إن الدفاع عن حق مواطني الولايات المتحدة في شراء بنادق نصف آلية أو حمل أسلحة مخبأة أشبه بإنكار أي مسؤولية بشرية عن تغير المناخ.
IAN BURUMA

 

نيويورك ــ إن الدفاع عن حق مواطني الولايات المتحدة في شراء بنادق نصف آلية أو حمل أسلحة مخبأة أشبه بإنكار أي مسؤولية بشرية عن تغير المناخ. والقضية هنا ليست في الحجج العقلانية. فبصرف النظر عن عدد أطفال المدارس الذين يقتلون رميا بالرصاص، ومهما بلغ حجم الأدلة العلمية التي تؤكد التأثيرات التي تخلفها الانبعاثات من غاز ثاني أكسيد الكربون، لن يغير الناس المعتقدات التي تحدد هويتهم.

وعلى هذا، فكلما زاد الليبراليون من نيويورك أو سان فرانسيسكو أو هيوستن من جهودهم في الحض على إيجاد سبل للسيطرة على بيع الأسلحة النارية للمدنيين، كلما زاد أنصار الحق في امتلاك أسلحة فتاكة من حدة مقاومتهم. وسوف يفعلون هذا غالبا بحماس المؤمنين المتدينين الذين يشعرون بأن عقيدتهم قد أهينت.

الهويات الجماعية لها تاريخ بطبيعة الحال. ففي عام 1971، أُقِر التعديل الثاني لدستور الولايات المتحدة، والذي يضمن الحق في الاحتفاظ بالأسلحة وحملها، عندما ظن المواطنون الذين تمردوا على الملكية البريطانية أنهم في احتياج إلى حماية أنفسهم، إذا لزم الأمر، ضد دولة قمعية. وكان تفسير هذا التعديل أشبه بأرض متنازع على ملكيتها، لكن الفكرة الأصلية كانت أن المليشيات المدنية لابد أن تكون مسلحة.

من منظور العديد من الأميركيين، وخاصة في المناطق الريفية وفي الولايات الجنوبية، أصبح هذا الاستحقاق الجماعي أقرب إلى حق إلهي مقدس. وحقق زعماء الدهماء نجاحا كبيرا في تأليب مثل هؤلاء الناس ضد النخب الساحلية والحضرية التي يفترض أنها تريد تجريدهم من هذا الحق. تمتد جذور هذا الخوف الذي يستغله زعماء الدهماء إلى ما يتجاوز الذوق المشترك للصيد، أو فكرة الدفاع عن النفس. بل يتعلق الأمر بتصور الناس لأنفسهم. فإذا جردتهم من حقهم في حمل الأسلحة النارية، فسوف يشعرون وكأنهم أبيدوا ثقافيا واجتماعيا.

لكن إذا كان هذا هو جوهر هوية العديد من الأميركيين، فهو يشير إلى تناقض غريب في صورتهم الذاتية على المستوى الوطني. لا شك أن التعديل الثاني يستند إلى مفهوم قانوني. وينطبق هذا على الولايات المتحدة ذاتها نوعا ما. فباعتبارها دولة مهاجرين، لا تستند الولايات المتحدة إلى نسب مشترك أو ثقافة مشتركة. بل تقوم على القوانين ــ الطريقة الوحيدة التي يمكن بها الربط بين أناس من خلفيات ثقافية عديدة متباينة في مشروع واحد مشترك.

لا عجب إذن أن يكون عدد المحامين في الولايات المتحدة كبيرا إلى هذا الحد، وأن يكون الأميركيون أشد حماسا للتقاضي في المحاكم من اليابانيين الذين يعتمدون بشكل أكبر على العادات والتقاليد. وإذا جاز لنا أن نقول إن الولايات المتحدة تعتنق ديانة مدنية، فإن الدستور هو كتابها المقدس. وهذه هي على وجه التحديد الطريقة التي يتعامل بها المحافظون مع القوانين التأسيسية، بما في ذلك التعديل الثاني.

ولكن في الوقت نفسه، يعتز العديد من الأميركيين بأساطير وطنية، وهي ليست أقل أهمية من الناحية التأسيسية في اعتقادهم، رغم تعارضها المباشر مع فكرة دولة القوانين. فالبطل الأميركي الحقيقي في أفلام الغرب الكلاسيكية هو المقاتل الفظ الذي يحمل سلاحه، وهو الخارج على القانون الذي يعرف الصواب من الخطأ بحدسه، وهو المتسكع المحب للحرية الذي يمتطي حصانه الأثير نحو غروب الشمس وقد علق بندقيته على كتفه. إنه جون واين يصل لإنقاذ المواطنين من الأشرار الذين يرتدون حُللا سوداء والذين قوضت أفعالهم الشنيعة حرية الحدود الأميركية.

لكن من هم هؤلاء الأشرار الذي يرتدون السواد؟ إنهم المصرفيون، والمحامون، ورجال الأعمال، وبناة السكك الحديدية، الذين يمثلون غالبا مصالح شخصيات قوية في المدن الكبرى على الساحل الشرقي. وهم يوظفون رجالا مقاتلين بكل تأكيد، لكن الرجال الذين يرتدون السواد يأتون من عالَم تحكمه العقود، والمعاهدات، والحكومة الكبيرة.

إن قصة أغلب أهل الغرب تشبه ملحمة رعوية ريفية مفتوحة، حيث وجد الإنسان الاستقلالية الكاملة، والتي تهددها دولة تحكمها قوانين من صنع الإنسان. والقوانين الوحيدة التي يحترمها البطل الغربي هي تلك التي أنزلها الرب وأقرها ضميره شخصيا. وهو في احتياج شديد إلى سلاحه لكي يدافع عنها.

تكمن المشكلة في الأسطورة الأميركية في أن هذه الملحمة الرعوية الريفية التي تقوم على الحرية الفردية الكاملة، من غير الممكن الحفاظ عليها في دولة شديدة التنظيم تحكمها البنوك، والمحاكم، والشركات التجارية، والهيئات التشريعية. ويُعَد التعديل الثاني تتويجا للأسطورة لكنه يتخفى خلف حقيقة مفادها أنه يتخذ أيضا هيئة قانون.

وقد فهم رونالد ريجان هذا التوق الأسطوري من جانب العديد من الأميركيين على نحو أفضل من أغلب الرؤساء، ربما لأنه مَثَّل في عدد من أفلام الغرب. وعندما أعلن أن "الحكومة ليست الحل للمشكلة، بل الحكومة هي مشكلتنا"، فإنه كان يتحدث بلسان مقاتل مسلح بمسدس، حتى برغم أنه كان يتحدث رسميا بوصفه رئيس الولايات المتحدة المنصب حديثا.

والآن، يسير دونالد ترمب على خطى ريجان، وإن كان ذلك بطريقة أكثر فظاظة وعدوانية وولعا بالقتال. بل هو في حقيقة الأمر نوع من الخارجين على القانون، ولا يكترث بقواعد الكياسة في الحكم. وقد تمكن ترمب على أكثر من نحو من الجمع بين عادات مجرم متهور خطير وبين مصالح الرجال الذين يرتدون السواد، وقادة الشركات، والمصرفيين، وممثليهم السياسيين في واشنطن.

إن ترمب محتال من نيويورك يعرف كيف يستغل مخاوف محبي السلاح في منطقة الحزام الإنجيلي. وإذا كانت الولايات المتحدة ممزقة بفعل حرب ثقافية متصاعدة حول هويتها الوطنية، فإن ترمب يتمتع بقدرة خارقة للطبيعة تتمثل في تجسيد أسوأ جوانب طرفي الانقسام: جموح حامل السلاح وخروجه على القانون وجشع ساكن المدينة الماكر.

إذا كانت الولايات المتحدة راغبة في التغلب على الشقوق الخطرة التي تمزق مجتمعها، فيتعين عليها أن تجد رئيسا قادرا على إقامة الجسور عبر الانقسام الثقافي. ولكن من المؤسف أنها اختارت الرجل الأقل تأهيلا لهذه المهمة.

* إيان بوروما، محرر في مجلة نيويورك ريفيو أوف بوكس ، مؤلف العديد من الكتب
https://www.project-syndicate.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق