q
مثل حكومة الهند، كنت أهنئ نفسي قبل الأوان بدبلوماسية اللقاحات في البلاد. وفي وقت حيث كان الهنود عاجزين عن الوصول إلى اللقاحات التي ربما كانت لتحميهم، لم يكن برنامج اللقاح ماريتي الذي اعتمدته الهند ذكيا، بل كان متغطرسا. يتعين على القيادات العالمية أن تبدأ من الداخل...
بقلم: شاشي ثارور

نيودلهي ــ إنه لأمر مُـذِل أن يـضـطـر كاتب عمود إلى سحب كلماته بعد فترة وجيزة من نشرها. قبل شهرين فقط، بعد أن دفعت الهند بملايين الجرعات من لقاحات مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) إلى أكثر من ستين دولة، امتدحت "دبلوماسية اللقاح" التي انتهجتها الهند. فبهذه الخطوة حصلت تطلعات الهند إلى الاعتراف بها كقوة عالمية على دَفعة حقيقية. الآن، مع ارتفاع عدد حالات الإصابة الجديدة إلى 300 ألف يوميا وفي ظل حصيلة وفيات من الواضح أنها أعلى كثيرا من الأرقام المسجلة، لم يعد من الممكن تصور الهند باعتبارها دولة قائدة على مستوى العالم.

في دفاعي شخصيا، أبديت قلقي من أن الهند صدرت من اللقاحات ثلاثة أضعاف الكمية التي طرحتها محليا. كان من الواضح أن الهند متخلفة عن هدفها المعلن بتطعيم 400 مليون شخص بحلول أغسطس/آب، بعد تطعيم نحو ثلاثة ملايين من العاملين في مجال الرعاية الصحية في حملة بدأت فقط في السادس عشر من يناير/كانون الثاني. وقد قلت: "مع تزايد المخاوف إزاء ارتفاع أعداد الإصابات، وظهور شكل جديد من أشكال كوفيد-19 قد لا يستجيب للقاحات المتوفرة حاليا، وفي ظل اقتصاد لم يتعاف بشكل كامل بعد، ستزداد حتما صعوبة التحدي الذي يواجه الهند في الوفاء بالتزاماتها تجاه البلدان النامية في حين تلبي أيضا الطلب المحلي".

في ذلك الوقت، لم أكن أدرك حجم التحدي. تجاوز عدد الإصابات 17 مليونا في الأيام الأخيرة، أما حصيلة الوفيات الرسمية فقد تجاوزت 190 ألفا. الآن، تفيض أسِرة المستشفيات، في حين تضاءلت الإمدادات من الأكسجين، ونفدت الجرعات في مراكز التطعيم، وأصبحت الصيدليات عاجزة عن تلبية الطلب على الأدوية المضادة للفيروسات. إن الهند تترنح.

تُـرى كيف ساءت الأمور إلى هذا الحد بعد فترة وجيزة من تعافي الهند من الموجة الأولى من الجائحة العام الماضي، واستئناف الحياة الطبيعية والنشاط الاقتصادي، وبعد أن بدأت تصدير اللقاحات؟ الواقع أن قائمة الأخطاء طويلة.

لنبدأ هنا بتغليب الرمزية على الجوهر. في خطاب أذاعه التلفزيون الوطني، حث رئيس الوزراء ناريندرا مودي الهنود على قرع الصحون. وبعد أسبوعين، أمرهم بإضاءة المصابيح في لحظة بعينها. وبهذا حلت الخرافات محل السياسات القائمة عل الـعِـلم في مواجهة الجائحة.

كما جند مودي القومية الهندوسية في الحرب ضد كوفيد-19. فتماما كما تحقق النصر في حرب ماهابهاراتا الملحمية في ثمانية عشر يوما، كما زعم، تستطيع الهند تحقيق النصر في حربها ضد فيروس كورونا في 21 يوما. لم يكن هذا يعتمد في أي وقت على أي شيء أكثر من مجرد التمني.

خطأ آخر كان تجاهل نصيحة منظمة الصحة العالمية. فمنذ بدأت الأزمة، أوصت منظمة الصحة العالمية باستراتيجية احتواء تتطلب إجراء الاختبارات، وتتبع المخالطين، والعزل، والعلاج. وفي حين أن قِـلة من الولايات، مثل كيرالا (التي سجلت أول حالة إصابة بكوفيد-19 في الثلاثين من يناير/كانون الثاني 2020)، نفذت في البداية مثل هذه الإجراءات بنجاح، فقد أفضت استجابة حكومة مودي الخرقاء إلى تطبيق هذه الإجراءات على نحو غير متكافئ في العديد من الولايات.

هناك أيضا المركزية المفرطة. فمنذ أول إغلاق على مستوى البلاد، الذي أعلنه مودي في مارس/آذار من عام 2020 بإشعار لم يتجاوز أربع ساعات، تمكنت الحكومة المركزية من إدارة الجائحة بموجب فقرات غامضة من قانون الأمراض الوبائية وقانون إدارة الكوارث، الأمر الذي سمح لها بتجاهل بنية الحكم الفيدرالي في الهند. فبدلا من تفويض حكومات ولايات الهند الثماني والعشرين سلطة تصميم استراتيجيات مفصلة خصيصا للظروف المحلية، حاولت الحكومة المركزية إدارة كوفيد-19 بمرسوم من دلهي، وكانت النتائج كارثية.

