أميركا تحب الهند هكذا أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب في زيارته الأخيرة لولاية جوجارات الهندية، التي تشكل قاعدة قوة رئيس الوزراء ناريندرا مودي. أمام حشد يتألف من أكثر من 100 ألف شخص في أكبر مدرج للعبة الكريكيت في العالم، احتفل الزعيمان في أجواء تسودها نشوة...
بقلم: دومينيك مويسي

باريس ــ "أميركا تحب الهند"، هكذا أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب في زيارته الأخيرة لولاية جوجارات الهندية، التي تشكل قاعدة قوة رئيس الوزراء ناريندرا مودي. أمام حشد يتألف من أكثر من 100 ألف شخص في أكبر مدرج للعبة الكريكيت في العالم، احتفل الزعيمان في أجواء تسودها نشوة الانتصار بالصداقة المتزايدة التعمق بين بلديهما ــ أو بعبارة أكثر دقة، بين نمطيهما من الشعبوية الكاريزمية. ولم يكن حتى تكرار نطق ترمب للأسماء الهندية بطريقة مشوهة خلال كلمته كافيا لتثبيط حماس مودي.

لكن زيارة ترمب للهند لم تكن اللحظة التاريخية الكبرى التي تفاخر بها هو ومودي. فرغم أن مودي وَصَـف العلاقات بين الولايات المتحدة والهند بأنها "الشراكة الأكثر أهمية في القرن الحادي والعشرين"، فإنها لا تضاهي على الإطلاق العلاقات المتعمقة بين الصين وروسيا. ذلك أن الحكام المستبدين التقليديين يجدون سهولة أكبر كثيرا مقارنة بالحكام الشعبويين في الاتحاد خلف رؤية مشتركة لمصالحهم العالمية. لا شك أن عامِل الصين يشكل أهمية كبرى لكل من الولايات المتحدة والهند، لكنه لا يكفي لحملهما على تجاوز خلافاتهما الثقافية ومصالحهما الاقتصادية المتباينة بشدة (وبخاصة في ما يتصل بالتجارة).

ولكن على الرغم من ذلك، كان نوع آخر من التاريخ يُـصنَـع أثناء زيارة ترمب. لكنه كان مختلفا تمام الاختلاف عن النوع الذي تصوره هو ومودي.

عندما أحاول وصف الاجتماعات الأخيرة بين الزعيمين في الهند، يتبادر إلى الذهن رغما عني تعبير "موقد الأباطيل". ففي أجواء من التملق البائس وقدر لا يضاهى من الغطرسة والغرور، تَـعَـرَّف ترمب ومودي على صفات مشتركة بينهما. عندما كنت أشاهدهما في بث مباشر على شاشات التلفزيون، لم يكن بوسعي إلا أن أسترجع المشاهد المحفورة في الذاكرة من تحفة شارلي شابلن السينمائية "الدكتاتور العظيم". ويبدو أن ملهاة شابلن تكرر ذاتها الآن ــ ولكن في هيئة مأساة هذه المرة.

من منظور ترمب، الذي يعد العدة لحملة إعادة انتخابه، تشكل الهند مكانا مثاليا لاختبار رسالته إلى الناخبين الأميركيين ــ وخاصة إلى الجالية الهندية المغتربة الناجحة في أميركا التي يبلغ قوامها أربعة ملايين، والتي تميل إلى التصويت لصالح الديمقراطيين. كانت رسالة ترمب بسيطة: إذا كانت الهند، وهي الديمقراطية الأكبر في العالم، تستقبله استقبال الأبطال والنجوم، فكيف إذن يرفضه بعض الأميركيين (غير الوطنيين بوضوح) كما لو كان يشكل تهديدا للديمقراطية؟ الواقع أن ترمب بدا وكأنه يطالب بحماية كل من مودي والمهاتما غاندي.

كما جلبت زيارة الرئيس الأميركي فوائد مماثلة لمودي. يمقت العديد من الهنود نزعة مودي القومية الدينية، وتشهد دلهي حاليا أسوأ موجة من أعمال العنف بين الهندوس والمسلمين منذ عقود من الزمن. لكن مودي يستطيع الآن أن يقول لمعارضيه إن زعيم أقوى ديمقراطية في العالم لا يمانع في الكيفية التي تعامل بها الهند الأقلية المسلمة أو كيف تتصرف في كشمير.

