عندما ننظر إلى كل هذه اللقطات الثابتة ــ كوريا الشمالية المسلحة نوويا، واليابان القلقة، والصين الأكثر عدوانية وقمعا، ونفاذ الصبر المتنامي حول تايوان، وتفاقم حالة عدم اليقين بشأن السياسة الأميركية ــ كشريط مصور متحرك، يصبح من الواضح أن الاستقرار الذي تقوم عليه التنمية غير المسبوقة...
بقلم: ريتشارد هاس
نيويورك ــ إن أي لحظة في التاريخ يمكن فهمهما على أنها لَقطة فوتوغرافية ثابتة تنبئنا أين نحن، أو كصورة متحركة (شريط سينمائي) لا تخبرنا أين نحن فحسب بل أين كنا وإلى أين ربما نمضي. والفارق بين الحالتين هائل.
لنتأمل هنا منطقة شرق آسيا والمحيط الهادئ. اللقطة الفوتوغرافية الثابتة ستُظهِر لنا منطقة يسودها السلام، حيث المجتمعات مستقرة، والاقتصادات متنامية، والتحالفات قوية. لكن الصورة المتحركة ستكون أقل طمأنة. وربما يتسنى لنا أن ننظر إلى الوراء إلى هذه اللحظة باعتبارها الوقت الذي بدأ فيه الجزء من العالم الأكثر نجاحا على المستوى الاقتصادي يتفكك وينهار.
وهنا تُعَد كوريا الشمالية أحد الأسباب. لقد نجح العالم في تفادي الحرب، ولكن ليس لأن كوريا الشمالية فعلت أي شيء للحد من التهديد الذي تشكله أسلحتها النووية وصواريخها الباليستيكية، بل لأن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب لم ترد على كلماتها النارية الملتهبة بالأفعال. الواقع أن التهديد النووي والصاروخي الذي تشكله كوريا الشمالية ازداد منذ احتضن ترمب فكرة عقد مؤتمرات القمة مع كيم جونج أون قبل أكثر من عام.
لا يوجد سبب ربما يحملنا على الاعتقاد بأن نظام كيم قد ينزع السلاح النووي على الإطلاق. والسؤال هو ما إذا كان ليوافق على تحديد سقف لقدراته النووية في مقابل تخفيض العقوبات بعض الشيء ــ وإذا كان الأمر كذلك، فهل يلبي النظام التوقعات المنتظرة منه بموجب الاتفاق، وهل تعتقد الدول المجاورة مثل اليابان أنها قد تكون آمنة دون أن تنتج هي أيضا أسلحة نووية.
الواقع أن السؤال الأخير يجعل تدهور العلاقات بين اليابان وكوريا الجنوبية أشد إزعاجا وإرباكا. إذ يشعر المسؤولون اليابانيون بعدم الارتياح إزاء النهج الذي تتبعه كوريا الجنوبية في التعامل مع كوريا الشمالية، وينظرون إليه على أنه استرضائي أكثر مما ينبغي، وهم يشعرون بالغضب الشديد بسبب إحياء كوريا الجنوبية مطالبتها باعتذار اليابان وتعويض النساء الكوريات اللاتي لاقين معاملة مسيئة من جانب الجيش الياباني الإمبراطوري قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية. تمتد التوترات بين هذين الحليفين لأميركا إلى علاقاتهما التجارية، وهذا من شأنه أن يزيد من صعوبة تنسيق السياسات في التعامل مع كوريا الشمالية والصين.
ثم هناك الاحتجاجات المستمرة في هونج كونج. فمع تزايد سيطرة البر الرئيسي على المستعمرة البريطانية السابقة، لم تحقق صيغة "دولة واحدة ونظامان" الموعودة في عام 1997 الآمال التي علقها عليها أهالي هونج كونج، وهذا يمهد الطريق بثبات لمبدأ "الدولة الواحدة والنظام الواحد". ومن غير المرجح أن يتغير هذا الوضع لأن الصين أقل اعتمادا على هونج كونج كبوابة مالية وتخشى أن يشير النهج الليبرالي في التعامل مع المتظاهرين إلى الضعف ويشجع الاحتجاجات ــ بل وحتى تحدي القيادة ــ على البر الرئيسي. وعلى هذا فمن المرجح أن تقوم السلطات في بكين بكل ما تعتقد أنه ضروري لحفظ النظام.
يتجلى تحول الصين نحو القمع بقدر أكبر من الوضوح في سياساتها تجاه أقلية اليوغور. في الوقت ذاته، أفسحت السياسة الخارجية الحذرة التي انتهجها دنج شياو بينج المجال أمام سياسة خارجية أكثر حزما في عهد الرئيس شي جين بينج. وفي بحر الصين الجنوبي، تعمل الصين على عسكرة الجزر في محاولة لفرض السيطرة على هذا الممر المائي الحيوي استراتيجيا وتخويف الآخرين لحملهم على التخلي عن مطالبهم. على نحو مماثل، تقدم الصين في إطار مبادرة الحزام والطريق القروض لمشاريع البنية الأساسية للدول في مختلف أرجاء أوراسيا، وغالبا بشروط مرهقة من شأنها أن تعزز من قدرة الصين على الاختراق وفرض النفوذ، في حين تعود على المتلقين بفوائد مشكوك فيها.
مستقبل تايوان أيضا غير واضح. يوافق هذا العام الذكرى السنوية الأربعين لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين الولايات المتحدة وجمهورية الصين الشعبية. في ذلك الوقت، اعترفت الولايات المتحدة الأميركية بحكومة جمهورية الصين الشعبية باعتبارها الحكومة الشرعية الوحيدة للصين، لكنها تعهدت بالحفاظ على علاقات غير رسمية مع شعب تايوان. وبموجب قانون العلاقات مع تايوان لعام 1979، تعهدت الولايات المتحدة بتزويد الجزيرة بالأسلحة، وذكرت أنها ستنظر بقلق كبير إلى أي محاولة لتحديد مستقبل تايوان بأي طريقة غير سلمية.
شَكَّل كل هذا ترتيبا تحايل على المواقف في غياب أي حل مقبول لدى كل الأطراف، وهو الترتيب الذي عمل على خير ما يرام لمدة أربعة عقود من الزمن، حيث تحولت تايوان إلى ديمقراطية مزدهرة شهد اقتصادها طفرة كبرى. لم تتسبب الخلافات حول تايوان في عرقلة علاقات قابلة للاستمرار بين الصين وأميركا، ولم يمنع الافتقار إلى علاقات رسمية نشوء روابط قوية بين الولايات المتحدة وتايوان.
مع ذلك، يبدو الأمر الآن وكأن شي جين بينج قد يقرر دفع هذه القضية إل الصدارة، حيث يبدو توحيد تايوان مع البر الرئيسي جزءا لا يتجزأ من تحقيق "حلمه الصيني". في الوقت ذاته، يدعو بعض المراقبين في الولايات المتحدة وتايوان إلى إقامة علاقات أوثق مع تايوان أو حتى الاعتراف بها على أنها دولة مستقلة. في مرحلة ما، من المحتمل أن تتجسد الأزمة عندما يتجاوز أحد الأطراف أو أكثر خطا لا يمكن للآخرين قبول تجاوزه.
تنبع علامة استفهام أخيرة حول المنطقة من سياسة الولايات المتحدة. كانت الولايات المتحدة تشكل أهمية مركزية لنجاح آسيا. فقد قلل تحالفها مع كوريا الجنوبية من احتمالات نشوب صراع على شبه الجزيرة الكورية؛ وكان تحالفها مع اليابان سببا في الحد من فرص إقدام اليابان على تنفيذ برنامج للتسلح النووي أو اندلاع حرب بين الصين واليابان حول الجزر المتنازع على ملكيتها.
لكن ترمب شكك علنا في قيمة ونزاهة التحالفين، مشيرا إلى أنهما في خطر ما لم تدفع كوريا الجنوبية واليابان أكثر وما لم تعدل كل منهما سياساتها التجارية. وعلى نطاق أوسع، تُعَد سياسة ترمب الخارجية في صميمها هَدَّامة ولا يمكن التنبؤ بها، في حين تتطلب التحالفات القوية الثقة والقدرة على التنبؤ بسلوك الحلفاء.
عندما ننظر إلى كل هذه اللقطات الثابتة ــ كوريا الشمالية المسلحة نوويا، واليابان القلقة، والصين الأكثر عدوانية وقمعا، ونفاذ الصبر المتنامي حول تايوان، وتفاقم حالة عدم اليقين بشأن السياسة الأميركية ــ كشريط مصور متحرك، يصبح من الواضح أن الاستقرار الذي تقوم عليه التنمية غير المسبوقة في آسيا لم يعد واردا. الآن يبدو من الصعب أن نتخيل المستقبل على هيئة أفضل من الماضي؛ في حين لا يبدو من الصعب على الإطلاق أن نتخيله في هيئة أسوأ.
اضف تعليق