بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)([1])
ويقول جل اسمه: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)([2])
كان الحديث حول (الأمة الواحدة) كإطار عام وعن (الامة في الأمة) كإطار خاص، والآية الكريمة الأولى تشير الى الامة الواحدة (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) اما الآية الثانية فتشير الى الامة في الامة (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) والحوزة العلمية هي المصداق الابرز والاجلى والاقوى على مر التاريخ للامة في الامة.
فكان لا بد استناداً لذلك من ان تبحث العلاقة بين الحوزة العلمية وبين سائر شرائح الامة: علاقتها بالجامعات، علاقتها بالدول، علاقتها بالسلطات، علاقتها بالجماهير وعامة الناس، وعلاقتها بمختلف مؤسسات المجتمع المدني من عشائر واتحادات وجمعيات وايضا مساجد وحسينيات وغير ذلك.
وقد مضى شطر من الكلام حول الآيتين الكريمتين، وسنكمل ببعض البصائر الاخرى:
البصيرة الاولى: الأمة ممزقة فكيف قال تعالى: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً)؟
نبدأ بتدبر قراني في الآية الكريمة: في كلمة (الامة) هنالك قراءتان: احداهما، وهي المشهورة، بالنصب على انها حال.
والقراءة الثانية، وهي غير المشهورة، بالرفع على انها خبر بعد خبر.
وعلى القراءة المشهورة يكون المعنى (وان هذه امتكم حالة كونها امة واحدة...)، وعلى القراءة غير المشهورة يكون المعنى (وان هذه امتكم امةٌ واحدة) وعلى كلتا القرائتين فان (هذه) مبتدأ و(أمتكم) خبر.
ولكن: قد يستشكل البعض بالإشكال التالي: ان الآية بكلتا القراءتين والمعنيين غير مطابقة للواقع؛ لان الوجدان قاض بان الامة ليست واحدة بل هي متفرقة شيعا واحزابا، بل ان الآيات الكثيرة تصرح بالاختلاف والتشتت ومنها الآية اللاحقة وهي: (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)([3]) فالأمة الإسلامية ليست واحدة اذ هي منقسمة الى قسمين: الى شيعة أهل البيت (عليهم السلام) وغيرهم، وكل من القسمين منقسم الى عدة مذاهب وطوائف قد يصل مجموعها الى اثنين وسبعين فرقة كل فرقة منها تدعي انها في الجنة وغيرها في النار.
وهذا الاشكال قد يجاب عنه بعدة وجوه:
الآية إخبار في مقام الإنشاء
1) ان يقال بان هذا اخبار في مقام الانشاء، وليس خبراً كي يقال بانه لا يطابق الواقع، فالجملة خبرية ولكن يراد منها الانشاء كما في جملة (لا ضرر ولا ضرار في الاسلام) فهي وان كانت خبرية في ظاهرها إلا ان الأخبار غير مراد منها لوضوح وجود الضرر والضرار خارجاً في الإسلام([4]) فالمراد بها الإنشاء وهو اما بمعنى النهي كما ذهب إليه شيخ الشريعة الاصفهاني أو بمعنى النفي المراد به نفي الحكم بلسان نفي موضوعه أو غيره، على الأقوال.
فيكون معنى قوله تعالى: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) أي يجب ان تكونوا امة واحدة.
وهذا الوجه لعله بعيد عن ظاهر الآية إلا أننا نذكره من باب الاحتمال.
المراد بالأمة الواحدة آل محمد (صلى الله عليه وآله)
2) ورد في بعض الروايات في تفسير هذه الآية (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) قال (عليه السلام): هم آل محمد (عليهم السلام) وعلى هذا فلا يرد الإشكال أصلاً إذ لا شك في ان آل محمد (عليهم السلام) هم أمة واحدة، وهم الأئمة الأطهار (عليهم السلام) ويلحق بهم من حام حولهم من الحواريين والاصحاب المخلصين.
وقد سبق ان قلنا: ان هذه الروايات تقوم بالتفسير بأظهر المصاديق([5]) ولم ترد الحصر.
والحاصل: انه ان قلنا بالحصر فانه يندفع الاشكال من رأس، وان قلنا بانها من باب اظهر المصاديق فان الاشكال باق في سائر الدوائر والمصاديق، ونحتاج الى جواب اخر مكمّل.
المراد الأمة الواحدة في بعض الجهات
3) لقد سبق ان ذكرنا الآراء في تفسير الآية الشريفة وقلنا: ان المفسرين فسروا الآية بوجوه ثلاثة ونحن اضفنا لها اثنين فأصبحت خمسة، وعلى الوجوه الخمسة فان الإشكال أيضاً مندفع لان الكلام – على كل تلك الوجوه - ليس على المعنى الحقيقي بل هو منصب على المعنى المجازي إذ لا يراد الوحدة الذاتية كي يرد هذا الاشكال بل يراد الوحدة الاضافية او فقل: الوحدة على حسب بعض المتعلقات.
أي (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً): من حيث النشأة، او من حيث القيادة، او من حيث الملة والشريعة، او من حيث الهدف وغير ذلك.
إذن لا يراد بالوحدة هنا (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) الوحدة على إطلاقها بل يراد بها ابعاد خاصة محددة وهي ما اشرنا اليه وهي كلها صحيحة مطابقة للواقع.
مآل الآية إلى قضية شرطية
4) ان مآل ذلك الى قضية شرطية، فان الآية لم تقل (وان هذه الامة امة واحدة) فلو قالت هكذا وكان القصد عموم الامة الاسلامية لكان الاشكال بحاجة الى جواب.
بل قالت (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ) فالمحور هو (أمتكم) وليس (الأمة) أي أمة الرسل هي أمة واحدة لا الأمة عامة، أي انه بقرينة الاضافة أي إضافة الضمير الى الامة تؤول الجملة الى قضية شرطية يترتب عليها انه لو لم تكونوا امة واحدة فلستم امة الرسل، والقضية الشرطية هي: كلما كانت أمتكم كانت امة واحدة، لكنها ليست امة واحدة فهي ليست أمتكم فان نفي التالي ينتج نفي المقدم.
فهنا استعنا على إعادة القضية الحملية الى قضية شرطية بقرينة داخلية في الآية الشريفة، وذلك هو الوجه في ارتكاب خلاف الظاهر فلا يرد في المقام ما أوردناه على الميرزا النائيني إذ اعاد القضايا الحملية إلى الشرطية مطلقاً فانه بلا دليل وخلاف الظاهر المتفاهم عرفاً.
توضيح ذلك بالمثال: لو قال قائل: جماعتي المتقون([6]) فهو ينفي كون غير المتقين من جماعته إذا توهم البعض ان جماعته هم جمهرة من الناس فيهم المتقي وغيره.
ولو جرينا على مجرى الآية لقلنا: إن هذه جماعتي مثقفةٌ ومثقفون([7]) او مثقفةً والمثقفين او مثقفين([8]) فقد اخرج غير المثقفين من دائرة جماعته.
2) البصيرة الثانية: الواقع الخارجي للأمة الإسلامية
من الواضح ان الله تعالى أراد تحقيق الامة الواحدة وقد أمر بها وكذلك رسوله (صلى الله عليه وآله) والأوصياء (عليهم السلام)، وهو أمر بديهي يتطابق مع مقتضى الحكمة وآراء العقلاء، ولكن يجب ان نطرح السؤال التالي باستمرار وبإلحاح:
هل الأمة الآن أمة واحدة أم هي متجزئة مبعضة؟
من الواضح ان هناك الكثير من الحواجز والحدود السدود والكثير من عوامل التجزئة والتناحر والتحارب والفتن والمحن تعصف بالأمة كأشد ما يكون.
لو كانت الامة الاسلامية أمة واحدة فهل كان يمكن ان تقف أمامها وتتحداها أمة من الامم؟ كلا لا يمكن ذلك، بل هل كانت ذليلة محطمة كما هي عليه الآن؟
ولو انهم تركوا لأمير المؤمنين (عليه السلام) زمام الامر لما تقدمت الأمم الاخرى علينا ولما وجد فقير واحد او مظلوم أبداً على وجه البسيطة، وكانت الحياة التي وعدناها في أيام الإمام المهدي المنتظر (عليه السلام) ستتحقق منذ زمان حكومة أمير المؤمنين (عليه السلام) ولكن حدوث الانقلاب الاول كان هو السبب الاول والأساس في جري الأمة منقلبة على اعقابها وحرمانها من التقدم والازدهار وبركات السماء والأرض وابتلائها بشتى أنواع المصائب والويلات إلى ما شاء الله تعالى.
أجراس الإنذار الداخلية ضد الوحدة الإسلامية!
والغريب حقاً ان الغرب من جهة والشرق من جهة أخرى والجهل من جهة ثالثة والشيطان من جهة رابعة، زرعوا في دواخلنا جرس انذار داخلي ضد (الأمة الواحدة) رغم صراحة الآيات بالدعوة الى الوحدة وكذا الروايات والاخبار المتظافرة في توحيد الامة حول راية القرآن والعترة (عليهم السلام).
هذا الجرس الداخلي يدق بعنف كلما مال فريق او طائفة الى الوحدة إذ تسمعه يدق عاليا لتنهار الآمال وتزداد الفرقة توسعا كلما لاح في الأفق عامل اعتصام بحبل الله وتوحد تحت راية (لا إله إلا الله محمد رسول الله علي ولي الله).
ولذا علينا إذا كنا جادين في السير نحو الأمة الواحدة التي دعا إليها تعالى (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) ان نتابع بشكل حثيث البحث عن علاج لهذا الجرس الداخلي الخطير وصولاً إلى اقتلاع جذور الانانية والجهل وسائر بواعث التفرقة ومن أهمها وساوس الشيطان الرجيم.
أجهزة الإنذار بالأشعة تحت الحمراء
وحيث ان تشبيه المعقول بالمحسوس، يعد من أهم طرق إدراك المعقول بشكل أفضل وللاحساس به بشكل أكمل ومن ثم معرفته بشكل أفضل والقدرة على التعاطي معه وعلاجه بالأسلوب الأمثل، نضرب المثال التالي:
هناك الكثير من المنازل او المزارع او الشركات والمحال تعاني من خطر السرقة ومشكلة اللصوص، ولقد كانت في السابق طرق عديدة للحماية ومنها وضع الاسلاك الشائكة التي تحيط بالمحل المراد حمايته، الا ان هذه الطريقة لم تعُدْ تجدي نفعا مع الكثير من اللصوص اذ يمكن للصوص مشاهدتها بوضوح ثم يمكنهم ان يقصوا الاسلاك بآلاتهم الخاصة.
لكن العلم الحديث تطور ليتجاوز هذه المشكلة فصنعوا أجهزة لاسلكية تعمل بالأشعة تحت الحمراء ونطاق الأشعة هذا غير مرئي للصوص او غيرهم فبمجرد دخول اللص إلى المنطقة المحددة يصدر الجهاز سارينة قوية جدا وصوتاً عالياً مرعباً يملأ المنطقة وفي نفس الوقت يتصل هذا الجهاز بستة ارقام ارضية ونقالية منها اقرب مركز للشرطة ومنها صاحب البيت وغير ذلك ويترك لهم رسالة صوتية مسجلة تنذرهم بالهجوم. كما ان هناك اجهزة اخرى اكثر تطورا الا اننا اشرنا الى الشائع منها.
وكما صنع العلم في العالم المادي من إنتاج أجهزة الإنذار المتطورة، كذلك حاول الاستعمار والشيطان في عالم الإنسان تصنيع وزراعة جرس الانذار الداخلي في ذواتنا من الوحدة الإسلامية الحقيقية الحقة وحاول تحويلها إلى فرق متناحرة وجماعات متشرذمة حتى أصبحنا مصداقاً لما قاله تعالى: (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)([9]).
ومن يلاحظ قوائم المنع المتنوعة والكثيرة بل وشبه الشاملة سيجد بوضوح صحة ذلك كله!:
من عوامل وآليات ونماذج تمزيق الأمة الإسلامية
فمن الحدود الجغرافية السايكوبيكية الى الهوية والجنسية الى المكوس والكمارك والضرائب وإلى الويزا ورخصة البناء.. إلى غير ذلك
وقائمة الممنوعات طويلة الذيل ولا تقف عند حد بل في كل يوم يمضي يضع المشرعون الوضعيون قوانين كابته تحدّ من حركة الناس وتقوم بتقييد حرياتهم أكثر فأكثر.
ومن ذلك سن قانون منع المظاهرات والإضرابات والاعتصامات السلمية إلا بموافقة وزارة الداخلية! ثم انهم يبررون سنّ هذه القوانين بألف عذر وعذر!، والغريب حقاً اقتناع الكثير من الناس بضرورة هذه القوانين الكابتة وتحولهم إلى حماة لها!
وكشاهد على ذلك: اذا أجرينا استبيانا في بعض جامعاتنا حول الغاء الحدود الجغرافية والجواز والجنسية والهوية مثلاً لرأينا ان الغالبية من الشباب الجامعي لا تؤيد ذلك بل تعتبره امرا خاطئا مبررين ذلك بالحفاظ على أمن البلاد وما اشبه، مع ان كل هذه القيود من البدع التي يقارب عمرها المائة سنة أو أقل أو أكثر ولم يأتِ بها الإسلام ولم تكن موجودة حتى في عهد خلفاء الجور بعد عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لكنهم – مع الجهل والشيطان – زرعوا فينا أجهزة إنذار داخلية ضد كل ما هو وحدوي وضد كل ما يسبب تلاحم الأمة وتقارب أجزائها وشرائحها حتى نكون نحن أول الصارخين ضد أية محاولة تقريبية تهدف إلى إلغاء القيود الكابتة وعوامل التفرقة والتشتيت والشرذمة!
كما ان العديد من الوزارات في الحكومة ليست إلا عبارة عن أجهزة عملاقة مهمتها تقييد حريات الناس وان عللوها بان مهمتها حفظ النظام وتنظيم الأمور إذ ما ذلك، في أكثره بل في جوهره إلا تقييداً لحريات الناس.
بدعة وزارة الشعائر!
وفي فترة من الفترات في العراق ارادوا ان يستحدثوا وزارة باسم وزارة الشعائر وهي وان كانت فكرة قد تبدو جيدة لأول وهلة إذ كان المطروح ان القصد منها هو خدمة الزائرين.. لكن في الحقيقة لم تكن تعدو في جوهرها إلا محاولة للسيطرة على الشعائر وتقنينها حسب الطريقة التي يرون، وذلك لان الحكومات بطبعها تميل الى تمركز القدرة والسيطرة وان تكون القوة ومجاري كافة الأمور بيدها لا غير، وذلك لا ينفي ان يكون بعض من طرح هذا المقترح إنما طرحه لحسن نية كي تخدم الحكومةُ الزائرينَ والسائرينَ، ولكنه غفلةٌ عن مآلات الأمور وان الحكومة بطبعها تميل لإعمال القدرة والقوة لا للخدمة!
بدعة وزارة العائلة!
ولو فرضنا انهم فكروا ان ينشئوا وزارة باسم وزارة العائلة (ونحمد الله تعالى انهم لم يفكروا في ذلك أو فكروا ولم يطرحوه!) فما الذي سيحدث حينئذٍ؟ فانها قد تبدو فكرة انيقة لكن حقيقتها قبيحة إذ الذي سيحدث ليس خدمة العوائل، إلا هامشياً، بل الذي يحدث هو فرض المزيد من القيود بعنوان المصلحة، مثلاً: فرض تحديد النسل بألف عذر وعذر اقتصادي ونفسي واجتماعي! مثلا مع ان الله يقول (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ)([10]) في إدانته تعالى للكفار الذين كانوا يقتلون أولادهم خشية إملاق.
ثم سترى هذه الوزارة تتدخل في باقي الامور الشخصية مثلا: من تتزوج؟ ولماذا تتزوج؟ وكيف تتزوج؟ وفي أية سن تتزوج؟ إلى غير ذلك.
مع انهم الآن بالفعل ومن دون وجود وزارة فكيف لو استحدثوا وزارة لذلك، يتدخلون في كثير من قضايا الزواج والطلاق حتى ان العقد الشرعي عند رجل الدين او طلاقه غير معترف به في هذه الحكومات أصلاً! في حين ان الأصل ان الرجل والمرأة لوحدهما يمكنهما ان يجريا عقد الزواج أو يوكّلا في ذلك، او ان الزوج بحضور شاهدين فقط يمكنه ان يجري الطلاق، ولكن التعقيد بل والتقييد الحكومي وصل الى حد عدم قبول زواج وطلاق رجال الحوزة العلمية مع مالهم من المكانة الاجتماعية والدينية!!
ان المشكلة الجوهرية هي: ان الدولة تعتبر نفسها هي الرئيس وهي القائد كما هي المشرّع والموّجه!! بل: وهي الأول والاخر!
والمشكلة الأعظم هي ان هناك جرس انذار داخلي في دواخلنا ينذر من أي عمل وحدوي يريد الغاء هذه الحواجز والقيود التي ما أنزل الله بها من سلطان.
جماعتنا اول المعارضين لتغيير المناهج الدراسية!
قبل فترة زارني احد الشخصيات الرسمية المعروفة فكلمته حول المنهج الدراسي المتداول في المدارس وان كثيرا منه لازال مستوحى من منهج اللانظام السابق فقال: ان المشكلة ان جماعتنا اول المعارضين فان كثيراً من الاكراد وأهل السنة موافقون على التعديل وتغيير المنهج (في التاريخ والتربية) بما يلائم معتقدات الأكثرية، ولو بان يكون هناك منهجان: للأكثرية والأقلية فكلٌ وما اعتقده وما اختاره! كما انه يوجد في لبنان ثلاثة عشر منهجاً دراسياً!
وسيأتي في البحث القادم أيضاً: ان من الاخطار الحقيقية ان تكون الجامعات حكومة، بل الصحيح والواجب ان تكون اهلية او مُموّلة من الحكومة لكنها مستقلة عنها تماماً كما سيأتي لاحقاً بإذن الله تعالى، ومن المآسي حقاً ان يكون وزير التعليم العالي الذي تعينه الحكومة هو من يقرر ومن يمنهج ومن يعود إليه – بالمآل – تعيين أو الإمضاء على تعيين أساتذة الجامعة أو عزلهم.
بين السلطات والحوزة العلمية
إن الدول تحاول ان تسيطر على كل شيء وان يكون كل شيء بيدها، ولو استطاعت ان تسيطر على المرجعية الدينية والحوزة العلمية لفعلت، بل ان بعض الدول الإسلامية بدأت أخيراً بفرض قيود على طبع الرسالة العملية للمجتهد فلا يسمح له إلا بإجازة خاصة من إحدى مراكز القوى معللين ذلك بان تلك الجهة لا بد ان تحرز اجتهاد صاحب الرسالة! ومشترطين عليه سراً ولائه لمن بيده القرار والسلطات كافة! فكان الحاكم يريد ان يقول للمجتهد: اذا أردت ان تكون مرجعا فعليك ان تستأذنني وان تسير وفق المخطط والمنهج الذي أحدده لك!
استقلالية الحوزات العلمية
إن شرط بقاء الأمة الإسلامية امة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) هو استقلالية الحوزات العلمية كي تكون قادرة على تصحيح مسار الأمة والعمل بقوله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ)([11]) وذلك لانها الامتداد الحقيقي لمدرسة الإمامين الصادقين (عليهما السلام) وسائر الأئمة المعصومين (عليهم السلام) وصولا الى الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله).
ولقد قاوم العلماء على مر التاريخ محاولات السلطات لإخضاع الحوزات الى جانبهم ولقد قدموا من التضحيات لأجل توفير الضمانات لذلك الشيء الكثير.
منهج خطير لاستدراج الحوزات إلى شباك السلطات
لكنّ بعض الدول أخيراً انتهجت منهجية خطيرة جداً لإخضاع العلماء والحوزات العلمية بطرق ذكية بعيدة المدى قد لا تظهر للأعين نتائجها البعيدة المدى، وكان من ذلك السعي لبذل الأموال لرجالات الحوزة وطلابها، ومن مصاديق ذلك بذل الرواتب للطلاب وتوفير الضمان الاجتماعي لهم وأنواع من حق التأمين، لكن ذلك كله مما ظاهره الاحسان الا ان باطنه الاستعباد على المدى البعيد وربط الحوزة مالياً بأجهزة الدولة ولذا قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "احْتَجْ إِلَى مَنْ شِئْتَ تَكُنْ أَسِيرَهُ وَاسْتَغْنِ عَمَّنْ شِئْتَ تَكُنْ نَظِيرَهُ وَأَفْضِلْ عَلَى مَنْ شِئْتَ تَكُنْ أَمِيرَه"([12]).
ولذا نجد ان المراجع العظام في الحوزة العلمية المباركة رفضوا هذا المقترح عندما طرحته بعض قيادات وأجنحة الحكومة العراقية في بداية أمرها، وهو قرار حكيم من قبل المرجعية لأن الأموال وان لم تكن للدولة بل هي لعامة الناس بل ان أمرها منوط بإجازة الحاكم الشرعي الا انها حيث كانت بأيديهم وبيدهم العطاء والمنع والمقدار والكيفية والحدود والضوابط فان ذلك يعد تمهيداً طبيعياً كي يملوا علينا غدا شروطهم وآرائهم وقراراتهم.
الحكومات تفرض سلطتها على المساجد
إن المطلوب والضروري حقاً هو توفير ضمانات الاستقلالية في كل أمر وركن وموقع بالنسبة الى الحوزة العلمية ومن ذلك أيضاً (المساجد) فانها يجب ان تكون مستقلة غير خاضعة لوزارة الأوقاف ولا غيرها، فان (المساجد) هي نافذة العلماء لقول كلمة الحق والهداية والارشاد والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن الواقع الخارجي يكشف –للأسف الكبير– عن ان اغلب الدول تتحكم بحركة المساجد فانها هي من تعين الائمة فيها بل ان عددا من الدول الإسلامية([13]) توزع خطبة موحدة في أيام الجمع على أئمة الجماعات وبإشراف جهاز الاستخبارات!!
فأين وكيف يدعو رجل الدين بعد ذلك الى الخير؟ فاذا كانت الوزارة هي من تعينه وهي من تملي عليه فكيف يدعو؟ وكيف يصرح بالحق الذي يكون غالباً على خلاف إرادة الحكومة؟ انه لا يستطيع عادة ذلك لأنها تتحكم بمصيره وحياته، ولو عارضَ لَفُصِل وأخرج، وبذلك تحاول الحكومات إلغاء العمل بإحدى أهم آيات القرآن الكريم حيث قال جل اسمه: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ)([14]).
ومن هنا نحن نعارض بشدة ان يتوظف رجل الدين في الدولة في أي موقع كان، اللهم إلا لدى الضرورة القصوى التي يحددها مراجع التقليد الكرام، بل لا يصح لرجل الدين ان يعمل حتى قاضياً لدى الدولة لان مردّ ذلك الى سيطرة الدولة عليه وعلى حياته بل انه نوع ركون إلى الحاكم الجائر قال تعالى: (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ)([15]).
إجهاض خطة السافاك الخطيرة للسيطرة على الحوزة العلمية
وقد نقل لي السيد صادق الروحاني (شفاه الله وعافاه): في زمان الشاه أشاع بعض رجال الدين المرتبطين بالحكومة في أوساط الحوزة العلمية في قم المقدسة ان الشاه فكر كثيرا فرأى ان من الضروري إنصاف رجال الدين والحوزة العلمية وانه على الاقل ينبغي ان يكون القضاء بيد رجال الدين حتى يمكنهم تطبيق الشريعة الإسلامية الغراء!
ثم جاء الخبر عبر ممثلين رسميين بان الموافقة قد حصلت على ان يكون رجال الدين المجتهدين قضاة في المحاكم الحكومية وبراتب مغري يصل الى (2500%) من الراتب الطبيعي للمعلم!!
ولقد كانت الخطة ماكرة حقاً إذ كان الهدف ان يضعفوا الحوزة ويفرغوها من المجتهدين من جهة وان يتحوّل القضاة – بالتدريج – إلى لِبنات في بناء الدولة وجنود لها بعد ان ذاقوا طعم الأموال الكبيرة والمنصب والقوة والمكانة!!
وبالفعل سجل اكثر من (200) شخص اسمائهم ليعملوا قضاة في المحاكم!!
لقد كان الظاهر أنيقاً مغرياً لذا خدع الكثيرون، لكن الباطن خطير جداً إذ هل يمكن للقاضي لدى الشاه ان يحكم بالحق؟ ام انهم هم الذين سوف يملون عليه احكامهم وان رفض قطعوا عنه راتبه الضخم الذي اعتاد ان يأخذه كل شهر!! وفقد أيضاً كل الشهرة والمنصب والمكانة! بل وتعرض أيضاً للملاحقة!
يقول السيد الروحاني: ذهبت الى المراجع الثلاثة الكبار آنئذٍ في قم وهم السيد الكلبايكاني والسيد الشريعة مداري والسيد المرعشي النجفي وعرضت وجهة نظري في هذه الخطة الخبيثة فتداولنا الامر جميعا وصار الاتفاق على ان اصدر حكماً ولائياً يحرّم ان يكون الرجل الدين قاضيا وان يقوم المراجع الثلاثة بدور الإسناد والتأييد، رغم ان ذلك كان يعد مواجهة شبه مباشرة وخطِرة مع جهاز السافاك المخيف الذي كان يقوم برعاية هذا المخطط.
يقول السيد الروحاني: وبالفعل قمت بذلك وأصدرت الحكم الولائي واسندني المراجع الكرام بكل قوة، وبذلك وفقّنا لإفشال ذلك المخطط المشؤوم وانسحب تقريباً كافة الذين سجلوا أسماءهم ليكونوا قضاة وبقي النادر الذي بدأت تطارده اللعنات!
التصدي لمحاولات أزهرة الحوزة
وختاماً: فان أي نحو من أنحاء ربط الحوزة العلمية بالدولة هو خطأ فاحش فادح ولا يجوز ان يتم باي نحو من الانحاء.
بل وأكثر من ذلك فان إنشاء وزارة باسم وزارة الاوقاف يعدّ خطأ وجريمة بحق الاوقاف نفسها والمجتمع الديني ذاته وذلك لان من خلالها يتم للحاكم المستبد السيطرة على جميع الشؤون الدينية عبر أجهزته المعروفة. والحديث عن ذلك يستدعي مجالاً آخر قد نوفق له لاحقاً إذا شاء الله تعالى.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
اضف تعليق