في أسوأ سيناريو (وهو ليس بالاحتمال المستحيل)، يُـعاد انتخاب ترمب، وتنتشر موجة ثانية من الجائحة على مستوى العالم، وتستمر الاقتصادات في الانهيار، وتتحول الحرب الباردة الجديدة في شرق آسيا إلى حرب ساخنة. ولكن حتى لو لم نفترض الأسوأ، فإن الأزمة الثلاثية ستستهل عصرا جديدا يتطلب...
بقلم: يوشكا فيشر
برلين ــ تدخل جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) مرحلتها الثانية في حين تعيد بلدان العالم فتح اقتصاداتها تدريجيا وتعمل على تخفيف أو حتى إلغاء تدابير التباعد الاجتماعي الصارمة. ومع ذلك، ما لم يظهر علاج أو لقاح فعّال ومتاح للجميع، فإن العودة إلى "الوضع الطبيعي" تصبح محض أماني وليس حقيقة واقعة. الأسوأ من ذلك أن هذا يهدد بإحداث موجة ثانية من الإصابات بعدوى المرض على المستويين المحلي والإقليمي، بل وربما على نطاق أوسع كثيرا.
صحيح أن صناع القرار السياسي، ومقدمي الرعاية الصحية، والعلماء، وعامة الناس تعلموا الكثير من تجربة الموجة الأولى. ورغم أن حدوث موجة ثانية من العدوى يبدو احتمالا مرتفعا للغاية، فإنها ستكون مختلفة عن الموجة الأولى. فبدلا من الإغلاق الكامل الذي يؤدي إلى توقف الحياة الاقتصادية والاجتماعية، ستعتمد الاستجابة بشكل أساسي على قواعد صارمة لكنها موجهة للتباعد الاجتماعي، وأقنعة الوجه، والعمل عن بُـعد، والمؤتمرات عبر الفيديو، وما إلى ذلك. ولكن، اعتمادا على مدى شدة الموجة التالية، ربما تظل عمليات الإغلاق المحلية والإقليمية ضرورية في الحالات الأكثر تطرفا.
كما حدث مع الموجة الأولى من الجائحة إلى حد كبير، ستشمل المرحلة التالية ثلاثية من الأزمات المتزامنة. فإلى جانب خطر خروج الإصابات الجديدة عن السيطرة وانتشارها عالميا مرة أخرى، يتعين علينا أن نضيف التداعيات الاقتصادية والاجتماعية الجارية والمجابهة الجيوسياسية المتصاعدة. الواقع أن الاقتصاد العالمي يعاني بالفعل من ركود عميق لن يكون التغلب عليه سريعا أو سهلا. وهذا، إلى جانب الجائحة، كفيل بالتأثير على الخصومة الصينية الأميركية المتزايدة الحدة، وخاصة في الأشهر التي تسبق الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة في نوفمبر/تشرين الثاني.
كأن هذه التركيبة من الارتباكات الصحية، والاجتماعية الاقتصادية، والجيوسياسية لم تكن مزعزعة للاستقرار بالقدر الكافي، لا يجوز لنا أيضا أن نتجاهل عامل ترمب. إذا فاز الرئيس الأميركي دونالد ترمب بفترة رئاسة ثانية مدتها أربع سنوات، فسوف تتصاعد الفوضى العالمية الحالية بشكل درامي، في حين أن فوز خصمه الديمقراطي جو بايدن من شأنه أن يجلب قدرا أكبر من الاستقرار على الأقل.
الحق أن المخاطر التي تنطوي عليها الانتخابات الرئاسية الأميركية نادرا ما تكون أعلى مما هي عليه الآن. نظرا للأزمات المتصاعدة في العالم اليوم، فليس من قبيل المبالغة أن نقول إن الإنسانية تقترب من مفترق طرق تاريخي. فربما لا يتضح مدى الركود الاقتصادي بشكل كامل قبل خريف وشتاء عامنا هذا، وعندها ستكون صدمة أخرى قد حلت بنا في الأرجح، لأن العالم لم يعد معتادا على مثل هذه الانكماشات الدرامية. بل نحن معتادون نفسيا وفعليا على النمو المستمر.
هل تتمكن الدول الأكثر ثراء في الغرب وآسيا من التعامل مع ركود عميق واسع النطاق ومطول أو حتى كساد؟ حتى لو أثبت إنفاق تريليونات الدولارات على التحفيز أنه كاف للتعويض عن الانهيار الكامل، فإن السؤال سيظل هو ماذا قد يأتي بعد.
في أسوأ سيناريو (وهو ليس بالاحتمال المستحيل)، يُـعاد انتخاب ترمب، وتنتشر موجة ثانية من الجائحة على مستوى العالم، وتستمر الاقتصادات في الانهيار، وتتحول الحرب الباردة الجديدة في شرق آسيا إلى حرب ساخنة. ولكن حتى لو لم نفترض الأسوأ، فإن الأزمة الثلاثية ستستهل عصرا جديدا يتطلب إعادة بناء الأنظمة السياسية والاقتصادية الوطنية والمؤسسات المتعددة الأطراف. وحتى في أفضل سيناريو، لن تكون العودة إلى الوضع السابق بالخيار الوارد. فما مضى قد مضى؛ والمستقبل فقط هو ما يمثل أي أهمية الآن.
لا ينبغي لنا أن نستسلم لأي أوهام حول ما قد يحدث أو ما ينبغي أن يأتي بعد ذلك. إن الأزمات التي أحدثتها الجائحة شديدة العمق وبعيدة المدى إلى الحد الذي يجعلها تقودنا حتما إلى عملية إعادة توزيع جذرية للسلطة والثروة على المستوى العالمي. وسوف تكون المجتمعات التي أعدت العدة لهذه النتيجة من خلال حشد الطاقات الضرورية، والدراية، والاستثمارات، بين الفائزين؛ أما أولئك الذين يفشلون في رؤية ما يلوح في الأفق القريب فسوف يجدون أنفسهم بين الخاسرين.
قبل الجائحة بوقت طويل، كان العالم يمر بالفعل بمرحلة انتقالية إلى العصر الرقمي، مع ما يترتب على ذلك من آثار بعيدة المدى على قيمة التكنولوجيات التقليدية، والصناعات القديمة، وتوزيع السلطة والثروة على مستوى العالم. علاوة على ذلك، هناك أزمة عالمية أخرى أكبر حجما بدأت تلوح في الأفق بوضوح بالفعل. إن العواقب المترتبة على تغير المناخ الجامح ستكون أوخم وأشد وطأة من أي شيء رآه البشر من قبل، ولن تُـحَـل هذه المشكلة بالبحث عن لقاح.
على هذا، فإن جائحة كوفيد-19 تمثل نقطة تحول حقيقية. لقد اعتمدنا لقرون من الزمن على نظام يحكم الاقتصاد السياسي يتألف من دول قومية أنانية ذات سيادة، وصناعات (في ظل الرأسمالية أو الاشتراكية) تعمل بإحراق الوقود الأحفوري، واستهلاك الموارد الطبيعية المحدودة. والآن يقترب هذا النظام بسرعة من منتهاه، مما يجعل التغيير الجوهري مسألة حتمية لا مفر منها.
تتلخص مهمتنا الآن في أن نتعلم قدر المستطاع من الموجة الأولى من الأزمة الثلاثية. وعندما يتعلق الأمر بأوروبا، التي بدا أنها تخلفت كثيرا عن الركب اقتصاديا وجغرافيا، فإن هذه اللحظة تمثل فرصة غير متوقعة لمعالجة أوجه القصور الواضحة. تتمتع أوروبا بالقيم السياسية (الديمقراطية، وسيادة القانون، والمساواة الاجتماعية)، والدراية الفنية، والقوة الاستثمارية اللازمة للتحرك بشكل حاسم بما يحقق المصالح المرتبطة بمبادئها وأهدافها، فضلا عن مبادئ وأهداف البشرية ككل. والسؤال الوحيد الآن هو: ماذا ينتظر الأوروبيون؟
اضف تعليق