إرادة الشعب أساس سلطة الحكومة. ويجب أن يأتي التعبير عن هذه الإرادة في انتخابات دورية ونزيهة. الديمقراطية حق من حقوق الإنسان، مما يعني أن المسؤولية الاجتماعية الأولى للشركات ــ سواء كانت ملكيتها فردية أو كانت قيمتها عِدة تريليونات من الدولارات ــ تتمثل في الامتناع عن تقويض الديمقراطية...
بقلم: لويجي زينغاليس
شيكاغو ــ وسط مخاوف متنامية بشأن تغير المناخ والاضطرابات الاجتماعية، يلجأ المستثمرون المؤسسيون على نحو متزايد إلى تطبيق المعايير البيئية والاجتماعية وقواعد الحوكمة في قراراتهم بشأن محافظهم الاستثمارية. ولكن برغم أن المستثمرين يجب أن يضعوا في حسبانهم العوامل البيئية والاجتماعية وقواعد الحوكمة، فإن التركيز الجديد يهدد بحجب قضية أخرى أكبر حجما: الدور الذي تضطلع به الشركات في العملية الديمقراطية.
ينص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (المادة 21، القسم الثالث) على أن "إرادة الشعب هي أساس سلطة الحكومة. ويجب أن يأتي التعبير عن هذه الإرادة في انتخابات دورية ونزيهة". وعلى هذا فإن الديمقراطية حق من حقوق الإنسان، مما يعني أن المسؤولية الاجتماعية الأولى للشركات ــ سواء كانت ملكيتها فردية أو كانت قيمتها عِدة تريليونات من الدولارات ــ تتمثل في الامتناع عن تقويض الديمقراطية، سواء كان ذلك في الداخل أو الخارج.
قد يعتبر كثيرون هذه النقطة واضحة أو غير ذات صِـلة. فما علاقة الشركات بالديمقراطية؟ الواقع أن العديد من الشركات تضطلع بدور رائد في تشويه العملية الديمقراطية، التي تتمثل وظيفتها اللائقة في تحويل الإرادة الشعبية إلى عمل تشريعي. اسمحوا لي بتوضيح هذه النقطة بالاستعانة بأمثلة من الولايات المتحدة، التي جرت العادة على اعتبارها الديمقراطية الأكثر تقدما في العالم.
في عام 2019، أَقـرَّ مجلس ولاية أوهايو التشريعي الذي يسيطر عليه الجمهوريون مشروع القانون رقم 6، الذي خصص مليار دولار من إعانات الدعم لإنقاذ FirstEnergy Solutions، وهي محطة نووية تابعة لإحدى مؤسسات المرافق العامة. لم يكن مشروع القانون معبرا عن إرادة شعب أوهايو. بل على العكس، شهدنا كيف أقرت بالذنب مجموعة Generation Now الممولة كمؤسسة غير ربحية في اتهامات بتنفيذ مخطط رشوة ضخم لتأمين الموافقة عل الإنقاذ. دعمت مجموعة Generation Now حملات 21 مرشحا مختلفا على مستوى الولاية، بما في ذلك رئيس مجلس النواب لاري هاوسهولدر، الذي حصل أيضا على أكثر من 400 ألف دولار في هيئة مزايا شخصية.
وإذا لم يكن هذا سيئا بالقدر الكافي، فعندما بدأ سكان ولاية أوهايو في جمع التوقيعات لإجراء استفتاء على إلغاء القانون رقم 6، أطلقت مجموعة Generation Now حملة إعلانية زعمت أن الصينيين سيستولون على شبكة الكهرباء في الولاية إذا نجحت جهود إلغاء القانون. كما صرح أحد المنافذ الإخبارية المحلية أن المجموعة "استأجرت جماعة من البلطجية الذين لاحقوا وطوقوا وضايقوا، بل وحتى ألحقوا الأذى الجسدي (في بعض الحالات) بجامعي الالتماسات". في وقت لاحق تبين أن مجموعة Generation Now تأسست بمبلغ 56.6 مليون دولار من FirstEnergy Solutions، لكن هذه الفضيحة ما كانت لِـيُـكـشَـفَ عنها قَـط لولا تحقيق أجراه مكتب التحقيقات الفيدرالي.
بما أن هذه الواقعة تبدو وكأنها حدثت في جواتيمالا في خمسينيات القرن العشرين وليس في أميركا في القرن الحادي والعشرين، فهل يمكننا اعتبارها حالة منعزلة، تقتصر على شركة فاسدة واحدة، أو ولاية واحدة، أو الحزب الجمهوري فقط؟ كلا، بكل أسف. فمن الحقائق البديهية في السياسة الأميركية أنه "كما تفعل أوهايو، تفعل الأمة كلها". في ولاية إيلينوي القريبة، وافقت شركة Exelon، على دفع غرامة قدرها 200 مليون دولار بسبب مخطط رشوة دام لفترة طويلة حيث وزعت المرافق الوظائف والعقود على مساعدي رئيس مجلس النواب في الولاية مايكل ماديجان، أحد قادة الحزب الديمقراطي في الولاية.
مرة أخرى، الجانب الوحيد غير المعتاد في هذه القصة هو أن الجناة ضُـبِـطوا بجرمهم. تقدم ورقة بحثية نشرت مؤخرا في دورية Quarterly Journal of Economics أدلة منهجية على الطرق العديدة التي يجري بها توجيه أموال الشركات بشكل روتيني عبر منظمات غير ربحية للتأثير على النتائج السياسية من وراء الكواليس. صحيح أن الإجراءات الموثقة في الورقة البحثية قانونية، لكن هذا لا يجعلها مقبولة على مستوى المسؤولية الاجتماعية.
إن تأثير الشركات على العملية السياسية الأميركية لا يثقل كاهل مواردنا المالية العامة ويدمر بيئتنا فحسب؛ بل ويقوض أيضا ديمقراطيتنا بشكل جوهري. الواقع أن الديمقراطية تستحق الحفاظ عليها ما دامت تؤدي وظيفة تحويل تفضيلات الناخبين إلى سياسات. لكن إذا فشلت في ذلك، فما الداعي للحفاظ عليها؟ الديمقراطية في نهاية المطاف ليست فَـعّـالة ولا يسهل الحفاظ عليها بتكلفة زهيدة. فإذا لم يكن بوسع الناخبين أن يضعوا ثقتهم في ممثليهم المنتخبين لتمثيلهم بنزاهة، فسوف يتحولون إلى دعم متطرفين على استعداد لهدم النظام الفاسد.
في ظل هذه المخاطر، يجب أن يكون الامتناع عن التدخل في العملية الديمقراطية جزءا لا يتجزأ من المسؤولية الاجتماعية الأساسية لأي شركة. صحيح أن الاعتبارات المتعلقة بالمعايير البيئية والاجتماعية وقواعد الحوكمة مهمة؛ لكن إذا فشلت أي شركة في احترام معيار الديمقراطية، فلا يهم مدى جودة أدائها في ما يتصل بالمعايير البيئية والاجتماعية وقواعد الحوكمة. كما تُـظـهِـر فضيحتا FirstEnergy وExelon، فإن مخاطر اللعب القذر من الممكن أن تغمر كل الفوائد المترتبة على مراعاة المعايير البيئية والاجتماعية وقواعد الحوكمة المزعومة. على النقيض من هذا، إذا لبت أي شركة متطلبات الديمقراطية لكنها فشلت في مراعاة المعايير البيئية والاجتماعية وقواعد الحوكمة، فسوف يظل من الممكن الاعتماد على الإدارة السياسية للمساعدة في حل هذه المشكلات المتبقية. لهذا السبب، يجب أن تأتي الديمقراطية دائما قبل المعايير البيئية والاجتماعية وقواعد الحوكمة.
المبدأ الأول للاستثمار المسؤول إذن يجب أن يكون ضمان عدم انتهاك الشركات لقواعد اللعبة الديمقراطية أو إعادة كتابتها، سواء في الداخل أو الخارج. الواقع أن القيام بهذا أمر ممكن تماما، وهو يبدأ باشتراط الشفافية الكاملة حول مكان إنفاق أموال الشركات. الواقع أن القرار الصادر عن المحكمة العليا في الولايات المتحدة عام 2010 بعنوان "مواطنون متحدون" ربما مهد الطريق لتدخل أموال الشركات في السياسة دون قيد، لكنه لا يحمي حق الشركات في إجراء مثل هذه النفقات دون إبلاغ المساهمين فيها.
تكتسب إحدى المبادرات العامة لفرض هذا النوع من الشفافية الزخم على نحو متزايد. وفي المتوسط، تزايد الدعم لمقترحات المساهمين التي تطالب بالإفصاح عن الإنفاق السياسي من 36.4% في عام 2019 إلى 48.1% في عام 2021. وإذا وافق المستثمرون المؤسسيون الثلاثة الكبار ــ BlackRock، وVanguard، وState Street ــ على هذا المبدأ، فقد يصبح القاعدة لكل الشركات الكبرى في أميركا. تُـرى هل تمنع الشفافية الكاملة الشركات من تشويه الديمقراطية؟ الواقع أن الشفافية قد تقطع شوطا طويلا في هذا الاتجاه، لأنها ستفضح فسادها (سواء كان قانونيا أو لم يكن) ليس فقط أمام مساهميها بل وأيضا أمام عملائها وموظفيها والهيئات التي تتولى تنظيمها. الآن حان وقت العمل. وغدا ربما يكون الأوان فات.
اضف تعليق