يخرج كثيرون إلى الشوارع وقد تملك منهم الغضب بعد سنوات من السياسات الهازئة، والفساد المذهل، والركود الاقتصادي، ومستويات فاحشة من الجريمة. ورغم أن ما يقرب من 85% من الناخبين في البرازيل البالغ عدهم 147 مليونا يتفقون على أن البلاد تسير في الاتجاه الخطأ، فإنهم أصبحوا...
روبرت موغاه

 

ريو دي جانيرو ــ مع اقتراب الانتخابات الرئاسية وانتخابات الولايات في البرازيل، التي لم يعد يفصلنا عنها سوى بضعة أيام، يشعر مواطنو البلاد بالإحباط وخيبة الأمل والغضب. ويخرج كثيرون إلى الشوارع وقد تملك منهم الغضب بعد سنوات من السياسات الهازئة، والفساد المذهل، والركود الاقتصادي، ومستويات فاحشة من الجريمة. ورغم أن ما يقرب من 85% من الناخبين في البرازيل البالغ عدهم 147 مليونا يتفقون على أن البلاد تسير في الاتجاه الخطأ، فإنهم أصبحوا أكثر استقطابا من أي وقت مضى، سواء على شبكة الإنترنت أو خارجها. وتهدد هذه الانقسامات المتزايدة العمق بإزهاق روح الديمقراطية في أكبر دولة في أميركا الجنوبية.

لم يحدث منذ استعادة الديمقراطية في عام 1985 أن كانت الانتخابات البرازيلية مثيرة للجدال ومستعصية على التكهنات إلى هذا الحد. وليس منصب الرئاسة فقط على المحك، فهناك أيضا 27 حاكما للولايات، و54 عضوا في مجلس الشيوخ، فضلا عن 1600 مسؤول منتخب. ورغم أن 69% من البرازيليين يؤمنون بالديمقراطية، فإن أكثر من نصفهم يعترفون بأنهم ربما "يتعايشون" مع حكومة غير ديمقراطية ما دامت قادرة على "حل المشاكل". وعلى الرغم من الجهود التي يبذلها جيل جديد من القادة الشباب الذين يعملون من أجل استعادة الثقة في الديمقراطية، يأتي ترتيب البرازيليين بوصفهم الأقل ثقة والأكثر تشاؤما على الإطلاق بين شعوب أميركا اللاتينية اليوم. والآن، يساعد ظهور الدعاية الرقمية والأخبار الكاذبة في زيادة هذا الموقف المعقد سوءا على سوء.

ومع ذلك، فإن خنق الديمقراطية البرازيلية ليس قدرا لا مفر منه. ورغم صعوبة تكوين صورة تخيلية في الوقت الحالي، فإن إحياء الديمقراطية يتطلب مزيجا من البصيرة، والوعي الذاتي، والتواضع، والشجاعة لمواجهة انقسامات طبقية وعِرقية لا يمكن التغلب عليها ظاهريا، بل وحتى تصدعات بين أفراد الأسرة الواحدة.

بين مجموعة من المرشحين الرئاسيين في هذه الدورة، يزدهر قِلة بينهم على الانقسامات، في حين يدعو أغلبهم ــ بمن فيهم مارينا سيلفا، المرأة الوحيدة في السباق ــ إلى أرضية وَسَط. ولكن من المؤسف أن الشعبويين في صعود، وقد ناضل البراجماتيون لشق طريقهم رغم المقاومة. وتشير استطلاعات الرأي إلى أن الانتخابات سوف تنتهي في الأرجح إلى جولة ثانية من المنافسة بين الزعيم الشعبوي اليمني المتطرف يانير بولسونارو ومرشح حزب العمال اليساري فرناندو حَدَّاد، عمدة ساو باولو سابقا.

على الرغم من 27 عاما قضاها في الحكومة، يخوض بولسونارو حملته الانتخابية بوصفه شخصا من الخارج يسعى إلى "تجفيف المستنقع" وتوضيح الرؤية. وبمباركة الرئيس السابق لويز إيناسيو لولا دا سيلفا، زعيم حزب العمال السابق السجين، يَعِد حَدَّاد باستعادة الرخاء الاقتصادي. ورغم أن ثلث البرازيليين على الأقل يحتشدون حول بولسونارو، فإن نسبة أكبر من الناخبين، بما في ذلك ائتلاف النساء المتنامي الحجم، يعارضونه بشدة.

اكتسب بولسونارو قاعدة عريضة بدرجة مدهشة، ومتعصبة في بعض الأحيان، من الأتباع. ويشاطره قسم من قاعدته الانتخابية ــ 60% منهم من الرجال بين سن 16 إلى 24 سنة ــ رؤيته للعالَم. كما يعشق العديد من البرازيليين، بما في ذلك بعض النساء، رسالته "الخشنة الصارمة المناهضة للجريمة". ويرى العديد من كبار رجال الأعمال في البلاد في بولسونارو ــ جنبا إلى جنب مع رفيقه في الانتخابات الجنرال العسكري المتقاعد هاملتون مورافو، ومستشاره المالي من كلية شيكاغو، باولو جويديس ــ حصنا ضد عودة حزب العمال.

من السذاجة أن نعتبر بولسونارو "أحمق مفيدا" للمؤسسة المحافظة. ذلك أن تحوله إلى الليبرالية الاقتصادية يتعارض تماما مع سجل طويل من دعم التنمية التي تقودها الدولة. ومثله كمثل الرئيس الأميركي دونالد ترمب، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والرئيس الفلبيني رودريجو دوتيرتي، ورئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، يُعَد بولسونارو خبيرا في نثر بذور الانقسام. وبما يتفق مع دليل عمل القادة الشعبويين، يصور بولسونارو المجتمع البرازيلي على أنه يضم مجموعتين متجانستين ومتخاصمتين: "الشعب الحقيقي" و"النخب". وكما أظهر ستيفين ليفتسكي ودانييل زيبلات من جامعة هارفارد، فإن هذا الهجوم على "التسامح المتبادل" يضرب الديمقراطية في الصميم.

تشترك الأحزاب السياسية الرئيسية الثلاثة في البرازيل أيضا في المسؤولية عن الانقسامات العميقة. وفي مواجهة فضائح الفساد المتصاعدة، لجأ لولا دا سيلفا والرئيسة السابقة ديلما روسيف، وهي أيضا من حزب العمال، إلى استحضار خطاب "هُم ضدنا" بشكل روتيني. وقد رفض الاثنان أدلة دامغة جرى الكشف عنها خلال تحقيقات "عملية غسيل السيارات"، على أنها مؤامرة نخبوية ضد حكومة منتخبة شعبيا. من ناحية أخرى، أَكَّد الحزبان الرئيسيان الآخران في البلاد على مخاوف مؤيدي حزب العمال عندما صوتوا لصالح عزل روسيف من منصبها في أغسطس/آب 2016. فما وصفه الموالون لحزب العمال بأنه انقلاب غير قانوني كان سببا في تعزيز الانقسامات في البرازيل. وسرعان ما وقعت الحكومة الجديدة ذاتها في حبائل الفساد وفضائحه، وهبطت شعبيتها إلى الحضيض.

على مدار ما يقرب من ثلاثة عقود من الزمن، انتظر بولسونارو في الظل، في البداية كعضو في مجلس المدينة ثم كعضو في الكونجرس، حتى هذه اللحظة على وجه التحديد. وعلى وعد بتنصيب "حكومة نظيفة" وفرض "القانون والنظام"، وبتصوير نفسه على أنه بطل الجيش والشرطة، اكتسب بولسونارو المؤهلات اللازمة لقيادة ردة فعل سلطوية عنيفة. وقد أيد بولسونارو بشكل متكرر الدكتاتورية العسكرية التي حكمت في الفترة من 1964 إلى 1985، عندما كانت الحكومة تقوم بتعذيب معارضيها وقتلهم. وفي عام 1999، دعا إلى إغلاق الكونجرس الوطني، وأعرب عن أسفه لأن النظام الدكتاتوري لم يقتل ثلاثين ألف شخص آخرين، بدءا بالرئيس البرازيلي السابق فرناندو إنريكي كاردوسو.

علاوة على ذلك، في دولة حيث عدد جرائم قتل رجال الشرطة هو الأعلى على الإطلاق في العالَم، أيد بولسونارو صراحة توسيع نطاق الحصانة الرسمية والإفلات من العقاب، قائلا إن رجل الشرطة الذي يقتل "قطاع الطرق" لابد أن يحصل على ميداليات، لا أن يُعاقَب. وعلى الرغم من أعمال العنف المسلح التي ارتفعت إلى عنان السماء ونحو 45 ألف جريمة قتل بأسلحة نارية في عام 2018، فإنه يعترض على كل ضوابط استخدام الأسلحة النارية، وهو المرشح الوحيد الذي يدعو إلى إلغاء قانون نزع السلاح، الذي يعود إليه الفضل في إنقاذ حياة أكثر من 160 ألف إنسان. وفي دولة حيث يبلغ عدد المساجين 725 ألف سجين بالفعل، فإنه يريد خفض سن المسؤولية الجنائية من 18 إلى 16 عاما ــ أو حتى 14 عاما ــ ولا عجب أنه يرغب في إعادة عقوبة الإعدام.

بعد نجاحه في تأمين الدعم من قِبَل العديد من القادة الإنجيليين النافذين، يدعم بولسونارو أيضا التدخل الديني في الحياة العامة. في العام المنصرم، أعلن بولسونارو أن البرازيل دولة مسيحية؛ وأنه لا يوجد شيء اسمه دولة علمانية؛ وأن أولئك الذين يعترضون على ذلك ينبغي لهم إما أن يغادروا البلاد أو ينصاعوا لإرادة الأغلبية. كما يعارض بشدة زواج المثليين، ويتغاضى عن خطاب الكراهية ضد مجتمع المثليين بمختلف أشكالهم، وقد عوقِب ثلاثين مرة على الأقل منذ عام 1991 من قِبَل نقابة المحامين البرازيلية بسبب العنصرية، وكراهية الأجانب، وكره المثليين. وفي عام 2011، قال إنه يفضل لو كان له ابن ميت على أن يكون له ابن مثلي.

كما اعتاد بولسونارو على توبيخ النساء والاستهزاء بهن بشكل روتيني حول الاغتصاب، وهو يعرب عن وجهات نظر تنضح ببغض النساء. ذات مرة قال لزميلة في المجلس التشريعي: "ما كنت لأغتصبك لأنك لا تستحقين ذلك"، كما وصف إحدى الصحافيات علنا بأنها "عاهرة". وعلاوة على ذلك، لا يخفي بولسونارو عداءه الصريح للجاليات البرازيلية من أصول أفريقية، والسكان الأصليين، والأفراد الذين ينتمون إلى حركات لا تملك أراض، والذين وصفهم بالإرهابيين.

وأخيرا، يرفض بولسونارو بشكل أساسي عِلم المناخ ويؤيد انسحاب البرازيل من اتفاقية باريس للمناخ التي أبرمت عام 2015، زاعما أن الحديث عن تغير المناخ "خزعبلات" وليس أكثر من "مؤامرة دبرها أنصار العولمة". الواقع أن الكونجرس في البرازيل، خلافا لمجلس الشيوخ الأميركي، صَدَّق على اتفاقية باريس، الأمر الذي يجعل الانسحاب أقل ترجيحا. ولكن حتى برغم ذلك، دأب بولسونارو وأكبر ثلاثة بين أبنائه ــ وجميعهم مسؤولون منتخبون ــ على وصف الانحباس الحراري الكوكبي بأنه عملية احتيال.

كثيرا ما يوصف بولسونارو بأنه شخصية كوميدية هزلية أو "ترمب الاستوائي". ولكن إذا تعاملنا مع سجله على أساس قيمته الاسمية، فلابد أن يكون من الواضح أن ترشحه ليس مادة للضحك. فهو، كمثل ترمب، عَرَض من أعراض الانقسام أكثر من كونه سببا له. وقد أعلن، كما أعلن ترمب من قبل، أنه سيرفض نتيجة الانتخابات إذا لم يفز. لكنه ربما يكون أيضا أشد تدميرا من ترمب، والديمقراطية في البرازيل أحدث عهدا وأكثر هشاشة من الديمقراطية في الولايات المتحدة. الواقع أن بولسونارو لم يعتبره أحد منافسا حقيقيا حتى وقت قريب للغاية ــ تماما كما توقع قِلة قليلة من المراقبين قدوم ترمب إلى أن فات أوان تدارك الأمر.

* روبرت موغاه، المؤسس المشارك ومدير الأبحاث في معهد إيجارابي وأحد مؤسسي ومدير شركة مجموعة SecDev
https://www.project-syndicate.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق