تحت درجة حرارة يمكن أن تتجاوز 50 مئوية، لطالما كانت مواقع البناء في العراق أماكن خطيرة للعمل في الصيف إذ يجد العمال صعوبات في التعامل مع القراميد والحجارة التي تكون شديدة الحرارة بحيث يستحيل لمسها ويمكن أن تتسبب في حروق. ويصاب البعض بالإغماء ويسقطون من المباني...
يعيش الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، المنطقتان المعرضتان بشكل خاص لتأثيرات التغيّر المناخي، تحت وطأة موجة استثنائية من الحرّ.
وفي دول هذه المنطقة، ومن بينها على سبيل المثال العراق وسوريا وتونس والسعودية، الكثير من السكّان لا يملكون ترف الاحتماء من الحرّ، إذ يتعيّن عليهم العمل تحت درجات حرارة حارقة.
يشهد العراق موجة حر الأحد والاثنين حيث وصلت درجات الحرارة إلى 50 مئوية في العاصمة بغداد، ما زاد من صعوبة الحياة اليومية لا سيما لمن يعملون في الخارج.
وأكثر المتضررين من الحرارة، هم العمال المجبرون على العمل في الخارج تحت الشمس الحارقة، على غرار فالح حسن، الأب لستة أطفال والبالغ من العمر 41 عاماً، ويعمل حمالاً لنقل الأجهزة الكهربائية.
وقال الرجل فيما تصبب عرقاً وهو يقف في ساحة تتجمع فيها الشاحنات في الكرادة في بغداد إن "حرارة الشمس موت، حتى نتمكن من العمل، نشرب الماء طوال النهار".
وأضاف الرجل الذي غزا الشيب رأسه "الحر لا يوصف لكننا مجبرين على العمل ليس لدينا أي عمل آخر".
وقال ضابط في شرطة المرور وهو يقف وسط شارع رئيسي في بغداد، لفرانس برس، مفضلاً عدم كشف اسمه، "أعمل عشر ساعات في اليوم من السادسة صباحاً وحتى الثالثة أو الرابعة عصراً".
وأضاف "عندما أعود للبيت أستحم ثلاث وأربع وخمس مرات لكن الحر لا يفارقني".
في مدينة إدلب في شمال غرب سوريا، يواجه مراد حدّاد (30 عاماً) ألسنة النيران التي يوقدها داخل ورشته المتواضعة من أجل صهر الحديد وتطويعه، محوّلاً إيّاه إلى أدوات تستخدم في الزراعة أو الصناعة وسواها.
ويقول لوكالة فرانس برس بينما يتصبّب العرق منه "نصنع كلّ شيء بأيدينا. نحن ستّة أشقّاء نعمل معاً. نستيقظ باكراً عند الصباح لنخفّف من الحرّ الذي نتعرّض له، لأنّنا نواجه الحرّ والنار في آن معاً. نحرق قلبنا لنسيّر أمورنا".
مع أشقائه، يتناوب مراد على العمل في المهنة التي ورثوها أبّاً عن جدّ، متحدّين درجات الحرارة المرتفعة والتي يزيد اللهب من شدّتها.
يضرب مراد بكل ما أوتي من قوة بمطرقة على قطعة حديد باتت برتقالية اللون بعد صهرها، بينما يظهر على زنده وشم "حياتي عذاب" قرب قلب اخترقه سهم.
خلال أوقات استراحة قليلة، يخلع قميصه ليجفف العرق الذي ينهمر على وجهه ومن لحيته، ثم يحتسي كوباً من الشاي أو ينفث دخان سيجارته، فيما لا تنجح مروحة قديمة تتدلى من السقف في تبريد حرارة الورشة.
ويشرح "نعمل حتى الساعة الثانية أو الثالثة بعد الظهر ونغادر بعدها، نقف هنا أمام النار لخمس أو ستّ ساعات يومياً على الأقل"، مضيفاً "هذه الوقفة تذبحنا".
ويتابع "على عاتقي ستة أولاد، وبالكاد نتمكّن من توفير مستلزمات عيشهم وعيشنا"، مؤكداً "إن لم نعمل، لا نتمكن من توفير لقمتنا".
توصيل الطعام في بغداد
يكافح مولى الطائي يومياً درجات الحرارة المرتفعة التي تغطّي شوارع بغداد، ليسلّم الفلافل والكباب والأطعمة المختلفة إلى السكّان على دراجته النارية الصغيرة.
وحينما تتجاوز درجات الحرارة الخمسين مئوية، كما كان الحال مطلع الأسبوع، يكون مولى من القلائل الذين يخاطرون تحت شمس بغداد الحارقة، ليسلّم الطعام.
يقول الشاب البالغ من العمر 30 عاماً "الحرارة تصل إلى 52، 53، 54، ليس من الطبيعي أن يتحمّل الإنسان هذا الأمر".
ليحمي نفسه من الشمس، يغطّي مولى فمه وأنفه بقناع، كما غالبية عمّال التسليم الآخرين الذين يوصلون الطعام على متن دراجات نارية.
يُعدّ العراق من الدول الخمس الأكثر تأثّراً ببعض تداعيات التغيّر المناخي وفق الأمم المتحدة. في الصيف، تزداد موجات الحرارة تفاقماً، أمّا الأمطار، فباتت قليلة. وتشهد البلاد موجة جفاف للعام الرابع على التوالي.
زراعة الحقول في تونس
تعمل منجية دغبوج البالغة من العمر 40 عاماً مزارعةً في قرية الحبابسة في ولاية سليانة الواقعة في شمال غرب تونس.
وتحدّثت دغبوج لفرانس برس في 27 تموز/يوليو خلال موجة الحرّ الاستثنائية في تونس. ووصلت درجات الحرارة إلى 49 مئوية في الظلّ في العاصمة تونس في 25 تموز/يوليو.
بدّلت منجية ساعات عملها، فهي تستيقظ يومياً عند الفجر لتذهب إلى العمل، ومعها قارورة مياه وزاد طعام. تسير المرأة نحو 7 كيلومترات لتصل إلى الحقل، حيث تزرع الفلفل والبطيخ. ويرافقها شابان من المنطقة يعملان معها.
وتقول منجية "أستيقظ عند الساعة الرابعة صباحاً وأُعدّ الفطور لأطفالي وأجهّز قفّتي وآتي مشياً، وأبدأ العمل عند الخامسة صباحاً وأنهي العمل عند الثانية" بعد الظهر.
وتضيف "نصل باكراً للعمل ثم نعود في وقت مبكر بسبب الحرارة".
ثقل الحرّ وقوارير الغاز
يجهد بائع الغاز الأربعيني، أثير جاسم، في الناصرية في جنوب العراق، حيث بلغت الحرارة 51، ليكمل يومه. يعود إلى بيته للاستراحة، ليجد الكهرباء مقطوعة.
يشكو هذا الأب لثمانية أطفال من لهيب الشمس، ومن التراب. ويقول "حينما أشعر بالتعب، أستريح خمس دقائق أو عشر دقائق، أغسل وجهي ورأسي... لكي أستريح قليلاً وأستأنف نشاطي".
مغطياً رأسه بقبّعة، يتنقل جاسم بشاحنته الصغيرة من بيت إلى بيت ليوصل قوارير الغاز، حاملاً إياها على ظهره في بعض الأحيان.
يتصبّب عرقاً، لكنّه يواصل العمل رغم ذلك لأنّه يريد أن يبقى أطفاله في المدرسة ويكملوا تعليمهم.
ويعود الرجل إلى بيته في الليل. يروي "أكون متعباً، وممتلئاً بالعرق، أستحمّ ثم أذهب للنوم، فتنقطع الكهرباء".
في شرق السعودية، توفّر المنتجعات على شاطئ الخليج متنفّساً للتغلّب على الطقس الحارّ، لكنّ النهار يظلّ طويلاً بالنسبة لنساء الإنقاذ المكلّفات الحفاظ على سلامة السباحين.
وتقول أماني الفلفل التي تعمل منذ أكثر من عقد في منتجع بمدينة الخُبر حيث يمكن أن تصل درجات الحرارة إلى 50 درجة مئوية "نولي الكثير من الاهتمام لمستوى لياقتنا البدنية حين نعمل خلال درجات حرارة الصيف المرتفعة".
وتضيف "نتعاون، فإذا انتاب الإرهاق إحدانا تحلّ محلّها أخرى".
تمضي الفلفل نوبات العمل، التي تستمر لثماني أو تسع ساعات، في القيام بدوريات في المياه على متن دراجة مائية نفاثة وعلى الشاطئ سيرًا على القدمين، وهي تنحني باستمرار تحت دشّ حمام السباحة لإزالة العرق وغسل وجهها بالماء البارد للمحافظة على حيويتها ويقظتها.
وتتابع "حينما أعود إلى المنزل، أطلب فقط أبرد ماء يمكنني الاستحمام به والاسترخاء، لأنّني أكون أخذت أكبر قسط من الحرارة" خلال اليوم.
عمال البناء في العراق.. الشمس لا تحنو عليهم
تحت درجة حرارة يمكن أن تتجاوز 50 مئوية، لطالما كانت مواقع البناء في العراق أماكن خطيرة للعمل في الصيف إذ يجد العمال صعوبات في التعامل مع القراميد والحجارة التي تكون شديدة الحرارة بحيث يستحيل لمسها ويمكن أن تتسبب في حروق. ويصاب البعض بالإغماء ويسقطون من المباني.
تتزايد المخاطر في بلد وضعته الأمم المتحدة في المرتبة الخامسة بين أكثر البلدان عرضة للتأثر بتغير المناخ، مما أدى إلى انطلاق دعوات لإعادة التفكير في ممارسات العمل وضمانات أفضل في مجال البناء ومجالات العمل الأخرى على النطاق الأوسع.
قال سجاد الزاملي، وهو رجل في منتصف العمر يرتدي قبعة لحمايته من الشمس فيما كان يعمل في مجمع سكني مترامي الأطراف في مدينة البصرة الجنوبية "هذه مرمره (حجر تغليف من المرمر) لا تستطيع مسكها ساخنة.. يعني درجة الحرارة بعد الساعة التاسعة صباحا ترى العمال هذا يقع، الثاني يفقد الوعي، يحدث لديه هبوط بالضغط بسبب درجات الحرارة".
وأضاف متحدثا عن الواقع الاقتصادي في بلد يبلغ معدل البطالة الرسمي فيه 16 بالمئة "هو إذا ما يعمل لا يستطيع العيش".
يتمتع القطاع بازدهار بفضل موجة من الاستقرار النسبي بعد عقود من الصراع، فضلا عن الاستثمار الذي يحركه ارتفاع أسعار النفط. لكن حرارة الصيف المرتفعة تجعل العمل أكثر صعوبة بالنسبة لمئات الآلاف من العاملين في مجال البناء.
فرضت دول أخرى في المنطقة، ولا سيما السعودية والإمارات، منذ فترة طويلة استراحة في منتصف النهار لتجنب العمل تحت أشعة الشمس المباشرة من الظهيرة حتى الساعة الثالثة مساء.
ينتقد مراقبون مثل هذه الأوضاع في العراق ويقولون إن إجراءات الحماية من هذا القبيل محدودة، إن وجدت أصلا، وتُطبق بصورة فضفاضة. ويجري تشغيل العديد من العمال بشكل غير رسمي، مما لا يترك لهم سوى القليل من الضمانات القانونية.
قال نصير علي حسين، معاون مدير قسم التفتيش في وزارة العمل، إن العراق ليس لديه لوائح خاصة تتعلق بحرارة الجو وإن من الممكن إعادة النظر في تحديث الأطر القانونية. لكنه أشار إلى أن القانون يلزم أصحاب العمل بضمان سلامة العمال على نطاق واسع.
وقال إن الوزارة لم تتلق أي شكاوى رسمية من العمال تتعلق بارتفاع درجات الحرارة، مضيفا أن العراقيين ربما أصبحوا معتادين على درجات الحرارة المرتفعة في بلد تعتبر 45 درجة مئوية فيه طبيعية في الصيف.
قال أكثر من 12 عاملا تحدثت إليهم رويترز بين البصرة وبغداد إنه أصبح من المعتاد بالنسبة لهم رؤية زملائهم يصابون بالإغماء في مواقع البناء، بل ورؤيتهم وهم يسقطون من المباني عندما ترتفع الحرارة بشدة.
وعندما أمرت السلطات في البصرة موظفي القطاع العام بالبقاء في منازلهم مؤخرا عندما ارتفعت الحرارة فوق الخمسين درجة مئوية، استمر العمل في موقع البناء الذي يعمل فيه الزاملي.
قالت مها قطّاع، ممثلة منظمة العمل الدولية في العراق، إنه يتعين على السلطات تعزيز اللوائح المتعلقة بالحرارة والرقابة للحفاظ على سلامة العمال.
وأضافت نقلا عن بيانات وزارة العمل أن العراق سجل نحو 4000 إصابة مرتبطة بالعمل في عام 2022. لكنها قالت إن هذا العدد من المحتمل أن يكون أقل بكثير من العدد الحقيقي، لكن لم يتضح كم من هذه الحالات مرتبط بالحرارة.
وأوضحت "هذا النوع من الإصابات سيزداد بزيادة مطردة نظرا لازدياد درجات الحرارة في العراق. الإبلاغ ليس كل شيء. الإبلاغ هو جيد لكن ما هي الاجراءات بعد الإبلاغ؟ كيف سيجري التعامل مع هذه الحالات وكيف سيتم تعويض العمال. اليوم العامل الذي يعمل بشكل غير منظم، غير مسجل وليس لديه ضمان اجتماعي، ليس لديه ضمان صحي، اليوم إذا تأثر بحالة إصابة عمل ناتجة عن زيادة درجة الحرارة من سيتكفل بتعويضه؟"
توقف إبراهيم مهدي، الذي يعمل في موقع بناء في بغداد، ليرتشف جرعة من الماء وهو يحكي موقفا صعبا وقع في اليوم السابق. رأى بعينيه زميله يصاب بالإغماء ويسقط من مبنى ويتهشم رأسه.
قال إن توفير الحماية واجب على الشركات وأرباب العمل، لأن من هم في مثل ظروفه يحتاجون إلى العمل بغض النظر عن الظروف.
أضاف "لدي عائلة تحتاج إلى معيل (من يعولها)، تأكل وتشرب... يجب علي أن أعمل لأن معاش من الدولة ما عندي (لا أحصل على معاش من الدولة)".
ومضى قائلا "نعم مضطر لو درجة الحرارة 70 أعمل، يجب أن أعمل من أكعد لا نأكل ولا نشرب (إذا لم أعمل فلن أجد الطعام ولا الشراب)".
بيئة عمل أفضل لجميع العمال
وسابقا دعت منظمة العمل الدولية في العراق شركاءها الثلاثة - الحكومة ومنظمات أصحاب العمل والعمال - إلى ضمان اتخاذ الإجراءات المناسبة للتخفيف من بعض المخاطر المرتبطة بالعمل في ظل درجات حرارة شديدة والتأكد من توفير الحماية المناسبة للعمال في مكان عملهم، وذلك مع ارتفاع درجات الحرارة في العراق إلى 50 درجة مئوية.
وسلطت المنسقة القطرية لمنظمة العمل الدولية في العراق، مها قطّاع، الضوء على ضرورة اتخاذ الإجراءات المناسبة.
على المستوى العملي، يمكن أن يشمل ذلك ضمان تزويد العمال بالملابس المناسبة، والوصول إلى مياه الشرب والمناطق المظللة؛ وتشجيعهم على العمل خلال ساعات أكثر برودة مع أوقات الراحة المناسبة.
ويشمل أيضا ضمان إنفاذ التشريعات المتعلقة بالسلامة والصحة المهنيتين من خلال عمليات تفتيش العمل - لا سيما في القطاعات التي تواجه معظم المخاطر.
وقال البيان إن درجات الحرارة الشديدة تؤدي إلى زيادة المخاوف فيما يتعلق بظروف السلامة والصحة المهنية للعمال، وخاصة أولئك الذين يعملون في البناء والزراعة - وهو قطاع يعتبر بالفعل أحد أكثر القطاعات خطورة في العالم.
ووفقا لمسح القوى العاملة الأخير، يعمل واحد من كل أربعة عمال في العراق إما في البناء أو الزراعة - وهو ما يُعتبر عددا كبيرا للغاية.
وذكر تقرير لمنظمة العمل الدولية صدر في عام 2019 أن "ارتفاع درجات الحرارة العالمية الناجم عن تغير المناخ سيجعل ظاهرة" الإجهاد الحراري "أكثر شيوعا" ، وأن "مستويات الحرارة المرتفعة الناجمة عن تغير المناخ تهدد التقدم المحرز نحو تحقيق العمل اللائق من خلال التسبب في تدهور ظروف العمل وتقويض أمن وصحة ورفاهية العمال ".
وصادق العراق على عدد من اتفاقيات منظمة العمل الدولية التي تركز على ضرورة ضمان الحماية للعمال في مختلف القطاعات، ومؤخرا من خلال التصديق على اتفاقية السلامة والصحة في الزراعة، 2001 (رقم 184)، والتي تؤكد من جديد على الالتزام بالعمل اللائق ومعايير العمل الدولية.
وتلتزم منظمة العمل الدولية بدعم شركائها في تطوير سياسات وأنظمة السلامة والصحة المهنية وتفتيش العمل، والتي ستسهم في تحديث تلك الأنظمة وتحسين ظروف العمال وأصحاب العمل، بما يتماشى مع معايير العمل الدولية.
في حين أن هذه الجهود لا تقتصر على الإجهاد الحراري في العمل، إلا أنها ستساهم مع ذلك في ضمان بيئة عمل أفضل لجميع العمال في العراق.
وأكد البيان أن "سلامة وصحة العمال مسؤولية الجميع. ولدينا جميعا دور لنقوم به - حتى لو كان صغيرا - لضمان أن تكون ظروف العمل لائقة وآمنة وأن تكون بيئتنا محمية من المزيد من التدهور."
لقد تم مؤخرا منح العمال في بعض أنحاء البلاد إجازة بسبب الحر. ومع ذلك، بالنسبة للعمال الذين لا يستطيعون تحمل التغيب عن يوم عمل، مثل أولئك الذين يعملون في أعمال غير رسمية أو مؤقتة أو موسمية أو يومية، تدعو المنظمة إلى اتخاذ تدابير لضمان حمايتهم.
اضف تعليق