بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى، محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولا قوه إلا بالله العلي العظيم.
يقول تعالى: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ)([1])
وفي اية اخرى (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ)([2])
أفعال الله وصفات العبد ووظائفه
هاتان الآيتان تكمل احداهما الاخرى في اللوحة العامة التي يمكن ان ننظر عبرها الى فعل الله سبحانه وتعالى وإلى صفات العبد ووظائفه في الوقت نفسه.
ففي الايتين الشريفتين فعلان لله تعالى، وثلاث صفات للعباد، واربع ادوار ووظائف.
اما الفعلان فهما:
1) الجعل التكويني.
2) الوحي التشريعي.
ان قوله تعالى (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً..) وقوله (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً..) يشير الى الجعل الالهي التكويني، ولا مجال للغير ان يرقى الى مساحة هذه الدائرة، وذلك كقوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)([3]) فانه جعل تكويني. وكقوله تعالى: بعد ان أتمّ ابراهيم (عليه السلام) الامتحان: (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا)([4])، فان الكل جعل تكويني كما هو واضح. ولنا حول الجعل التكويني كلام مطول نتركه الى فرصة اخرى ان شاء الله تعالى.
اما الفعل الاخر لله تعالى وهو الوحي التشريعي فهو ما تشير اليه الآية (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ...)
وهذان الفعلان الإلهيان يتعلقان بالأنبياء والأوصياء، واما الصفات الثلاثة والافعال الأربعة فانها في درجاتها العليا مختصة بهم (عليهم السلام) بلا شك، ولذا فان الاصطفاء الإلهي مختص بهم (عليهم السلام)، اما ما عدا الدرجة العالية الخاصة بهم أي الدرجات النازلة على حسب مراتب الاولياء والناس بشكل عام فانها مرتهنة بالسعي العقلي والفكري وجهاد النفس وتهذيبها وبلطف الله تعالى أيضاً.
المواصفات الجوهرية الثلاثة
والصفات الثلاثة الجوهرية هي:
1) اليقين: قال تعالى: (وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ)([5])
فبحسب درجة اليقين يكون العطاء الالهي، وحيث ان يقين الانبياء لا يرقى اليه يقين بل ولا يمكن ان يرقى اليه يقين أي مخلوق آخر، لذا خص الاصطفاء الالهي بهم (عليهم السلام)، اما الاخرون فعلى حسب الدرجات فان الله تعالى يعطيهم مراتب لاحقة من القيادة غير الامامة بالمعنى الاخص فانها مختصة بمن اصطفاهم الله تعالى كما هو مبرهن وواضح.
والحاصل: انه باليقين تنال الدرجات الرفيعة وكلما زاد اليقين زادت درجة ومقام العبد عند الله تعالى، والملاحظ ان بعضنا عندما يلتقي بمختلف أنماط الناس ويواجه توجهاتهم وافكارهم المتنوعة، كالشيوعي او المسيحي او الهرمنيوطيقي او الدهري او غيرهم، فانه بمجرد ان يلقي عليه احدهم شبهة فان يقينه يهتز وعقيدته تتزلزل، وهذا يعني ان يقينه، إن كان له يقين أصلاً، لم يكن متجذراً أبداً.
وقد رأيت بعض الباحثين قد كتب كتابا للبرهنة على صحة القياس معرضا عن كل الروايات الواردة عن ائمة الهدى (عليهم السلام) في ذمه ودفعه، وما ذلك الا لشبهة في ذهنه القاها اليه بعض العامة، وهي شبهة قديمة وليست جديدة سبق ان ردها الائمة والعلماء من المذهب الحق واشبعوها بحثاً وأجوبة: "إِنَّ دِينَ اللَّهِ لَا يُصَابُ بِالْعُقُولِ النَّاقِصَة..."([6]).
ان من اولى مهامنا كرجال دين وكذا المؤمنين بصورة عامة هو السعي للحصول على مرتبة اليقين وتوفيره في النفس حتى يكون كل منا كالجبل الشامخ لا تحركه العواصف ولا تزعزعه القواصف، وذلك لان الشبهات كثيرة وبعضها لا يمكن لكل احد ان يجيب عليها بالبداهة أو استناداً إلى ذخيرته المتواضعة من علم الكلام الا ان المؤمن ينبغي ان يكون سلاحه: اليقين.. (وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ)([7]) فمن عرف الله تعالى منه صدق يقينه فسيمنحه الدرجات الرفيعة.
2) العبادة: وهو ما تشير اليه الآية: (وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ)([8])
وبحسب درجة العبادة والعبودية لله تعالى يكون العطاء الإلهي أيضاً ولذا نشهد بـ(وأشهد ان محمداً عبده ورسوله) ولذلك فان على كل رجل دين او أي شخص اخر يحظى بموقع متقدم في المجتمع ان يكون من العابدين وليس من الصحيح ان يشغله العمل او حتى العلم عن ان يكون عابداً أيضاً أي عن العبادة الحقة الخاشعة الصادقة لله تعالى.
وهناك من العلماء من يرجح العلم على العبادة المستحبة مطلقاً لكننا لا نرى صحة ذلك على إطلاقه؛ لان العبادة تشكل نوع ضمانه للانسان عن الانحراف والانغماس في الأهواء والشهوات بينما العلم لا يشكل الضمانة، بل انه سلاح ذو حدين.
وكم رأينا من اناس مختصين في مجال عملهم وهو علماء فيه كالسياسيين ورجال الاعمال والاطباء وغيرهم وحتى بعض من يسمون بالعلماء بمجرد ان تلوح لهم لوائح الدنيا والرياسة أو الشهرة او المال الوفير فانهم ينسون الخالق والمخلوق بل ينسون حتى أنفسهم فيكبون على زخارف الدنيا المقبلة عليهم ولا يهمهم بعد ذلك ان يسحقوا مبادئهم وثوابتهم.
لذا فان من الأساسي جداً على كل رجل دين او سياسي او قاضي او طبيب او غيرهم ان يعطي حيزا كافيا من وقته للعبادة والخلوة بربه ومناجاته والتبتل اليه؛ لان الآية الكريمة (...وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ)([9]) لم تذكر العبادة في طليعة صفات الأنبياء بدون كونها في الدرجة القصوى من الأهمية وكونها من علل اختيارهم (أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا).
فعلى كل مؤمن ورسالي وعالم ومفكر وطبيب ومهندس ووزير أو نائب وغيرهم ان يراقب نفسه دوماً فهل هو بالفعل عابد؟! ام انه يعبد الله بالحد الادنى الادنى الذي لا يكاد يذكر او يرى؟! و(بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ).([10])
والمؤسف ان الاكثر ليسوا عبّاداً ولذا لا يمتلكون الحصانة الكافية من ان تزل أقدامهم في المنعطفات الخطيرة: منعطفات حب الشهرة او حب الرياسة او حب المال او النساء او غير ذلك.
ان العبادة مقومة لمرتبة الإمامة العظمى للأنبياء والأئمة (عليهم السلام) فكيف بالقائد العادي لبلد او جماعة او مسجد او مركز او أي وظيفة او دور اخر.
ومن العبادة الذكر والتسبيح، كالالتزام بألف مرة (لا اله الا الله) في اليوم والليلة، وقد كان السيد الوالد (قدس سره) ملتزم بذلك في كل ليلة مع انه كان جمّ النشاط كثير العمل وفير التأليفات شديد الاهتمام بمشاكل الإسلام والمسلمين وشؤونهم وهمومهم ومتابعاً لهم على مدار الساعة كما هو معروف منه، بل انه كان كلما سمع خبرا سيئا أو مصابا نزل بأحد المسلمين في أقصى بلاد الله الواسعة يتألم كثيرا ويحترق في داخله. (ونحن قد نتأثر نظريا لما يجري من حولنا لكننا عاطفيا قد لا نهتز لكنه (قدس سره) كان يهتز من أعماقه) ورغم كل ذلك الا انه (قدس سره) كان يرى ان للعبادة دوراً كبير واساسي في تسديد الله تعالى لأفعال الانسان وتخطيطه لذلك كان ملتزماً بأنواع متعددة من العبادة منها ما ذكر.
3) الصبر:
وقد قسم علماء الاخلاق الصبر الى اربعة اقسام: الصبر على الطاعة، وعن المعصية، وعلى المصيبة، وعلى الاخوان. وكل واحد منها له جهات مختلفة، والانبياء حازوا على المرتبة العالية جدا منها.
فالطاعات والعبادات والخمس والزكاة والحج والجهاد في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومواجهة الحكام الجائرين كلها تحتاج الى الصبر والمصابرة، وهذا هو الصبر على الطاعة.
كما ان ترك الحرام كالكذب والغيبة والسباب والفساد والإسراف والتبذير ونظائرها يحتاج الى روح صابرة ومراقبة دائمة، وهذا هو الصبر عن المعصية.
وقد كتبت كتابا اسميته (سوء الظن في المجتمعات القرآنية) وقد استغرب البعض من هذا العنوان فكأنه جمع بين الضدين لان المجتمعات القرآنية لا يتطرق إليها سوء الظن!
لكنني اجبته ان فكرة الكتاب هي ذلك بالضبط وهو ليس بالغريب بل الغريب تحقق هذا العنوان (سوء الظن) وانتشاره في المجتمعات القرآنية فهو كقولنا (الغيبة في المجتمعات القرآنية) أو (الربا) أو ما أشبه.
والحاصل: ان المجتمع القرآني اذا تسربت اليه الغيبة مثلا فان نفس كونه مجتمعا قرآنيا يجب ان يكون طاردا لجريمة الغيبة وهكذا جريمة سوء الظن بالآخرين ايضا، لكنه ليس كذلك أفليس هذا بالغريب؟، وعليه فانه ينبغي ان لا تتسرب هذه المنكرات الى المجتمع الذي يحمل القرآن بين جوانحه ويتلوه ليله ونهاره!
فالصبر بكل اقسامه الاربعة وجهاته الاخرى، لهو من الصفات المفتاحية التي ينبغي ان يتصف بها المؤمن بشكل عام ومن يظن انه سوف يتسلم مسؤولية ما بشكل خاص.
ولا بد ان نضيف قسما خامسا وهو الصبر على الفضائل كفضيلة الشجاعة او الوفاء او الكرم او غير ذلك، فان من الصعوبة بمكان ان يبقى الانسان محافظا على تلك الفضيلة الى اخر عمره وتحت كل الظروف والمعاكسات وفي كل الاوقات.
فالشجاعة والكرم مثلا لهما لوازم كثيرة صعبة جداً والصبر عليها صعب يحتاج الى ترسيخ ملكة الصبر في النفس وهكذا كل الفضائل الاخرى والتي منها اصلاح ذات البين وما أصعبه إذ كل طرف يعتب على المصلح ويضغط عليه كي يأخذ جانبه فبقاؤه على الحياد مصلحا صعب جداً، وكذلك التواضع، فان الكثير من الناس اذا راوا تواضع المتواضع فانهم لا يعتنون به وقد يتعاملون معه باستخفاف؛ لان نفوسهم تحب ان ترى الأعلى مستعليا فإذا وجدوه كأحدهم يتجرأون عليه وقد يهتكون حريمه وهذا ايضا نقصان حظ وسوء تقدير للامور مع شديد الاسف، والحاصل: ان الصبر على التواضع امر أساسي وان كان يفقد صاحبه احيانا رصيده من الهيبة الا أنّ من تواضع لله رفعه الله تعالى.
إلفات: ان اليقين يرتبط بالعقل والفكر، والعبادة ترتبط بالجوارح والقلب، في حين ان الصبر يرتبط بالنفس والروح.
والحديث حول هذه الاية طويل جدا نتركه لمجال اخر.
الائمة (عليهم السلام): تنوع ادوار ووحدة هدف
سيصادف يوم الخامس والعشرين من المحرم شهادة الإمام السجاد (عليه السلام) والسابع من صفر شهادة الامام الحسن (عليه السلام) ثم العشرين منه يصادف اربعين الامام الحسين (عليه السلام).
وبهذه المناسبات الكريمة سيكون الحديث حول الأئمة الثلاثة فيما يرتبط بتكاملية أدوارهم والترابط الجوهري بينها، فماهي أدوارهم (عليهم السلام) في إطار الصورة العامة لقيادة الامة؟.
مراحل: النهضة، ما قبلها وما بعدها
في الإجابة عن ذلك نقول: هناك قضية مهمة قلما نلتفت اليها عمليا بل حتى نظريا، وهي انه في أية مرحلة او ثورة او نهضة او غير ذلك توجد ثلاث مقاطع زمنية:
مرحلة ما قبل النهضة، ومرحلة النهضة، ومرحلة مابعد النهضة
وقد كان الامام الحسن (عليه السلام) قائدا لمرحلة ما قبل النهضة والاعداد والتهيؤ، بينما كان الامام الحسين (عليه السلام) قائدا لمرحلة النهضة، وقد قاد الامام السجاد (عليه السلام) مرحلة مابعد النهضة والثورة.
وهذه المقاطع الثلاثة كمجموع مع مقتضياتها، عادة ما يغفل عنها الانسان: ما قبل، وما بعد المرحلة، ونفس المرحلة، ويعيش فقط في مرحلة مع وما هو فيه الان !
وكمثال على ذلك:
ما بعد الثروة!
قد تأتي الثروة الى شخص ما، وهنا ايضا ثلاث مراحل: مرحلة ماقبل الثروة، وما بعد الثروة، وحين الثروة.
فإذا كان الانسان معدما فقيرا ثم بدأ بالتخطيط والعمل فقد يصل الى مرحلة الثراء فيعيش عيشة الأثرياء إلا انه (ندر) من يخطط لمرحلة ما بعد الثروة؛ لان من الوارد جدا ان يفقد ثروته بخسارة في صفقة كبيرة او بسبب عملية سرقة او غش او تسلط ظالم وما اشبه.. وكذا الثري بثراء أبيه فانه ندر ان يخطط لما بعد احتمالات الخسارة والإفلاس فماهي الاجراءات وما هي الخطط التي اعدها لمرحلة ما بعد الثروة؟ ندر من يفكر بذلك ويحمله على محمل الجد فيخطط له ويستعد.
ما بعد الحكومة والرياسة!
ومثال ثان: الحكومة التي اقيمت في العراق في هذا العصر... فقد كافح المجاهدون في مرحلة (ما قبل الدولة) وناضلوا طويلا الى ان سقط الطاغية، لكن ماذا كانت الخطط المستقبلية التي أعددناها لـ(مرحلة الدولة) وما بعد السقوط؟ للجيش وللزراعة والصناعة وغير ذلك؟ هذا فيما سبق واما الآن والمرحلة (مرحلة الدولة) فاننا لا نعلم الى متى ستبقى هذه الدولة وقد كادت داعش قبل أشهر ان تلتهم العراق كله لولا لطف الله تعالى وهمة المجاهدين والغيارى من اهل هذا البلد الجريح.
والدنيا دولٌ، والدولة الحالية جزء من هذا القدر العام وقد تقصر مدتها او تطول والله أعلم لكنها ستنتهي يوما ما وان طالت بها السنين والايام فماهي الخطط المعدة لمرحلة (ما بعد الدولة؟) هل فكر أحد منا بذلك؛ وهل خطط له؟ وهل أعد واستعدّ؟.
ان الكثير منا –وللأسف الشديد- لا يفكر بذلك اصلا فضلا عن ان يضع الخطط والاستراتيجيات بل تراه يعيش الحالة الراهنة فقط تماما كما هو حالنا – أي الأكثرية الساحقة منا إلا النادر - في مرحلة الطاغية صدام حيث لم نفكر فيما لو سقطت الدولة بأيدينا فما الذي نفعله وكيف نقود الاقتصاد والاجتماع والسياسة والتعليم والصناعة.. الخ
ان كل ما يحدث اليوم من ارباكات وخيانات وسرقات ومشاكل في بلدنا العزيز يعود جزء كبير منه إلى عدم التخطيط والإعداد والاستعداد فاين مثلاً الكفاءات التي بنيناها من قبل؟ ذلك ان المفترض في من يريد الوصول الى الحكم ان يربي ويؤهل ويدرب الألوف من خيرة الخبراء المتخصصين القادرين على إدارة الاقتصاد والزراعة والصناعة، وعشرات الألوف من التربويين والأساتذة الجامعيين في شتى التخصصات، والألوف من الضباط الاكفاء لإدارة الامن وهكذا وهلم جرا.
ان من أهم أسباب مشاكلنا اليوم: عدم إدارة الدولة من قبل الكفاءات الحقيقية والخبراء من الطراز الرفيع بل قد لا تجد الكثير منهم يحملون الحد المتوسط بل الأدنى من الكفاءة!
ان من الواضح ان مرحلة البناء اصعب من مرحلة الهدم والإسقاط إذ ما اسهل ان تهدم بيتاً بالديناميت أو حتى بالمعاول ولكن كم شخصاً يستطيع ان يبني بيتاً!؟
وكمثال على ذلك سوريا حيث كانت دولة امنة مطمئنة يأتيها رزقها من كل مكان فكفرت بأنعم الله تعالى وقد عايشتهم في مرحلة ما، ورأيت كيف انهم كفروا حكاما ومحكومين.. فلم اجد من فكر لهذه المرحلة التي تعيشها سوريا اليوم من دمار وخراب وتفكك سياسي واجتماعي. والاحصاءات تشير إلى ما يقارب (400) الف قتيل من الطرفين! وهو عدد كبير ومرعب! فمن هو الذي أعد واستعد لذلك من قبل؟
ما بعد مرحلة الشباب!
كذلك وكمثال اخر: مرحلة الشباب: والتي يمر بها الجميع، فمن منا يفكر لما بعد مرحلة الشباب كمرحلة الكهولة او الشيخوخة؟ قلما تجد من يفكر بذلك
ان التفكير والتخطيط والإعداد للمستقبل الاداري والمالي والسياسي والاجتماعي للبلاد او حتى للأشخاص والجماعات امر في غاية الاهمية وهو من الحكمة بمكان لأنه يجنب صاحبه المخاطر والسقوط ويجعله يمشي على ضوء هدى بخطىً ثابتة ومتزنة.
وعوداً إلى بدأ نقول: ان الامام الحسن (عليه السلام) والامام الحسين (عليه السلام) قادا مرحلة النهضة وما قبل النهضة.. بينما قاد الامام السجاد (عليه السلام) مرحلة ما بعد النهضة فما الذي صنعوا سلام الله عليهم وكيف قادوا كل مرحلة؟ وما هي خصائصها ولوازمها؟ الا ينبغي ان نتعلم منهم؟ هذا ما سيكون محور احاديثنا اللاحقة ان شاء الله تعالى.
وسوف نشير إلى ذلك باشارات نستمدها خلال بعض الروايات والأحداث والقصص، ولعل أكثر ما سننقله من قصص وأحداث ومواقف ليس خفياً على المعظم، الا اننا نريد التعمق في فهمها وفهم أبعادها واستنباط الحِكَم منها.
الإمام السجاد (عليه السلام) في موقع بناء الأمة
فقد قام الامام السجاد (عليه السلام) بعد استشهاد الامام الحسين (عليه السلام) والكوكبة الطيبة من آله وصحبه الابرار بمرحلة بناء الامة الذي يتميز على بناء الفرد بميزات كمية وكيفية كما سيظهر.
ذلك ان الانسان قد يربي شخصا او شخصين أو عشرة وعشرين وتارة يربي ألفاً أو ألفين وأخرى يربي عشرات الألوف وأجيالاً متتالية من الناس وهنا يكون قد دخل مرحلة بناء الأمة، وفي الرواية التالية أعمق الدلالة:
مخطط صناعة قادة من العبيد والاسرى
ورد في الرواية المعروفة ان الامام السجاد اشترى ألفاً من العبيد والارقاء طوال سنين وكان يبقيهم عنده سنة ثم يعتقهم بعد ذلك.. لكنني وجدت رواية أخرى رواها في البحار تصرح ان الامام اعتق مائة ألف انسان وهذه الرواية اقرب الى قدرات الامام ومسيرته التغييرية والنهضوية الشاملة.
وحيث ان الامام (عليه السلام) كان يعيش ظرف التقية المكثفة لذا لم يؤسس الامام مدارس لتعليم هؤلاء الناس وتربيتهم ولا عقد حلقات عامة درسية كما فعل الباقران (عليهما السلام) بعد وذلك لان الحكومة آنذاك كانت تتحس من ذلك جداً وكانت سوف تعمد بكل بساطة – لو فعل الإمام (عليه السلام) ذلك - الى ضربها وملاحقة الملتحقين بها وبالتالي ضرب مشروع الامام بكل سهولة لذلك عدل الإمام إلى غطاء ذكي جداً حيث قام بشراء العبيد وبأعداد كبيرة وكان الغطاء هو مزارع الإمام والبساتين الكثيرة التي ورثها من جده أمير المؤمنين إذ انها تحتاج إلى أيادي عاملة وكان ذلك أمراً طبيعياً ولم يكن يدور في خلد السلطات ان الإمام اتخذ ذلك غطاء لتربية أجيال وأجيال وانه يدخلهم تحت هذا الستار في مشروع تغييري تربوي نهضوي شامل.
لقد عاش الامام السجاد بعد ابيه حوالي 35 سنة تقريبا([11]) فاذا اردنا ان نقسم مجموع من اعتقهم الامام بعد تربيتهم في بيته المبارك وهم مائة ألف على خمسة وثلاثين سنة كان المعدل (3) الاف انسان تقريباً يقوم الإمام بتربيتهم كل سنة ثم يعتقهم لينطلقوا في رحاب المجتمع الكبير!
وذلك عمل جبار حقاً بمقاييس ذلك اليوم بل حتى بمقاييس هذا اليوم بالنسبة لرجل واحد تحاصره السلطات الظالمة.
ولكي تتضح بعض مصاعب ذلك فلنمثل بالمثال الآتي:
فإذا كان في بيتك 10 ضيوف فقط، فكم ستأخذ ضيافتهم من وقتك وجهدك ومالك فيما اذا مكثوا عندك شهر واحد فقط؟ فكيف لو كانوا مائة ضيف أو ألف ضيف؟ فكم داراً يحتاجونها وكم غرفة؟ وكم؟ وكم؟.
والحاصل: ان هؤلاء الأسرى الذين اشتراهم الإمام (عليه السلام) كانوا يحتاجون الى المأكل والملبس والمشرب والمسكن بل كانوا يحتاجون – على القاعدة - الى الزوجة فان الزواج حاجة ملحة في الإنسان كما ان احتمال الانحراف موجود.
كما ان من الصعوبة صهر هذه القوميات المختلفة في بوتقة واحدة إذ من الصعب ان يجمع شخص ثلاثة من الناس في بيته احدهم من العراق والاخر من سوريا والثالث من الهند مثلا فان الطباع تختلف والافكار تختلف والعادات تختلف.
ولا بد من التنويه إلى ان العبيد الذين كان يشتريهم الامام (عليه السلام) لم يكونوا عبيداً بالمعنى المعهود لدينا بل كانوا أناساً مختلفين من قوميات شتى كالسوري والمصري والإيراني والتركي... الخ ممن وقعوا في الاسر إثر الحروب وكان فيهم العالم والطبيب والمهندس والمزارع والبقال والتاجر وغير ذلك.
المراحل الخمسة في بناء الأجيال
ثم ان الظاهر ان هؤلاء الاسرى – المشترون ثم المعتقون كانت تمر عليهم خمس مراحل:
1) مرحلة الاختبار.. وتعتمد هذه المرحلة على حُسن الانتخاب، لان الامام (عليه السلام) كان يريد بناء الامة فليس كل عبد أو أسير مؤهل للدخول بهذا المشروع الفريد من نوعه ويبدو ان الامام لم يقم بهذه المهمة بشخصه الكريم بل لعله كانت لديه شبكة من الاداريين والقياديين هي من تقوم بذلك. إذ يستبعد جداً ان يذهب الإمام (عليه السلام) يومياً إلى سوق النخاسة ليختار من بين الألوف من العبيد ثلاثة أشخاص مثلاً يومياً([12]).
2) مرحلة الادارة.. وهي مرحلة مهمة جداً إذ ما أصعب إدارة الألوف من الأشخاص في مزارع أو بيوت شتى وبطريقة حذرة لا تعلم عنها السلطات شيئاً.
وهنا لا بد ان نسأل اين كان يسكن هؤلاء العبيد؟ وكيف يتم ايواءهم؟ في تصوري - وكما سبق - ان الامام (عليه السلام) كانت له مزارع وبساتين شاسعة جداً وكان من يشتريهم يسكنون فيها ويعملون هناك كما تجري تربيتهم هناك أيضاً، ومن الواضح ان الحكومة لا يمكنها ان تراقب المزارعين والفلاحين خاصة بعد غفلتها عن أصل المخطط.
والرائع ان هذا المخطط كان يتضمن منافع كثيرة:
منها: ان الامام كان يخرجهم من حد البطالة وسلبياتها إذ كانوا يعملون ويأكلون من كد يمنهم فلا فساد ولا إنحراف كما هو شأن العطالين البطالين وكما هو مقتضى البطالة.
3) مرحلة التربية والتزكية.. وهنا لا بد ان نسأل: كيف رباهم الإمام (عليه السلام) وما هي المناهج المعتمدة في ذلك؟ خاصة وانهم كانوا تحت نظر الامام (عليه السلام) وحوارّييه واشرافه وتربيته وكانوا يرون الامام بعظمته وبهائه وورعه وعبادته، ولعل الامام كان يمكث عند كل مجموعة منهم فترة من الزمن يحدثهم ويرشدهم. وذلك يحتاج الى بحث مفصل قد نوفق له لاحقاً.
4) مرحلة التخرج.. وفي الروايات إشارات الى هذه المرحلة فكان الامام يعقد مجلسا بهم في اخر ليلة من شهر رمضان ويخطب خطبة عظيمة ويطلب منهم العفو تكرما منه، ثم يعطيهم رأس مال للعمل([13]) ويودعهم ويودعونه في حفل ـ اذا صح التعبير ـ فيه الكثير من الحكمة والموعظة التي تستقر في نفوسهم الى ان يذهبوا الى مناطقهم وبلدانهم في مخلف العالم الاسلامي.
5) مرحلة القيادة في ما بعد التخرج وهذا أيضاً مما يستدعي بحثاً مطولاً كما يحتاج إلى التنقيب في التاريخ واستكشاف الخفايا من إشارات هنا ورموز هناك –كما يقوم به علماء الحفريات، مثلاً–.
من دلالات افراج الناس للإمام سماطين!
ويكفي ان نشير إلى القضية المعروفة التي حصلت بين الامام السجاد (عليه السلام) والفرزدق وهشام بن عبد الملك ونص الرواية:
"أَنَّ هِشَامَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ حَجَّ فِي خِلَافَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَ الْوَلِيدِ فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَ أَرَادَ أَنْ يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ مِنَ الزِّحَامِ فَنُصِبَ لَهُ مِنْبَرٌ فَجَلَسَ عَلَيْهِ وَ أَطَافَ بِهِ أَهْلُ الشَّامِ فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَقْبَلَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليهما السلام) وَ عَلَيْهِ إِزَارٌ وَ رِدَاءٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهاً وَ أَطْيَبِهِمْ رَائِحَةً بَيْنَ عَيْنَيْهِ سَجَّادَةٌ كَأَنَّهَا رُكْبَةُ عَنْزٍ فَجَعَلَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَإِذَا بَلَغَ إِلَى مَوْضِعِ الْحَجَرِ تَنَحَّى النَّاسُ حَتَّى يَسْتَلِمَهُ هَيْبَةً لَهُ وَ إِجْلَالًا فَغَاظَ هِشَاماً فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ لِهِشَامٍ مَنْ هَذَا الَّذِي قَدْ هَابَهُ النَّاسُ هَذِهِ الْهَيْبَةَ وَ أَفْرَجُوا لَهُ عَنِ الْحَجَرِ فَقَالَ هِشَامٌ لَا أَعْرِفُهُ لِأَنْ لَا يَرْغَبَ فِيهِ أَهْلُ الشَّامِ فَقَالَ الْفَرَزْدَقُ وَ كَانَ حَاضِراً لَكِنِّي أَعْرِفُهُ فَقَالَ الشَّامِيُّ مَنْ هُوَ يَا أَبَا فِرَاسٍ فَقَالَ:
هَذَا الَّذِي تَعْرِفُ الْبَطْحَاءُ وَطْأَتَهُ.....وَالْبَيْتُ يَعْرِفُهُ وَ الْحِلُّ وَالْحَرَمُ
هَذَا ابْنُ خَيْرِ عِبَادِ اللَّهِ كُلِّهِمُ.....هَذَا التَّقِيُّ النَّقِيُّ الطَّاهِرُ الْعَلَمُ
هَذَا عَلِيٌّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) وَالِدُهُ.....أَمْسَى بِنُورِ هُدَاهُ تَهْتَدِي الظُّلَمُ
إِذَا رَأَتْهُ قُرَيْشٌ قَالَ قَائِلُهَا.....إِلَى مَكَارِمِ هَذَا يَنْتَهِي الْكَرَمُ
يُنْمِي إِلَى ذِرْوَةِ الْعِزِّ الَّتِي قَصُرَتْ.....عَنْ نَيْلِهَا عَرَبُ الْإِسْلَامِ وَالْعَجَم([14])
حيث انفرج الناس للامام (عليه السلام) سماطين في الطواف الامر الذي أذهل الحاكم المسمى بالخليفة الاموي انذاك، فان البعض يعتقد ان الامر مرتبط بأكمله بالغيب وان هذه كرامة من الله تعالى للامام السجاد (عليه السلام) وذلك صحيح دون شك إلا ان هناك أيضاً – فيما نعتقد – أسباباً ظاهرية أيضاً ومنها ان كثيراً من هؤلاء العبيد - الاسرى – المعتقين الذين رباهم الامام كانوا موجودين في مكة أيام الحج والعمرة ولعل كثيراً منهم بقوا بمكة ولعلهم كانوا بالألوف وأكثر وكانوا يعرفون الإمام ومنزلته ومكانته، بل وكانوا ممن عرّف الناس على الامام ومكانته السامية عند الله تعالى ولذلك كانوا عرفوا الإمام (عليه السلام) فوراً فانفرجوا له سماطين فذلك إذاً إضافة إلى الغيب نتاج إعداد واستعداد وتربية لسنين طويلة.
وعند هذا المنظر الرهيب أنشأ الفرزدق أشعاره المدوية السابقة.
وهذا اشارات بسيطة عما كان يقوم به الامام (عليه السلام) في هذا الحقل النهضوي الهام ولا شك ان التاريخ غفل عن أكثر –بل شبه المستغرق- من تلك القصص والدروس التي كان الامام السجاد يقوم بها في هذا المشروع الالهي الرائع لتربية الامة وتهذيبها.
الحاجة إلى مائة مجلد تاريخي تحليلي بالمنهج الاستنباطي
ومما يؤسف له اننا لم نكتب موسوعات تحليلية عن التاريخ وخصوصا تاريخ الأئمة (عليهم السلام) على غرار ما كتبناه في الفقه كالجواهر والمستند والرياض والفقه وغير ذلك فان الأئمة (عليهم السلام) مكثوا في الأمة (250) سنة وكانوا يقودونها في مختلف الابعاد ألا يستدعي ذلك كتابة مائة مجلد بحثي تحليلي على الأقل عن كيفية قيادتهم للأمة وما هي خصائص كل فترة و...؟
وقد كنت أفكر كم صرف الميرزا النائيني (قدس سره) من الوقت في كتبه الأصولية؟ وقد كان بحرا من الفكر والدقة فانتج هذا النتاج العظيم في الفقه والأصول والذي لا زلنا نرتوي منه، ولكن كم صرف من الجهد والوقت على التنظير للحكومة الإسلامية في أبعاد سياستها واقتصادها وتعليمها وتربيتها ودستورها.. الخ نعم لقد خلف كتاب (تنبيه الأمة وتنزيه الملة) وهو كتاب هام ولكنه لعله لم يستغرق من وقته شهراً فيما صرف عشرات السنين على الفقه والأصول، ولو كان هو قدس سره وسائر العلماء الاعلام – صرف من وقته سنة أو خمس سنين على بيان ما يرتبط بالحكومة، لكنّا قد تقدمنا أشواطاً كبيرة في مسيرة التاريخ بل كنا صدّرنا لسائر الامم تنظيراً إسلامياً أكمل وأشمل وأنضج وأتقن، ولعل كثيراً مما حدث من السلبيات ومن التقهقر والتراجع أو الاضطراب في بلادنا لم يكن ليحدث والله العالم وهو الناصر المستعان.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
اضف تعليق