أثار احتمال فوز ساندرز في الانتخابات التمهيدية فزعًا لدى مؤسسة الحزب التقليدية من إمكانية خسارتهم أمام ترامب والجمهوريين في الانتخابات الرئاسية والتشريعية المقبلة، على أساس أن ساندرز يقدم نفسه بصفته ديمقراطيًا اشتراكيًا وهو ما سيستغله الجمهوريون لمصلحتهم لتصوير الحزب الديمقراطي باعتباره حزبًا متطرفًا، ومتسامحًا مع...
مقدمة
عزز السناتور الأميركي، بيرني ساندرز، حظوظه للفوز ببطاقة الترشح عن الحزب الديمقراطي منافسًا للرئيس دونالد ترامب، في الانتخابات الرئاسية الأميركية في تشرين الثاني/نوفمبر 2020، بعد فوزه في الانتخابات التمهيدية للحزب في ولاية نيفادا في 22 شباط/ فبراير 2020. وبذلك يكون ساندرز قد حقق انتصارين في ثلاثة انتخابات داخلية للحزب إلى الآن، والتي جرت هذا الشهر في ولايات أيوا ونيوهامشير ونيفادا. وكان ساندرز فاز بأغلبية الأصوات في انتخابات أيوا، في حين خسر بفارق ضئيل في عدد المندوبين الانتخابيين Delegates، وهي نتيجة محل خلاف إلى الآن، بينما انتصر في انتخابات نيوهامشير.
غير أن ما يميز نتيجة الانتخابات في نيفادا أنها أول انتخابات تجري في ولاية متنوعة عرقيًا، مقارنة بسابقتيها اللتين يشكل فيهما البيض أغلبية سكانية. ويمثل الأميركيون من أصول لاتينية في الولاية نسبة 30 في المئة، بينما يمثل الأميركيون من أصول أفريقية فيها نسبة 10 في المئة، إضافة إلى وجود معتبر لأقليات عرقية أخرى. وبهذا تكون حملة ساندرز الانتخابية قد أثبتت أنها قادرة على بناء تحالف واسع ومتنوع، عرقيًا وأيديولوجيًا، داخل الحزب الديمقراطي، أوسع من قاعدتها الأساسية، الأكثر ليبرالية وتقدمية.
وقد أثار احتمال فوز ساندرز في الانتخابات التمهيدية فزعًا لدى مؤسسة الحزب التقليدية من إمكانية خسارتهم أمام ترامب والجمهوريين في الانتخابات الرئاسية والتشريعية المقبلة، على أساس أن ساندرز يقدم نفسه بصفته "ديمقراطيًا اشتراكيًا"؛ وهو ما سيستغله الجمهوريون لمصلحتهم لتصوير الحزب الديمقراطي باعتباره حزبًا متطرفًا، ومتسامحًا مع الأفكار الراديكالية "الشيوعية"[1]. وفي خضم قلق الديمقراطيين من صعود ساندرز، كشفت وسائل إعلام أميركية أن المؤسسات الاستخباراتية الأميركية حذرت من محاولة روسيا التدخل في الانتخابات التمهيدية للديمقراطيين لمصلحة ساندرز، بناءً على أن هذا سيعزز وضع ترامب انتخابيًا في حالة ترشيح ساندرز مقابله. وتقول المؤسسات الاستخباراتية نفسها إن موسكو تريد أن ترى ترامب رئيسًا من جديد وتعمل من أجل ذلك[2].
من هو ساندرز؟
ولد ساندرز في مدينة بروكلين في نيويورك عام 1941، لوالدين يهوديين مهاجرين من بولندا، وهو حاصل على البكالوريوس في العلوم السياسية من جامعة شيكاغو. وفي حال فوزه ببطاقة الترشح عن الحزب الديمقراطي، فإنه سيكون المرشح الرئاسي الأكبر سنًّا في تاريخ الولايات المتحدة، بعمر 79 عامًا. ولساندرز تاريخ سياسي حافل؛ إذ كان رئيسًا لبلدية بيرلينغتون في ولاية فيرمونت (1981-1989)، وبعدها انتخب لمجلس النواب الأميركي، عضوًا مستقلًا، للفترة 1991-2007، ثم لمجلس الشيوخ منذ عام 2007 عن ولاية فيرمونت. وفي عام 2016، حقق ساندرز مفاجأة انتخابية غير متوقعة؛ إذ كاد يهزم هيلاري كلينتون في الانتخابات التمهيدية في الحزب الديمقراطي. وقد أظهرت وثائق ويكيليكس المستمدة من خوادم حواسيب اللجنة الوطنية للحزب الديمقراطي أن المؤسسة التقليدية في الحزب عملت ضده لمصلحة كلينتون. لقد قضى ساندرز فترة طويلة في السياسة، غير أن خبرته في السياسة الخارجية تعتبر محدودة جدًا؛ إذ لم يخدم في أي من لجان الكونغرس التي تتعامل مع قضايا الأمن والسياسة الخارجية.
يقدم ساندرز نفسه على أنه "اشتراكي ديمقراطي"، وكان قد عرّف "الاشتراكية الديمقراطية" عام 2015 بأنها قائمة على إصلاح الاختلالات في النظام الاقتصادي الأميركي وتوزيع الثروة بطريقة عادلة، وكذلك على إصلاح النظام السياسي الأميركي، والحد من سطوة رؤوس الأموال وجماعات الضغط عليه. وهو يرى أن الدولة ينبغي لها أن تمارس دورًا رعائيًا أكبر في المجالات الاجتماعية، وخصوصًا التعليم والتأمين الصحي[3].
ويعتبر ساندرز برنامجه استكمالًا لبرنامج الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت (1933–1945)، الذي عرف باسم "الصفقة الجديدة" New Deal. ويعتقد ساندرز أن هذا البرنامج "ساعد فرانكلين ديلانو روزفلت قبل 89 عامًا في إنشاء حكومة حققت تقدمًا مفصليًا في حماية احتياجات الأسر العاملة. واليوم، في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، يجب أن نقوم بتنفيذ ما لم تكمله الصفقة الجديدة غير المكتملة". ويرى أن برامج روزفلت لتحقيق العدالة الاجتماعية جابهتها في حينه بالرفض "الطبقة المسيطرة التي وصفت برامجه التي حظيت بشعبية واسعة بأنها ’اشتراكية‘"، وأن البرامج التي ينبغي للديمقراطيين استكمالها تشمل الضمان الاجتماعي، ووضع حد أدنى للأجور، ورعاية العاطلين عن العمل، وحماية المزارعين، وتنظيم وول ستريت، وتحسين البنية التحتية. ولتحقيق ذلك يقترح "وثيقة حقوق اقتصادية"، "ترسخ إلى الأبد أن لكل أميركي بغض النظر عن دخله، جملة من الحقوق هي: الحق في وظيفة لائقة تدفع أجرًا يحقق حياة كريمة، والحق في رعاية صحية نوعية، والحق في التعليم، والحق في السكن بأسعار معقولة، والحق في بيئة نظيفة، والحق في تقاعد آمن"[4].
أهم مواقفه في السياسة الخارجية
يرى ساندرز أن السياسة الخارجية للولايات المتحدة ينبغي لها أن ترتكز على جملة من المرتكزات[5]:
تنفيذ سياسة خارجية تركز على الديمقراطية وحقوق الإنسان والدبلوماسية والسلام والعدالة الاقتصادية.
تمكين الكونغرس من إعادة تأكيد دوره الدستوري في شن الحروب؛ بحيث لا يستطيع أي رئيس شن أي عمليات عسكرية لم يصرح بها وغير دستورية في الخارج.
احترام إرادة الشعب الأميركي الذي لا يريد حروبًا لا نهاية لها.
إنهاء الدعم الأميركي للتدخل الذي تقوده المملكة العربية السعودية في اليمن، "والذي تسبب في أسوأ كارثة إنسانية في العالم".
إعادة الانضمام إلى الاتفاق النووي الإيراني، والتباحث مع إيران بشأن مجموعة من القضايا الأخرى.
العمل مع القوى المؤيدة للديمقراطية في جميع أنحاء العالم، لبناء مجتمعات تعمل من أجل الناس وحمايتهم جميعًا.
لا تشير محددات السياسة الخارجية في برنامج ساندرز الانتخابي إلى الصراع العربي–الإسرائيلي ولكنه لا يخفي نفوره من حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية، ويصفها بـ "حكومة عنصرية"، مع أنه يعتز بأصوله اليهودية. ويرى ساندرز أن دعم الولايات المتحدة "لشعب إسرائيل وللسلام في الشرق الأوسط لا يعني أنه علينا أن نكون داعمين لحكومات اليمين العنصرية الموجودة حاليًا في إسرائيل".
ويشدّد على أن السياسة الخارجية الأميركية في المنطقة يجب أن تهدف إلى "جمع الفلسطينيين والإسرائيليين معًا تحت شعار العدل"، وأنه لا يمكن "أن تكون مجرد سياسة نكون فيها مؤيدين لإسرائيل ونتجاهل احتياجات الشعب الفلسطيني"[6]. وكان ساندرز دعا مرات عدة في الماضي إلى النظر في استخدام المساعدات لإسرائيل أداةَ ضغط على حكومتها؛ لإجبارها على الامتناع عن توسيع المستوطنات في الضفة الغربية وغيرها من الخطوات التي يعتبرها تعوق العلاقات الإسرائيلية - الفلسطينية. وكان قد أعلن مؤخرًا أنه سيقاطع مؤتمر لجنة الشؤون العامة الأميركية - الإسرائيلية "إيباك"، أبرز جماعة ضغط صهيونية في الولايات المتحدة، والذي يعقد في 1-4 آذار/ مارس 2020؛ لأنها توفر منصة لقادة "يظهرون تعصبًا ويعارضون الحقوق الفلسطينية الأساسية". كما اعتبر أن "الشعب الإسرائيلي يستحق العيش في سلام وأمن، وأيضًا الشعب الفلسطيني". وشدد: "سأدعم، إذا أصبحت رئيسًا، حقوق الإسرائيليين والفلسطينيين، وسأفعل كل ما هو ممكن لجلب السلام والأمن إلى المنطقة"[7].
نقاط قوة ساندرز
قد تكون نتيجة انتخابات ولاية نيفادا التمهيدية نقطة تحول مفصلي في حملة ساندرز الرئاسية؛ إذ أنه لم يفز بها على نحو حاسم فحسب (26.6 في المئة مقارنة بأقرب منافسيه جو بايدن 20.2 في المئة)[8]، بل أثبت أنه قادر على توسيع قاعدته الانتخابية الضيقة المتمثلة في الذين يعرّفون أنفسهم بأنهم "ليبراليون جدًا" و"تقدميون" لتشمل ديمقراطيين معتدلين وقليلًا من المحافظين[9]. كما أن نتيجة الانتخابات هناك أظهرت بوضوح أن ساندرز قادر على بناء قاعدة انتخابية متنوعة، سواء أكان ذلك لناحية الفئات العمرية؛ إذ إنها لم تعد مقتصرة على الشباب فحسب، مع أنها تبقى عماد قوته الانتخابية، أم لناحية العرق، وخصوصًا بين الأميركيين من أصول لاتينية والأفارقة الأميركيين. ويجمع أميركيون من كل تلك الفئات والطبقات على أن سياسات ترامب الاقتصادية لا تفيدهم كثيرًا، ويرفض أغلبهم سياساته القاسية نحو المهاجرين[10]. أما الأهم من ذلك كله، فهو أن ساندرز نجح في تبديد التهمة التي يوجهها إليه المرشحون الديمقراطيون الآخرون بكونه غير قادر على هزيمة ترامب في الانتخابات العامة.
وأظهرت النتائج أن ساندرز فاز بنسبة 42 في المئة من أصوات غير البيض، وهو ما يدحض حجة بايدن بأن قاعدة الأقليات هي التي ستمكنه من الحصول على ترشيح حزبه[11]. وتظهر استطلاعات الرأي تقلص الفارق على نحو كبير بين بايدن وساندرز وسط السود الأميركيين في انتخابات السبت 29 شباط/ فبراير 2020 في كارولاينا الجنوبية، والتي سبق أن اعتبرها بايدن "خط النار" بالنسبة إلى مستقبل حملته الرئاسية. ووفق النتائج، فازر ساندرز بـ 29 في المئة من أصوات البيض، و51 في المئة من أصوات ذوي الأصول اللاتينية، و27 في المئة من أصوات السود. كما فاز بنسبة 65 في المئة من أصوات من تقل أعمارهم عن 30 عامًا، و56 في المئة من أصوات من تقل أعمارهم عن 44 عامًا، إضافة إلى تقدمه بين الرجال والنساء من كل الفئات العمرية إلى حدود سن 64 عامًا، سواء أكانوا حاملي شهادات جامعية أم لا، وسواء أكانوا ينتمون إلى عائلات نقابية أم لا. أما من هم فوق الخامسة والستين، فقد فاز بايدن بأغلب أصواتهم[12].
وفضلًا عن الزخم الكبير الذي أعطته انتخابات نيفادا لحملة ساندرز، فإن أهميتها تتضاعف في انتخابات "الثلاثاء الكبير" Super Tuesday والتي تجري في أربع عشرة ولاية في 3 آذار/ مارس 2020، وتشمل عددًا من أكبر الولايات كثافة سكانية، مثل كاليفورنيا وتكساس، والتي تعد أصوات الأميركيين من أصول لاتينية، بالدرجة الأولى، حاسمة فيها، يليها أصوات السود الأميركيين. ويعتبر ساندرز اليوم في موقف قوة، قد يؤهله لتخطي منافسيه في انتخابات "الثلاثاء الكبير"؛ فحملته تملك أموالًا أكثر من حملات منافسيه الآخرين، باستثناء المليارديريْن، مايكل بلومبيرغ، ورجل الأعمال توم ستاير، ولكن استطلاعات الرأي لا تعطيهما، على الأقل آنيًا، وزنًا مهمًا. ويتنافس المرشحون الديمقراطيون الستة في "الثلاثاء الكبير" على 1357 مندوبًا من مجموع 3979 مندوبًا.
ومما يعزز فرص ساندرز لنيل بطاقة ترشيح حزبه أن بعض استطلاعات الرأي تشير إلى أنه لو أجريت الانتخابات العامة اليوم، فإنه سينتصر على ترامب، كما أنه سيحسم نتيجة بعض الولايات الترجيحية لمصلحته، كميتشغان وبنسلفانيا وويسكونسن. لكن هذا افتراض سابق لأوانه؛ إذ لم يدخل ترامب على خط المنافسة بعد، ولكنه افتراض يؤدي دورًا مهمًا في تعزيز حجج ساندرز بأنه قادر على هزيمة ترامب واستعادة البيت الأبيض من الجمهوريين. ومما يؤكد هذا المعطى أن ثلثي من صوتوا في انتخابات نيفادا التمهيدية قالوا إنهم يفضلون المرشح الذي يمكنه الفوز (Electability) على ترامب، وليس الشخص الذي يوافقهم في الرأي في القضايا، وأغلب هؤلاء قالوا إن ساندرز هو ذلك المرشح[13].
في مقابل عناصر القوة التي تعمل لمصلحة ساندرز، فإن منافسيه الآخرين، المحسوبين على تيار الوسط أو المعتدلين، ما زالوا عاجزين عن الاتفاق على مرشح من بينهم لضمان عدم تشتيت الأصوات، رغم أن قادة الحزب دعوا إلى ذلك مرارًا. ويتنازع كل من بايدن وبلومبيرغ وبِيت بوتيدجيج والسناتور، إيمي كلوبوشار، على الشريحة التصويتية نفسها؛ وكل واحد منهم يرى أنه الأقدر على هزيمة ساندرز، لو تنازل الآخرون له في المنافسة. أما السناتور، إليزابيث وارن، فتنافس ساندرز على أصوات الليبراليين والتقدميين، إلا أنها لم تنجح في تحشيدهم لمساندة حملتها التي تعاني ضعف التمويل. ولكنّ المرشحين جميعًا توحدوا في الهجوم على ساندرز في النقاش المفتوح عشية الانتخابات التمهيدية في ولاية ساوث كارولاينا التي يأمل بايدن أن يفوز فيها بالحصة الأكبر.
خلاصة
يصعب التنبؤ إن كان ساندرز سيكون مرشح الديمقراطيين، وإن كان قادرًا على توسيع قاعدته الاجتماعية، ولا سيما أنه لا يتجاوز الخطاب اليساري الطبقي إلى قضايا التعددية الإثنية وغيرها. ومع ذلك يبدو أن المؤسسة التقليدية في الحزب بدأت بالتخطيط لإفشاله، تمامًا كما فعلت عام 2016. وإذا حصل هذا، فإن الحزب سيذهب إلى انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر، منقسمًا كما حصل عام 2016. وسيعطي هذا ترامب فرصًا أكبر للفوز بولاية ثانية. إن هذه المخاوف هي ما دفع الرئيس السابق باراك أوباما، رغم معارضته لترشيح ساندرز عن الحزب، إلى التأكيد أنه سيدعم أي مرشح إذا تم التوافق عليه. ولا يُفهم من هذا أن ترشح ساندرز عن الحزب الديمقراطي بات مضمونًا؛ فالطريق لا تزال طويلة حتى مؤتمر الديمقراطيين في 13-16 تموز/ يوليو 2020 في ميلواكي.
اضف تعليق