بعد عشر سنوات من الوهن الاقتصادي، يبدي الناخبون التشكك في ساسة التيار السائد الذين يقدمون وعودا روتينية مكررة بشأن النمو وتحسين مستويات المعيشة. وفي أعين العمال المحبطين، كان أهل السلطة يراعون مصالحهم الخاصة. وحتى في العديد من أقوى الاقتصادات في العالَم، أصبحت مكاسب العمال...
NGAIRE WOODS

 

أكسفورد ــ "لا تغضب، بل اعمل لتعويض خسائرك". لابد أن يصبح هذا القول المأثور المعيار الجديد في السياسة الديمقراطية عبر أوروبا، وأميركا اللاتينية، وآسيا، وأفريقيا. فبدلا من الشكوى من النجاحات الشعبوية، ينبغي للأحزاب السياسية الراسخة أن تحاكي الاستراتيجيات الشعبوية. وهنا يمكننا استخلاص ثلاثة دروس مهمة بشكل خاص.

يتلخص الدرس الأول في التواصل مع الأشخاص الذين ترغب في تمثيلهم من خلال التعرف عليهم والفوز بثقتهم. لقد انتهى الزمن حيث كان بوسع الساسة أن يعتمدوا على آلات الحزب، ومجموعات التركيز، واستطلاعات الرأي التقليدية. وأصبح الافتراض الراضي عن الذات بأن الناس سيصوتون دوما على أساس الخط الحزبي أو الطبقي عتيقا باليا. ففي الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي شهدتها فرنسا العام المنصرم، انهار دعم الحزب الاشتراكي الذي ينتمي إلى يسار الوسط ودعم الجمهوريين المنتمين إلى يمين الوسط. وعلى نحو مماثل، عانت الأحزاب السياسية الراسخة من هزائم مهينة في انتخابات إيطاليا الشهر الفائت.

بعد عشر سنوات من الوهن الاقتصادي، يبدي الناخبون التشكك في ساسة التيار السائد الذين يقدمون وعودا روتينية مكررة بشأن النمو وتحسين مستويات المعيشة. وفي أعين العمال المحبطين، كان أهل السلطة يراعون مصالحهم الخاصة. وحتى في العديد من أقوى الاقتصادات في العالَم، أصبحت مكاسب العمال بالقيمة الحقيقية أقل مما كانت عليه قبل عشر سنوات. وعلى سبيل الاقتباس من رئيس منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، فإنهم "عادوا إلى العمل، لكن جيوبهم أصبحت خاوية". ففي الولايات المتحدة، أفادت 56% من الأسر عن انخفاض دخولها. من ناحية أخرى، تسبب التهديد المزدوج المتمثل في التشغيل الآلي ونقل عمليات الإنتاج إلى الخارج في جعل التوظيف أقل استقرارا واستنزاف قدرة العمال على المساومة.

تُرى من يتحمل المسؤولية عن هذه الحال؟ من الواضح أن أولئك الذين يصوتون لصالح الشعبويين يحملون ساسة المؤسسة المسؤولية، ولعلهم مصيبون في ذلك. فخلافا للاعتقاد الشائع، تشير الأبحاث الحديثة إلى أن التكنولوجيا ليست المحرك الرئيسي لانخفاض حصة العمال في الدخل. بل ترجع محنة العمال التي تتزايد حدتها إلى خسارة القدرة على المساومة وتراجع تماسك النقابات، وتقلص دولة الرفاهة الاجتماعية، ونقل الصناعات إلى الخارج، ونمو القطاع المالي كحصة من الاقتصاد.

ويتمثل عامل آخر مهم في السياسة الضريبية. فوفقا لتقرير منشور في صحيفة فاينانشال تايمز، انخفضت معدلات الضريبة الفعّالة "التي تدفعها أكبر عشر شركات عامة على مستوى العالَم من حيث القيمة السوقية في كل من تسعة قطاعات" بما يقرب من الثلث منذ عام 2000، من 34% إلى 24%. ومنذ عام 2008، ارتفعت معدلات الضريبة على الدخل الشخصي في مختلف البلدان بنحو 6% في المتوسط.

على هذه الخلفية، لا ينبغي أن يكون ظهور الأحزاب الشعبوية والساسة الشعبويين مفاجئا. فعندما تصبح غالبية الناس أكثر فقرا، تكون العواقب وخيمة في صناديق الاقتراع. ومع ذلك، في بلد تلو الآخر، كانت المؤسسة السياسية بطيئة بشكل ملحوظ في إدراك هذه الحقيقة.

ولنتأمل هنا حال البرازيل، حيث تجري الحملات على قدم وساق استعدادا للانتخابات العامة في شهر أكتوبر/تشرين الأول. فكما هي الحال دوما، يخوض ساسة المؤسسة حملاتهم الانتخابية على أساس الوعود بالحصافة المالية والنمو الاقتصادي، وهي الوعود التي لا تلقى قبولا كبيرا بين 50 مليون برازيلي ــ ما يقرب من ربع السكان ــ يعيشون تحت خط الفقر، حيث تعادل دخول الأسر في المتوسط 387.07 دولارا شهريا. من ناحية أخرى، يقترح المرشح الرئاسي الشعبوي جاير بولسونارو إعطاء كل برازيلي سلاح ناري حتى يتسنى له الدافع عن نفسه. ومن منظور النخب، يبدو هذا منافيا للعقل (وهو كذلك حقا). ولكن في نظر البرازيليين الذين يخافون على سلامتهم الشخصية، فهو على الأقل يُظهِر فهم المرشح لتخوفهم الأكبر.

الواقع أن التعرف على أكثر ما يهم ناخبيك يشكل سياسة انتخابية أساسية. قبل فوزه بالرئاسة الفرنسية والأغلبية البرلمانية في العام الماضي، قام حزب الجمهورية إلى الأمام! بقيادة إيمانويل ماكرون ــ بالبناء على استراتيجية ابتكرها مديرو حملة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما الناجحة ــ بإرسال المتطوعين إلى مختف أنحاء البلاد للاستماع إلى مخاوف الناخبين.

الدرس الثاني المستفاد من الشعبويين اليوم هو استخدام رسائل بسيطة وبديهية في الإشارة إلى أهدافك. صحيح أن شعارات من قبيل "سأحمي وظائفكم"، و"لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى"، تبدو مفرطة في التبسيط. ولكن أين البدائل المعقدة الأكثر تطورا؟ إن الحديث عن النمو الاقتصادي لا ينجح إلا عندما يتمتع الناس بفوائد ذلك النمو.

خلال فترات النمو البطيء أو النمو غير المنصف، يتعين على الساسة أن يقدموا استجابات أكثر مباشرة لما يشعر به الناس. في الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي في المملكة المتحدة، زعمت الحملة المناصرة للبقاء والتي قادتها بفتور حكومة رئيس الوزراء ديفيد كاميرون آنذاك، أن ترك الاتحاد الأوروبي من شأنه أن يسفر عن انخفاض الناتج المحلي الإجمالي، وخسارة التجارة، وتعطيل القطاع المالي. بيد أن مثل هذه الحجج أخطأت تماما تقدير ما يشغل بال أغلب الناخبين. وعلى النقيض من هذا، وَعَد أنصار الخروج "باستعادة السيطرة" على حدود المملكة المتحدة، وزعموا ــ زورا ــ أن هيئة الصحة الوطنية ستتمتع بمكاسب غير متوقعة تبلغ 350 مليون جنيه إسترليني (490 مليون دولار أميركي) أسبوعيا.

في مجمل الأمر، يبدو ساسة المؤسسة مرتبكين حائرين. فكان الأكاديميين، والخبراء، والقادة السياسيون، ورجال الأعمال، وزعماء المجتمع المدني، متباطئين للغاية في صياغة سياسات اقتصادية واجتماعية جديدة تتمتع بجاذبية واسعة النطاق. ومن المؤكد أن هذه ليست بالمهمة السهلة. فالأمر يستلزم التأمل الذاتي ووضوح الرؤية. ولكن في المقام الأول والأخير، يتطلب الأمر تكريس الوقت والطاقة لفهم محنة الناخبين وتأطير الحلول بطريقة واضحة وبسيطة.

ويتلخص الدرس الثالث المستخلص من الاستراتيجيات الشعبوية في التحلي بالجرأة. ففي الأوقات العصيبة، يبحث الناس عن رؤية تحويلية للمستقبل، وليس تحسينات طفيفة. فبعد ثلاثين عاما من البرجماتية والتغيير التدريجي التراكمي، حان الوقت لاستخدام نبرة جديدة. ولنتذكر أن ونستون تشرشل خسر الانتخابات العامة في عام 1945، بعد أن حقق النصر لبريطانيا في الحرب العالمية الثانية.

وعد الفائز كليمنت أتلي بما كان يشكل فعليا عقدا اجتماعيا جديدا للبريطانيين الذين أنهكتهم الحرب والذين كانوا يعيشون حتى ذلك الوقت على الحصص التموينية. وذهبت حكومته إلى حد توفير الرعاية الصحية الشاملة المجانية، والتأمين ضد البطالة، ومعاشات التقاعد، والسكن اللائق، والوظائف الآمنة في الصناعات المؤممة. وكان كل هذا ممولا بالدين الوطني الذي كان آنذاك عند مستوى 250% من الناتج المحلي الإجمالي.

الواقع أن جرأة رؤية أتلي ليس لها نظير في العصر الحديث. وهذه أكبر مشاكلنا.

* نغاير وودز، عميد كلية بلافاتنيك للحكومة ومؤسسة لبرنامج الحوكمة الاقتصادية العالمية في جامعة أكسفورد
https://www.project-syndicate.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق