استطلاعات الرأي، بشكلها المجرّد، تعطي تصوّراً تقريبياً لمرشّح محدّد في الحالة الأميركية الراهنة، وتؤشر على مدى حجم الدعم والتأييد، بتوظيف جملة عوامل تستقي منها حيثيات تعينها على استنتاجاتها، كحجم أموال المتبرعين، للدلالة على مدى تأييد برنامج انتخابي معين. وتشوب هذه الاستطلاعات عيوب كثيرة، بدءاً من...
بقلم: د. منذر سليمان وجعفر الجعفري
لا تزال معظم استطلاعات الرأي تشير الى تفوّق ثابت للمرشح الديموقراطي جوزيف بايدن على الرئيس ترامب في معظم الولايات، وخصوصاً الولايات المصنّفة حاسمة، وتشتدّ ضراوة الحملات الإنتخابية بين المرشحين في عدد من الولايات التي استطاع ترامب انتزاعها من الديمقراطيين في الانتخابات الماضية.
ولاية فلوريدا تبدو ساحة المنافسة الأشد، إلى جانب 4 ولايات تشهد تركيزا من طرفي السباق (مشيغان، ويسكونسن، بنسلفانيا، ومينسوتا).
الانتخابات الرئاسية الأميركية تحسمها بضع ولايات من مجموع الولايات الخمسين، نظراً إلى طبيعة العوامل المؤسّسة للنظام الانتخابي، وأهمية دور مندوبي الولايات للهيئة الانتخابية المكونة من 538 عضو، يوازي كامل عدد أعضاء الكونغرس بمجلسيه. وتؤدي استطلاعات الرأي دوراً يتعاظم طرداً مع توظيف المؤسّسات الإعلامية لنتائجها، والمبارزة بينها على نشر "توجّه سياسي معين" يؤثر في الناخب ويوجهه إلى زاوية معينة.
استطلاعات الرأي، بشكلها المجرّد، تعطي تصوّراً تقريبياً لمرشّح محدّد في الحالة الأميركية الراهنة، وتؤشر على مدى حجم الدعم والتأييد، بتوظيف جملة عوامل تستقي منها حيثيات تعينها على استنتاجاتها، كحجم أموال المتبرعين، للدلالة على مدى تأييد برنامج انتخابي معين.
وتشوب هذه الاستطلاعات عيوب كثيرة، بدءاً من تباين المنهجية المعتمدة وطبيعة العينة البشرية وتوزيعها الجغرافي وفوارق مداخيلها الاقتصادية ومعتقداتها الدينية والسياسية، والأهم ربما مدى صدقية إجابات تلك العينة، والتي تثار حولها راهناً تساؤلات حقيقية حول إجابات البعض بعكس قناعاته ومشاعره الحقيقية.
للدلالة على تمايز الاستنتاجات وتباين صدقيتها، نستدلّ بدراسة حديثة أجراها "معهد كاتو" المرموق بالقول إنّ "ثلثي (2/3) الناخبين يقرّون بمناخ سياسي مسموم وبعدم الإفصاح عن جواب صريح، ويدلون بإجابة مقبولة اجتماعياً عوضاً عن ذلك". وشاطر المعهد أحد مسؤولي مؤسّسة "نورث ستار اوبينيون ريسيرتش" الجمهوري جون مكهنري رأيه، معبراً عن قلق من "نماذج جوابيّة ملتوية"، موضحاً أنها تدل على "ميل قوي لدى مؤيدي الرئيس ترامب إلى عدم المشاركة في الاستطلاع أو الإجابة عبر الهاتف".
الأجواء المشحونة بالتحيّز والعنصرية ضد الآخر انعكست على معظم مراكز استطلاعات الرأي، بإجماعها على أن "المرشح الديموقراطي جوزيف بايدن يتفوّق على خصمه الرئيس ترامب بنسبة قوية ومتماسكة".
في ولاية مشيغان، على سبيل المثال، جاءت نتيجة الاستطلاع مؤيِّدة لتفوق جوزيف بايدن بنحو 8.6% على خصمه الجمهوري، بينما أفاد استطلاع آخر أجرته مؤسسة "ترافيلغار" بتفوق الرئيس ترامب بنسبة 2%، 49% مقابل 47% لخصمه بايدن. ويتكرر المشهد في الولايات الحاسمة الأخرى بشكل خاص، ولا سيما في ولاية فلوريدا، إذ جاءت استنتاجات المؤسّسة الأولى بتفوق ترامب بنسبة ضئيلة هي 0.4%، مقابل نتائج "ترافيلغار" بتفوق الرئيس ترامب بنسبة 2.3%، أو 49% مقابل 47%.
بيانات عيّنات الناخبين تشكّل حجر الرحى في الاستطلاعات كافة، والتي تتكوّن من مزيج من المعلومات العامة الرسمية والبيانات الخاصة لدى الشركات التجارية، لا سيما شركات بطاقات الإئتمان.
تتضمَّن البيانات الرسمية، بحسب تقرير يومية "واشنطن بوست"، معلومات تتعلّق بعنوان إقامة الناخب وبريده الالكتروني ورقم هاتفه أو هواتفه وانتسابه السياسي، سواء كان ديموقراطياً أو جمهورياً، وبيانات جمعها ناشطو الحملات الانتخابية مباشرة، والاشتراك في الصحف والمجلات، وهي ظاهرها بريء وطبيعي، بيد أن تسخيرها لأغراض انتخابية يتم عبر جملة دوائر تحصل عليها بشكل "قانوني" كمرشح معيّن لمنصب محدّد يستخدمها في حملات دعائية للتأييد وجمع أموال التبرعات، ومن ثم يجري تصنيفها مجدداً لخدمة أهداف الحملات السياسية المتعددة، وتباع بشكل علني لمؤسسات تجارية تبني عليها وتغنيها بمعلومات إضافية، وهكذا دواليك. مثال على ذلك شركة "اكسبيريان (Experian)" الضخمة التي تتحكّم بتصنيف "المستهلكين بناء على قدرتهم الشرائية، ونسبة المخاطرة في قدرتهم على دفع الالتزامات المالية الشهرية"، وتضعها بتصرف المؤسَّسات المالية والتجارية والإلكترونية مقابل أجر مادي (27 تشرين الأول/اكتوبر 2020).
وبناءً على تلك الآليّة من البيانات، وتعزيزها ببيانات إضافية محدّدة تصل لنحو 1،500 عنصر، مثل "الحالة الشخصية، وحجم الديون الشخصية، ونوع السيارة او السيارات المسجلة، وعضوية الأندية، بما فيها الرياضية، والخلفية الدينية ومدى الميل للتمسك بها، وأهمية عنصر الخصوصية لدى الفرد أو مدى ثقته بشركات التقنية المتطورة وبيانات الهواتف الشخصية"، يجري عرضها بتصرف الحزبين وفي السوق لمن يدفع أكثر، وتتبادلها المؤسَّسات التجارية وتلك غير الربحية المتعددة، لتشكل "صناعة البيانات" والاتجار بها.
حملة المرشحة السابقة للرئاسة عن الحزب الديموقراطي إليزابيث ووران تُبلغ الناخبين في بياناتها بأنها "قد تتشارك البيانات الخاصة بالناخب.. مع مرشحين آخرين ومنظمات وحملات انتخابية ومجموعات ناشطة أو مع قضايا نعدّها حليفة وتتقاطع معنا في الآراء السياسية".
اللجنة المركزية للحزب الجمهوري أبلغت طاقم الصحيفة أعلاه "بالافتخار لاحتفاظها بقاعدة بيانات عريضة تشمل أكثر من 3،000 بند لكلّ ناخب"، والأمر عينه ينطبق على الحزب الديموقراطي، وربما بقدر أقل أو أكثر، وتوضع بمجموعها تحت تصرف المرشح وحملته الانتخابية، سواء لمنصب محلي أو فيدرالي.
خطورة التصرف غير المقيّد بتلك البيانات عرضتها القناة 4 البريطانية في شهر أيلول/سبتمبر الماضي، للدلالة على ما أسمته الفضيحة التي حامت حول شركة "كامبريدج اناليتيكا (Cambridge Analytica)" لتقصيها قواعد بيانات الناخبين من "فايسبوك" وتسخيرها لتعطيل قدرة الناخبين السود (الأفارقة الأميركيين) على الإدلاء بأصواتهم في العام 2016، خدمة لحملة المرشح الرئاسي دونالد ترامب.
عودة إلى الأرقام والنسب الشعبية المئوية للمرشحين، يتفوَّق جوزيف بايدن بنسبة 69% على منافسه الرئيس ترامب بنسبة 14% من أصوات السود الأميركيين. وبين ذوي الأصول اللاتينية، يتفوَّق بايدن بنسبة 65% مقابل 31% لترامب. وبين الأسيويين الأميركيين، يتفوَّق أيضاً بايدن بنسبة 62% مقابل 33%، وذلك بحسب استطلاع أجرته مجلة المال والأعمال "فوربس Forbes))"، 31 تشرين الأول/اكتوبر 2020.
وتشير المجلة إلى تفوق الرئيس ترامب على خصمه بين الناخبين البيض الشباب بنسبة 49% مقابل 47%.
لمتابعة نتائج الإنتخابات الأولية خلال ليلة الفرز، ينبغي استقاء المعلومات الموثَّقة من جهاز كلّ ولاية على حدة، ممثّلة بالموقع الرسمي لما يطلق عليه "وزير خارجية" الولاية، ولا سيما في ظلِّ تضارب التكهّنات من قبل المؤسَّسات المختلفة ومحطات التلفزة ليلة الانتخابات.
يتميّز ذلك الجهاز المحلي بسيطرته على كافة البيانات الانتخابية، سواء المباشرة أو بالبطاقات المسبقة وعبر البريد، والتي يجري فحصها وتسجيلها تباعا، وفق القوانين المحلية لكل ولاية على حدة، ومن ثم تعلن النتائج الرسمية. وعند هذه النقطة الفاصلة، يستطيع المرء البناء على نتائج وبيانات موثّقة، والتي قد تجد طريق حسمها النهائي أما المحاكم العليا لكل ولاية ابتداء، ومن ثم المحكمة العليا الفيدرالية.
نسوق ذلك للدلالة على محورية ولاية فلوريدا في السباق الانتخابي الرئاسي، والتي عادة ما تشكل نتائجها هوية رئيس البلاد المقبل، نظراً إلى ثقلها الانتخابيّ الثالث بعد كاليفورنيا وتكساس، وامتلاكها 29 صوتاً في الهيئة الانتخابية.
التاريخ السياسي للكيان الأميركي يؤكد أهمية كسب ولاية فلوريدا في الحسم المبكر للانتخابات الرئاسية، والتي خسرها مرشحان عن الحزب الديموقراطي، واستطاعا الفوز بمنصب الرئاسة، وهما جون كنيدي في العام 1960 وبيل كلينتون في العام 1992.
فلوريدا تحتوي على نسبة عالية من الناخبين المسنين والمتقاعدين، (26% من المجموع العام)، يمارسون دورهم ككتلة متراصة لا يستطيع أي مرشح تجاوزها. وقد فاز بها الرئيس ترامب في العام 2016 بتأييد 17% من تلك الشريحة، وهو يحظى بتأييد 59% مقابل 38% لخصمه من ناخبي الفئة العمرية 70 عاماً. وكذلك، تتضمّن شريحة قوية من الناخبين ذوي الأصول الكوبية المعادين للنظام الاشتراكي، وهم يصوتون بغالبيتهم لصالح الحزب الجمهوري، (17% من المجموع العام).
المرشحّ الديموقراطي بايدن يعوّل أيضاً على الفوز بولاية فلوريدا وثقلها الانتخابي، لاعتقاده بأنها ستعزز حظوظه بشكل كبير، وتعفيه من عبء المراهنة على كسب ثلاث ولايات مركزية متأرجحة: بنسلفانيا ومشيغان وويسكونسن. وفي حال فشله في كسب ولاية فلوريدا، وهو احتمال قوي، يتعيَّن عليه الفوز بالولايات الثلاثة المذكورة إضافة إلى ولاية منيسوتا. في المقابل، لا يوجد طريق فعلي لفوز ترامب اذا خسر ولاية فلوريدا.
نسب تأييد بايدن في ولاية ويسكونسن مقلقة، بحسب استطلاع "ترافيلغار"، الذي يشير إلى تقدم بايدن بنسبة 47.5% مقابل 47.1%. بعض الاستطلاعات الأخرى ترجّح تقدمه على ترامب بنسبة 6.4%.
ليلة الانتخابات
في ظل "الجو الانتخابي المسموم"، تشكّل شبه إجماع عام على محورية الانتخابات الرئاسية للعام الجاري، وكذلك عدم التيقّن من إعلان الفائز في الانتخابات مع إقفال صناديق الاقتراع في أقصى الولايات المتحدة، بسبب فارق التوقيت، بعد العاشرة ليلاً بتوقيت العاصمة واشنطن، وذلك لأول مرة.
الرئيس ترامب لا يترك مناسبة دون التصريح بأن الإنتخابات ستشهد تزويراً، وخصوصاً إذا لم يربح. وقد تعهّد المرشحان مسبقاً باللجوء إلى القضاء لحسم نتائج الانتخابات والطعن في بعض البيانات لأسباب تقنية بمعظمها، لكنَّ بعضها يؤشر على مهزلة حقيقية. مثلاً، أعلنت "مقاطعة بتلر" في ولاية بنسلفانيا فقدانها قوائم الانتخابات المبكرة لنحو 40،000 ناخب يوم 29 تشرين الأول/اكتوبر الجاري. ومن غير المستبعد تبادل الاتهامات لإقصاء وإتلاف بضعة آلاف أو أكثر من البطاقات الرسمية، قبل احتساب القوائم النهائية وإعلان نتائج الولايات بشكل رسمي، وهذا سيستغرق زمناً غير محدد المعالم.
التحذيرات من الاشتباكات في الشوارع خرجت عن نطاق التهديد اللفظي المجرد، وخصوصاً لمجموعات عنصرية من اليمين المتشدد مدجّجة بالأسلحة، ما استدعى من الأجهزة الأمنيّة الإعداد لخطط طوارئ، ومنها العاصمة، التي ستغلق شوارعها المحيطة بمنطقي الكونغرس والبيت الأبيض.
يومية "واشنطن بوست" أوردت "حجم القلق السائد بين الأجهزة الأمنية الفيدرالية من إمكانية اندلاع اشتباكات عنيفة، وخصوصاً اذا استمرت عملية فرز البطاقات الانتخابية لبضعة أيام دون أفق لحسم النتائج"، في ظل اقبال غير مسبوق على شراء الأسلحة الفردية بلغ 18 مليون قطعة لهذا العام، بحسب بيانات مكتب التحقيقات الفيدرالي.
أجهزة الشرطة المحلية في مدينة بورتلاند في ولاية اوريغون، في أقصى الغرب الأميركي، حذّرت من "نيّة مجموعات يمينية مسلّحة من التجمهر أمام صناديق الاقتراع يوم الثلاثاء بأسلحتهم أمام العامة". انزلاق البلاد إلى مواجهات مسلّحة بؤرية، ولو بوتيرة مضبوطة، هي أشدّ ما تخشاه المؤسَّسة الرسمية بكلّ تشعّباتها، السياسيّة والعسكريةّ والاستخباراتيّة، وستبذل اقصى الجهود لمنعها من التطّور والانتشار.
في المقابل، تتأهب الاجهزة القضائية في الولايات، وعلى المستوى الفيدرالي، للبت بالطعون والطعون المضادة قبل حسم النتائج، على خلفية وعود قطعها المرشحان الجمهوري والديموقراطي بعدم التقيد بالنتائج الأولية. عند هذا المفصل، تبرز أهمية إصرار الرئيس ترامب وقادة حزبه الجمهوري على تعيين آيمي كوني باريت للمحكمة الفيدرالية العليا، كضمانة إضافية للتصويت لصالحه.
استناداً إلى تلك المعطيات، نستطيع القول إن إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية الرسمية سيستغرق بضعة أيام وربما أسابيع، وبعدم رضا أي من الفريقين. اما الرئيس ترامب، وبحسب جملة من العوامل والظروف وجمهور مؤيّديه، فقد أبلغ موظّفي حملته الانتخابية مسبقاً بالتأهب للعمل المتواصل طيلة شهر تشرين الثاني/نوفمبر، وامكانية استمراره في عقد مهرجاناته الخطابية، والطلب من كبار معاونيه الإعداد للسفر المتواصل لحشد قاعدته الانتخابية، وذلك بحسب نشرة "بوليتيكو" (30 تشرين الأول/اكتوبر).
يبدو أنّ الرئيس ترامب غير مستعد لقبول الهزيمة. وربما تحصل مفاجأة تشير إلى فوز وازن لأحدهما، مما يقلص من فترة الغموض والتوتر والانتظار التي ستعقب يوم الإنتخاب.
اضف تعليق