حظر التجارة مع العدو أمر منطقي في النزاعات الشاملة، ولكن عند التعامل مع مشكلات شائعة ــ مثل الأمراض والانبعاثات الغازية التي تنتقل عبر الحدود وبين القارات ــ لا يوجد أعداء، بل شركاء محتملون (وضروريون) فقط. وعندما يتعلق الأمر بتهديد الجوع، وهو أحد العواقب المرعبة العديدة المترتبة على حرب روسيا...
بقلم: هارولد جيمس
برينستون ــ كان في غزو روسيا لأوكرانيا تحديا للنظام الدولي، ولكن كذلك كانت استجابة الدول الصناعية الكبرى. في خطاب لافت للانتباه ألقته أمام المجلس الأطلسي في وقت سابق من هذا الشهر، استشهدت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين باستجابة الصين الغامضة للعدوان الروسي كسبب "لنقل المزيد من الإنتاج إلى مناطق صديقة". تتلخص الفكرة في أن الولايات المتحدة وشركاءها وحلفاءها ينبغي لهم فرض المزيد من السيطرة على سلاسل التوريد المهمة من خلال تحويل علاقاتهم التجارية بعيدا عن المنافسين الاستراتيجيين.
يتناقض مبدأ يلين في نقل الإنتاج إلى مناطق صديقة بشكل صارخ مع العقيدة الغربية القائمة منذ أمد بعيد والتي نشأت أثناء الحرب الباردة. لعقود من الزمن، لاحق قادة الولايات المتحدة وأوروبا استراتيجية العولمة، التي تشكل العلاقات التجارية على أساس فهم مفاده أن البلدان المهمشة أو المعادية في السابق يمكن إدخالها في نظام دولي مستقر واحد من خلال العلاقات التجارية والمالية. لم يكن الأمل في تسبب النمو الاقتصادي في تخفيف حدة الصراعات الإيديولوجية والأمينة أشد وضوحا وتأثيرا قَـط مما كان عليه في ألمانيا.
من خلال سياسة "التغيير من خلال التجارة"، لاحقت ألمانيا لفترة طويلة نهج التجارة أولا في إدارة العلاقات مع روسيا، ومع الاتحاد السوفييتي من قبلها. كان هذا دوما مصدر توتر بين القوى الغربية. منذ رئاسة رونالد ريجان قبل 40 سنة، كانت الولايات المتحدة تُـعـرِب عن مخاوفها إزاء التأثير الذي تخلفه مشاريع خطوط الأنابيب الروسية الألمانية على الغايات الأمنية عبر ضفتي الأطلسي. بطبيعة الحال، ربما ساعدت المشاركة الألمانية على المستويين الاقتصادي والدبلوماسي في التخفيف أيضا من حدة مواقف الاتحاد السوفييتي حتى أواخر ثمانينيات القرن العشرين، مما أدى إلى إنهاء الحرب الباردة.
في وقت لاحق، أصبحت بريطانيا النصير الرئيسي لتطبيق استراتيجية العولمة على الصين. في عام 2015، بعد الترحيب الحار بالرئيس الصيني شي جين بينج، احتفت حكومة رئيس الوزراء ديفيد كاميرون بقدوم "عصر ذهبي" جديد حيث من الممكن أن تصبح المملكة المتحدة "أفضل شريك للصين في الغرب". ولكن في غضون بضع سنوات، بدأت بريطانيا الخروج من الاتحاد الأوروبي، وكانت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب تحاول إضعاف وهدم النظام الدولي. وبهذا، أُلـقي على عاتق المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بمهمة الإبقاء على شعلة العولمة متقدة من خلال العمل مع شي جين بينج.
ليس من غير المعقول ولا من الخطأ أن نتصور أن التجارة قادرة على الإقناع وتهدئة التوترات في الحالات التي تفشل في التعامل معها أي أساليب أخرى. جاء التعبير عن هذه الاستراتيجية بأكبر قدر من التفصيل والوضوح في سبعينيات القرن العشرين، عندما بلغت التوترات الدولية أشدها بسبب حرب يوم الغفران (السادس من أكتوبر/تشرين أول) واستراتيجية مصدري النفط في الشرق الأوسط القائمة على الابتزاز الاقتصادي. دعا وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر إلى انتهاج سياسة تستند إلى السماح لمصدري النفط بتحقيق مكاسب مع تشجيعهم على إيداع أرباحهم المتنامية في النظام المصرفي الغربي. قد لا يصبحون أصدقاء للغرب، لكنهم على الأقل سيصبحون أكثر جدارة بالثقة.
لأسباب خاصة للغاية، أصبحت هذه الفلسفة تبدو شديدة السذاجة. الآن يركز الجميع على نقاط الضعف التي تخلقها الاتكالية المتبادلة على المستوى الاقتصادي. كان خط أنابيب الغاز نورد ستريم 2 من روسيا إلى ألمانيا على وشك بدء التشغيل أخيرا عندما شن الرئيس الروسي فلاديمير بوتن غزوه. وربما يُـذكَـر هذا الآن على أنه الرمز الأعظم لسوء تقدير تاريخي.
من السهل إلقاء اللوم على الألمان الذين دفعوا في اتجاه إتمام المشروع على الرغم من الاعتراضات من جانب الولايات المتحدة وجِـهات أخرى. يرفض المستشار الألماني السابق جيرهارد شرودر بشكل قاطع الاعتراف بأن اعتماد ألمانيا عل الطاقة الروسية أصبح يمثل مشكلة واضحة. ولا يزال سعيدا بمنصبه المجزي ماديا كرئيس لمجلس إدارة شركة روسنفت، شركة النفط الروسية التي تسيطر عليها الدولة، ويصور نفسه على أنه وسيط محتمل بين روسيا والغرب.
لكن خطأ ألمانيا الأكبر لم يكن في تمديد خطوط الأنابيب؛ بل في سلسلة أخرى من القرارات السياسية التي اتخذتها والتي جعلتها تعتمد بشكل مفرط على مصدر طاقة بعينه. في أعقاب كارثة فوكوشيما في اليابان في عام 2011، قررت ألمانيا الخروج على نحو مفاجئ من الطاقة النووية. ولكن نظرا لعجز مصادر أخرى مثل طاقة الرياح والطاقة الشمسية عن توفير القدر الكافي من الطاقة لتلبية الطلب (من المعروف أن ألمانيا ليست مشمسة أو كثيرة الرياح بشكل خاص)، فكان من اللازم تكميل هذه المصادر بالاستعانة بالغاز المستورد. وفي استيراد الغاز، قدمت ألمانيا الكفاءة على القدرة على الصمود في الأهمية، فاعتمدت على خطوط الأنابيب من روسيا بدلا من بناء محطات جديدة للغاز الطبيعي الـمُـسال لتمكين استقبال الشحنات من الولايات المتحدة أو الشرق الأوسط.
في عموم الأمر، إذا كان للتجارة أن تعمل على تعزيز السلام، فيجب أن تكون الغَـلَـبة للتعددية على العلاقات الثنائية. اعتمدت استراتيجية كيسنجر في سبعينيات القرن العشرين على حقيقة مفادها أن أوروبا ستطور مواردها الخاصة من الطاقة في بحر الشمال، وأن الولايات المتحدة ستعمل على توسيع الإنتاج المحلي في تكساس وألاسكا، فضلا عن زيادة التجارة مع المكسيك وفنزويلا.
في وقت مبكر أثناء اندلاع موجات من الثورات الأوروبية في عام 1848، قـال رجل الدولة والاستراتيجي البريطاني اللورد بالمرستون: "ليس لدينا حلفاء أبديون، ولا أعداء دائمون. أما مصالحنا فهي أبدية ودائمة، ومن واجبنا السعي إلى تحقيق هذه المصالح". الحق أن هذه الحكمة خالدة. في القرن الحادي والعشرين، كما كانت الحال في القرن التاسع عشر، من المستحيل التنبؤ بالكيفية التي قد تتطور بها السياسات المحلية أو السياسات التجارية في أي بلد.
لنتأمل هنا الصدمة المزدوجة التي شهدها عام 2016، عام خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وانتخاب ترمب. من يستطيع أن يضمن أن روسيا لن تخضع لعملية عميقة من إعادة توجيه السياسة ــ بل وحتى التحول الديمقراطي ــ في أعقاب حرب أديرت بدرجة كارثية من السوء؟
سوف يظل تحديد أي كيان لأصدقائه الدوليين ممارسة تنطوي دائما على مشاكل معقدة. لقد أصيب قادة الولايات المتحدة وأوروبا بالفزع إزاء القائمة الطويلة من الدول التي لم تؤيد اقتراحات إدانة روسيا في الجمعية العامة للأمم المتحدة. ولكن من غير الحكمة، ومن المكلف، أن نسمح لهذه الأصوات بالتأثير على اتجاه التجارة في المستقبل.
الواقع أن حظر التجارة مع العدو أمر منطقي في النزاعات الشاملة، ولكن عند التعامل مع مشكلات شائعة ــ مثل الأمراض والانبعاثات الغازية التي تنتقل عبر الحدود وبين القارات ــ لا يوجد أعداء، بل شركاء محتملون (وضروريون) فقط. ويصدق ذات القول عندما يتعلق الأمر بتهديد الجوع، وهو أحد العواقب المرعبة العديدة المترتبة على حرب روسيا. في نهاية المطاف، لن يكون نقل التصنيع إلى المناطق الصديقة كافيا لإطعام الناس؛ بل الأرجح أنه سيصنع المزيد من الأعداء.
اضف تعليق