q

خافيير سولانا

مدريد ــ يبدو أننا كنا نعيش في وهم كبير. فلسنوات تصور العالم أن التحول من النظام الأحادي القطب إلى نظام متعدد الأقطاب لابد أن يكون سلمياً ومنظماً وثابتاً مع تكيف لاعبين جدد مثل الصين والبرازيل وتركيا مع الإطار القائم المتعدد الأطراف بطريقة طبيعية متناغمة. ولكن كم كنا مخطئين!

الواقع أن النظام الدولي، مع تقدم التحول نحو التعددية القطبية، أصبح غير مستقر ومتوتراً على نحو متزايد. ثم أتت الأزمة المالية العالمية في عام 2008 لكي تتفاقم حالة عدم اليقين وانعدام الثقة، الأمر الذي أدى إلى تعطيل اتجاهات مثل العولمة. ولكن المشكلة الأكبر كانت فشل البلدان المتقدمة ــ التي تولت هندسة النظام الدولي في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية ــ في صياغة استراتيجية شاملة في التصدي للتحديات العالمية وإدارة عملية الانتقال إلى نظام دولي جديد.

والسبب وراء هذا الفشل بسيط: فقد سمح الغرب للمخاوف التكتيكية القصيرة الأمد بعرقلة تطور الرؤية الاستراتيجية الأطول أمدا. وقد أثر هذا الهوس بالتكتيكات على الحكم على كافة المستويات، من الإدارات المحلية إلى المؤسسات فوق الوطنية، فسمح ذلك لقوى كبرى بالعمل في إطار واقِع يفتقر إلى التنسيق، وفي غياب أي أهداف مشتركة توجه عملية اتخاذ القرار.

بطبيعة الحال، كانت هناك بعض الاستثناءات الجديرة بالذكر، نظراً لجهود منسقة متضافرة لترسيخ رؤية استراتيجية بنّاءة. على سبيل المثال، حققت السياسة الغربية بعض التقدم نحو اتخاذ قرار واضح بشأن برنامج إيران النووي.

ولكن في مجالات أخرى كان الفكر الاستراتيجي قاصرا. ففي أوكرانيا على سبيل المثال، كان الصراع سبباً في كشف وتعميق الصدع بين روسيا والغرب. وكان نضال روسيا في حقبة ما بعد الاتحاد السوفييتي للاندماج في النظام الدولي، جنباً إلى جنب مع رفضها للتحديث، سبباً في تغذية مشاعر القومية الاسترجاعية القائمة على مناطق النفوذ.

وليست روسيا وحدها التي أدارت ظهرها للحداثة الغربية. فقد كان الشرق الأوسط مرتعاً لحالة من عدم الاستقرار تغذت على توترات تاريخية منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية قبل قرن من الزمان تقريبا. والآن اشتعل الشرق الأوسط ــ لأسباب ليس أقلها أن تدخلات الغرب المتكررة كانت تسترشد بمخاوف تكتيكية تتسم بقِصَر النظر.

الواقع أن زعماء الغرب فشلوا في توقع العواقب الطويلة الأجل المترتبة على دعم الأنظمة الاستبدادية، والتي كشفت عنها ثورات الربيع العربي، أو توقع تأثير التدخلات العسكرية المتعاقبة في العراق وسوريا وليبيا. ونتيجة لهذا فإن الحنين إلى الماضي "المجيد" ــ مثل الخلافة التي يسعى إلى إقامتها تنظيم الدولة الإسلامية ــ بدأ ينتشر في الشرق الأوسط أيضا.

لم يكن الغرب مستعداً لتقهقر القوى العالمية والبحث عن المستقبل في الماضي. وفي كل الأحوال فإن الشرق الأوسط لابد أن يُسمَح له بامتلاك الحلول للتحديات التي يواجهها؛ ففي نهاية المطاف، لم تنجح أية حلول مفروضة عليه من الخارج حتى الآن. وتتلخص مسؤولية بقية العالم في بناء خلفية مستقرة لمثل هذه الجهود: نظام دولي شامل حيث تلتزم الدول بنفس القواعد والمعايير.

في إدارته لعملية التحول نحو التعددية القطبية، تكمن أعظم التحديات التي يواجهها الغرب في آسيا ــ المنطقة التي تتمتع بالديناميكية وتتوجه نحو المستقبل ولكن تعوقها توترات وانقسامات تاريخية. وإدراكاً منه للأهمية العميقة التي تمثلها آسيا بالنسبة للنظام العالمي الجديد، أعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما عن "التحول المحوري" الاستراتيجي نحو المنطقة في عام 2012.

ولكن زعماء الغرب ترددوا في دمج الصين، التي تمثل القوة الاقتصادية الأكثر بروزاً في آسيا، في النظام الدولي. والواقع أن آخر اجتماع لصندوق النقد الدولي ــ والذي اعترف بالصين بوصفها الدولة صاحبة أكبر اقتصاد في العالم من حيث تعادل القوى الشرائية ــ اختتم أعماله من دون زيادة حصة الصين في الأصوات داخل الصندوق. ولكي نضع هذا في منظوره الصحيح فينبغي لنا أن نوضح إن حصة الصين في الأصوات الآن أصبحت أعلى قليلاً من حصة إيطاليا، التي لا يتجاوز اقتصادها 20% من حجم اقتصاد أميركا وربع حصتها في الأصوات.

وعلاوة على هذا فقد خفض الغرب قضايا مثل توفير الدعم لإنشاء وتعزيز الأطر الإقليمية للتعاون في مجالات أساسية مثل الأمن إلى مرتبة ثانوية من الأهمية. وعلى النقيض من أوروبا، لم تندمل جراح آسيا من الحرب العالمية الثانية حتى وقتنا هذا. ونتيجة لهذا فإن النزاعات الإقليمية والمطالبات القومية تظل تشكل تهديداً قوياً للاستقرار الإقليمي ــ بل والعالمي.

ولكن بالنسبة للغرب، يتطلب تطبيق رؤية طويلة الأجل ما هو أكثر من مجرد إدراك حتمية اتخاذ القرار الاستراتيجي؛ فهو يتطلب أيضاً بذل الجهود لإعادة الحياة إلى الأنظمة السياسية المحلية المختلة التي أنهكها الاستقطاب. ولا شك أن الافتقار إلى الرؤية الاستراتيجية في الولايات المتحدة، كما يتجلى في سياسة أوباما الخارجية، كان راجعاً ولو جزئياً على الأقل إلى احتياجه إلى الإبحار عبر نظام معيب.

ومن جانبه، لاحَق الاتحاد الأوروبي سياسات قصيرة النظر في التصدي للتحديات الاقتصادية التي تواجهه، دون أن يتوقع العواقب الاجتماعية والسياسية ــ أو الاعتراف بها ــ بما في ذلك انتشار المشاعر المناهضة للاتحاد الأوروبي. وكان النهج التكتيكي الذي تبنته بلدان الاتحاد الأوروبي في التعامل مع مشاكلها الخاصة (والذي يتحدد غالباً تبعاً لمواقفها كدول دائنة أو مدينة) سبباً في تجريد الاتحاد الأوروبي من الزعامات ذات المصداقية وحرمانه من الرؤية الموحدة. والواقع أن النهج الأكثر استراتيجية لابد أن يركز على تعزيز النمو في مختلف أنحاء الاتحاد الأوروبي، من خلال تلبية أهداف أوروبا 2020 في مجالات البحث والتطوير والإبداع على سبيل المثال، فضلاً عن تعزيز شراكة التجارة والاستثمار عبر الأطلسي.

إن التكتيكات ليست سوى حلول قصيرة الأجل وتؤدي غالباً إلى عواقب ضخمة غير متوقعة، الأمر الذي يجعل من المستحيل التنبؤ بهيئة العالم الذي قد يتولد عنها. أما الاستراتيجية فإنها تشكل محوراً مختلفاً للعمل، فهي تضع في الحسبان بنية الاعتماد المتبادل العالمي وبالتالي كيف قد تؤثر التغيرات الفردية على النظام بأسره. ولن يتسنى لنا إلا من خلال التحرك على محور الاستراتيجية إيجاد العالم الذي نرغب جميعاً في الحياة فيه: عالم قابل للسُكنى، ومستقر، وحر، ومزدهر.

* كان وزيرا في الحكومات الإسبانية لمدة 13 سنة، وأمين عام لحلف شمال الأطلسي قبل أن يصير الممثل السامي للسياسة والأمن الأوروبي، وهو حاليا رئيس مركز ESADE للاقتصاد العالمي والجغرافيا السياسية وزميل متميز في معهد بروكينغز
https://www.project-syndicate.org/

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق