سوف يفقد رافي، مع الآلاف من موظفي تكنولوجيا المعلومات الهنود، وظائفهم هذا العام، بعد وقوعه بين مطرقة تراجع صناعة تكنولوجيا المعلومات التي كانت مزدهرة يوما ما، وسندان التكنولوجيا الجديدة التي تهدد بأن تحل محل الأيدي العاملة.
وحتى الشهر الماضي، كان راف يعمل لدى شركة كوجنيزانت للحلول التكنولوجية، التي تتخذ من الولايات المتحدة مقرا لها، لكن معظم موظفيها يقيمون في الهند. وتتعرض الشركة لضغوط لخفض النفقات، ومن المتوقع أن تتخلى عن ما يتراوح بين ستة آلاف وعشرة آلاف من ذوي "الأداء المتدني" هذا العام.
ونتيجة لتقلبات السوق وارتفاع النزعة الحمائية في بلدان كالولايات المتحدة، كان نمو إيرادات شركة كوجنيزانت العام الماضي هو الأبطأ خلال العقدين الماضيين، كما تشهد نظيراتها من شركات تكنولوجيا المعلومات الهندية وضعا مماثلا.
لكن في الوقت ذاته، يمكن للتكنولوجيا المتقدمة أن تقوم بالأعمال المعتادة التي كانت تؤديها في السابق أيدي عاملة بشرية، وهي ذاتها الوظائف التي كانت الشركات العالمية تعتمد فيها على الهند كمصدر خارجي للعمالة، مستفيدة من انخفاض أجور الأيدي العاملة.
وفي فبراير/شباط الماضي، قال المدير المالي التنفيذي لشركة كوجنيزانت إن الشركة "ستنشط" في تطبيق التشغيل الآلي "لتحسين" خدماتها. وتقول شركة "إنفوسيز"، وهي ثالث أكبر شركة تكنولوجيا معلومات في الهند، إن التشغيل الآلي أتاح لها العام الماضي تحويل تسعة آلاف موظف من وظائف تتطلب مهارات منخفضة المستوى إلى العمل في مشاريع أكثر تقدما، مثل التعليم الآلي والذكاء الاصطناعي. أما منافستها "ويبرو" فقد أعادت توزيع 3200 موظف عام 2016 وتتوقع أن تعيد توزيع 4500 آخرين هذا العام.
وكان هذا الإجراء مصحوبا بتباطؤ كبير في توظيف عاملين جدد. وتوقع التقرير السنوي لمؤسسة ناسكوم لتكنولوجيا المعلومات انخفاضا يتراوح بين 20 و25 في المئة في عدد الوظائف في مجال تكنولوجيا المعلومات خلال السنوات الثلاثة القادمة.
وقال متحدث باسم كوجنيزانت: "كوجنيزانت لم تسرح أي عامل. فالأجهزة والتكنولوجيا الجديدة تعمل على خفض النفقات وتحسين الأداء وتزيد من تطوير وتقديم الخدمات. الهدف من الأجهزة والتكنولوجيا الجديدة ليس أن تحل محل العنصر البشري، إنما تطوير وتحسين الدور الذي يقوم به البشر والقيمة التي تنطوي عليها أدوارهم".
لكن من الصعب تحديد من الذي فقد وظيفته بسبب التشغيل الآلي. وأشار باحثون في بريطانيا إلى أن بعض الوظائف في الاقتصاد العالمي الحالي معرضون للخطر أكثر من وظائف أخرى.
وكان رافي يعمل مدققا للبرمجيات، وهو الدور الذي يمكن أن يحل التشغيل الآلي محله. يقول رافي: "دخل التشغيل الآلي مجال التدقيق والفحص بالفعل. إذا كانت الوظيفة تحتاج إلى أربعة مدققين يدويين، فإن التشغيل الآلي يخفض العدد إلى واحد فقط".
ويبحث رافي الآن عن وظيفة، لكنه يقول إن الفرص المتاحة لهذا النوع من العمل باتت محدودة، مشيرا إلى أنه غالبا ما سيضطر للتكيف مع هذا الوضع بالحصول على دورات في مجال الفحص الآلي للبرمجيات. ويقول: "ربما بعد خمس سنوات ستظهر تكنولوجيا جديدة ويتعين علينا أيضا تعلمها".
ومنذ تسعينات القرن الماضي، كانت الشركات الهندية تقوم بمهام إدارية وخدمات تكنولوجيا المعلومات، مثل إدخال المعلومات، وإدارة مراكز الاتصال، واختبار البرمجيات للشركات الأجنبية، وخفض أسعار البيع عن طريق تشغيل الأيدي العاملة الرخيصة. لكن في الوقت الذي أصبحت فيه الآلات تقوم بتلك الوظائف التي لا تحتاج لمهارات عالية، والقائمة على أدوار محددة، والتي يعمل فيها القسم الأكبر من موظفي تكنولوجيا المعلومات الهنود، باتت هذه الوظائف هي الأكثر عرضة للخطر.
يقول غوبيناثان بادمانابهان، رئيس قسم الابتكار في شركة مفاسيس لتكنولوجيا المعلومات: "يحدث ذلك منذ آخر سنتين أو ثلاثة بشكل متسارع. إنها حقيقة لا يمكنك تجاهلها".
وسوف يحدث هذا التغير جنبا إلى جنب مع فرص العمل الجديدة في المجالات الناشئة، مثل علم البيانات والذكاء الاصطناعي، لكن هذه المجالات تتطلب مهارات جديدة، وعلى الأرجح عددا أقل من الموظفين.
ويضيف بادمانابهان: "عليهم أن يجدوا أدوارا جديدة، وأن يدربوا أنفسهم ليصبح لهم موطيء قدم في العصر الجديد. نحن لا نتحدث عن المستقبل البعيد، لكن عن السنوات الثلاثة أو الخمسة القادمة".
وبالطبع، هناك قلق في العالم المتقدم من تداعيات أن تحل الآلات محل البشر على نطاق واسع، لكن الهند تشكل حالة فريدة من نوعها.
ويشكل الحصول على وظيفة مستقرة في إحدى شركات تكنولوجيا المعلومات طموحا كبيرا للكثير من الهنود، وهو ما يفسر الحديث في الصحف عن الخشية من فقدان الوظائف في شركات التكنولوجيا خلال الأشهر الأخيرة.
لكن رغم مساهمة صناعة تكنولوجيا المعلومات في 9.3 في المئة من إجمالي الناتج المحلي للهند، حسب ناسكوم، فإن قطاع تكنولوجيا المعلومات يوظف 3.7 مليون فقط من إجمالي نصف مليار من البالغين القادرين على العمل في الهند. لذا، فإن السؤال المطروح هو: ما حجم التهديد الذي يمثله التشغيل الآلي على القوة العاملة الهندية؟
تشير بيانات البنك الدولي إلى أن 69 في المئة من الوظائف في الهند مهددة بسبب التشغيل الآلي، أي إحلال الآلة محل الأيدي العاملة. وليست الهند وحدها هي المهددة بذلك، إذ تصل النسبة إلى 77 في المئة في الصين، كما ترتفع الأرقام في البلدان النامية الأخرى.
وتعاني الهند في توفير فرص عمل في وقت تشهد فيه نموا سريعا، فقد زاد متوسط أعمار القادرين على العمل من الشعب الهندي بمقدار 300 مليون بين عامي 1991 و2013، طبقا لإحصائيات الأمم المتحدة، لكن عدد الذين يعملون لم يرتفع سوى بمقدار 140 مليون.
ورغم ذلك، فإن حلول الروبوت والماكينات محل البشر مازال أمرا غير واقعي سواء في الهند أو في أي مكان آخر، لكن تأثير مثل هذا الأمر أصبح ملموسا. وفي سبتمبر/أيلول الماضي، قالت شركة "رايموند" الهندية الضخمة للغزل والنسيج إن الأجهزة الإلكترونية سوف تحل محل عشرة آلاف عامل على مدى ثلاث سنوات.
وهناك قطاعات أخرى عرضة للتهديد، بما في ذلك صناعات الأدوية والمشروبات والأغذية والأمن والخدمات اللوجستية. ويقول موهانداس باي، المدير التنفيذي السابق لشركة إنفوسيز، إنه من غير المرجح أن يؤثر التشغيل الآلي للشركات والمصانع على المهن التي تتطلب مهارات عالية، مثل المهندسين المعماريين أو المبرمجين ذوي المستوى العالي، أو حتى الوظائف الدنيا في مجال الخدمات مثل المطاعم ومحال الحلاقة. ويضيف: "الوظائف التي تقع في الوسط هي المهددة، مثل العمل في البنوك والمكاتب والمصانع".
"تقويض" الطبقة المتوسطة
وأشار تقرير النمو العالمي الصادر عن البنك الدولي عام 2016 إلى وجود توجه عالمي نحو "تقويض" القوة العاملة. فبينما تعمل التكنولوجيا على تبسيط العمل المعتاد، فإن المهن متوسطة المهارة، مثل العاملين في المكاتب ومشغلي الآلات، تتناقص، في حين يزداد الطلب على المهن ذات المهارة المنخفضة والعالية.
وتعد هذه مشكلة كبيرة في الدول النامية مثل الهند. وتقول إنديرا سانتوس، كبيرة الإقتصاديين في البنك الدولي، إن المهن ذات المهارة المتوسطة هي السبيل نحو التخلص من الفقر. لذلك، فإن هذا التغير سوف يؤثر على المجتمع ودخول الأفراد.
وأشار التقرير إلى أن سحب البساط من تحت أقدام الطبقة المتوسطة يمكن أن يكون له آثار مدمرة في دولة نامية كالهند.
وعلاوة على ذلك، هناك سبب آخر وراء اعتماد الشركات على التكنولوجيا الجديدة. يقول سونيل ماثور، المدير التنفيذي لشركة سيمنز في الهند: "التشغيل الآلي أمر حيوي لتحسين القدرة التنافسية والجودة والكفاءة". ويساعد ذلك على منافسة الواردات الرخيصة وتعزيز الصادرات وزيادة الطلب المحلي، وبالتالي خلق فرص عمل جديدة.
ويتفق مع ذلك ساماي كوهلي، الذي شارك في تأسيس شركة غراي أورانج للروبوتات، إذ يقول: "ينبغي أن تحل الآلة محل الإنسان لكي نتمكن من المنافسة عالميا. فإذا لم نحسن من بنيتنا التحتية وإنتاجيتنا، لن تكون لدينا فرصة للمنافسة على المستوى العالمي".
ويقول كوهلي إن روبوت "بتلر" الذي تصنعه الشركة بإمكانه أن يرتب نحو 600 طرد في الساعة، في حين لا يستطيع العامل سوى ترتيب مئة طرد فقط، وهذه كفاءة كبيرة في بلد تصل فيه تكلفة سلسلة التوريد لضعف مثيلاتها في البلدان الغربية.
يقول كوهلي إن المعدل السنوي لانتقال العاملين في مجال التخزين يصل إلى 300 في المئة، إذ يأتي الهنود من المناطق الريفية للبحث عن دخل أفضل، لكن الأعمال الشاقة والأجور المتدنية وتكاليف العيش في المدينة تعني أنهم لا يستمرون لفترة طويلة. أما العامل الآلي أو الروبوت، فمن الصعب أن يتأثر بهذه العوامل.
ويقول سريرام راغافان، رئيس شركة "آي بي إم ريسيرش إنديا" للأبحاث، إن التشغيل الآلي عادة ما يعمل على سد الثغرات في البلدان النامية مثل الهند، وليس العمل مكان العنصر البشري. ففي الهند، يوجد نقص في عدد الأطباء يصل إلى 330 ألف عن الحد الأدنى الذي توصي به منظمة الصحة العالمية، لكن راغافان يقول إن التشغيل الآلي يمكن أن يسد ذلك العجز في نقص المواهب.
وتكمن مشكلة العاملين في مجال تكنولوجيا المعلومات من أمثال رافي في أن التشغيل الآلي يجتاح مجالات لا يوجد بها ثغرات تحتاج إلى سد. ويقول باي إنه لدى الهند الوقت الكافي مقارنة بالدول المتقدمة، حيث تظل الأيدي العاملة أرخص من التشغيل الآلي لعقود قادمة، علاوة على أن الحاجة الهائلة لتطوير البنية التحتية والخدمات يمكن أن تؤدي إلى توفير فرص عمل كثيرة.
لكن تقرير البنك الدولي يؤكد على أن هناك صراعا متزايدا بين المهارات والتكنولوجيا، وأن بلدانا مثل الهند يجب أن تتحرك الآن لكي تحصن مستقبل سكانها.
اضف تعليق