على الرغم من كل تأثيراتها الإيجابية، قَلَبَت فترة ما بعد الحرب الباردة الميثاق الديمقراطي الاجتماعي الغربي رأسا على عقب: نظام شبكات الأمان، والضوابط التنظيمية، والخدمات العامة الشاملة، وسياسات إعادة التوزيع من خلال الضرائب، ومؤسسات سوق العمل التي ظلت لفترة طويلة تحمي العمال والأقل حظا. وفقا...
بقلم: دارون أسيموجلو
كمبريدج ــ كان من الواضح قبل ثلاثين عاما أن سقوط سور برلين من شأنه أن يغير كل شيء. ولكن لا أحد يستطيع أن يجزم الآن ماذا على وجه التحديد قد يعني هذا التغيير للسياسة العالمية في القرن الحادي والعشرين.
بحلول عام 1989، كان الاتحاد السوفييتي (والشيوعية في عموم الأمر) يحكم على عشرات الملايين من الناس بالفقر، وكان من الواضح أنه فشل في التنافس مع النموذج الاقتصادي الغربي. على مدار أربعين عاما، حصدت الحرب الباردة أرواح ملايين البشر في مسارح الأحداث المختلفة حول العالم (حيث كان الصراع أشد سخونة مما يوحي مسمى الحرب الباردة)، وخلقت ذريعة للقمع وهيمنة النخب في عشرات البلدان في مختلف أنحاء أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا.
ولكن على الرغم من كل تأثيراتها الإيجابية، قَلَبَت فترة ما بعد الحرب الباردة الميثاق الديمقراطي الاجتماعي الغربي رأسا على عقب: نظام شبكات الأمان، والضوابط التنظيمية، والخدمات العامة الشاملة، وسياسات إعادة التوزيع من خلال الضرائب، ومؤسسات سوق العمل التي ظلت لفترة طويلة تحمي العمال والأقل حظا. وفقا للعالم السياسي رالف دارندورف (كما نقل عنه الراحل توني جوت)، أشار هذا الإجماع السياسي إلى "أعظم تقدم شهده التاريخ حتى الآن". فهو لم يكتف بالحد من الفقر ثم تضييق فجوات التفاوت في أغلب الاقتصادات المتقدمة؛ بل ساهم أيضا في جلب عشرات السنين من النمو المستدام.
وُلِد النمو الاقتصادي في حقبة ما بعد الحرب لأسواق تنافسية في عموم الأمر، والتي جرى إنشاؤها من خلال الضوابط التنظيمية لكسر الاحتكارات والتكتلات القوية. وكان يعتمد أيضا على نظام مدعوم بسخاء للتعليم العام والإبداع الممول حكوميا. وكان انتشار الوظائف الجيدة المجزية خلال هذه الفترة نتيجة لمؤسسات سوق العمل التي منعت أصحاب العمل من ممارسة سلطات مفرطة على موظفيهم؛ وفي غياب هذه القيود، كانت الشركات لتولد وظائف منخفضة الأجر في ظل ظروف عمل قاسية.
لعبت الديمقراطية الاجتماعية دورا مهما بنفس القدر في السياسة. وما كانت مؤسسات إعادة التوزيع وبرامج دولة الرفاهة لتتمكن من البقاء دون أن تمارس الشرائح من غير النخبة السلطة السياسية. وقد تحققت المشاركة السياسية العريضة القاعدة من خلال إصلاحات عملت على توسيع نطاق حق الانتخاب وتعميق العملية الديمقراطية. وكانت مدعومة من قِبَل أحزاب سياسية قوية، مثل حزب العمال السويدي، والنقابات. وكانت مدفوعة بأفكار عالمية حفزت الناس لدعم الديمقراطية والدفاع عنها.
من نواح عديدة، لم تكن الولايات المتحدة مختلفة عن نظيراتها في أوروبا الغربية. فخلال فترة الصفقة الجديدة وحقبة ما بعد الحرب، عملت أميركا بحماس على تحطيم الاحتكارات وكبح جماح النفوذ السياسي الذي يفرضه الأثرياء. وأسست معاشات التقاعد للشيخوخة والإعاقة (الضمان الاجتماعي)، واستحقاقات البطالة، والنظام الضريبي القائم على فكرة إعادة التوزيع، كما تبنت تدابير عديدة لمكافحة الفقر. وفي حين نشرت لغة مناهِضة للاشتراكية، فإنها تبنت رغم ذلك الديمقراطية الاجتماعية ذات الخصائص الأميركية ــ وكان ذلك يعني، بين أمور أخرى، أن شبكة الأمان الاجتماعي كانت في الولايات المتحدة أضعف من مثيلاتها في بلدان أخرى.
من غير الممكن أن يُفهَم أي من هذا في غياب الشيوعية. فقد خرجت الحركات الديمقراطية الاجتماعية من رحم الأحزاب الشيوعية، التي كان العديد منها ــ بما في ذلك حزب الديمقراطيين الاجتماعيين في ألمانيا ما بعد الحرب والحزب الاشتراكي الفرنسي ــ حريصا على عدم التخلي عن الخطاب الاشتراكي حتى ستينيات القرن العشرين، بل وحتى الثمانينيات. ورغم أن الأحزاب التي أثبتت كونها الأكثر نجاحا في إنشاء مؤسسات سوق العمل الجديدة، وتأمين الخدمات العامة العالية الجودة، والتوصل إلى إجماع اجتماعي واسع النطاق، مثل حزب العمال السويدي، أو حزب العمال البريطاني، تبرأت من ماركسيتها السابقة، فإنها لا تزال تتحدث نفس لغة أبناء عمومتها الماركسيين.
الأمر الأكثر أهمية هو أن النخب ذاتها تبنت الميثاق الديمقراطي الاجتماعي كوسيلة لمنع اندلاع ثورة شيوعية. كان مزاج الديمقراطية الاجتماعية المعادي للشيوعية هذا هو الذي حفز المفكرين من أمثال رجل الاقتصاد جون ماينارد كينز، وهو أحد مهندسي نظام ما بعد الحرب، والقادة السياسيين من الرئيس فرانكلين د. روزفلت إلى جون ف. كينيدي وليندون جونسون في الولايات المتحدة. على نحو مماثل، كان تهديد الشيوعية (من جانب كوريا الشمالية) السبب الذي دفع قادة كوريا الجنوبية إلى ملاحقة إصلاحات الأراضي الطموحة والاستثمار في التعليم، في حين تسامحوا مع درجة من النشاط النقابي على الرغم من رغبتهم في الإبقاء على الأجور منخفضة.
ولكن عندما انهارت الشيوعية ــ سواء كنظام اقتصادي أو بوصفها إيديولوجية ــ انسحب البساط من تحت أقدام الديمقراطيين الاجتماعيين. وبعد أن وجد نفسه فجأة في احتياج إلى اختراع إيديولوجية جديدة تتسم بذات القدر من الشمول، أثبت اليسار كونه عاجزا عن تنفيذ هذه المهمة. وفي الوقت ذاته، ذهب قادة اليمين الصاعد بالفعل إلى تفسير انهيار الشيوعية على أنه إشارة (وفرصة) لدحر الديمقراطية الاجتماعية لصالح السوق.
مع ذلك، ولعدد من الأسباب، كان اعتناق هذه الأجندة في قسم كبير من الغرب تصرفا جانبه الصواب. فبادئ ذي بدء، تجاهل هذا الاتجاه الإسهامات التي قدمتها دولة الرفاهة الاجتماعية، ومؤسسات سوق العمل، والاستثمارات الحكومية في البحث والتطوير، للنمو في حقبة ما بعد الحرب. وثانيا، فشل في توقع تسبب تفكيك المؤسسات الديمقراطية الاجتماعية في إضعاف الديمقراطية ذاتها، من خلال تمكين الساسة القائمين على السطلة والأثرياء (الذين يصبحون أكثر ثراء في هذه العملية). ثالثا، تجاهل الدروس المستفادة من سنوات ما بين الحربين العالميتين، عندما تسبب غياب الفرص الاقتصادية العريضة القاعدة وشبكات الأمان القوية في خلق الظروف المناسبة لصعود التطرف اليساري واليميني.
ربما تخيل الرئيس الأميركي رونالد ريجان ورئيسة الوزراء البريطانية مارجريت تاتشر صورة لعالَم حيث الأسواق أكثر كفاءة والضوابط أقل بيروقراطية. لكن الثورة السياسية التي أطلقا لها العنان بلغت أوجها في ظل رئاسة دونالد ترمب للولايات المتحدة وحكومة بوريس جونسون في المملكة المتحدة.
والآن، يحتاج الميثاق الديمقراطي الاجتماعي إلى إعادة الصياغة بما يتناسب مع القرن الحادي والعشرين.
لتحقيق هذه الغاية، ينبغي لنا أن ندرك المشكلات التي تواجه الاقتصادات المتقدمة، من إلغاء الضوابط التنظيمية على نحو غير منضبط والتمويل الجامح إلى التغيرات البنيوية الناجمة عن العولمة وأيضا الأتمتة. كما ينبغي لنا أن نعمل على تشكيل ائتلاف سياسي جديد عريض بالقدر الكافي ليشمل العمال الصناعيين، الذين ظلوا بين أكثر الشرائح السكانية نشاطا على المستوى السياسي، حتى برغم انخفاض أعدادهم.
لكن في المقام الأول من الأهمية، يتعين علينا أن ندرك أن تقليص قوة الشركات الكبرى؛ وتوفير الخدمات العامة الشاملة، بما في ذلك الرعاية الصحية والتعليم العالي الجودة؛ وحماية العمال ومنع صعود العمالة غير المستقرة المتدنية الأجر؛ والاستثمار في البحث والتطوير ليست مجرد سياسات ينبغي تقييمها من منظور العواقب الاقتصادية التي تخلفها. بل هي جوهر المشروع الديمقراطي الاجتماعي، وأساس المجتمع المزدهر المستقر.
اضف تعليق