خوف بوتين الدائم من تجذر الديمقراطية في أوكرانيا، مما عزز جهوده لتدمير وحدة أراضي أوكرانيا. إخفاق أوروبا في تطوير جهاز أمني جديد مناسب لعالم يمر بإعادة تنظيم سياسي تكتوني. الخلل الحاسم الذي ينبغي إصلاحه الآن راجع لعدم قدرة أوروبا نفسها على التحرك نحو اتحاد سياسي أكبر...
بقلم: هارولد جيمس
برينستون- إن احتمال أن تشهد أوروبا حربا واسعة النطاق لأول مرة منذ عام 1945 يدعو إلى طرح سؤال واضح: أين يكمن الخطأ؟ بل كيف زرع الانهيار السريع للاتحاد السوفيتي بذور الصراع الجديد الذي اندلع اليوم؟
وحتى الآن، يركز النقاش في أوروبا وأمريكا الشمالية على توسع الناتو باتجاه الشرق بعد الحرب الباردة. إذ يزعم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، والعديد من المدافعين عنه ومن يسمون أنفسهم ب"المتفاهمين"، أن توسع الناتو انتهك تفاهمًا سابقًا في أوائل تسعينيات القرن العشرين. وشيئاً فشيئاً، تُكشف أسرار جديدة عن العديد من صانعي السياسة في الغرب ممن تعاطفوا مع فكرة أن الناتو كان يجب أن يظل في مكانه.
صحيح أن الحكومة الألمانية تلاعبت بفكرة أنه ينبغي استبعاد ما كان سابقا ألمانيا الشرقية من الناتو (وهو ما اعتبره الاستراتيجيون في واشنطن العاصمة موقفا سخيفًا). ولكن هذا الجدل مضلل، لأنه يتجنب القضية الرئيسية: خوف بوتين الدائم من تجذر الديمقراطية في أوكرانيا، مما عزز جهوده لتدمير وحدة أراضي أوكرانيا. لذا، يجب أن يركز النقاش التاريخي والمعاصر على موضوع مختلف وهو: إخفاق أوروبا في تطوير جهاز أمني جديد مناسب لعالم يمر بإعادة تنظيم سياسي تكتوني.
إن الخلل الحاسم الذي ينبغي إصلاحه الآن راجع لعدم قدرة أوروبا نفسها على التحرك نحو اتحاد سياسي أكبر منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي. آنذاك، كان المستشار الألماني، هيلموت كول، والرئيس الفرنسي، فرانسوا ميتران، يدركان تمامًا أن أوروبا كانت بحاجة إلى الجرأة في تعزيز بنيتها المؤسسية استعداداً لحقبة ما بعد الحرب الباردة. ولو كان الرد الأوروبي واثقا ويدعو إلى اتحاد سياسي أعمق، لَتطلب بالضرورة اتحادا عسكريا أكثر إحكامًا. إلا أن الأوروبيين، الذين كانوا يفتقرون إلى مخطط مدروس جيدًا، اتفقوا على اتحاد نقدي فقط.
ونظرًا لأن أعضاء المجموعة الأوروبية، كما كان يُعرف آنذاك، حولوا اهتمامهم إلى الاتحاد النقدي، فقد رفضوا خطوة منطقية ربما كانت ستكون مصحوبة بإنشاء عملة موحدة، وكانت ستمكن من تقديم استجابة قوية ومقنعة لانهيار الشيوعية والاضطرابات الجيوسياسية التي شهدتها الفترة 1989-1991. وعلى الرغم من أن معاهدة "ماستريخت" لعام 1991 نصت على مفهوم المواطنة الأوروبية (المادة 9)، وفتحت الباب لسياسة خارجية وأمنية مشتركة، إلا أن الاتحاد لم يكن مكتملا، لأن المواطنة الوطنية استمرت، والاختبار الكلاسيكي للالتزام المدني- "هل أنت مستعد للموت من أجل بلدك؟"- لم يُعرض قَط على مواطني أوروبا.
وكانت المشكلة تكمن في أن وزارات الدفاع الوطني، والأهم من ذلك، جماعات الضغط الدفاعية الفرنسية، والألمانية، والبريطانية، رفضت أي احتمال لاتحاد عسكري. وهكذا استمرت أوروبا في الاعتماد على الناتو. وعندما كانت هناك حاجة لبادرة وحدة أوروبية كبرى بعد عام 1989، انتهز الأوروبيون خارطة طريق قائمة لتحقيق اتحاد نقدي. وهذه الخطط قائمة بالفعل ليس بسبب أي توتر جيوسياسي، ولكن لأن المشكلة التي شرعوا في التعامل معها- اختلالات الحساب الجاري في أوروبا والعالم- كانت على جدول الأعمال منذ عقود.
ومن المؤكد أن الأبعاد الأمنية للسياسة الأوروبية قد نوقشت على نطاق واسع في الفترة التي سبقت مؤتمر (ماستريخت)، وكانت مصدرًا رئيسيًا لانعدام الصلة بين الاتفاقيات المتعلقة بالاتحاد النقدي الأوروبي والاتحاد السياسي الأوروبي. وضغطت فرنسا، على وجه الخصوص، من أجل تعزيز منظمة الدفاع في الاتحاد الأوروبي الغربي، التي كانت تضم الأعضاء الأوروبيين في الناتو في ذلك الوقت. ولكن المملكة المتحدة رأت أن هذا الاقتراح غير واقعي، ورأى كثيرون آخرون أنه خطوة من شأنها "فصل" ألمانيا عن الناتو. كما عارضت اليونان بشدة الاقتراح الفرنسي، لأنه يفتقر إلى أي بند لإنشاء ضمان أمني لجميع الحدود الأوروبية.
وأوضح رئيس الوزراء اليوناني، كونستانتينوس ميتسوتاكيس، أنه سوف يستخدم حق النقض ضد أي ترتيب من هذا القبيل. ثم في الثامن من كانون الأول (ديسمبر) 1991، أي قبل أيام قليلة من مؤتمر (ماستريخت)، أصبحت القضية الأمنية فجأة تبدو أقل إلحاحًا. وأبرمت ثلاث من الجمهوريات السوفيتية الأربع، التي وقعت على معاهدة عام 1922 التي أنشأت الاتحاد السوفيتي، اتفاقيات (بيلوفيج) التي أنهت الاتحاد السوفيتي، وأنشأت رابطة الدول المستقلة.
ومع اكتمال الانهيار السوفياتي، سرعان ما تحول تركيز القادة الأوروبيون إلى القضايا النقدية. ونظرًا لأن مؤتمر (ماستريخت) لم يكن منسجما إلى حد كبير، فقد ظلت آثار تلك المناقشات الأمنية السابقة باقية، كما حدث عندما حذر الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، من أن رئاسة دونالد ترامب كانت تعجل "بالموت العقلي لحلف شمال الأطلسي". ولكن الآن، أدى حشد بوتين للقوات على الحدود الأوكرانية إلى جعل الناتو يبدو ضروريًا أكثر من أي وقت مضى.
ومن موقع القوة الجديد للتحالف، من الممكن تصور حل بديل، واستمرار التقاليد الأوروبية في التفكير من حيث الدوائر متحدة المركز. ويمكن أن يشمل ذلك نواة أمنية أوروبية لا تشمل أمريكا الشمالية، لكن ذلك سيكون محاطًا بهامش أوسع من القوى التي تعهدت باحترام الحدود وضمان أمنها بصورة متبادلة. وستعيد هذه العملية صدى الاتفاقات الخاصة بالسلامة الإقليمية التي تم التفاوض عليها في سبعينيات القرن العشرين، في مؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا. ويجب أن تشمل الدائرة الأوسع ليس فقط الولايات المتحدة وكندا، ولكن أيضًا باقي مساحة اليابسة الأوروبية الآسيوية، بما في ذلك الصين واليابان. يمكنك أن تطلق عليها اسم منظمة معاهدة نصف الكرة الشمالي.
الآن وقد أصبح العالم أكثر ترابطًا مما كان عليه في تسعينيات القرن الماضي، فإن إحدى السمات الرئيسية للأزمة الحالية- وربما العامل المخفِف- هي اهتمام الصين بالحفاظ على الاستقرار في جميع أنحاء الكتلة الأرضية الأوروبية الآسيوية. وكان على الأوروبيين التفكير في ذلك في أوائل تسعينيات القرن العشرين. ولكن عِوض أن يركزوا على الأمن حولوا اهتمامهم إلى المال، وهو ما ترك نقطة ضعف دائمة. إذ كانت أوروبا في حاجة إلى بنية أمنية محدثة يمكن أن تحميها من تقلبات التغييرات السياسية، ليس فقط في موسكو ولكن أيضًا في واشنطن. ولا زالت أوروربا في حاجة إليها اليوم.
اضف تعليق