إننا نعيش نهاية عقد لا اسم له. ولا يمكن أن يتحدث العقد الأول من القرن الواحد والعشرين عن نفسه، وهذا الالتباس ليس إلا نتاج دلالات الألفاظ إلى حد ما. ومع أن مصطلح \"العقد الأول من الألفية\" طبق على العشر سنوات الأولى من القرن الواحد والعشرين...
بقلم: هارولد جيمس
برينستون– إننا نعيش نهاية عقد لا اسم له. ولا يمكن أن يتحدث العقد الأول من القرن الواحد والعشرين عن نفسه، وهذا الالتباس ليس إلا نتاج دلالات الألفاظ إلى حد ما. ومع أن مصطلح "العقد الأول من الألفية" طبق على العشر سنوات الأولى من القرن الواحد والعشرين، إلا أنه بالكاد هناك من يقتنع بهذا الوصف. وقبل قرن من الزمان، لم يكن هناك داعٍ للقلق بشأن هذا التصنيف: إذ كان العقد الأول من القرن العشرين ببساطة عصر الحرب العظمى.
ولكن عدم يقيننا الدلالي يعكس أيضًا مشكلة أعمق حول التحليل والحقيقة. ونظرًا لأن الحضارة الإنسانية تبحث عن معنى في مفهومها الزمني العشري، فإن اللغة تقدم تسميات للدلالة على مزاج كل جيل. فإذا استرجعنا الأحداث الماضية، ستذكرنا "العشرينات" و"الثلاثينات" و"الأربعينيات" و"الخمسينيات" و"الستينيات" و"السبعينيات" و"الثمانينيات" و"التسعينات" بجمعيات قوية. وتعيد "الستينيات" إلى الأذهان التفاؤل، وثورة الشباب، والوعد بتطبيق فكرة العولمة، وفكرة "عالم واحد". إذا، أحد الدروس، هي أنه حتى يكون لعقد ما من الزمان روحا مميزة، يجب أن يتزامن مع حقيقة يمكن وصفها بوضوح وصدق.
والغريب في الأمر أن ستينيات القرن العشرين توازي بقوة ستينيات القرن التاسع عشر. إذ أدى كل عقد من الزمن إلى ظهور شكل من أشكال الموسيقى التحويلية، بما في ذلك غوزسيبي فيردي، وريتشارد فاغنر، ومجموعة البيتلز، ورولينغ ستونز. وبعد قرن من الزمان، ستثبت الباخرة التي تعبر المحيطات أنها ثورية، شأنها في ذلك شأن طائرة الركاب. وبالنسبة للولايات المتحدة، شهدت كل فترة نزاعا دمويا معينا -الحرب الأهلية وحرب فيتنام– ومن شأن هذا النزاع أن يعيد تعريف المثل القومي. وحتى التاريخ الدنيوي للسياسة النقدية يحتوي على أوجه تشابه مذهلة. إذ في عهد الإمبراطور نابليون الثالث ومرة أخرى في عهد الرئيس تشارلز ديغول، كانت فرنسا تسعى جاهدة إلى خلق عملة أوروبية لإعادة ترتيب العلاقات النقدية على مستوى العالم.
وبالمقابل، كان العقد الأول من القرن التاسع عشر والقرن العشرين فترة الآمال المحطّمة والأوهام المفقودة. وتصادمت الرؤى التحويلية الكبرى -سواء أكانت لنابليون الأول في فرنسا، أو للقيصر ألكسندر في روسيا، أو للرئيس وودرو ويلسون في الولايات المتحدة- مع واقع المشاريع الوطنية والعداوات الاجتماعية، والصدمة الاقتصادية (خاصة فترة الانكماش بعد الحرب).
لقد تخيل كل من نابليون، وألكساندر، وويلسون عالماً يحكمه القانون العقلاني ويهدئه. وسرعان ما أصبح كل شخص محط الاستهزاء والسخرية. إذ بينما شُوهت سمعة نابليون بوصفه بالرجل المخادع، وسمعة الإسكندر بوصفه بالرجعي الشرير، تعرض ويلسون للسخرية بوصفه داعية مشيخية تعرضت لاستغلال من قبل ممارسين أوروبيين محنكين في الواقعية السياسية.
وبدأ العقد الأول من القرن الواحد والعشرين أيضاً بوعود خطابية كبرى، وشخصيات سياسية بطولية تعطي الأمل. إذ في 4 يناير/كانون الثاني 2009، قدم الرئيس الأمريكي باراك أوباما أفضل عروضه الخطابية المتميزة. وفي خطاب "البداية الجديدة" الذي ألقاه في القاهرة، أصر على "أن أمريكا والإسلام ليسا حصريين، ولا يجب أن يتنافسا. بل يجب أن يتداخلا، ويتشاركا في مبادئ مشتركة- مبادئ العدالة والتقدم؛ والتسامح وكرامة جميع البشر".
ولم تفض هذه الحجة إلى أية نتيجة. إذ استحضر أوباما ببراعة ظهور بصيص الأمل، ولكن لم يتحدث عن تحقيقه. إذ انتهى الربيع العربي بخيبة أمل مريرة، بسبب القمع، والحرب الأهلية، والبؤس، والموت.
وكما هو الحال في كثير من الأحيان، كان لخيبة الأمل السياسي نظيرتها في المجال الاقتصادي. ولكن الانكماش العنيد في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين كان على عكس الحلقات الانكماشية الرئيسية التي أعقبت الحروب النابليونية، والحرب العالمية الأولى. إذ لم تكن ظروف الاقتصاد الكلي في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين نتيجة لمحاولة متعمدة لاستبدال التمويل في زمن الحرب بالاستقرار المالي. وبدلا من ذلك، كان الدافع وراء الضغط الانكماشي مزيجا من العولمة، والتغير التكنولوجي. وفضلا عن ذلك، في نظر الجمهور، فُسر ضعف الأداء الاقتصادي على أنه أحد أعراض أخطاء السياسة، وسوء الإدارة أثناء الأزمة المالية لعام 2008 وبعدها.
ومن الناحية التاريخية، كانت فترات التضخم الثابت تميل إلى الإيفاء بالوعود، في حين أن تراجع التضخم والانكماش يجعل كل شيء يبدو في نفس الوقت أرخص ولا يمكن الحصول عليه. وعندما يصل التضخم إلى نهايته، يصبح المجتمع مثل تانتالوس، حيث يدرك يائسًا شيئًا بعيد المنال (بالنسبة للبنوك المركزية، هذا "الشيء" هو التضخم في حد ذاته).
ومع ذلك، في خطاب ألقاه الرئيس أوباما عام 2013، تشبث الرئيس بالأمل، حيث قال: "قد تكون أصوات المتهكمين أعلى من غيرها- لكنني أعدكم بأنهم سيحققون أقل من غيرهم". وللأسف، لقد كان مخطئًا مرة أخرى. إذ أن السخرية هي الرد الحتمي على فترة عرفت مبالغة في تقديم الوعود وتفريطا في الإدراك. واستمرار تلك الوعود يخلق الظروف لسياسات "ما بعد الحقيقة". لأنها ببساطة لم يكن لديها تويتر، أو أي شيء من هذا القبيل، ولا يمكن لأي سياسي أمريكي في القرن التاسع عشر أن يضاهي مجموعة الأكاذيب التي وضعها الرئيس دونالد ترامب. وحسب إحصاء واشنطن بوست، أصدر خلف أوباما أكثر من 15000 "ادعاءات كاذبة أو مضللة" منذ توليه منصبه.
إن وعد أمريكا هو أن تكون أرض تكافؤ الفرص. ولكنها تحتل الآن مراكزا متخلفة وراء معظم الاقتصادات المتقدمة الأخرى من حيث الحراك الاجتماعي، والاقتصادي. أما وعد أوروبا هو أن تكون مجالا للتسامح والقيم المشتركة. ولكن تلك المشاعر تراجعت بسبب موجات الهجرة، وغيرها من قوى العولمة.
والأهم من ذلك، هو أنه في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، أخلف بوعد النظام العالمي القائم على القواعد. وأصبحت تسوية ما بعد عام 1945 الآن موضوع شد الحبل بين الدول التي تعتبر نفسها قوى قديمة الطراز. وكل منها مجهزة ليس فقط بالقوة العسكرية، ولكن أيضًا بمجموعة محددة من الأفكار.
ولعدة قرون، كان "الزمن العشري" نقيض "الستينيات". إذ كانت أوقاتًا استُبدلت فيها جرأة الأمل باليأس، والخيبة، والباطل. وبهذه الطريقة، فقد سببت اضطرابا ودمارا كبيرين. وسوف يستغرق الأمر وقتًا طويلاً للتعافي، ولن يتمتع سوى عدد منا بستينيات القرن الواحد والعشرين.
اضف تعليق