارجيًّا، وستفاقم أيضًا حدة الانقسام في الطريق إلى انتخابات 2024. وقد وجد استطلاع للرأي أن 49 في المئة من الناخبين فقط يرون ضرورة أن يقبل المرشح الذي يدعمونه بالهزيمة، وفي المقابل يرى ذلك ثلث الجمهوريين فقط[3].
أهم قضايا الانتخابات
تؤكد استطلاعات الرأي أنّ قضيتَي الاقتصاد والتضخم تقعان في مقدمة أولويات الناخبين، رغم وجود تفاوت بين الديمقراطيين والجمهوريين لناحية ترتيب سلّم الأولويات. ويكتسب الاقتصاد والتضخم أهمية مضاعفة في الدوائر الانتخابية التي يشتد فيها التنافس بين الحزبين، الجمهوري والديمقراطي؛ ففي حين يرى 59 في المئة من الناخبين على المستوى الوطني أن الاقتصاد سيحدد الذين سيصوتون له في الانتخابات المقبلة، ترتفع هذه النسبة إلى 67 في المئة في الدوائر الانتخابية التنافسية. وينطبق الأمر نفسه على التضخم؛ إذ ترتفع النسبة من 56 في المئة وطنيًّا إلى 64 في المئة على مستوى الدوائر الانتخابية التنافسية[4]. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن انتخابات مجلس النواب، تحديدًا، تجري على مستوى الدوائر الانتخابية، وليس على مستوى الولاية، كما هو الشأن بالنسبة إلى انتخابات مجلس الشيوخ.
ويرى 3 من كل 4 أميركيين أنّ الاقتصاد إمّا أنه "ليس جيّدًا" وإمّا أنه "سيِّئ". مقابل ذلك، يقول أميركي واحد من كل 4 أميركيين إنه "جيّد" أو "ممتاز". بناءً على ذلك، ونظرًا إلى أنّ الديمقراطيين يسيطرون على البيت الأبيض وعلى الكونغرس، تُظهر استطلاعات الرأي أنّ الجمهوريين يتقدمون على الديمقراطيين بـ 17 نقطة في ما يتعلق بثقة الناخبين المسجلين في التعامل مع الاقتصاد، وبـ 18 نقطة في التعامل مع التضخم، وبـ 22 نقطة في التعامل مع الجريمة. ومن ناحية أخرى، يتقدم الديمقراطيون على الجمهوريين بـ 17 نقطة في التعامل مع الإجهاض، وبـ 21 نقطة في التعامل مع تغير المناخ. وبالنسبة إلى من يمثّل الاقتصاد أولويتهم الأولى أثناء التصويت، قال 64 في المئة منهم إنهم سيصوتون للجمهوريين. وكذلك الأمر بالنسبة إلى التضخم؛ إذ قال 58 في المئة ممن يرون أن التضخم هو أهم قضية لديهم إنهم سيصوتون للجمهوريين. أما من ذكروا أن الإجهاض هو قضيتهم الأولى في الانتخابات، فإن 66 في المئة منهم سيصوّتون للديمقراطيين[5]، في حين نجد تفاوتًا بشأن أولويات قواعد الحزبَين الديمقراطي والجمهوري. وبالنسبة إلى الديمقراطيين، يأتي حق التصويت ونزاهة الانتخابات أولًا (70 في المئة)، ثم الإجهاض (63 في المئة)، ثم سياسة اقتناء الأسلحة (63 في المئة)، ثم تغير المناخ (60 في المئة). في حين، يعتبر 75 في المئة من الجمهوريين أن الاقتصاد هو القضية الأعلى في سلّم أولوياتهم، ثم التضخم (73 في المئة)، فالهجرة (65 في المئة)، فحق التصويت ونزاهة الانتخابات (64 في المئة)[6].
اتجاهات الناخبين
غالبًا ما يُنظر إلى الانتخابات النصفية على أنها استفتاء على الحزب الحاكم؛ وهو في هذه الحالة الحزب الديمقراطي. تاريخيًّا، يخسر الحزب الحاكم الانتخابات النصفية إلّا في حالات استثنائية قليلة. ورغم أن أغلب استطلاعات الرأي تؤكد أنّ الديمقراطيين في طريقهم إلى خسارة قاسية للانتخابات النصفية؛ من جرّاء تراجع الاقتصاد، ونسب التضخم العالية، وارتفاع أسعار الطاقة وغيرها من السلع الأساسية والكمالية، فإنّ ثمَّة عوامل جديدة برزت في الأشهر القليلة الماضية عدّلت، نوعًا ما، من تنبُّؤات المحللين المتشائمة بالنسبة إلى الديمقراطيين.
هذا لا يعني أنّ تغييرًا جذريًّا طرأ على النتائج المتوقعة لانتخابات تشرين الثاني/ نوفمبر المقبلة، فلا يزال جلّها يصب في مصلحة الجمهوريين، وتحديدًا في مجلس النواب. لكن الاستطلاعات، منذ صيف 2022 لم تَعد تُظهر فوزًا ساحقًا لهم في مجلس النواب[7]؛ فقد تراجعت أعداد المقاعد التي كانوا سيحصلون عليها، مع أن المرجح أنهم سيتمكنون من تشكيل أغلبية نيابية؛ ومن ثمّ تولي رئاسة المجلس. وفي ما يخص مجلس الشيوخ، تبدو الصورة أكثر ضبابية، بل إنّ عددًا متزايدًا من استطلاعات الرأي تُظهر أنّ الديمقراطيين قد يحافظون على التوازن القائم حاليًّا (50-50) مع صوت نائبة الرئيس مرجِّحًا لمصلحتهم، في حين تتنبَّأ استطلاعات أخرى بأنّ الديمقراطيين قد ينجحون في الفوز بمقعد أو مقعدين إضافيين في المجلس[8].
وتتلخص العوامل الجديدة التي قد تساهم في التقليل من وطأة خسارة للديمقراطيين في جملة تطورات أهمها:
قرار المحكمة العليا، بأغلبيتها المحافظة، إلغاء حق الإجهاض المعمول به منذ عام 1973، وتخويل كلِّ ولاية، على حدة، سلطة تشريعه. فقد استفز القرار الديمقراطيين والنساء الصغيرات السن، وخلق دافعًا لديهم للتصويت في الانتخابات المقبلة[9].
تقدّم التحقيقات النيابية حول دور الرئيس السابق ترامب في أحداث اقتحام أنصاره مبنى الكونغرس، خلال كانون الثاني/ يناير 2021، في محاولة لوقف تصديق نتائج الانتخابات الرئاسية التي فاز فيها بايدن. أضف إلى ذلك مشكلاته القانونية المتصاعدة في نيويورك بشأن قضايا تتعلق بأعماله التجارية والتهرب الضريبي، فضلًا عن اقتحام عناصر فدرالية مقر إقامته في مارالاغو في ولاية فلوريدا بحثًا عن مستندات سرية نقلها من البيت الأبيض بعد مغادرته، ورفضه تسليمها[10]. وبحسب استطلاع للرأي، تؤيد أغلبية ضئيلة من الأميركيين (52 في المئة) محاكمة الرئيس السابق بتهم ارتكاب جرائم بسبب كيفية تعامله مع وثائق سرية، أو جمع الأموال بالخداع، أو بسبب دوره في الهجوم على مبنى الكونغرس[11].
نجاح عدد كبير من المرشحين الذين دعمهم ترامب في الانتخابات الجمهورية التمهيدية، والذين يُنظر إليهم على أنهم أقل كفاءةً من المرشحين الذين دعمتهم مؤسسة الحزب، أو أنهم يتبنون مواقف متطرفة، أمرٌ قد لا يقبل به الناخبون في الانتخابات العامة. وقد ساهم ذلك في تعزيز حظوظ بعض المرشحين الديمقراطيين، خصوصًا لمجلس الشيوخ، كما هو الشأن في ولايات أريزونا وبنسلفانيا وأوهايو وويسكونسن وجورجيا ونيفادا ونيوهامشر. وتشير بعض استطلاعات الرأي في الولايات المتأرجحة السابقة إلى أن نسبة تأييدها بالنسبة إلى المرشحين الديمقراطيين لمجلس الشيوخ تفوق نسبة تأييد الرئيس بايدن[12].
تسجيل إدارة بايدن والديمقراطيين بعض النجاحات التشريعية الكبيرة، مثل مشروع تطوير البنى التحتية الأميركية، ومشروع خفض التضخم، والسماح لنظام الرعاية الصحي الحكومي التفاوض مع شركات الأدوية لخفض أسعارها، إضافةً إلى تصنيع أشباه الموصلات، وتسريع الانتقال إلى اقتصاد الطاقة النظيفة[13]، فضلًا عن إعفاءات من القروض الدراسية بالنسبة إلى بعض الطلاب، وانخفاض نسبي في أسعار الوقود[14].
نظرة بعض الناخبين المستقلين بقلق إلى عودة الجمهوريين إلى الحكم في ظل تأثير ترامب في الحزب، وهو ما يرون فيه تهديدًا لحقوقهم، وتهديدًا لقيم الديمقراطية نفسها[15].
ارتفاع التأييد الشعبي العام لبايدن، وكذلك داخل الحزب الديمقراطي. فعلى المستوى الشعبي، ارتفع التأييد لبايدن من 38 في المئة في حزيران/ يونيو 2022 إلى 44 في المئة الآن[16]. وارتفعت نسبة من ينظرون بإيجابية إلى أدائه بين الديمقراطيين من 75 في المئة، في تموز/ يوليو 2022، إلى 87 في المئة خلال مطلع تشرين الأول/ أكتوبر. أما المستقلون، فقد ارتفعت نسبة تأييدهم له، في الإطار الزمني نفسه، من 28 في المئة إلى 39 في المئة[17]. ومع أن هذه النسب تبقى منخفضة، فإنها أفضل كثيرًا مما كانت عليه قبل عدة أشهر. وكل ما سبق، رفع الحماسة لدى الناخبين الديمقراطيين المسجلين؛ إذ يقول 3 من كل 4 منهم إنهم سيصوتون، على نحو شبه مؤكَّد، مقارنةً بحوالى 8 من كل 10 جمهوريين[18].
وتشير بعض استطلاعات الرأي، على الرغم من ذلك، إلى تقدّم الديمقراطيين على الجمهوريين على المستوى الوطني في حال إجراء الانتخابات في الوقت الحاليّ (50 في المئة-47 في المئة). غير أنّ التحدي الحقيقي سيكون في المقاعد الخمسين أو الستين التي ستحدد مصير مجلس النواب. وأثناء استطلاع آراء الناخبين المحتملين في الدوائر الانتخابية، يقول 48 في المئة منهم إنهم سيصوتون للمرشح الجمهوري، مقابل 43 في المئة يقولون إنهم سيصوتون للمرشح الديمقراطي. وهذا يعني عمليًّا خسارة الديمقراطيين لمجلس النواب. ولا تتوقف مشكلات الديمقراطيين عند هذا الحد؛ إذ تشير استطلاعات الرأي إلى أن المجموعات الأساسية الداعمة لهم، مثل الشباب والسود واللاتينيين، وإلى حد ما النساء، أقل حماسة للتصويت لمصلحتهم مقارنةً بالانتخابات السابقة. ففي انتخابات 2018 مثلًا، كانت نسبة النساء اللائي قلن إنهن يدعمن الديمقراطيين 59 في المئة، ولكنّ عددهن انخفض في هذه الانتخابات إلى 53 في المئة. أمّا الملونون، فقال 69 في المئة منهم، في ذلك الوقت، إنهم يدعمون الديمقراطيون، لكن النسبة الآن صارت 59 في المئة. وأمّا بشأن الذين تقلُّ أعمارهم عن 45 عامًا، فكان التفوق في هذه الانتخابات لمصلحة الديمقراطيون بخمس عشرة نقطة، مقابل ثماني نقاط بالنسبة إلى الجمهوريين. وفي ما يخص المستقلين، فإن 47 في المئة منهم يؤيدون الجمهوريين، في مقابل تأييد 42 في المئة للديمقراطيين[19].
خاتمة
تتجاوز أهمية انتخابات التجديد النصفي الأميركية المقبلة قدرتها على تعزيز أجندة إدارة بايدن، أو تعطيلها، في العامين المقبلين، إلى تأثيرها في استقرار النظام السياسي الأميركي برمته. وتُعد الانتخابات مفصليةً؛ ليس فقط بالنسبة إلى الجمهوريين والديمقراطيين داخل الولايات المتحدة، بل إنها تتعدّى هؤلاء جميعًا إلى العالم كلّه، وذلك بالنظر إلى مكانة الولايات المتحدة وموقعها في النظام الليبرالي الدولي.
اضف تعليق