بعد أن عزز كل منهما شرعية الآخر بالثناء والحِل من الذنوب، بات بوسع ترمب ومودي أن ينتقلا من مواكب العظمة والأبهة الفارغة إلى الأمور الأكثر جدية وإثارة للخلاف والشقاق، مثل الصين والتجارة. أعاد هذا إلى ذهني المحادثات التي أجريتها في أوائل العقد الأول من القرن الحالي مع روبرت بلاكويل، الدبلوماسي المخضرم الذي كان يشغل منصب سفير الولايات المتحدة إلى الهند في ذلك الوقت. كان هدف بلاكويل الرئيسي يتلخص في حمل أميركا على إدراك (أو اكتشاف) أهمية الهند البالغة بالنسبة للولايات المتحدة بوصفها أكبر ديمقراطية في العالم. في نظره، لم تكن الديمقراطية كلمة غامضة فارغة، بل كانت عنصرا أساسيا في بناء علاقة متميزة مع الهند. ولكن في ذلك الوقت، بطبيعة الحال، لم يكن الشعبويين المتعصبون استولوا على السياسة في أي من البلدين بعد.

من المؤكد أن العلاقات الأميركية الهندية كانت معقدة دائما. ففي خمسينيات وستينيات القرن العشرين كان كل من البلدين يعتبر الصين تهديدا. وبعد أن خسرت الهند حربا مع الصين في عام 1962، وقعت على اتفاقية الدفاع الجوي وتبادلت الاستخبارات مع الولايات المتحدة، في حين قدمت لها أميركا أيضا مساعدات اقتصادية وعسكرية.

ولكن سرعان ما دب الخلاف بين البلدين في ما يتصل بمدى إلحاح التهديد الصيني. فقد شعر قادة الهند بالخيانة عندما بدأت الولايات المتحدة، في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون، عملية التقارب مع الصين. ونتيجة لهذا، تزايد التقارب بين روسيا والهند، مما دفع أميركا بدورها إلى تحويل انتباهها الإقليمي إلى باكستان.

ثم جاء القرار الذي اتخذته الهند بالتحول إلى قوة نووية. في مستهل الأمر، كانت الولايات المتحدة غاضبة إزاء العناد الهندي بشأن هذه القضية، لكنها استسلمت في وقت لاحق لواقع لا يمكنها منعه. ورغم أن قادة الولايات المتحدة رأوا أن الهند النووية ربما تكون ضارة بالعالم، فإن الترسانة الهندية كانت على الأقل رادعا مفيدا في مواجهة الصين.

ولكن في حين أن انعدام الثقة المشترك في الصين ربما يكون شرطا مسبقا ضروريا لعلاقة ناجحة بين الولايات المتحدة والهند، فإنه لا يشكل الأساس الكافي لتحالف وثيق ودائم بين عملاقين معقدين. في الواقع، إذا لم يعد الالتزام العميق المخلص بالديمقراطية هو ما يجمع بين الولايات المتحدة والهند، فقد تقرر الهند ذات يوم أن مصالحها تكمن في السعي إلى التقارب مع الصين، القوة العالمية التي يمكن التنبؤ بتصرفاتها بسهولة أكبر.

أخيرا، سوف تستمر الاحتكاكات التجارية بين الولايات المتحدة والهند، على الرغم من العلاقات الدافئة بين ترمب ومودي. وربما نستشف الكثير من حقيقة مفادها أن الحدث الذي استضافه مدرج الكريكيت في جوجارات انتهى بأغنية لفريق رولينج ستونز بعنوان "لا يمكنك أن تحصل دوما على ما تريد".

اليوم، تصعد القومية الاقتصادية، ويأفل نجم الديمقراطية. وفي ضوء هذه الاتجاهات المزعجة، ربما يُـنـظَـر إلى ما حدث في ولاية جوجارات بين ترمب ومودي على أنه الصورة المثالية للمدينة الفاسدة القادمة.

* دومينيك مويسي، كبير المستشارين في معهد مونتين في باريس ومؤلف كتاب جيوسياسية المتواليات أو انتصار الخوف
https://www.project-syndicate.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق