يتطلب التعامل مع هذه الشخصيات السخيفة والمزعجة أن نطَّلع على أكثر من مجرد السينما الكلاسيكية. فنحن بحاجة إلى نوع من الأدب الذي يذكرنا بالسبب الذي يجعلنا على ما نحن عليه. وتقدم القصص العظيمة خارطة طريق أخلاقية؛ وعندما يكون هناك نقص في الفطرة السليمة، يمكنها الحفاظ...
بقلم: نينا خروتشيفا
موسكو– إننا محكومون من قبل شخصيات وليس من قبل أشخاص، ويحدث هذا على نحو متزايد. إذ تُذكرنا رئاسة دونالد ترامب على طريقة برامج الواقع، أو الرسوم الكاريكاتورية التي تجسد استبداد فلاديمير بوتين، بفيلم الديكتاتور العظيم، الذي أخرجه تشارلي تشابلن عام 1940. ومع ذلك، في كل من روسيا والولايات المتحدة –قطبان متضادان أصبحا صورتين طبق الأصل تقريبا من احديهما الأخرى- يمكن اعتبار الرسائل الانقسامية الشعبوية للديكتاتوريين، الذين يشبهون شخصية الديكتاتور في فيلم تشارلي، أن تتسم بأي شيء سوى بالحس الكوميدي.
ويتطلب التعامل مع هذه الشخصيات السخيفة والمزعجة أن نطَّلع على أكثر من مجرد السينما الكلاسيكية. فنحن بحاجة إلى نوع من الأدب الذي يذكرنا بالسبب الذي يجعلنا على ما نحن عليه. وتقدم القصص العظيمة خارطة طريق أخلاقية؛ وعندما يكون هناك نقص في الفطرة السليمة، يمكنها الحفاظ على أرضية واحدة وسط الفوضى وعدم اليقين.
وبالنسبة للولايات المتحدة، على سبيل المثال، هناك رواية بعنوان It Can’t Happen Here (لا يمكن أن يحدث هنا)، وهي من تأليف سينكلير لويس عام 1935، أو رواية فيليب روث لعام 2004، The Plot Against America (المؤامرة ضد أمريكا). وفي رواية روث التي تحكي تاريخ الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 1940، يؤدي تشارلز ليندبرغ، الذي يمثل اللجنة الأمريكية الأولى، دور الشعبوي المبتذل. ولكن، على عكس ليندبرغ، الذي هزم الرئيس الأمريكي، فرانكلين روزفلت، في الرواية، أضعف أداء ترامب هذا الأخير في الآونة الأخيرة: فهو الآن يتخلف عن جو بايدن، المرشح الديمقراطي المفترض، بعشر نقاط.
وبعد إصرار ترامب لفترة طويلة على أن كوفيد-19 سوف "يتلاشى" بكل بساطة، كان يائساً من أن يبدأ حملة لإعادة انتخابه. ولكن مسيرته الأخيرة في تولسا في أوكلاهوما (الأولى له منذ بداية الوباء، كانت فاشلة ولم يحضرها إلا عدد قليل من الأشخاص. لِذا، نظم مسيرة أخرى، بمناسبة يوم الاستقلال، في جبل راشمور، حيث قال أن المتظاهرين الذين حملوا شعارات تقول "حياة السود تهم"، "أناس سيئون وأشرار."
ومنذ ذلك الحين، بدأ ترامب يدافع عما لا يمكن الدفاع عنه: الإرث العنصري للكونفدرالية، الذي تخلى عنه حتى حزبه الجمهوري. وداعا أمريكا أولا.
وفي هذه الأثناء، في روسيا، حيث الاستبداد هو أسلوب حياة، أصبح بوتين، في الذكرى العشرين لتربعه عرش الكرملين، مزيجا من الشخصيات التي أنشأها نيكولاي غوغول في القرن التاسع عشر، وفلاديمير نابوكوف، وإيفجيني شوارتز، في القرن العشرين.
وبعد أن أعدت الحكومة الروسية ردها غير المتكافئ وغير المتسق على الوباء، قامت في أواخر يونيو/حزيران، بتعليق إجراءات الحجر الصحي فجأة، من أجل تنظيم استعراض لتخليد الذكرى الخامسة والسبعين لانتصار الحلفاء على ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية. وعلى الرغم عن أن يوم النصر كان في الواقع في 9 مايو/أيار، كان العرض مجرد عمل افتتاحي من أجل إطلاق رصاصة رحمة على نظام بوتين: استفتاء زائف على الصعيد الوطني لإعادة تعيين حدوده الدستورية وضمان قبضته على السلطة إلى أجل غير مسمى.
وعلى غرار ترامب، لم يكن بوتين يرغب في انتظار ظروف أكثر أمانًا، وكان يظهر علنا بدون ارتداء كمامة، مما أدى إلى تقويض رسائل الصحة العامة في سبيل أن يظهر مفتول العضلات. ولكن نفاد صبر بوتين أمر مفهوم. إذ تلاشت شعبيته بسرعة، بسبب تراجع مستويات المعيشة، وفشل نظامه في تمرير إصلاحات ذات مغزى. ويقول الروسيون، الذين طالما اعتبروا سخرية الشوارع آلية للتكيف في ظل الأنظمة الديكتاتورية، بسخرية وبفظاظة، "عندما تكون بوتين، فإن روسيا تزدهر".
وفي الواقع، غالبًا ما أدت مثل هذه الهمسات إلى ظهور أدب غير لائق، مثل تحفة غوغول الساخرة، المفتش العام، حيث يقوم كاتب متدني المستوى بخداع مجموعة من المسؤولين المتعجرفين، وغير الأكفاء في المدينة. ولطالما عرض الكتاب أوجه تشابه واضحة مع صعود بوتين إلى السلطة. ولكن بعد تصرفات بوتين الأخيرة، فإن رواية نابوكوف لعام 1947، Bend Sinister (باند سينيستر)، أكثر صلة بما يحدث. إذ يقدم نابوكوف لمحة مرعبة عن ذهن دكتاتور، الذي تصادف أنه قصير القامة، وغير آمن، وله نزعة انتقامية.
وخلال هذا الشهر، ألقي القبض على إيفان سافرونوف، الصحفي الاستقصائي السابق الذي ساعد في وقت سابق في الكشف عن مبيعات الأسلحة السرية وهزات الكرملين، بتهمة الخيانة العظمى. ويواجه سافرونوف، وهو الآن مستشار إعلامي للوكالة الحكومية روسكوزموس، تهمة الكشف عن أسرار عسكرية لحلف شمال الأطلسي، على الرغم من أنه كان صحفيًا في وقت ارتكاب الجريمة المزعومة. وبصفة بوتين عاملا سريًا سابقًا، يلتزم بحجب شؤون دولته عن الرأي العام بأي ثمن.
وكان بإمكان شوارتز، وهو كاتب مسرحي سوفياتي كتب هجاء على هتلر وستالين جُسد في قصص الأطفال الخيالية، أن يسخر من بوتين كذلك. إذ في قصته الفلكلورية The Emperor’s New Clothes (ملابس الإمبراطور الجديدة) (1934)، يقدم شوارتز وصفا مألوفا لطاغية تافه وفاشل. وفي مسرحية The Shadow (الظل) (1940)، استولى ظل رجلٍ على سلطة هذا الأخير خلسة حيث كان يسعى إلى المبالغة في تصوير أهميته. وفي مسرحية The Dragon(التنين) (1944)، يملك حيوان زاحف مهَرج ومرعب وجبان في نفس الوقت، رغبة كبيرة في أكل أعدائه.
وبعد 20 عاما أمضاها بوتين في السلطة، ربما كان محتما أن يصبح شخصية كاريكاتورية في الكتابة الأدبية. وبما أن الحروف الروسية لها تاريخ طويل من السخرية من الشخصيات السياسية، والتهكم عليها، فليس مفاجئا أن تتطابق شخصية بوتين مع ما ترويه الكتابة الساخرة. والشيء الذي كان أقل من المتوقع هو مدى تشابه الرئيس الأمريكي مع المحاكاة الساخرة الروسية، على الرغم من أن الأمريكيين، الذين اعتادوا على الرسوم الكاريكاتورية السياسية، أو المشاهد الهزلية في برنامج Saturday Night Live، ( ليلة السبت مباشرة)، لم يتقنوا بعد فن النكات العفوية في الشوارع. وربما لم تسئ الولايات المتحدة التصرف بما يكفي حتى الآن.
ومع ذلك، فإن ترامب محتال، شأنه في ذلك شأن المفتش العام لغوغول؛ وسيكون المتملق، النائب العام وليام بار، إضافة مناسبة لأي قصة غوغولية عن الفساد الأخلاقي. إن ترامب ضيق الأفق وجاهل شأنه في ذلك شأن الديكتاتور نابوكوف، كما أنه قاسي وتافه مثل أي شخصية من أَوغاد شوارتز.
إن ترامب يتفوق على بوتين، الذي على الأقل له أسلوب أكثر استراتيجية في استعراضه الشعبوي. ونوبات غضب ترامب على تويتر- "مؤسف!" "المضايقة الرئاسية!"– تشبه شيئا من عمل الكاتب الساخر، ميخائيل سالتيكوف شيدرين، في القرن التاسع عشر. ففي محاكاة ساخرة ألفها عام 1870، بعنوان تاريخ المدينة، يصف سالتيكوف شيدرين مسؤولًا في المدينة يلقب بـ"العضو الصغير"، وهو شخص قادر على الرد بعبارتين فقط على مرؤوسيه: "سأدمر" و"لن أتسامح. "
وبوقاحة ودون تعاطف، أصدر العضو الصغير مراسيم لا نهاية لها، ولا تقبل أي معارضة. وفي النهاية، يتعلم القارئ أن دماغه كان في الواقع آلة موسيقية لها مفتاحان فقط.
إن هذه الأعمال الكلاسيكية وغيرها تقدم بعض العزاء، وتذكرنا بأن هناك حدودًا للاستبداد. فلا يمكن للشعبوية والتعظيم الذاتي أن يستمرا إلى الأبد، خاصة عندما تكون الرسالة في تناقض مع الواقع.
ومع ذلك، فإن سالتيكوف شيدرين- الذي كان عنوان كتابه الأصلي (قبل أن يخضع للرقابة) هو The History of Foolsville (تاريخ فولسفيل) -سيذكرنا بأن المعاناة في ظل القادة السيئين ليست عذراً للتصرف بصورة غير أخلاقية أو غبية. إن روسيا غارقة في ماضيها الديكتاتوري. ولكن أمريكا لا تزال ديمقراطية- حتى الآن. وبحلول شهر نوفمبر/تشرين الثاني، يجب على الأمريكيين أن يثبتوا أنهم ليسوا مستعدين لأن تَحكمهم أعضاء صغيرة.
اضف تعليق