يمكن للتطورات المنذرة بالسوء، مثل الهجمات على الطواقم الأمريكية في العراق، والردود الانتقامية الأمريكية والاضطرابات المحيطة بالسفارة الأمريكية في بغداد، أن تجر العراق إلى أعماق أكبر في المواجهة الأمريكية الإيرانية وأن تشعل فتيل صدامات مباشرة بين واشنطن وطهران. ولذلك ينبغي اتخاذ خطوات عاجلة لكسر هذه...
يمكن للتطورات المنذرة بالسوء، مثل الهجمات على الطواقم الأمريكية في العراق، والردود الانتقامية الأمريكية والاضطرابات المحيطة بالسفارة الأمريكية في بغداد، أن تجر العراق إلى أعماق أكبر في المواجهة الأمريكية الإيرانية وأن تشعل فتيل صدامات مباشرة بين واشنطن وطهران. ولذلك ينبغي اتخاذ خطوات عاجلة لكسر هذه الحلقة الخطيرة التي يمكن التنبؤ بأحداثها.
على مدى الأشهر الثلاثة الماضية، اكتسحت انتفاضة شعبية بغداد والمحافظات الجنوبية في العراق. لقد كانت دعوة هذه الانتفاضة إلى إجراء إصلاحات دستورية عميقة، وخصوصاً وضع حد للفساد، الدافع وراء فورات متكررة من الاحتجاجات في الماضي. إلا أن الحراك هذه المرة أكبر، وأوسع انتشاراً واستمر لمدة أطول. وقد واجهت السلطات المظاهرات بالعنف المفرط، حيث قتلت أكثر من 450 شخصاً وجرحت الآلاف. وكانت المجموعات شبه العسكرية المدعومة إيرانياً هي المرتكب الرئيسي للعنف، هذه المجموعات التي تشكل جزءاً من تجمع يتمثل في قوات "الحشد الشعبي" الذي اندمج قانونياً في جهاز الدولة لكنه يخضع في الواقع إلى هيكليات قيادية منفصلة.
سرّعت ضغوط الشارع في انهيار حكومة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي في مطلع كانون الأول/ديسمبر ولم يكن قد مضى على تشكيلها عام واحد. ومنذ ذلك الحين، حاولت الطبقة السياسية في العراق العثور على مخرج من الأزمة، لكنها عالقة في كماشة يتكون فكّاها من المتظاهرين والحشد المدعوم إيرانياً، والذي يضطلع قادته السياسيون بدور كبير في مجلس النواب. والنتيجة هي شلل سياسي.
وقد فتح المأزق الباب أمام التوترات الإيرانية–الأمريكية، التي تنامت باستمرار في الخليج على مدى العامين الماضيين، لتتجلى مباشرة على الساحة العراقية؛ إذ حمّل ممثلو الحشد الولايات المتحدة وإسرائيل المسؤولية عن سلسلة من الضربات الجوية التي لم تعلن أي جهة مسؤوليتها عنها واستهدفت مواقع الحشد ومستودعاته في تموز/يوليو وآب/أغسطس، نفذتها طائرات مسيرة.
ثم أتت سلسلة من الهجمات الصاروخية قرب السفارة الأمريكية وعلى القواعد العسكرية العراقية، بما في ذلك إحدى القواعد الواقعة خارج كركوك، في 27 كانون الأول/ديسمبر وأدت إلى مقتل متعاقد أمريكي، وإلى رد أمريكي قوي. في 29 كانون الأول/ديسمبر، قصف الجيش الأمريكي قواعد لكتائب حزب الله في العراق وسورية، فقتل نحو 25 من مقاتليها وقادتها. وهذه المجموعة شبه العسكرية جزء من الحشد، وبالتالي جزء من الجيش العراقي، وقد ساعدت على وقف نشاط بقايا تنظيم الدولة الإسلامية. كما أنها إحدى وحدات الحشد التي ترعاها إيران.
جميع اللاعبين السياسيين العراقيين الرئيسيين، بمن فيهم رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء المنتهية ولايته أدانوا الأعمال الأمريكية بوصفها انتهاكاً للسيادة العراقية. وحتى آية الله العظمى علي السيستاني، المرجع الديني الشيعي الأكبر في العالم، والذي يمتنع عادة عن التعليق على الأحداث الجارية، أدان الضربة بوصفها "اعتداءً غاشماً". وأضاف إن "وحدها السلطات العراقية ينبغي أن تتخذ إجراءات لمنع الممارسات غير القانونية من بعض الأطراف"، فيما يبدو أنه تحذير للحشد كي لا يرد.
رغم ذلك، فإن الحشد المدعوم إيرانياً تعهد بالانتقام. ففي 31 كانون الأول/ديسمبر، اقتحمت مجموعة من الدهماء يقودها أنصار كتائب حزب الله مجمع السفارة الأمريكية في بغداد ووصلوا إلى ردهة خارج المبنى الرئيسي قبل أن تتدخل قوات الأمن العراقية لإخراجهم ونصب حاجز حديدي أمام باب السفارة. وعند هبوط الليل، ظلت مجموعة صغيرة موجودة خارج المجمع، حيث كانت كتائب حزب الله قد نصبت خياماً، لكن في 1 كانون الأول/ديسمبر أمر الحشد الناس بالانسحاب.
رقصة خطرة
يشكل العراق مسرحاً واحداً وحسب من المسارح التي تؤدي عليها واشنطن وطهران رقصتهما الخطرة المتمثلة في التصعيد المتبادل. رغم أن من المؤكد أن إيران ساعدت في زيادة حدة التوترات، فإن أصل الأزمة واضح، وهو قرار إدارة ترامب الخروج من الاتفاق النووي الذي وُقّع في العام 2015، والقيام بدلاً من ذلك بفرض "أقصى درجات الضغط" على الجمهورية الإسلامية، بشكل أساسي من خلال فرض عقوبات أكثر شدة. وقد ردت إيران على ما تعتبره شكلاً من أشكال الحرب الاقتصادية الأمريكية، كما حذرت مجموعة الأزمات مراراً وتكراراً من أن أيران ستفعله، وذلك من خلال تطوير برنامجها النووي والانخراط في سلوك أكثر عدوانية في الشرق الأوسط.
لكن بالنسبة لطهران، فإن العراق يتمتع بأهمية خاصة. فهي بحاجة ماسة إلى جار مستقر يمكنها تشكيل حكومته وجهازه الأمني كوسيلة لتخفيف ضغوط العقوبات الأمريكية. فقد اندلعت الاحتجاجات الجماهيرية بشكل أساسي بسبب فشل السياسيين العراقيين في الحكم في السنوات التي تلت العام 2003، عندما غزت الولايات المتحدة العراق وسقط نظام صدام حسين، وليس بسبب الدور الإيراني في العراق في تلك الفترة. رغم ذلك، فإن الاضطرابات شكلت تحدياً كبيراً لطهران، وسارع القادة الإيرانيون إلى رؤية يد أمريكية خلفها.
على مدى أسابيع قبل اندلاع مظاهرات أواخر كانون الأول/ديسمبر، كان حلفاء إيران العراقيون في الحشد قد بدأوا بتصعيد خطابهم ضد الولايات المتحدة تعبيراً عن غضبهم الشديد من حقيقة أنهم لم يتمكنوا من الدفع بمرشحهم لرئاسة الوزراء لخلافة عبد المهدي. وقد تمثلت إحدى العقبات الرئيسية في وجه تلك المحاولة في الرئيس برهم صالح الذي صنفه الحشد المدعوم إيرانياً عميلاً أمريكياً، وهدد بإيذائه.
الهجمات العسكرية المتبادلة قد تمكّن المجموعات المدعومة إيرانياً الآن من حشد الدعم الشعبي تأييداً لما كان سينظر إليه دون ذلك على أنه تحرك لا يحظى بالشعبية إطلاقاً، وهو إخراج الولايات المتحدة والقوات الغربية الأخرى (الموجودة في العراق بدعوة من حكومته) من خلال التصويت في البرلمان، وتشكيل حكومة جديدة أكثر استعداداً لتلبية المصالح الإيرانية. وبهذا المعنى، فإن إيران دأبت على محاولة استفزاز الولايات المتحدة كي تساعدها على حل مشكلتها في العراق. وإدارة ترامب، بردها على الهجمات في كركوك وأماكن أخرى وفّرت لها تلك المساعدة.
لكن، إذا دفعت سلسلة الأحداث هذه إلى انسحاب القوات الأمريكية وإلى مزيد من عدم الاستقرار في العراق، فإن من المرجح أن يخسر الطرفان كلاهما. فإيران والولايات المتحدة قد تكونان في حالة مواجهة بسبب الاتفاق النووي المتصدع، وبسبب سياساتهما في الشرق الأوسط وحول مسائل أخرى، لكنهما ما تزالان تتشاطران المصلحة في وجود عراق مستقر لا تسيطر عليه أي منهما بشكل كامل يكون منطقة عازلة بينهما.
كما قد يكون تنظيم الدولة الإسلامية قد خسر المناطق التي كان يحكمها في فترة ما، إلا أن بقاياه ما تزال موجودة؛ وبالتالي فإن استمرار توفر القوة الجوية الأمريكية يشكل ضمانة قوية ضد عودة التنظيم إلى الظهور بشكل كبير، بما في ذلك بالنسبة لطهران. وطالما استمر عناصر تنظيم الدولة في الوجود، أو طالما ظل أي تهديد من الأراضي العراقية ممكناً، فإن أفضل سيناريو بالنسبة لطهران هو الوضع الذي كان سائداً قبل تشرين الأول/أكتوبر 2019، وتعديله ربما بائتلاف حاكم عراقي جديد ورئيس وزراء يكون مديناً لها بشكل أكبر بطريقة ما.
وعلى نحو مماثل، فإن الولايات المتحدة ستكون في وضع أفضل باستمرار وجودها في العراق من أجل تحقيق التوازن مع النفوذ الإيراني المحتوم. ولعدة سنوات، تمكنت الولايات المتحدة من العيش بهدوء، ولو بشكل غير مريح أحياناً، جنباً إلى جنب مع إيران في العراق، متحدية بذلك الدور الإيراني في مسرح تتمتع فيه طهران بنفوذ أكبر بكثير، ومن شبه المؤكد أن هذا سينتهي نهاية سيئة بالنسبة لواشنطن.
على المدى المتوسط، فإن حملة فرض "أقصى درجات الضغط" على إيران واستمرار الوجود الأمريكي في العراق قد لا يكونان متوافقين. طالما استمرت التوترات الإقليمية بين واشنطن وطهران، فإن تنافسهما على الساحة العراقية، وحتى بشكل لا يصل إلى عتبة الحرب الفعلية، سيبقي النظام السياسي العراقي معطلاً ومنقسماً، وسيعمل ضد الهدف الظاهري للوجود الأمريكي، أي إلحاق الهزيمة المستدامة بتنظيم الدولة، الذي يمكن إنجازه فقط من خلال تحقيق الاستقرار المستدام للدولة العراقية.
لا يتوقف معظم العراقيين عن الإشارة إلى أن لهم مصلحة هم أيضاً في التوصل إلى تسوية مؤقتة بين الولايات المتحدة وإيران، رغم أن أصواتهم لا تستطيع دائماً إسكات نيران الصواريخ والمبادلات الخطابية المتوترة بين الخصمين الخارجيين. واستمرار هذه المبادلات يؤكد على الحاجة والفرصة أيضاً لوقف التصعيد، والعودة لاحقاً إلى تعايش غير مريح بين الولايات المتحدة وإيران، بوصف ذلك الخيار الأقل سوءاً.
من أجل استعادة الهدوء، سيترتب على جميع الأطراف معالجة أزمتين متداخلتين، أي المواجهة بين الولايات المتحدة وإيران ووكلائها المحليين، والعجز العميق في الحكم الذي عانى منه العراق منذ العام 2003.
ويمكن للخطوة الأولى أن تتمثل في تراجع واشنطن وطهران عن حافة الهاوية: فبالنسبة لإيران أن تقوم بالضغط على حلفائها للانسحاب من مجمع السفارة الأمريكية والإحجام عن شن المزيد من الهجمات على القواعد العسكرية العراقية التي يوجد فيها طواقم عسكرية أو مدنية أمريكية؛ وبالنسبة للولايات المتحدة أن تشير بشكل لا غموض فيه إلى أن وجودها العسكري في العراق يركز حصرياً على إكمال مهمة تخليص البلاد من بقايا تنظيم الدولة الإسلامية.
ويمكن للخطوة التالية أن تتمثل في اتفاق كلا الطرفين على دور لبعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي) في صياغة جهود محاربة الفساد–العدو الداخلي الرئيسي للعراق والدافع الرئيسي للاحتجاجات الشعبية. وقد وضعت يونامي أصلاً مقترحات لفعل ذلك؛ وتستحق هذه الخطط الدعم الكامل من قبل واشنطن وطهران على حد سواء. في الخطوة التالية، ينبغي أن يوافق كلا الطرفان على أن تنظَّم في العراق انتخابات جديدة استناداً إلى قانون انتخابي جديد، وهو موضوع تناقشه القوى السياسية أصلاً، مع مدخلات من قادة الاحتجاجات والمجتمع المدني. ويمكن ليونامي، مع خبرتها التقنية وتاريخها الطويل في العراق، أن تمد يد العون في هذا المجال أيضاً.
إضافة إلى تفادي وقوع مواجهة عسكرية، ينبغي على واشنطن وطهران العمل معاً لاتخاذ قرار بإبقاء خصومتهما خارج العراق إلى أقصى درجة ممكنة. وستحصل كلتاهما على مزايا تفوق بكثير أي مكسب قد تحققانه من الأزمات السياسية والعسكرية التي تزداد حدة الآن.
اضف تعليق