ولم يكن من المستغرب أن تأتي إدارة الإغلاق الأولي رديئة. فلم تكن حكومات الولايات، ولا الجماهير، ولا حتى مسؤولو الحكومة المركزية مستعدين. وكانت الفوضى هي النتيجة، حيث تقطعت السبل بنحو 30 مليون عامل مهاجر بدون عمل في المدن، والذين اضطروا إلى العودة إلى ديارهم سيرا، لأيام في بعض الأحيان. وتشير التقديرات إلى أن 198 شخصا توفوا على الطريق. وأغلقت قرابة خمسة ملايين شركة صغيرة ومتناهية الصغر أبوابها لعجزها عن التعافي من الإغلاق. وبلغت البطالة في الهند أعلى مستوياتها المسجلة على الإطلاق.

عندما بدأت الأزمة تخرج عن السيطرة، مررت الحكومة المركزية، بما يتماشى مع سابقة أرساها الرئيس الأميركي دونالد ترمب آنذاك، المزيد والمزيد من المسؤوليات إلى حكومات الولايات، دون تمويل كاف. وناضلت حكومات الولايات لحشد الأطباء، والعاملين في التمريض والرعاية الصحية، ومجموعات الاختبار، ومعدات الوقاية الشخصية، وأسِـرة المستشفيات، وأجهزة مساعدة التنفس، وأسطوانات الأكسجين، والأدوية لمكافحة الجائحة. وحشدت الحكومة مبالغ ضخمة من المال لكيان إغاثة جديد تحت مسمى "PM-CARES"، ولكن حتى يومنا هذا، لم تجر أي محاسبة عامة لمقدار الأموال في صندوق PM-CARES المبهم وإلى أين جرى توجيه موارده.

عندما بدا أن الجائحة انحسرت، استقرت السلطات على حالة من الرضا عن الذات، ولم تتخذ أي احتياطات أو تدابير وقائية ضد موجة ثانية محتملة حذر كثيرون من أنها أشد تدميرا من الأولى. وانزلقت تدابير الاختبار، والتتبع، وعزل المصابين ومخالطيهم بسرعة إلى الإهمال بحلول نهاية عام 2020. وعندما توقف الناس عن اتباع الإرشادات السلوكية المناسبة، طور الفيروس متغيرا شديد العدوى. وتكاثرت الأحداث التي ساعدت على انتشار الفيروس بقوة: التجمعات الانتخابية والاحتفالات الدينية التي جمعت حشودا من غير الـمُـقَـنَّـعين. وانتشرت العدوى كالنار في الهشيم.

على الرغم من أن الهند تنتج 60% من لقاحات العالم، لم تتخذ الحكومة أي خطوات نحو توسيع نطاق إنتاج لقاحي كوفيد-19 اللذين جرى التصريح بتصنيعهما في الهند. ولم تسمح باستيراد اللقاحات الأجنبية، أو المساعدة في توسيع مرافق التصنيع المتاحة، أو منح شركات هندية أخرى التصريح بإنتاج الجرعات. أطلقت الهند حملة التطعيم بعد المملكة المتحدة بما يقرب من الشهرين، ولكن بحلول شهر إبريل/نيسان، كان 37% فقط من العاملين الصحيين، وبالكاد 1.3% من سكان الهند البالغ عددهم 1.4 مليار نسمة، حصلوا على التطعيم بالكامل. وكان 8% فقط تلقوا جرعة واحدة من اللقاح على الأقل.

هنا أيضا، راهنت السلطات في البداية على المركزية، وأدى رفضها منح الموافقة على الاستخدام الطارئ للقاحات من الخارج إلى نقص في اللقاحات على مستوى البلاد بحلول منتصف إبريل/نيسان. وعند هذه النقطة فقط، فوضت الحكومة طرح اللقاحات إلى حكومات الولايات والمستشفيات العامة والخاصة، وسمحت باستيراد اللقاحات المعتمدة من قِـبَـل الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وروسيا، واليابان. وحتى آنذاك فشلت الحكومة المركزية في توزيع اللقاحات بشكل عادل على الولايات المختلفة، مما أسفر عن نقص اللقاحات في بعض الولايات الأشد تضررا (مثل ولايتي ماهاراشترا وكيرالا اللتين تحكمهما المعارضة) مع بلوغ حالات الإصابة ذروتها.

مثل حكومة الهند، كنت أهنئ نفسي قبل الأوان بدبلوماسية اللقاحات في البلاد. وفي وقت حيث كان الهنود عاجزين عن الوصول إلى اللقاحات التي ربما كانت لتحميهم، لم يكن برنامج "اللقاح ماريتي" الذي اعتمدته الهند ذكيا، بل كان متغطرسا. يتعين على القيادات العالمية أن تبدأ من الداخل، والداخل اليوم هو بلد حيث أصبحت المشارح، والمقابر، ومحارق الجثث عاجزة عن استيعاب المزيد.

* شاشي ثارور، نائب الأمين العام السابق للأمم المتحدة ووزير الدولة لتنمية الموارد البشرية في الهند، يشغل حاليا منصب عضو البرلمان عن المؤتمر الوطني الهندي، كتابه الأخير هو باكس إنديكا: الهند والعالم في القرن 21.
https://www.project-syndicate.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق