مكافحة الأمراض باستنهاض القوة المتخيلة.. فقد ثبت علمياً ان مرضى السرطان، مثلاً، إذا ما استنهضوا القوة المتخيلة بطريقة صحيحة، أي بشروطها الستة الآتية لاحقاً، فإنهم قادرون على القضاء على المرض تماماً، وانهم إذا استخدموا القوة المتخيلة ولكن مع توفر نسبي لتلك الشروط الستة، فإنهم قادرون على إضعاف تأثير المرض
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وأهل بيته الطاهرين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ * تُؤْتي أُكُلَها كُلَّ حينٍ بِإِذْنِ رَبِّها)[1].
وقال جل وعلا: (وَالَّذينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ)[2].
صورتان مجسّدتان في الآيتين الكريمتين
وهاتان الآيتان الكريمتان تحملان صورتين متقابلتين، وتندرجان جميعاً في إطار ما يسمى بالأدب التصويري، وفي دائرة محفِّزات الخيال.. وذلك يعدّ من اروع صور البلاغة ومن أهم سبل التبشير والتحفيز والإنذار والردع والتحذير.
فقد شبّه جل اسمه الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة وهو تشبيه يُدغدغ القوة المتخيلة ويُفعّلها إذ تتجسد المعنى المجرد في هيئة قالب مجسد.. ثم يستمر المشهد التصويري بقوله تعالى: (أَصْلُها ثابِتٌ) حيث تدفعك إلى النظر إلى الأعماق أولاً ثم ترتفع بعين خيالك إلى أعلى إذ يقول (وَفَرْعُها فِي السَّماءِ)، ثم يقول انها (تُؤْتي أُكُلَها) في واحدة من أروع صور تشبيه المعقول بالمحسوس.
وفي المقابل تقع الآية الأخرى التي، تحفز بدورها طائر الخيال لينظر من عل إلى أعمال الكفار فيجدها (كَسَرابٍ بِقيعَةٍ).. والقيعة جمع قاع كما ان جيرة جمع جار[3] فحيث انّ لهم أعمالاً متنوعةً لذلك شبّهت بسراب متشتت في عدة قيعان لا في قاع واحد.. فهي متعددة تسر الناظر من بعيد وتبعث فيه أكبر الأمل.. لكنه إذا ما اقترب منها لم يجد شيئاً أبداً وأصيب بأشد حالات الإحباط واليأس بل (وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ) وهو من دائرة الأدب التصويري أيضاً فإنه (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)[4]، فبدل أن يقول ووجد جزاء الله تعالى عنده مثلاً، يقول: (وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ).
والقيعة تعني الأرض السهلة المنبسطة ولكن للقيعة جرس إيقاعي قوي[5].. حيث يقرع الأسماع بقوة.. ويختلف بشدّة عما لو قال مثلاً كسراب بأرض سهلة، فإنه لا يمتلك دلالة صوتية – تخيلية قوية على الطابع السلبي الذي تشرّب به هذا السراب الذي هو بقيعة.
وهاتان الآيتان الكريمتان كالكثير من الآيات القرآنية الكريمة التي تحلق على أجنحة التشبيه والاستعارة والمجاز المرسل والكنائية والأدب التصويري واستثارة الخيال النشط، تفتح لنا باباً واسعاً من أبواب سبل مكافحة الأمراض، ومنها مرض الكآبة وجميع الأمراض النفسية، وباباً أوسع من أبواب مكافحة الإدمان على المعاصي.. وباباً آخر من أبواب فلسفة الشعائر الدينية.. وباباً رابعاً من أبواب فلسفة علائم الظهور.. وباباً خامساً من أبواب العلاج بالأحراز والأدعية والأوراد التي تستخدم القوة المتخيلة بقوة وبراعة كعوامل فاعلة في عملية العلاج الفكري والنفسي والجسدي.. فذلك كله هو ما سوف نستعرضه بإذن الله تعالى بإيجاز ضمن فصول خمسة:
مكافحة الأمراض باستخدام القوة المتخيلة
الفصل الأول: مكافحة الأمراض باستنهاض القوة المتخيلة.. فقد ثبت علمياً ان مرضى السرطان، مثلاً، إذا ما استنهضوا القوة المتخيلة بطريقة صحيحة، أي بشروطها الستة الآتية لاحقاً، فإنهم قادرون على القضاء على المرض تماماً، وانهم إذا استخدموا القوة المتخيلة ولكن مع توفر نسبي لتلك الشروط الستة، فإنهم قادرون على إضعاف تأثير المرض وإبطاء سرعته وتخفيف الآلام الناجمة عنه ريثما ينفع العلاج الإشعاعي أو الكيماوي.. أي انها تشكل عوامل مساعدة قوية جداً.. ومن ألوان ذلك أن يسترخي الإنسان في زاوية هادئة.. يومياً عشر مرات أو أكثر.. كل مرة دقيقة على الأقل.. وأكثر.. ويتخيل خلاياه المناعية وهي تهاجم بقوة واستمرار خلايا السرطان.. وهكذا.
ومن الأمثلة أيضاً: ان الذين يعانون من ضعف الذاكرة (الحافظة) سواء في الحوزة أم المدرسة أم الجامعة، فإن بمقدورهم تقوية الذاكرة، بشكل مذهل لو استوفوا الشروط الستة وإلا فبشكل نسبي، عبر تكرار العملية السابقة أي الجلوس في وضعية هادئة تماماً ويتخيل بوضوح مخه ودماغه.. ثم يتخيل بعمق ان ذاكرته قوية.. قوية.. قوية.. وانها تتحسّن باستمرار.. وعليه إضافة إلى ذلك أن يستشعر سعادته بتحسن ذاكرته في عالمه الخيالي المحبّب أي أن يتجسد ويتصور السعادة واللذة عندما يجد ذاكرته قوية فأقوى فأقوى.. ثم عليه أن يتخيل نفسه بعد ذلك في جمع من الناس وهم يوجهون إليه اسألة مختلفة فإذا بذاكرته القوية تسعفه بتقديم مختلف المعلومات له بسرعة عبر الغوص في منطقة اللاوعي أو الوعي الباطن والعودة بكل الذخائر المطلوبة.
وكذلك الذين يعانون من مرض الكآبة والذين يعتصر قلوبهم تواتر الأحزان.. إذ ما عليهم إلا أن يستثيروا القوة المتخيلة بشدة.. فيستحضروا نِعَمَ الله تعالى عليهم.. واحدةً.. واحدةً.. مع صورتها المتجسدة، كأن يستحضر في ذهنه أولاده الذين يفتخر بهم.. ويتمثل أمامه سمعته في المجتمع أو عمله اللائق به.. أو تدريسه المميز.. إلخ ويملأ روحه ونفسه وقلبه بالفرح والحبور وبالسعادة والسرور ويستشعر ذلك كأنه يعيشه في الواقع تماماً.. فإنه سرعان ما يجد أن خفافيش الظلام الموحشة قد هربت مسرعة لتفسح المجال أمام أشعة نور التفاؤل وتجسدات المكارم والفضائل.
كيفية معالجة الإدمان على المعاصي
الفصل الثاني: معالجة الإدمان على المعاصي، عبر تحفيز القوة المتخيلة.. ذلك أن من المعروف أن القوة المتعقلة ليست هي الحاكم الوحيد الذي يوجّه حياة الإنسان بل إن القوة المتخيلة تنافس القوة المتعقلة في الحاكمية.. بل انها كثيراً ما تتغلب عليها.. ألا ترى مثلاً ان الإنسان يخاف من اللبث ليلاً في المقابر خاصة إذا كانت مظلمة؟ مع أن من البديهي أن الميت لا يعقل أن ينهض من قبره ليخنق الإنسان.. إلا إنها من حِيَل القوة المتخيلة وألاعيب الخيال الجامح.. وهكذا وهلم جرا.
والإدمان على المعاصي على أنواع: فقد يكون إدماناً على الغيبة.. أو على التهمة أو النميمة أو الكذب، وقد يكون إدماناً على النظر إلى الأجنبية أو على العادة السرية لا سمح الله، وقد يكون إدماناً على المسكرات أو المخدرات.. وقد يكون إدماناً على إيذاء الزوجة أو ضرب الأطفال.. أو على الربا والرشوة وشبه ذلك.
وهنا يظهر دور محفِّزات الخيال.. فإن الإنسان العاصي لو التزم بأن يجلس يومياً خمس مرات في مكان هادئ ويتخيل الكذب كعقرب سوداء موحشة.. تخرج من فمه.. ثم تعود إليه مسرعة كي تلدغه في لسانه بقوة.. مراراً عديدة.. أو يتجسد أمامه ميتاً منتناً متعفناً تتجول الديدان على وجهه وهو جالس يأكل منه.. ويستشعر رائحته الكريهة.. ثم يقوم بربط معمق لهذا المشهد المجسد، بنفسه وهو يغتاب أحدهم ذلك (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ)[6] أو يستشعر ناراً عظيمة في بطنه متجسدة في هيئة أكله أموال اليتامى (إِنَّ الَّذينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعيراً)[7].
وذلك هو ما يصرح به قانون الاستجابة الشرطية لبافلوف، حيث قام بتجارب تربط بين مثير بديل وبين الواقع فرأى المثير الشرطي يؤثر نفس تأثير المثير الواقعي.. فمثلاً رائحة الطعام الشهي تحرك غدد البزاق في الفم فتفرز اللعاب.. وهذه ظاهرة طبيعية في الحيوان والإنسان.. فإذا التزمت الأم بدق جرسٍ ما قبل انتشار رائحة الطعام بدقيقة مثلاً.. أو إذا دققت الجرس قبل تقديم الطعام للحيوان بدقيقة.. فإنه بعد تكرر ذلك عدة مرات فإن لعاب الحيوان والإنسان سيسيل بمجرد سماع الجرس وهو يرنّ.
ومن هنا يمكن للمدمنين على بعض المعاصي الذين يصعب عليهم الإقلاع عنها أن يربطوا، خيالياً ولكن بشكل متكرر، بين المعصية وبين العقاب الإلهي عليها، أو بين المعصية وبين أية صورة موحشة يتخيلها المرء.
تجسم الأعمال
وهنالك في الآيات والأحاديث ما يمكن الاستشهاد به على تجسّم الأعمال إذ يقول تعالى: (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً)[8] ولم يقل (ووجدوا جزاء ما عملوا حاضراً) بل وجدوه نفسه حاضراً وهذا يعني أن الطاقة، وهي الصوت كالكلام الكاذب أو السباب أو النميمة، تتحول إلى مادة متجسدة قد تكون عقرباً وقد تكون ثعباناً وقد تكون ناراً..
ومن هنا ورد في عقاب بعض الأعمال انها تتحول إلى ثعبان فعن يوسف الطاطري أنّه سمع أبا جعفر (عليه السلام) يقول: «وَذَكَرَ الزَّكَاةَ فَقَالَ: الَّذِي يَمْنَعُ الزَّكَاةَ يُحَوِّلُ اللَّهُ مَالَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعاً مِنْ نَارٍ لَهُ ريمتان [زَبِيبَتَانِ] فَيُطَوِّقُهُ إِيَّاهُ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: الْزَمْهُ كَمَا لَزِمَكَ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ) الْآيَةَ»[9].
وهذه المعادلة تشكل إجابة من بين عدة إجابات على شبهة السبب فيما يعبّر عنه بعضهم بشدّة عقاب الله تعالى للعاصي على المعاصي، والجواب هو: أنها ليست جزاء كي يقال انه قاس أو لا، بل هو نفس العمل لا غير.. أي ان ضرب الزوجة هي حركة إيذائية وهي طاقة تتجسد هي هي ثعباناً يحيط بالضارب ويعتصره.. لا انه أمر آخر وعقاب آخر.. بل هو هو.. فهو كمن يلقي نفسه من شاهق فتتكسر عظامه.. فإن نفس عمله عِلّة تامة لتكسر عظامه (لو لم تكن موانع) لا انه جزاء من سنخ آخر.. فإذا التفت المرء إلى هذه المعادلة علم انه ليس له أن يعترض بانه: لماذا كانت عقوبة إلغاء نفسي من شاهق شديدة؟
وفي المقابل، فإن استثارة القوة المتخيلة في ثواب الأعمال أيضاً والقيام بعملية الربط الخيالي المتجسد بين العمل والثواب واستثمار قانون الاستجابة الشرطية، نافعٌ في الالتزام بالطاعات وفي الإقلاع عن المعاصي أيضاً.. فإذا كان المرء مدمناً على النظر إلى الأجنبية فقرأ ما مضمونه انه إذا غض المؤمن طرفه عن النظر إلى الأجنبية خلق الله له بمجرد ذلك حورية تنتظره في الجنة.
قال الإمام الصادق (عليه السلام): «مَنْ نَظَرَ إِلَى امْرَأَةٍ فَرَفَعَ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ أَوْ غَمَّضَ بَصَرَهُ لَمْ يَرْتَدَّ إِلَيْهِ بَصَرُهُ حَتَّى يُزَوِّجَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ»[10].
فإذا تخيل نفسه مراراً كثيرة.. انه قد وقع بصره في الشارع أو الجامعة أو السوق على امرأة أجنبية فغض طرفه عنها فوراً وانه حصل بذلك على حوريه لا نظير لجمالها في الكون كله.. فإنه سيمنحه ذلك مناعة أمام النظر إلى الأجنبية خاصة إذا استحضر في ذهنه بعض ما ورد في وصف حور الجنان فقد ورد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «لَوْ أَنَّ حُوراً مِنْ حُورِ الْجَنَّةِ أَشْرَفَتْ عَلَى أَهْلِ الدُّنْيَا وَأَبْدَتْ ذُؤَابَةً مِنْ ذَوَائِبِهَا [لَأَفْتَنَ] لَأَمَتْنَ أَهْلَ الدُّنْيَا أَوْ لَأَمَاتَتْ أَهْلَ الدُّنْيَا وَإِنَّ الْمُصَلِّيَ لَيُصَلِّي فَإِذَا لَمْ يَسْأَلْ رَبَّهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ قُلْنَ مَا أَزْهَدَ هَذَا فِينَا»[11]
فإذا تصور انه مع كل إغماضة عين يحصل على حورية رائعة الجمال بل مذهلة الحال.. فإنه في المرة القادمة إذا خرج فوقع بصره على أجنبية فإنه، وبدافع من الوعي الباطن ومحفِّز قوي من قوة المتخيلة، سوف يغض طرفه فوراً (قُلْ لِلْمُؤْمِنينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ)[12].
وهكذا سائر المعاصي دون استثناء.. ولو أن المرء التزم بعملية تحفيز الخيال بشروطه الستة الآتية لحصل على الثمرة كاملة تامة.. ويكفي أن يحفظ الإنسان هذا المقطع الوارد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ويكرره مع نفسه دائماً فـ:
من خطبة لأمير المؤمنين يصف المتقين: «فَالْمُتَّقُونَ فِيهَا هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِلِ مَنْطِقُهُمُ الصَّوَابُ وَ مَلْبَسُهُمُ الِاقْتِصَادُ وَ مَشْيُهُمُ التَّوَاضُعُ غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ وَقَفُوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ نُزِّلَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْهُمْ فِي الْبَلَاءِ كَالَّتِي نُزِّلَتْ فِي الرَّخَاءِ وَ لَوْ لَا الْأَجَلُ الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ [لَهُمْ] عَلَيْهِمْ لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ شَوْقاً إِلَى الثَّوَابِ وَخَوْفاً مِنَ الْعِقَاب»[13]
فلسفة الشعائر، وحِكمة تدرّج علائم الظهور
الفصل الثالث والرابع: فلسفة الشعائر الدينية وعلائم الظهور: إذ يتساءل بعض الناس عن الفلسفة الكامنة وراء ذكر الأئمة (عليهم السلام) علائم الظهور، والتي جمع بعضها بعضهم في كتاب فبلغت مائتين وخمسين علامة، والإشكال هو انها عموماً مبهمة أو مجملة.. وان كثيراً من الناس يسيئون فهمها أو استثمارها إذ يطبّقها كل منهم على ما يشتهيه أو على مذهبه المبتدَع أو طريقته المنكَرة.. وقد يستغلها الطرفان أو الأطراف المتخالفة كل منهم بنحوٍ ما لصالحه؟
لأن طبع الإنسان النسيان والشعائر مظاهر متجسدة مذكّرة
والجواب عن ذلك هو: ان فلسفة علائم الظهور تكمن فيما تكمن في استنهاض القوة المتخيلة كي تقوم بعملية إسناد كبرى للقوة المتعقلة والفكرة المجردة.. ذلك أن الناس بطبعهم ينسون الغائب عنهم.. بل ينسون حتى ربهم وخالقهم.. فإن الناس عادة ينسونه جل اسمه مع أنه الخالق الرازق المهيمن المحيط.. ولذلك قرر الله تعالى، العالم بحقيقة الإنسان ونسيانه حتى أكثر الحقائق بداهة مادامت خافية على الحواس، الشعائرَ فقال جل اسمه: (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)[14]، والكعبة والهدي و.. أمثلة بارزة (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَليمٌ)[15]، مع انه (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)[16]، وكذلك قرر رمي الأحجار الثلاث مع أن الشيطان موجود في كل مكان.. وقرر السعي بين الصفا والمروة والهرولة.. إلخ فإن كل ذلك مما يربط الفكرة المجردة بالهيئة المجسدة ويستفز بقوة القوة المتخيلة ويستثير الخيال.. وذلك لأن الإنسان بطبعه يألف ما يراه أو يسمعه أو يلمسه أكثر ويتعلق به أكثر عكس الأشياء الغائبة عن الحواس..
ولعل ذلك من حِكَم القنوت والسجود ولعله من حِكَم (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ)[17]، فمع أن الله تعالى في كل مكان إلا أن الإنسان يحس بميل طبيعي إلى جهة العلو ويستشعر العظمة حينئذٍ أكثر والقنوت هو ما يتكفل بذلك.. كما ان هيئة السجود تستحضر للقوة المتخيلة كلّ الخضوع والتذلل إذ الأرض هي موطأ الأقدام والسجود هو أكثر حالات الإنسان ذلة في الخيال...
وهكذا.. نستكشف من ذلك إحدى الحِكم في بناء المآذن في المساجد إذ انها رمز بصري للسمو والرفعة وارتباط الأرضي بالسماوي.. وكذلك الأضرحة والقباب والمشاهد المشرفة.. فإنها كلها توثق عملية ربط البشرية برسل الله تعالى وأوصيائهم والوسيلة إليه تعالى (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسيلَةَ)[18] وذلك عبر تجسيد حسي ملموس يملأ الأعين والأبصار والأذان فتتفاعل معها القلوب والعقول والأفكار.. وبذلك تتكاتف القوتان المتعقلة والمتخيلة ومعهما القوة المتوهمة على شد الإنسان إلى قيم السماء ووسائط الفيض الإلهي.
فلسفة علائم الظهور
ومن ذلك نعرف فلسفة علامات الظهور أيضاً إذ أن الناس ينسون بطبعهم إمامهم الغائب عجل الله تعالى فرجه الشريف.. ولكنّ علائم الظهور كان من الحكمة البالغة الكامنة فيها أن تأتي، متدرجة على امتداد مئات السنين إلا الخمسة الحتمية التي تقع في نهاية المطاف.. في السنة الأخيرة.
وبذلك وبين كل حين وآخر يسمع الناس علامةً.. فيثور حولها كلام وأخذ ورد ويكون هنالك مُثبِت ونافٍ ومؤمن بدلالتها ومنكر.. و... و... وكل ذلك يستبطن في جوهره التذكير بصاحب العلامة.. وبذلك تتكامل الاستجابة الشرطية ومحفزات الخيال وتتماسك في كتلة واحدة لتدفع بقوة باتجاه إحياء ذكر المنقذ الإلهي..
هل علائم الظهور مبهمة وهل تثير الاختلاف؟
فهذا عن السبب وراء علائم الظهور المتكثرة الألوان والمتدرجة الوقوع، ولكن ماذا عن الأضرار الآنفة الذكر، إذ انها مبهمة مجهولة.. كما انها يساء الاستفادة منها؟
والجواب: ان الروايات أعطت علامات صحيحة ودقيقة، وذلك في التام سنداً، أما المرسل أو المجهول فإن كان في الواقع صادراً فكذلك.
ولكن المشكلة هي ان أكثر من تصدى لتفسيرها وتطبيقها على هذا المصداق أو ذاك هم السطحيون الجاهلون بفقه الحديث (إضافة إلى الجهل بضوابط تمامية السند) فهو كما لو تصدى السطحي الذي لا يعرف الأصول، لروايات الفقه فإنه لا شك سوف يثير اضطرابا بل وفساداً هائلاً حينئذٍ إذ قد يتمسك بالعام أو المطلق وهو لم يحط بالخاص أو المقيد، وبالمحكوم وهو لا يعرف الحاكم وبالمورود عليه دون معرفة الوارد، وبمطلق ما انفكت فيه الإرادة الجدية عن الاستعمالية، كما لا يعرف ما ينصرف عنه وما ينصرف إليه وغير ذلك.
ولكي يتضح لنا ذلك جيداً وبوضوح كبير فلننقل عدداً من علامات الظهور كما هي مذكورة في عدد من المصادر.. لنكتشف بوضوح وجود خمسة ثغرات وإشكالات في فهم هؤلاء للروايات
- اختلاف بني العباس في الرئاسة الدنيوية وزوال حكومتهم
- كسوف الشمس في النصف من رمضان خلافاً للعادة
- خسوف القمر في بداية شهر رمضان أو نهايته خلافاً للعادة
- خروج رجل من قزوين يحمل نفس اسم أحد الأنبياء ويضطهد الكثيرين
- سقوط الجزء الغربي من مسجد دمشق
- خسف بقرية من قرى دمشق تسمى حرستا
- تدمير البصرة
- قتل رجل وسبعين من أصحابه ثار على السفياني خلف الكوفة
- انهيار حائط مسجد الكوفة
- رفع الرايات السود من خراسان. وسيقاتل هذا الجيش جيش السفيان في منطقة قريبة من شيراز، وسيلحق بهم أول هزيمة. ولن تُنزل هذه الرايات حتى تصل إلى القدس
- ظهور نجم مذنب في السماء، يخرج من ناحية المشرق ويقترب من الأرض إلى الدرجة التي يبدو فيه كهيئة القمر
- حمرة تملأ السماء وتنتشر في الأفاق، وتشاهد في كل انحاء الارض
- دمار واسع في الشام والعراق
- الصراع بين ثلاث رايات في الشام (الأصهب، والأبقع، والسفياني)
- ارتكاز رايات قيس بمصر
- رفع الرايات السود من المشرق باتجاه الحيرة
- فيضان نهر الفرات وجريانه في أزقة الكوفة
- خروج اثني عشر شخصًا من آل أبي طالب، كلهم يدعو الناس إلى طاعتهم
- إحراق رجل عظيم القدر من شيعة بني العباس بين جلولاء وخانقين
- ارتفاع ريح سوداء في بغداد في أوّل النهار
- تناقص الحبوب والمنتجات النباتية وتفشي المجاعة
- اختلاف صنفين من العجم وسفك دماء كثيرة فيما بينهم
- دمار مدينة الري
- حرب بين أرمينية واذربيجان
- مسخ لقوم من أهل البدع حتّى يصيروا قردة وخنازير[19].
وقال الشيخ المفيد: (قَدْ جَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِذِكْرِ عَلَامَاتٍ لِزَمَانِ قِيَامِ الْقَائِمِ الْمَهْدِيِّ (عليه السلام) وَحَوَادِثَ تَكُونُ أَمَامَ قِيَامِهِ وَآيَاتٍ وَدَلَالاتٍ فَمِنْهَا: خُرُوجُ السُّفْيَانِيِّ وَقَتْلُ الْحَسَنِيِّ وَاخْتِلَافُ بَنِي الْعَبَّاسِ فِي الْمُلْكِ الدُّنْيَاوِيِّ وَكُسُوفُ الشَّمْسِ فِي النِّصْفِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَخُسُوفُ الْقَمَرِ فِي آخِرِهِ عَلَى خِلَافِ الْعَادَاتِ وَخَسْفٌ بِالْبَيْدَاءِ وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ وَخَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ وَرُكُودُ الشَّمْسِ مِنْ عِنْدِ الزَّوَالِ إِلَى وَسَطِ أَوْقَاتِ الْعَصْرِ وَطُلُوعُهَا مِنَ الْمَغْرِبِ وَقَتْلُ نَفْسٍ زَكِيَّةٍ بِظَهْرِ الْكُوفَةِ فِي سَبْعِينَ مِنَ الصَّالِحِينَ وَذَبْحُ رَجُلٍ هَاشِمِيٍّ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ وَهَدْمُ سُورِ الْكُوفَةِ وَإِقْبَالُ رَايَاتٍ سُودٍ مِنْ قِبَلِ خُرَاسَانَ وَخُرُوجُ الْيَمَانِيِّ وَظُهُورُ الْمَغْرِبِيِّ بِمِصْرَ وَتَمَلُّكُهُ لِلشَّامَاتِ وَنُزُولُ التُّرْكِ الْجَزِيرَةَ وَنُزُولُ الرُّومِ الرَّمْلَةَ وَطُلُوعُ نَجْمٍ بِالْمَشْرِقِ يُضِيءُ كَمَا يُضِيءُ الْقَمَرُ ثُمَّ يَنْعَطِفُ حَتَّى يَكَادَ يَلْتَقِي طَرَفَاهُ وَحُمْرَةٌ تَظْهَرُ فِي السَّمَاءِ وَتَنْتَشِرُ فِي آفَاقِهَا وَنَارٌ تَظْهَرُ بِالْمَشْرِقِ طُولًا وَتَبْقَى فِي الْجَوِّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَخَلْعُ الْعَرَبِ أَعِنَّتَهَا وَتَمَلُّكُهَا الْبِلَادَ وَخُرُوجُهَا عَنْ سُلْطَانِ الْعَجَمِ وَقَتْلُ أَهْلِ مِصْرَ أَمِيرَهُمْ وَخَرَابُ الشَّامِ وَاخْتِلَافُ ثَلَاثَةِ رَايَاتٍ فِيهِ وَدُخُولُ رَايَاتِ قَيْسٍ وَالْعَرَبِ إِلَى مِصْرَ وَرَايَاتِ كِنْدَةَ إِلَى خُرَاسَانَ وَوُرُودُ خَيْلٍ مِنْ قِبَلِ الْمَغْرِبِ حَتَّى تُرْبَطَ بِفِنَاءِ الْحِيرَةِ وَإِقْبَالُ رَايَاتٍ سُودٍ مِنَ الْمَشْرِقِ نَحْوَهَا وَبَثْقٌ فِي الْفُرَاتِ حَتَّى يَدْخُلَ الْمَاءُ أَزِقَّةَ الْكُوفَةِ وَخُرُوجُ سِتِّينَ كَذَّاباً كُلُّهُمْ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ وَخُرُوجُ اثْنَيْ عَشَرَ مِنْ آلِ أَبِي طَالِبٍ كُلُّهُمْ يَدَّعِي الْإِمَامَةَ لِنَفْسِهِ وَإِحْرَاقُ رَجُلٍ عَظِيمِ الْقَدْرِ مِنْ شِيعَةِ بَنِي الْعَبَّاسِ بَيْنَ جَلُولَاءَ وَخَانِقِينَ وَعَقْدُ الْجِسْرِ مِمَّا يَلِي الْكَرْخَ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ وَارْتِفَاعُ رِيحٍ سَوْدَاءَ بِهَا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَزَلْزَلَةٌ حَتَّى يَنْخَسِفَ كَثِيرٌ مِنْهَا وَخَوْفٌ يَشْمَلُ أَهْلَ الْعِرَاقِ وَمَوْتٌ ذَرِيعٌ فِيهِ وَنَقْصٌ مِنَ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ وَالثَّمَرَاتِ وَجَرَادٌ يَظْهَرُ فِي أَوَانِهِ وَفِي غَيْرِ أَوَانِهِ حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى الزَّرْعِ وَالْغَلَّاتِ وَقِلَّةُ رَيْعٍ لِمَا يَزْرَعُهُ النَّاسُ وَاخْتِلَافُ صِنْفَيْنِ مِنَ الْعَجَمِ وَسَفْكُ دِمَاءٍ كَثِيرَةٍ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَخُرُوجُ الْعَبِيدِ عَنْ طَاعَةِ سَادَاتِهِمْ وَقَتْلُهُمْ مَوَالِيَهُمْ وَمَسْخٌ لِقَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ حَتَّى يَصِيرُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ وَغَلَبَةُ الْعَبِيدِ عَلَى بِلَادِ السَّادَاتِ وَنِدَاءٌ مِنَ السَّمَاءِ حَتَّى يَسْمَعَهُ أَهْلُ الْأَرْضِ كُلُّ أَهْلِ لُغَةٍ بِلُغَتِهِمْ وَوَجْهٌ وَصَدْرٌ يَظْهَرَانِ مِنَ السَّمَاءِ لِلنَّاسِ فِي عَيْنِ الشَّمْسِ وَأَمْوَاتٌ يُنْشَرُونَ مِنَ الْقُبُورِ حَتَّى يَرْجِعُوا إِلَى الدُّنْيَا فَيَتَعَارَفُونَ فِيهَا وَيَتَزَاوَرُونَ.
ثُمَّ يُخْتَمُ ذَلِكَ بِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مَطْرَةً تَتَّصِلُ فَتُحْيَا بِهَا الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها وَتُعْرَفُ بَرَكَاتُهَا وَتَزُولُ بَعْدَ ذَلِكَ كُلُّ عَاهَةٍ عَنْ مُعْتَقِدِي الْحَقِّ مِنْ شِيعَةِ الْمَهْدِيِّ (عليه السلام) فَيَعْرِفُونَ عِنْدَ ذَلِكَ ظُهُورَهُ بِمَكَّةَ فَيَتَوَجَّهُونَ نَحْوَهُ لِنُصْرَتِهِ كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ الْأَخْبَارُ»[20].
تقييم تحليلات علائم الظهور
وهنا نقول:
1- الروايات لم تحدد وقتاً للظهور بعد تحقق العلامة
أولاً: انّ الروايات لم تذكر أن الظهور المبارك سيكون بعد هذه العلامة أو تلك العلامة مباشرةً، فلعله يكون بعد شهر.. أو سنة.. أو مائة سنة.. أو ألف.. أو أكثر.. الله العالم.. فمن أين التحديد وقد ورد «كَذَبَ الْوَقَّاتُونَ»[21]؟ أي أن العلامة قد تكون من نمط علائم الأجل الطويل، لا القصير.. ولا حتى المتوسط.
نعم المؤقتات هي العلامات الحتمية فقد ورد أن خروج اليماني والسفياني والخراساني في سنة الظهور في سنة واحدة في شهر واحد في يوم واحد[22]، وكذا الخسف بالبيداء والصيحة من السماء والنفس الزكية[23].. ولكن مع ذلك لا نعلم أية سنة هي؟
فعن عمر بن حنظلة قال: «سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) يَقُولُ: قَبْلَ قِيَامِ الْقَائِمِ خَمْسُ عَلَامَاتٍ مَحْتُومَاتٍ: الْيَمَانِيُّ وَالسُّفْيَانِيُّ وَالصَّيْحَةُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الزَّكِيَّةِ وَالْخَسْفُ بِالْبَيْدَاءِ»[24]، وظاهرها القبلية العرفية، أما ما عداها فالظاهر انها ممتدة ومنتشرة على امتداد مآت السنين وربما ألوف السنين.. والفلسفة، أي من الفلسفة ما ذكرناه، وهي استثارة طائر الخيال.. كي يتذكر الناس عند كل علامةٍ إمام زمانهم ولا ينسونه تماماً، فيدعوهم ذلك إلى الدعاء والتوسل والتضرع لتعجيل الفرج كما يدعوهم إلى تهذيب الأنفس والالتزام بالطاعات وتجنب المعاصي مادام أن إمامهم حاضراً في أذهانهم وهم يترقبون قدومه بين ساعة وأخرى إذ ورد «الْمَهْدِيُّ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ يُصْلِحُ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ فِي لَيْلَةٍ»[25]، فإن له تعالى الأمر (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ)[26]، فلعله جل اسمه يأذن بالفرج دون حدوث ما تبقى من علائم الظهور غير الحتمية.. وبذلك يكون الجميع بين الخوف والرجاء.. فلا يأسَ واحتمالُ البداء موجود.. ولا نسيانَ والمذكِّراتُ ومحفِّزاتُ الخيال متكررة متوالية.
2- الروايات لم توضح تكرر الحدث أو وحدته
ثانياً: الروايات لم تذكر انه هل تتكرر هذه العلامة (كدمار مدينة الري وخسف حرستا وبثق الفرات) وتحدث مرة أو أكثر.. فلعلها تحدث عدة مرات بكون اخرها هو علامة الظهور.. فمن أين ان الحادثة لو حدثت أول مرة تكون هي العلامة كي يقول الموقّت انه إذاً سيظهر الإمام (عليه السلام) هذه السنة؟
3- والعلامات كثيرة، لم يتحقق كثير منها
ثالثاً: والروايات ذكرت مجموعات علامات، ولعلها مائة أو مآتان أو أكثر أو أقل، حسب المعتبر من الروايات، والسطحيون إذا رأوا تحقق علامة ما هتفوا بأن الظهور سيكون هذه السنة!!.. وقد غفلوا عن وجود علامات أخرى لم تتحقق فلئن تحققت عشرة أو عشرون منها فإنه لم تتحقق العشرات منها.. وما يدرينا لعلها ستتحقق تدريجياً في عدة سنوات أو في عدة عقود أو في عدة قرون؟
فلاحظ مثلاً مجموعة من العلامات التي لم تتحقق «وَوَجْهٌ وَصَدْرٌ يَظْهَرَانِ مِنَ السَّمَاءِ لِلنَّاسِ فِي عَيْنِ الشَّمْسِ وَأَمْوَاتٌ يُنْشَرُونَ مِنَ الْقُبُورِ حَتَّى يَرْجِعُوا إِلَى الدُّنْيَا فَيَتَعَارَفُونَ فِيهَا وَيَتَزَاوَرُونَ»[27] فهل تحقق ذلك؟ ولاحظ «وَخُرُوجُ سِتِّينَ كَذَّاباً كُلُّهُمْ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ وَخُرُوجُ اثْنَيْ عَشَرَ مِنْ آلِ أَبِي طَالِبٍ كُلُّهُمْ يَدَّعِي الْإِمَامَةَ لِنَفْسِهِ»[28]، هل تحقق ذلك؟
بل لاحظ ان العلامات الحتمية لم تتحقق حتى الآن وهي العمدة.. ومن ذلك يظهر بطلان دعاوى المبطلين المنتحلين الذين يحددون وقتاً معيناً مع انه علم استثأر به الله تعالى لنفسه.. ومع ان مدعي اليمانية، (والغريب انهم مجموعة كل منهم يدعي انه اليماني.. ولا دليل لأي منهم إلا مجرد الدعوى.. فأين المعجزة أو أين الكرامة؟) مثلاً مضت عدة سنين على دعواه ولم يظهر الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف مع ان اليماني الصحيح هو الذي يظهر الإمام في نفس سنة قدومه[29].
4- وبعضها رمزية لا يصح تطبيقه على شيءٍ دون دليل
رابعاً: ان كثيراً من تلك العلامات قد تكون رمزية وقد لا تكون، فما أدراكم ما المقصود منها كي تقولوا ان العلامة قد تحققت إضافة إلى ما مضى من انه قد تكون لها مصاديق متعددة إذ ما أدرانا بأن الهاشمي الذي يذبح بين الركن والمقام هو هذا (بل لعله في واقعه ليس هاشمياً أصلاً) وما أدرانا ان الرايات السود من خراسان هي هذه وأن الريح السوداء بمدينة السلام هي هذه.. إلخ
ولذا نجد الخطأ في التطبيق كثيراً ما وكما قال بعض الباحثين: (في فترات مختلفة، تم تطبيق علامات الظهور على الظواهر أو بعض الأفراد، حيث تم إجراء هذه التطبيقات من قبل الأفراد أو الحكومات بدوافع مختلفة. على سبيل المثال، تم تطبيق شروق الشمس من جهة الغرب على تشكيل الدولة الفاطمية في مصر، وعلى النفس الزكية محمد بن عبد الله بن الحسن المثنى)[30].
الفصل الخامس: الأدعية والإحراز في دائرة الأدب التصويري
والأدعية والأحراز أيضاً تستخدم الأدب التصويري في أبدع تجلياته.. وبذلك تستثير القوة المتخيلة بقوة.. لتتجسد المعاني المجردة في قوالب مجسدة تملأ السمع والبصر والضمير والوجدان، فلاحظ مثلاً دعاء شجرة النبوة الوارد عن الإمام السجاد (عليه السلام) إذ كان الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) يدعو عند كل زوال من أيام شعبان وفي ليلة النصف منه ويصلي على النبي (صلى الله عليه وآله) بهذه الصلوات (الدعاء): «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ شَجَرَةِ النُّبُوَّةِ وَمَوْضِعِ الرِّسَالَةِ وَمُخْتَلَفِ الْمَلَائِكَةِ وَمَعْدِنِ الْعِلْمِ [والصدق] وَأَهْلِ بَيْتِ الْوَحْيِ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ الْفُلْكِ الْجَارِيَةِ فِي اللُّجَجِ الْغَامِرَةِ يَأْمَنُ مَنْ رَكِبَهَا وَيَغْرَقُ مَنْ تَرَكَهَا الْمُتَقَدِّمُ لَهُمْ مَارِقٌ وَالْمُتَأَخِّرُ عَنْهُمْ زَاهِقٌ وَاللَّازِمُ لَهُمْ لَاحِقٌ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدِ الْكَهْفِ الْحَصِينِ وَغِيَاثِ المضطرين والمساكين [الْمُضْطَرِّ الْمُسْتَكِينِ] وَمَلْجَإِ الْهَارِبِينَ وَمُنْجِى الْخَائِفِينَ وَعِصْمَةِ الْمُعْتَصِمِينَ».
فإنه بأجمعه يعتمد على الأدب التصويري فلاحظ:
* «شَجَرَةِ النُّبُوَّةِ وَمَوْضِعِ الرِّسَالَةِ وَمُخْتَلَفِ الْمَلَائِكَةِ وَمَعْدِنِ الْعِلْمِ [والصدق] وَأَهْلِ بَيْتِ الْوَحْيِ».
* «الْفُلْكِ الْجَارِيَةِ فِي اللُّجَجِ الْغَامِرَةِ يَأْمَنُ مَنْ رَكِبَهَا وَيَغْرَقُ مَنْ تَرَكَهَا الْمُتَقَدِّمُ لَهُمْ مَارِقٌ وَالْمُتَأَخِّرُ عَنْهُمْ زَاهِقٌ وَاللَّازِمُ لَهُمْ لَاحِقٌ» فتجسد بعينِ عقلكِ منظرَ السفينة وركابها وتاركيها.. إلخ
* «الْكَهْفِ الْحَصِينِ وَغِيَاثِ المضطرين والمساكين [الْمُضْطَرِّ الْمُسْتَكِينِ] وَمَلْجَإِ الْهَارِبِينَ وَمُنْجِى الْخَائِفِينَ وَعِصْمَةِ الْمُعْتَصِمِينَ».
وكذلك حرز الإمام المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف المذكور في مهج الدعوات، والمجرب لقضاء مختلف الحاجات وهو «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا مَالِكَ الرِّقَابِ وَيَا هَازِمَ الْأَحْزَابِ يَا مُفَتِّحَ الْأَبْوَابِ يَا مُسَبِّبَ الْأَسْبَابِ سَبِّبْ لَنَا سَبَباً لَا نَسْتَطِيعُ لَهُ طَلَباً بِحَقِّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ أَجْمَعِين»[31] فإنه بدل أن يقول مثلاً (يا الله.. يا قادر) انصرف إلى ذكر تجليات القدرة الإلهية المتمظهرة بأشكال متجسدة فلاحظ:
«يَا مَالِكَ الرِّقَابِ...»
«وَيَا هَازِمَ الْأَحْزَابِ...»
«يَا مُفَتِّحَ الْأَبْوَابِ...»
القوة المتخيلة على ضوء التجربة والعلم الحديث
وقد اثبت التجارب والعلم الحديث صحة نظرية تأثير القوة المتخيلة لا على الأعصاب والمخ والتفكير فقط بل على العضلات أيضاً وهذه بعض النماذج.
1- دراسة أجراها عالم النفس "آلان ريتشاردسون" على لاعبي كرة السلة.
المنهجية: قُسّم المشاركون إلى ثلاث مجموعات:
1. الأولى مارست التصويب فعليًا.
2. الثانية لم تمارس التدريب.
3. الثالثة تخيلت ممارسة التصويب دون أي نشاط فعلي.
النتائج: أظهرت المجموعة التي تخيلت التدريب تحسّنًا كبيرًا قريبًا من المجموعة التي تدربت عمليًا.
ب. التأثير على العضلات (التخيل الحركي):
التجربة: دراسة أظهرت أن تخيل ممارسة التمارين الرياضية يزيد من قوة العضلات بنسبة تصل إلى 13%.
التفسير العلمي: الخيال يُنشط الأعصاب الحركية، مما يُحفز العضلات بشكل غير مباشر.
ولكن كانت هنالك تجارب أقوى بكثير في التأثير كالنماذج الآتية، ويعود ذلك بالأساس إلى درجة التزام المتمرنين بالتمارين الخيالية بالشروط الستة الآتية:
2- (وفي تجربة أخرى في أولمبياد عام 1980م قام الفريق الروسي باستخدام طريقة تدريب أخرى وهي تقسيم الفريق الأولمبي عشوائياً إلى أربعة مجموعات:
المجموعة الأولى: 100% تدريب تقليدي جسدي.
المجموعة الثانية: 75% تدريب جسدي وخمسة وعشرون بالمائة تدريب عقلي أو تخيلي.
المجموعة الثالثة: 50% تدريب جسدي وخمسين بالمائة تدريب تخيلي.
أما المجموعة الرابعة: 25% تدريب جسدي وخمسة وسبعين بالمئة تدريب تخيلي.
النتيجة كانت: أنّ المجموعة الرابعة حقّقت أكبر قدر من أوسمة الفوز.
تم تكرار تجارب مختلفة وفي مجالات مختلفة، النتيجة هي نفسها: العقل البشري لا يفرق بينما تقوم به فعلاً وما تتخيله.
وهنالك تجارب من نوع آخر تدل على مدى تأثير تقمص شخصية الآخرين والتشبه بهم في صناعة شاكلة الإنسان النفسية وبناء قراراته وتصرفاته.
3- تجربة سجن ستانفورد Stanford Prison Experiment.
في عام 1971، أجرى العالم فيليب زيمباردو تجربة حيث قُسّم المشاركون إلى مساجين وحراس في بيئة وهمية تشبه السجن.
خلال أيام قليلة، بدأ الحراس يتصرفون بعنف وسادية، وبدأ المساجين يشعرون بالخضوع والضغط النفسي، على الرغم من أن كل شيء كان مجرد لعبة.
هذه التجربة أظهرت انه كيف يمكن للتلقين والدور الاجتماعي المفروض أن يغيّر تصرفات الأفراد جذرياً.
4- تجربة أطفال روزنتال Rosenthal Experiment.
قام الباحث روبرت روزنتال بإخبار المعلمين أن بعض الطلاب لديهم قدرات عقلية استثنائية (وهمياً).
بعد فترة، أظهر هؤلاء الطلاب بالفعل أداءً أعلى لأن المعلمين كانوا يعاملونهم بناءً على هذا الإيحاء الإيجابي.
والتجربة الأخيرة تدلنا على مدى أهمية أن يتعامل الوالدان مع أبنائهم وبناتهم باحترام، ومن البديهي ضرورة العكس أي احترام الأولاد للآباء والأمهات بمنتهى درجات الاحترام، ذلك ان هذا الاحترام يصقل شخصياتهم ويزرع فيهم الثقة بالنفس، عكس ما لو تعاملوا معهم بإذلال حيث يعيش الأبناء حينئذٍ عقدة النقص والحقارة التي ستنعكس على شخصياتهم فتكون شخصياتهم غير سوية.. وقد تختزن في داخلها الحقد الكبير الذي سينفجر لاحقاً على المجتمع: على اسرته هو، على جيرانه، على موظفيه، على زملائه.. إلخ وقد تصنع منه شخصية إجرامية لا سمح الله.
ولذا ورد في الروايات ان من حقوق الولد على والده أن يحسن اسمه وأدبه و... فعن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنّه قال له: «يَا عَلِيُّ حَقُّ الْوَلَدِ عَلَى وَالِدِهِ أَنْ يُحْسِنَ اسْمَهُ وَأَدَبَهُ وَيَضَعَهُ مَوْضِعاً صَالِحاً»[32] وعن الإمام أبي الحسن (عليه السلام) قال: «أَوَّلُ مَا يَبَرُّ الرَّجُلُ وَلَدَهُ أَنْ يُسَمِّيَهُ بِاسْمٍ حَسَنٍ فَلْيُحْسِنْ أَحَدُكُمُ اسْمَ وَلَدِهِ»[33]. هذا
الخطوات الست في بناء خيال إيجابي نشط فاعل
وأما الخطوات الست لتفعيل القوة المتخيلة وللوصول إلى خيال نشط فعال إيجابي يصنع شخصيات واثقة من أنفسها كما يضمن لها إلى حد بعيد النجاح في مستقبلها.. ويوفر لها المناعة من الكآبة والوسواس والأمراض.. كما يمكنها من التخلص من الإدمان على المعاصي والمسكرات والمخدرات وشبه ذلك.
1-2- وضوح الصورة المتخيلة، وتجسيدها في الذهن بتفاصيلها الدقيقة.. وذلك كأن تتصور نفسك بوضوح وأنت تقرأ كتاباً وانّ حافظتك تلتقط المعلومات بدقة ووضوح وقوة ثم تستشعر المتعة الكبيرة الذي تغمرك إثر ذلك.. ثم تتصور نفسك بوضوح في جمع من الناس بعد أسبوع مثلاً وانهم يسألوك بأسئلة متنوعة وان المعلومات التي قرأتها قبل أسبوع أو شهر أو سنة بدأت تتدفق كالشلال.. تصور ذلك بوضوح وعمق وبتفاصيله الطريفة.
3- التكرار.. كرّر تصور المشهد السابق كل يوم خمس أو عشر مرات أو أكثر، وذلك لتحفيز العقل الباطن أكثر فأكثر.
4- ادمج ذلك كله بالعاطفة الجياشة وبالمشاعر القوية.. أي تحسّس السعادة التي تتملكك وأنت تمتلك ذاكرة جبارة أو وأنت قد قاومت معصية برزت أمامك.. بقوة وبسالة، أو وأنت تقتلع رذيلة متجذرة فيك (كالبخل والحسد والرياء والعجب وحب الرياسة.. إلخ..) واستشعر لطف الله بك وأنت تقاوم وتقاوم ثم تنجح، وتحسس رضا صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف عنك وأنت تقلع عن المعصية.. تحسس ذلك وكأنك تتمثّل حضوره عجل الله تعالى فرجه الشريف ومشاهدته لك وابتسامته المشرقة بنجاحك في قهر الشيطان وإطاعة الرحمن.
5- حدّد أهدافك وما تريد أن تكون عليه بوضوح.. فلا تكتفِ مثلاً بأن تتخيل نفسك عالماً من العلماء.. بل تمثّل العلامة الشيخ الأعظم الأنصاري أو المقدس الأردبيلي، أو العلامة المجلسي أو الحلي، أو الشيخ الطوسي.. أو حتى سلمان المحمدي والمقداد و... وتخيل نفسك ترتقي جبال العلم والورع والتقوى بعزم وإصرار.. مُجِدّاً في السير حتى الوصول إلى درجات علمهم أو ورعهم أو زهدهم.. وأملأ طريقك كله بالمشاهد المتجسدة عن العلم والسؤال والجواب والتدريس في مسجد غاص بالعلماء.. وهكذا..
6- لتكن الصورة التي تحددها لنفسك منطقية.. كي يقتنع الوعي الظاهر بها.. ولا يكذّبها.. وكي ينقاد لها الوعي الباطن بشكل أسلس.. وإلا قاومها الوعي الظاهر بعنف إذا ما علم بأنها فكرة مستحيلة.. كأن تتخيل نفسك خلال سنتين كالشيخ الأنصاري.. مع ان الرحلة تستغرق مثلاً خمسين سنة.. او تتخيل نفسك تملك مائة مليار دولار خلال ثلاثة سنوات مع أنك تعيش بلاداً لا تسمح بأية فرصة للرقي والتطور.. وهكذا
نعم لتكن الصورة المتخيلة كبيرة.. ولكن في الوقت نفسه غير مستحيلة.
وإذا استعنت على ذلك كله بالتوكل على الله تعالى وبالتوسل بالرسول وآله وبالتهجد والتضرع والدعاء.. مع العزيمة والإصرار وتكرار الخطوات الست الآنفة.. فسرعان ما تجد الثمرات ناضجة.. حلوة.. شهية.. بل ومبهرة بإذن الله تعالى.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين
اضف تعليق