دالية غانم-يزبك
تمحورت زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون إلى الجزائر مؤخراً حول مستقبل العلاقات بين البلدين، لكن هل سيسمح الماضي بنجاح هذه العلاقة؟
وصل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الجزائر في 6 كانون الأول/ديسمبر في زيارة صداقة وعمل، على حدّ تعبير قصر الإليزيه الذي شدّد على أنها ليست زيارة رسمية. وخلال زيارته التي دامت اثنتي عشرة ساعة، زار ماكرون النصب التذكاري للشهداء وجال في قلب العاصمة، والتقى كلّاً من رئيس الجمهورية الجزائرية عبدالعزيز بوتفليقة، ورئيس الوزراء الجزائري أحمد أويحيى، كما عقد عشاء عمل مع عبد القادر بن صالح، رئيس مجلس الأمة الذي يشكّل الغرفة الأولى في البرلمان الجزائري.
ماكرون، البالغ من العمر 39 عاماً، زار الجزائر بصفته أول رئيس فرنسي ينتمي إلى جيل لم يعِش حقبة الاستعمار الفرنسي في البلاد. وعلى غرار كل الرؤساء الفرنسيين السابقين، كان عليه التعامل مع إرث الماضي الثقيل بين البلدين اللذين لم يُشفيا بعد من ندوب ذاكرة تلك الحقبة. وقد تساءل العديد من الجزائريين عمّا إذا سيبقى ماكرون متمسّكاً بما قاله أثناء حملته الانتخابية، حين وصف الاستعمار الفرنسي بأنه "جريمة ضد الإنسانية"، ما أثار موجة من السخط في فرنسا آنذاك، وأفقده ثلاث نقاط في استطلاعات الرأي، واضطرّه بالتالي إلى الاعتذار.
وفي بادرة رمزية، تعهّد ماكرون أثناء زيارته الجزائر بإعادة جماجم مقاومين جزائريين قُتلوا على أيدي الفرنسيين في خمسينيات القرن التاسع عشر، والمعروضة راهناً في متحف الإنسان في باريس. لكنه هذه المرة لم يستخدم العبارة المثيرة للجدل الذي استعملها أثناء حملته، ولم يقدّم اعتذاراً رسمياً للجزائريين. بل أصرّ، عوضاً عن ذلك، على "بناء علاقة جديدة مع الجزائر" و"فتح صفحة جديدة معها"، مناشداً الشباب الجزائريين "ألّا يكونوا أسرى ماضٍ لم يعيشوه حتى" و"أن يفكّروا في كيفية المضي نحو بناء علاقات مستقبلية مع فرنسا". ويرى ماكرون أن بالإمكان توطيد أواصر العلاقات بين فرنسا والجزائر من خلال بلورة علاقات اقتصادية جديدة، وتعزيز آفاق الاستثمار في موارد الطاقة المتجدّدة، والابتكار، والاقتصادات الرقمية، وصناعة السيارات، وصناعة الأدوية، وقطاعات أخرى.
تسعى فرنسا إلى تعزيز استثماراتها في الجزائر التي تحتلّ موقعاً جغرافياً استراتيجياً مجاوراً لأوروبا، ويبلغ عدد سكانها 41 مليون نسمة، أي نصف عدد سكّان المغرب العربي. والجزائر لديها أيضاً امتداد جغرافي في أجزاء من غرب أفريقيا، ما يمثّل سوقاً تضم حوالى 330 مليون شخص. كذلك، تسعى فرنسا إلى تنويع اقتصادها، مايجعلها أكثر انفتاحاً على الاستثمار من السابق. ونظراً إلى أن الحد الأدنى للأجور في الجزائر يبلغ 170 دولاراً في الشهر الواحد، تشكّل الجزائر مصدر جذب للمستثمرين بسبب التكلفة المنخفضة لليد العاملة فيها.
فقدت فرنسا في العام 2013 صفة الشريك التجاري الأول للجزائر لصالح الصين. لكنها في العام التالي حلّت محلّ إيطاليا، إذ أصبحت ثاني أكبر شريك تجاري للجزائر بعد الصين، وبلغت حصتها 10.9 في المئة من السوق الجزائرية. خارج قطاع الهيدروكربون، لاتزال فرنسا أبرز جهة أجنبية موظِّفة - إذ توظِّف منشآتها 40000 شخص بشكلٍ مباشر، وحوالى 100000 شخص على نحو غير مباشر – وأكبر مستثمر في الجزائر، إذ يبلغ عدد الشركات الفرنسية في البلاد حوالى 500 شركة.
من بين هذه الشركات الفرنسية الشركة المصنعة للسيارات والدراجات النارية بيجو سيتروين، التي أعلنت مؤخراً عن استثمار بقيمة 100 مليون يورو لبناء مصنع في وهران مع ثلاث شركات جزائرية. يُعتبر هذا المشروع المشترك، الذي تمّ تأسيسه في إطار اللجنة الاقتصادية المشتركة الفرنسية-الجزائرية، آلية لتوحيد وتنويع العلاقات التجارية والصناعية بين البلدين، ومن المتوقّع أن يؤدي إلى استحداث 1000 فرصة عمل جديدة وإنتاج 75000 سيارة سنوياً. والأهم من ذلك أنه سيسمح لشركة بيجو سيتروين بتحقيق هدفها المتمثل في بيع 700000 سيارة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بحلول العام 2021.
وُقّعت اتفاقات شراكة إضافية في 7 كانون الأول/ديسمبر بعد عودة ماكرون من الجزائر، خلال اجتماع عقدته اللجنة الحكومية الجزائرية الفرنسية المشتركة رفيعة المستوى في باريس. ومن بين هذه الاتفاقات: اتفاق لإنتاج العربات السلكية (المصاعد الهوائية) في الجزائر من قبل شركة بوماغالسكي الفرنسية، واتفاق تعاون بين المعهد الوطني الجزائري للملكية الصناعية (INAPI ) والهيئة الفرنسية للتوحيد القياسي، واتفاق ثالث يهدف إلى إنشاء مركز رقمي في مجال الصحة بين جامعتيْ تلمسان ورين.
وتتمثّل إحدى الأهداف الرئيسية لهذه الجهود في الانخراط في الإنتاج التعاوني كاستراتيجية مربحة لكلا الطرفين. وتُعتبر حالة فراغوربرانت خير مثال على ذلك، فقد كانت شركة الأجهزة المنزلية الفرنسية على شفير الإفلاس عندما استحوذت عليها المجموعة الجزائرية سيفيتال. وقد ساهم ذلك في إنقاذ حوالى 500 وظيفة في مواقع الإنتاج الفرنسية في سان جان دو لا رويال وفندوم، مع الإبقاء على موظفي الشركة في الجزائر والبالغ عددهم 1200. ومن المتوقع أن تخلق هذه المبادرة 7500 فرصة عمل جديدة بحلول نهاية العام 2018.
لاتقتصر حاجة فرنسا إلى الجزائر على القطاع الاقتصادي وحسب، بل تتعداه أيضاً إلى الأمن، إذ تُعتبر البلاد طرفاً محورياً في "مكافحة الإرهاب" في منطقة المغرب-الساحل. فالجزائر تمتلك قدرات وساطة مؤكدة وكذلك روابط قوية سمحت لها بمساعدة دول مجاورة، مثل تونس وليبيا ومالي. ويُعتبر ذلك أساسياً بالنسبة إلى فرنسا، فقد كانت الجزائر الدولة الراعية للمفاوضات بين الحكومة المالية والجماعات المسلحة التي تُوجَت في العام 2015 في إبرام اتفاق سلام. وكانت الجزائر أيضاً من ساعد فرنسا خلال عملية سرفال على محاربة المسلحين وطردهم من شمال مالي، وذلك عبر السماح للطائرات العسكرية الفرنسية باختراق مجالها الجوي وتزويدها بالوقود مجاناً. واليوم أكثر من أي وقت مضى، تحتاج فرنسا إلى المساعدة الجزائرية في مكافحة التطرّف العنيف، والقتال المسلح، والجريمة المنظمة، والهجرة غير القانونية في منطقة الساحل. وتُعتبر الجزائر الجهة الفاعلة الوحيدة التي تملك القدرات والخبرات العسكرية الحقيقية في المنطقة لتقديم المساعدة في هذه المجالات.
ويُعتبر التعاون الاقتصادي والأمني بين الجزائر وفرنسا بالغ الأهمية. مع ذلك، عندما يتعلق الأمر بالتاريخ، تعود إلى الواجهة المطالبة بإصدار اعتذار رسمي عن فترة الاستعمار الفرنسي وعن الانتهاكات التي مورست وقتها بحق الجزائريين. وإن لم يحدث ذلك، ستظل هذه الذكرى عقبة كبيرة أمام العلاقات المستقبلية بين البلدين.
اضف تعليق