الكل يبحث عن السعادة وينشدها بل ويتمناها، ولكنها أضحت كالشجرة المحرمة أو كالسراب الذي تراه عن بعد كحقيقة واقعة لكنك ما أن تقترب منه حتى تفقده هي كرّارة فرّارة، فما أن تحصل على ساعات من السعادة أو دقائق أو حتى ثواني، إلا وقد تجد نفسك بعدها والحزن يعتصرك...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وأهل بيته الطاهرين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبيرٌ بِما تَفْعَلُونَ)[1]، و(صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً)[2]، وقال جل اسمه: (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ)[3]، وقال: (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[4].
لماذا أصبحت السعادة كالشجرة المحرّمة؟
البحث يدور عن السعادة والهناء والشقاء والعناء، وعن مقوِّمات الحياة السعيدة، وذلك يعدّ من أهم، إن لم يكن أهم، ما يقلق البشرية على مر التاريخ، ذلك أن الكل يبحث عن السعادة وينشدها بل ويتمناها، ولكنها أضحت كالشجرة المحرمة أو كالسراب الذي تراه عن بعد كحقيقة واقعة لكنك ما أن تقترب منه حتى تفقده (كَسَرابٍ بِقيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ)[5]، أو بوجه آخر: هي كرّارة فرّارة، فما أن تحصل على ساعات من السعادة أو دقائق أو حتى ثواني، إلا وقد تجد نفسك بعدها والحزن يعتصرك والأسى، وما أن تشعر بلذة الراحة والهناء، ببيت جديد أو مال وفير أو موقع راق أو غير ذلك إلا وتجد الكآبة تسلل إليك من نفس البوابة أو من بوابات أخرى فقد يتحول مصدر السعادة بنفسه إلى مصدر للشقاء وقد تنبعث شرارات الإحباط واليأس والشقاء من عوامل أخرى منافسة.
وليس من الغريب اننا نجد، في العصر الراهن، الجميع يعانون إما من الفقر أو من الجوع أو من البطالة أو التضخم أو من الأمراض والأعراض أو من صديق حاسد أو عدو حاقد، أو من جارٍ مؤذٍ أو حكومة ظالمة أو من منافس شرس أو غير ذلك.
بل لقد تضاءل عدد السعداء بمرور الزمن.. فبعد أن كان الطابع العام للناس السعادة تجد الطابع العام لهم الآن الحزن، والإحباط، واليأس والاكتئاب كما تجد نسبة السعادة في المدن، حيث الثراء والمناصب والإمكانات المتنوعة والتعليم الراقي، أقل منها بكثير عن القرى والأرياف.
وهكذا نجد ان نسبة الكآبة والإحباط واليأس ومختلف الأمراض النفسية، كالبارانويا والماليخوليا والوسواس القهري ثنائي القطب وغير ذلك، في ازدياد.
وهذه بعض الإحصاءات التي تكشف لنا جوانب من عمق المأساة (يصيب الاكتئاب ما يقرب من 280 مليون شخص حول العالم، كما يؤثر على 5% من البالغين سنويا، حسب منظمة الصحة العالمية)[6].
(يعاني ما يقدر بنحو 3,8٪ من السكان من الاكتئاب، بما في ذلك 5٪ من البالغين (4٪ من الرجال و6٪ من النساء)، و5,7٪ من البالغين الذين تزيد أعمارهم على 60 عاماً. ويعاني نحو 280 مليون شخص في العالم من الاكتئاب[7].
ويزيد شيوع الاكتئاب بين النساء مقارنة بالرجال بنسبة 50% تقريباً. وعلى الصعيد العالمي، تعاني أكثر من 10% من النساء الحوامل والنساء اللاتي ولدن حديثاً من الاكتئاب[8]. ويموت أكثر من 000 700 شخص منتحراً كل عام. ويُعد الانتحار رابع الأسباب الرئيسية للوفاة بين الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و29 سنة)[9].
وليس الاكتئاب بالمرض البسيط بل انه مرض مقلق إذ تصحبه أو تنجم عنه أعراض سلبية مزعجة أو مؤلمة وقد تكون أحياناً خطيرة:
الآثار السلبية الخطيرة لمرض الاكتئاب
وهذه بعض آثار الاكتئاب (كشفت دراسة صادرة عن جامعة كامبريدج عام 2013، ونشرتها دورية "سي إن إس سبكترام"، عن أن الأشخاص المصابين بالاكتئاب أبلغوا عن شكاوى في الذاكرة ومجموعة من الإخفاقات والإعاقات المعرفية؛ مثل صعوبة تذكر الكلمات والمعلومات، وصعوبة اتخاذ القرارات وتحديد الأولويات، فضلا عن صعوبة التركيز والتفكير، كما أبلغوا عن بطء الاستجابة واكتساب المعلومات الجديدة...
أن الاكتئاب يؤثر على الوظائف المعرفية؛ مثل سرعة وكفاءة استيعاب المعلومات وتذكرها، ويضعف القدرة على التركيز والتفكير في المشكلات أو الوصول إلى حلول منطقية وغير ذلك من مهارات التفكير. وبمرور الوقت تزداد المشكلات المعرفية لدى الشخص المصاب بالاكتئاب...
وحسب فو، فإن الاكتئاب يرتبط بتغيرات في بنية الدماغ ووظائفه؛ إذ يقلل المادة الرمادية في الدماغ، ويعمل على انكماش حجم قشرة الفص الجبهي والفص الصدغي الخلفي ومنطقة الحصين واللوزة الدماغية. مما يؤثر على العديد من الوظائف المعرفية والعمليات الإدراكية والوظائف التنفيذية مثل التخطيط والاستدلال واتخاذ القرارات، لا سيما مع انخفاض النواقل العصبية مثل السيروتونين والدوبامين والغلوتامات)[10].
إضافة إلى ذلك فإنه (يعاني المكتئب خلال نوبة الاكتئاب من تكدّر المزاج (الشعور بالحزن وسرعة الغضب والفراغ). وقد يشعر بفقدان الاستمتاع أو الاهتمام بالأنشطة.
وتختلف نوبة الاكتئاب عن تقلبات المزاج المعتادة. وتستمر معظم اليوم، وتحدث كل يوم تقريباً، لمدة أسبوعين على الأقل.
وهناك أيضاً أعراض أخرى للاكتئاب، منها ما يلي:
ضعف التركيز
الإفراط في الشعور بالذنب أو ضعف تقدير الذات
اليأس من المستقبل
التفكير في الموت أو الانتحار
اضطراب النوم
تقلبات الشهية أو الوزن
الشعور بالتعب أو فتور الطاقة.
ويمكن أن يؤدي الاكتئاب إلى المعاناة في جميع مناحي الحياة، بما في ذلك في المنزل والعمل والمدرسة)[11].
بل الإحصاءات الأحدث تقول: (هناك أكثر من 300 مليون شخص من مختلف الأعمار على مستوى العالم يعانون من الاكتئاب. منظمة الصحة العالمية تقول إنه السبب الرئيسي للعجز عالمياً.
الاكتئاب الحاد يوضع في تصنيف فئة العجز وهو التصنيف ذاته الذي يوضع فيه مرض السرطان في المرحلة المتأخرة)[12].
أسباب الاكتئاب
و(ينتج الاكتئاب عن تفاعل معقد بين العوامل الاجتماعية والنفسية والبيولوجية. ويُعد الأشخاص الذين عاشوا تجارب سلبية (البطالة، أو فقدان شخص عزيز، أو الأحداث الصادمة) أشد تعرضاً للإصابة بالاكتئاب. ويمكن أن يؤدي الاكتئاب بدوره إلى مزيد من التوتر واختلال الأداء وأن يؤدي إلى تدهور أوضاع الحياة للشخص المصاب وإلى تفاقم الاكتئاب نفسه.
ويرتبط الاكتئاب ارتباطاً وثيقاً بالصحة البدنية. فالعديد من العوامل التي تؤثر على الاكتئاب (مثل الخمول البدني أو تعاطي الكحول على نحو ضار)، تُعد أيضاً من عوامل الخطر المعروفة لأمراض مثل أمراض القلب والأوعية والسرطان والسكري وأمراض الجهاز التنفسي. وفي المقابل، يمكن أيضاً أن يجد المصابون بهذه الأمراض أنفسهم مصابين بالاكتئاب بسبب الصعوبات المرتبطة بالتدبير العلاجي لحالاتهم)[13].
(العوامل الوراثية تلعب دورا في الإصابة بالاكتئاب، فوجود شخص مريض به في العائلة يزيد فرصة الإصابة به، لكن هذا لا يعني أن توأمين متطابقين سيصابان به. فقط في 30 في المئة من الحالات يمكن أن يحدث هذا الأمر.
البكتريا الموجودة في الأمعاء قد تسبب المرض، وهناك أدلة طبية على أن هذه البكتريا قد تساهم في ظهور اضطرابات التوحد والمزاج.
الإصابة بأمراض جسدية أخرى مثل السكري وأمراض القلب وغيرها من الأمراض قد تؤدي إلى الاكتئاب.
قد يلجأ البعض إلى شرب الكحول أو تعاطي المخدرات للتخفيف من الأعراض، لكن في الواقع هذا قد يفاقم من الأثر النفسي للاكتئاب...
ومع ذلك فإنه لا يلقى هذا المرض الاهتمام الكافي من الحكومات، بحسب تقارير صدرت أخيرا أشارت إلى أن الأمراض النفسية عموما قد تكلف العالم 16 تريليون دولار بين عامي 2010 و2030)[14].
الوسواس القهري
وأما الوسواس القهري فإنه (يصيب اضطراب الوسواس القهري OCD، حسب إحصائيات منظمة الصحة العالمية WHO، نحو 1.1% إلى 1.8% من سكان العالم، وقد صنفت منظمة الصحة العالمية اضطراب الوسواس القهري في المرتبة العاشرة من بين أكثر الاضطرابات النفسية المؤثرة والمرهقة، لأن أعراضه تسبب الكثير من القلق، والتوتر، والإحباط، وتدني احترام الذات، وقد تسبب العجز في مجال واحد أو أكثر من المجالات الاجتماعية المتنوعة (العائلية، والعاطفية، والشخصية.
ويحتل اضطراب الوسواس القهري أيضًا لوحده المرتبة العشرين عالميًا من بين الأمراض المسببة للإعاقة، إذ تعرف الإعاقة بكونها أي حالة نفسية أو جسدية تحد من قدرة الفرد على القيام بنشاطات معينة أو التواصل مع العالم المحيط، ويعد اضطراب الوسواس القهري المسبب الخامس عالميًا للأمراض المرهقة عند النساء بين أعمار 15 – 44 سنة...
تشير دراسة لجامعة هارفارد الطبية أن اضطراب الوسواس القهري يكون شديدًا عند نحو نصف المرضى (50.6%)، بينما يكون متوسط الشدة عن ثلثهم تقريبًا (34.7%)، وخفيف الأعراض عند الربع فقط (15%).
وتنقسم أعراض اضطراب الوسواس القهري إلى نوعين رئيسيين هما الأفكار الوسواسية، والسلوكيات القهرية. تصيب هذه الأفكار والسلوكيات معظم مرضى الوسواس القهري، لكن يمكن أن يختبر بعض المرضى نوعًا واحدًا من هذين العرضين.
الأفكار الوسواسية: تكون هذه الأفكار مزعجة ومعندة لا يستطيع المريض التخلص منها، وتتكرر كثيرًا مهما حاول تجنبها، تتضمن أشيع هذه الأفكار:
القلق المستمر من المرض، أو الجراثيم، أو الأوساخ.
الخوف الدائم من إيذاء النفس أو الأشخاص المحيطين.
الخوف من قول شيء مزعج أو مخجل.
الرغبة في ترتيب الأغراض الشخصية، وأن تكون دائمًا منتظمة ومرتبة.
أفكار عنيفة أو غير مألوفة.
القلق من التخلص من بعض الأشياء والممتلكات.
السلوكيات القهرية: تمثل السلوكيات القهرية رد فعل المريض على الأفكار الوسواسية، ويساعد القيام بها على تخفيف حدة التوتر والقلق التي يشعر بها من تلك الأفكار. قد يكرر المريض السلوكيات القهرية عددًا كبيرًا من المرات حتى يشعر بالراحة وزوال شعور القلق، تتضمن أهم هذه السلوكيات:
غسل اليدين، أو الجسم، أو الأشياء.
تنظيم وترتيب الأشياء والأغراض في نظام معين.
العد أو تكرار جمل معينة عددًا من المرات.
لمس شيء معين بشكل متكرر.
القيام بسلوكيات تهدف للحصول على الاطمئنان من الآخرين.
إخفاء أدوات معينة خوفًا من إيذاء النفس أو الآخرين.
التفكير المستمر بأفعال الماضي للتأكد من عدم إزعاج الآخرين.
العوامل المؤهبة لاضطراب الوسواس القهري...
عوامل الوسواس القهري
وتشارك مجموعة متنوعة من العوامل الوراثية، والبيئية، والفيزيولوجية في تحديد خطر حدوث اضطراب الوسواس القهري، تتضمن أهم هذه العوامل:
العمر: تحدث أغلب حالات اضطراب الوسواس القهري في عمر 19.5، أيضًا يعاني الأشخاص الذين أصيبوا بهذا الاضطراب في عمر مبكر من أعراض أكثر شدة، وغالبًا ما ترافق الإصابة مع اضطراب ثنائي القطب أو اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه ADHD.
الوراثة: يزيد وجود تاريخ عائلي مع اضطراب الوسواس القهري من خطر الإصابة به.
الجنس: يشيع اضطراب الوسواس القهري بصورة أكبر عند النساء (1.8%) مقارنة بالرجال (0.5 %).
القلق المستمر والصدمة النفسية: يزيد التعرض للمواقف المسببة للقلق والصدمة في المنزل، أو العمل، أو في الحياة الشخصية من خطر الإصابة بالوسواس القهري.
الصفات الشخصية: تزيد بعض الصفات الشخصية مثل عدم القدرة على التأقلم مع الأمور المجهولة، أو الكمالية، أو الشعور المفرط بالمسؤولية من خطر الإصابة بالوسواس القهري.
سوء المعاملة في الطفولة: يقع الأطفال الذين تمت إساءة معاملتهم في الصغر مثل التعرض للتنمر أو الإهمال تحت خطر أكبر للإصابة بالوسواس القهري.
يعاني نحو 90% من مرضى اضطراب الوسواس القهري اضطرابًا نفسيًا آخر إلى جانب الوسواس القهري، تتضمن أشيع هذه الاضطرابات:
اضطرابات القلق، مثل اضطراب القلق، والرهاب، واضطراب الكرب التالي للصدمة (75.8%).
اضطرابات المزاج، التي تتضمن اضطراب ثنائي القطب واضطراب الاكتئاب الكبير (63.3%).
اضطرابات التحكم، مثل اضطراب فرط الحركة ونقص التركيز (55.9%).)[15] انتهى.
ولقد كان أحدهم يتوهم أن رأسه أصبحت محطة لعش الطيور والحمائم وانها تهبط على رأسه وتدخل فيه باستمرار ثم تحلق وهكذا طوال النهار.. حتى عالجه ابن سينا في قصة طريفة.
وقد يتصور أحدهم أن الشجرة تأكله.. أو أن الجن وراء كل شيء حدث أو يحدث في منزله أو غيره (كسرقة أو غيرها).
وهنالك من تعرضه الوسوسة في شؤون الخلقة.. وهكذا.
وعند دراسة أسباب أنواع الاكتئاب والوسواس القهري ونظائرها، نجد ان الكثير من أمراض الوسواس القهري وأنواع الاكتئاب والأمراض النفسية تعود بالأساس إلى ضغوط نفسية كبيرة تعرّض لها المرء في صغره، كما لو عانى الفقر الشديد أو الحرمان مما كان يرغب فيه بشدة ويحبه، أو تعرض للعنف والإيذاء والضرب المبرح، وقد تكون تلك الأمراض الترجمان عن ضغوط حالية، كضغط المنافسة الشديدة أو البطالة أو الخوف من المستقبل المجهول أو الخوف من الفشل أو الرسوب في الامتحان أو غير ذلك.
مفاتيح الحل:
وهنا علينا أن نتساءل عن الحل؟ والجواب هو: ان الحلول متنوعة ومنها ما يسمى بالعلاج المعرفي – السلوكي.
أولاً: المعرفة
وذلك بأنواعها الأربعة الآتية:
أعرف ربك بالحكمة، وأعرف ربك بالمحبة لك والرحمة، وأعرف مآلات الأمور، وأعرف فلسفة البلاء، فلنبدأ بها بدواً من الرابع وصولاً إلى الأول:
أ- اعرف فلسفة البلاء،
قال النبي (صلى الله عليه وآله): (لَا تَكُونُ مُؤْمِناً حَتَّى تَعُدَّ الْبَلَاءَ نِعْمَةً وَالرَّخَاءَ مِحْنَةً لِأَنَّ بَلَاءَ الدُّنْيَا نِعْمَةٌ فِي الْآخِرَةِ وَرَخَاءَ الدُّنْيَا مِحْنَةٌ فِي الْآخِرَةِ)[16].
وهي تشكل سنّة إلهية تحكم حياة البشرية قَبِل مَن قَبِل ورَفَضَ من رَفَض!
وورد: (إِنَّ اللَّهَ يَتَعَاهَدُ وَلِيَّهُ بِالْبَلَاءِ كَمَا يَتَعَاهَدُ الْمَرِيضَ أَهْلُهُ بِالدَّوَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيَحْمِي عَبْدَهُ الدُّنْيَا كَمَا يُحْمَى الْمَرِيضُ الطَّعَامَ)[17].
فهي إذاً عناية إلهية خاصة بالمؤمن، والبلاء إذاً وقاية من الأسوأ وعلاج لكي تبرأ، إذ شهوات الدنيا منشأ كل شر والعاصم منها لطف الله تعالى بعبده بمواصلة ابتلاءاته له.
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (لَنْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ حَتَّى تَعُدُّوا الْبَلَاءَ نِعْمَةً وَالرَّخَاءَ مُصِيبَةً وَذَلِكَ أَنَّ الصَّبْرَ عِنْدَ الْبَلَاءِ أَعْظَمُ مِنَ الْغَفْلَةِ عِنْدَ الرَّخَاءِ)[18].
فذلك إذاً شرط الإيمان! والغفلة عند الرخاء أعظم خطراً وأكبر ضرراً من مرارة الصبر عند البلاء فأيهما الأرجح؟
وعن أبي جعفر، عن آبائه (عليهم السلام) قالوا: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا قَارَفَ الذُّنُوبَ ابْتُلِيَ بِهَا بِالْفَقْرِ، فَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ كَفَّارَةٌ لِذُنُوبِهِ، وَإِلَّا ابْتُلِيَ بِالْمَرَضِ، فَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ كَفَّارَةٌ لِذُنُوبِهِ، وَإِلَّا ابْتُلِيَ بِالْخَوْفِ مِنَ السُّلْطَانِ يَطْلُبُهُ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَفَّارَةً لِذُنُوبِهِ وَإِلَّا ضُيِّقَ عَلَيْهِ عِنْدَ خُرُوجِ نَفْسِهِ، حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ حِينَ يَلْقَاهُ، وَمَا لَهُ مِنْ ذَنْبٍ يَدَّعِيهِ عَلَيْهِ، فَيَأْمُرُ بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ.
وَإِنَّ الْكَافِرَ وَالْمُنَافِقَ لَيُهَوَّنُ عَلَيْهِمَا خُرُوجُ أَنْفُسِهِمَا، حَتَّى يَلْقَيَا اللَّهَ حِينَ يَلْقَيَانِهِ وَمَا لَهُمَا عِنْدَهُ مِنْ حَسَنَةٍ يَدَّعِيَانِهَا عَلَيْهِ فَيَأْمُرُ بِهِمَا إِلَى النَّارِ)[19].
فالبلايا التي تنزل على المؤمن إذاً هي لتطهيره من الذنوب التي لو بقيت عليه لابتلي بأمثال ما وصفه تعالى بقوله: (يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَديدٌ)[20].
ب- أعرف مآلات الأمور
عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إِنَّ عَظِيمَ الْبَلَاءِ يُكَافَأُ بِهِ عَظِيمُ الْجَزَاءِ فَإِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْداً ابْتَلَاهُ بِعَظِيمِ الْبَلَاءِ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ عِنْدَ اللَّهِ الرِّضَا وَمَنْ سَخِطَ الْبَلَاءَ فَلَهُ عِنْدَ اللَّهِ السَّخَطُ)[21].
فهي درجات إذاً: كلما كان بلاؤك أعظم كان أجرك أكبر وكلما ابتليت ببلايا أشد فأعرف ان الله يحبك أكثر.. فَلِم الحزن بعد ذلك ولم الاكتئاب؟.
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَا مِنْ عَبْدٍ أُرِيدُ أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ إِلَّا ابْتَلَيْتُهُ فِي جَسَدِهِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَفَّارَةً لِذُنُوبِهِ، وَإِلَّا ضَيَّقْتُ عَلَيْهِ فِي رِزْقِهِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَفَّارَةً لِذُنُوبِهِ، وَإِلَّا شَدَّدْتُ عَلَيْهِ الْمَوْتَ، حَتَّى يَأْتِيَنِي وَلَا ذَنْبَ لَهُ ثُمَّ أُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ.
وَمَا مِنْ عَبْدٍ أُرِيدُ أَنْ أُدْخِلَهُ النَّارَ، إِلَّا صَحَّحْتُ جِسْمَهُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ تَمَاماً لِطَلِبَتِهِ، وَإِلَّا آمَنْتُ [خَوْفَهُ] لَهُ وَعَنْ سُلْطَانِهِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ تَمَاماً لِطَلِبَتِهِ، وَإِلَّا هَوَّنْتُ عَلَيْهِ الْمَوْتَ، حَتَّى يَأْتِيَنِي وَلَا حَسَنَةَ لَهُ، ثُمَ أَدْخَلْتُهُ النَّارَ)[22].
والجنة مثمن عظيم جداً جداً بل أي قياس بين نعيم لا يفنى ولما لا يتناهى من السنين وليس مليون أو مليار أو ترليون سنة فقط وبين لذة لا تبقى إلا لعشرات السنين، غاية الأمر، على ما فيها وحواليها من المنغصات من كل الجهات؟
بل لئن كانت نسبة الواحدة إلى الألف أو الواحد إلى المليون أو الواحد إلى المليار أو الترليون أو الكوادرليون أو الكوانتليون أو السييكستليون أو السيبتليون أو أوكتليون.. إلخ هي نسبة معينة مهما كانت ضئيلة، فإن نسبة الواحد إلى اللامتناهي هي من دون نسبة أصلاً!
ج- أعرف ربك بالمحبة لك والرحمة
عن أبي عبد الله (عليه السلام): (أَنَّ فِيمَا أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ (عليه السلام): يَا مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ مَا خَلَقْتُ خَلْقاً أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ عَبْدِيَ الْمُؤْمِنِ، فَإِنِّي إِنَّمَا أَبْتَلِيهِ لِمَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأُعَافِيهِ لِمَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَزْوِي عَنْهُ مَا هُوَ شَرٌّ لَهُ لِمَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ،
وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا يَصْلُحُ عَلَيْهِ عَبْدِي، فَلْيَصْبِرْ عَلَى بَلَائِي وَلْيَشْكُرْ نَعْمَائِي وَلْيَرْضَ بِقَضَائِي أَكْتُبْهُ فِي الصِّدِّيقِينَ عِنْدِي إِذَا عَمِلَ بِرِضَائِي وَأَطَاعَ أَمْرِي)[23].
فأنت، أيها المؤمن، إذاً أ- أحبّ المخلوقات إلى الله تعالى، وهل رأيت حبيباً يؤذي محبوبه؟ فإن إعطاه الدواء المرّ مثلاً أو ذهب به إلى المستشفى ليجري له عملية جراحية، فذلك لأن ذلك كان ضرورياً له باقصى درجات الضرورة وكان مقتضى حبه له!
ب- كما أن الله تعالى لا يختار لك إلا ما يصلحك، وإن توهمت العكس فأعرف أن ذلك لقلة معلوماتك وعدم إحاطتك بالمنظومة الكاملة المحيطة بك المقتضية لذلك!
د- أعرف ربك بالحكمة
إذ يقول جل اسمه (صُنْعَ اللَّهِ الَّذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبيرٌ بِما تَفْعَلُونَ)[24]، ويقول: (الَّذي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ)[25].
والفرق بين أتقن وأحسن أن الصنع قد يكون متقناً ولكنه لا يكون حسناً، فإن القنبلة الذرية أو القنابل العنقودية أو الجرثومية قد تكون متقنة جداً ولكنها ليست حسنة، وكذا الخطة الجهنمية التي تضعها عقول شيطانية جبارة للإيقاع بالمؤمنين مثلاً قد تكون متقنة جداً ولكن لا تكون حسنة، فنقول: لقد اتقنوا الخطة لكنهم لم يحسنوا صنعها إذ لم يضعوها مواضعها واستهدفوا بها الإفساد بدل الإصلاح..
وصنع الله تعالى متقن في كل جهاته وهو حَسَنٌ من مختلف جوانبه.. فإذا عرف الإنسان بذلك ووثق بخالقه هان عليه البلاء ورضي بالقضاء.. فلم يُصَب بعد ذلك بحزن أو اكتئاب بل ولا بتوتر الأعصاب.
ولا نقصد بذلك أن يرضخ للظلم أو يستسلم للفقر والـعُدم أو لا يسعى لإصلاح ما فسد أو ترويج ما كسد.. بل من الواضح أن عليه السعي لأجل الخلاص مما حلّ به أو لأجل الوقاية مما قد يحل به، بل المقصود أن البلاد النازل إذا كان قهرياً ولم تكن باليد حيلة للخلاص منه، كمصيبة نازلة لا يمكنه الفكاك منها، أو كحكومة ظالمة جائرة قاهرة لا يمكنه الخلاص من شرورها ولا الهجرة مثلاً والفرار منها، أو كحاسد أو حاقد يؤذيه ولم تفلح كافة مساعيه لإطفاء نيران حقده وأعاصير حسده فلا اجداه الإحسان إليه ولا نفعت معه الوسائط لديه ولا.. ولا.. فهنا عليه أن يرضى بالقضاء وان يعرف ويتذكر:
أ- فلسفة البلاء.
ب- عظيم الجزاء.
ج-د- وأن ذلك مادام قهرياً، ومادام الرب الرؤوف الرحيم العليم الحكيم لم يدفعه عنك غيبياً ولا وقاك منه بكثرة الدعاء والصدقات فهو لصالحك حتماً وإن كنت تجهل وجه المصلحة ثم انه قد ينكشف له وجهها في الدنيا وقد يحال أمر اكتشافه إلى الآخرة..
فإذا عرفت ربك بالحكمة والرحمة اطمأننت وسكنت ولم تصب بيأس ولا إحباط ولا كآبة ولم تتوتر أعصابك أبداً بل يكون البلاء عندك نعمة وتكون الشدة عندك مطلوبة..
ولنضرب لك مثلاً.. فإنك إذا أضعت الطريق في غابة خطرة.. فمنّ الله عليك بدليل خبير قوي أمين تثق به تماماً فأبعدك عن جوادّ الطرق الممهدة إلى طريق وعرة شائكة، فإنك ستسر أي سرور بمشاق الطريق وإن جرحت الأشواك فرضاً جلدك مادمت تعرف أن هذا أفضل طريق يسلكه بك الخبير للخلاص من الذئاب المفترسة وأفاعي الكوبرا المتوحشة والمستنقعات أو الرمال المتحركة التي تبتلع من يخطئ حتى بخطوة.. شيئاً فشيئاً حتى الموت.
ولكي نزداد إيماناً بعظيم حِكمة الله تعالى في أي شيء خَلَقَه وأي أمر قدّره وانه (صُنْعَ اللَّهِ الَّذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) فإن من الضروري أن نستحضر قصة ذئاب محمية الصخرة الصفراء The yellow stone.
قصة الذئاب في محمية أمريكية، والتي أربكت أعظم العلماء
فإن من الواضح أن الذئاب من أشرس الحيوانات واسوأها طباعاً فإن الأسد مثلاً لا يفترس إلا إذا جاع فيفترس فريسة واحدة، ويترك سائر الغزلان أو الشياه مثلاً كما انه لا يهاجمك إلا إذا شعر بتهديدك له.. على العكس من الذئب الذي يهاجم القطيع كله فيمزق الكثير من الشياة بطبع شرس همجي.. وحينئذٍ قد يتساءل بعض الناس انه ما الفائدة من خلق الذئاب وقد يتوهم بعضهم كونها مضرة ولا غير؟ وهذه القصة التاريخية معبرة أكبر التعبير عما أشرنا إليه من سعة حكمة الله تعالى.
فعلى حسب الباحثين فـإن قصة الذئاب الرمادية في منتزه يلوستون الوطني في الولايات المتحدة تعد واحدة من أبرز الأمثلة على أضرار التدخل البشري في تغيير البيئة الطبيعية.
فخلال أواخر القرن الـ19 وبداية القرن الـ20، قامت الحكومة الأمريكية بحملة مكثفة للقضاء على الذئاب في أنحاء البلاد، بما في ذلك منتزه يلوستون الوطني. وكان الهدف من ذلك حماية الماشية التي يربيها المزارعون وحماية الحيوانات البرية الأخرى مثل الأيائل (وهي شبيهة بالغزلان ومن فوارقها أن قرونها المشجرة الطويلة تسقط كل سنة ثم تنمو سريعاً من جديد).
وبحلول عام 1926، تم القضاء على جميع الذئاب الرمادية في منتزه يلوستون، مما أدى إلى اختلال التوازن البيئي.
ولكن المضاعفات السلبية الناجمة عن ذلك كانت سيئة جداً:
فبعد اختفاء الذئاب، زادت أعداد الأيائل بشكل كبير؛ مما أدى إلى إفراطها في الرعي فتعرت الأشجار وانتهت النباتات، وتآكلت ضفاف الأنهار بسبب تراجع الغطاء النباتي.
كما انخفضت أعداد بعض الأنواع الأخرى مثل القنادس (وهي مهندسة السدود المائية في وسط الأنهار) والطيور المائية التي تعتمد على النظام البيئي المتوازن.
إعادة الذئاب (1995-1996)
ثم انه بعد عشرات السنين من تلمّس النتائج المرة أدرك العلماء أهمية وجود الذئاب في الحفاظ على التوازن البيئي، وقرروا إعادة إدخال الذئاب الرمادية إلى يلوستون. وفي عامي 1995 و1996، تم استيراد 14 ذئبًا رماديًا من كندا وإطلاقها في المنتزه.
وقام العلماء بمراقبة الذئاب عن كثب لاستكشاف كيفية تأثيرها الإيجابي على البيئة:
قلّلت الذئاب من أعداد الأيائل، مما سمح للنباتات والأشجار مثل الصفصاف والحور بالنمو مجددًا.
وعادت القنادس إلى بناء سدودها، مما ساعد على استعادة توازن النظم المائية.
وتأثرت الكائنات الأخرى إيجابيًا، مثل الطيور المائية والأسماك والدببة.
وأُعيد التوازن إلى النظام البيئي في المنتزه.
قصة الذئاب في يلوستون تُعد مثالًا حيًا على أهمية المفترسات العليا في النظم البيئية ودورها الحيوي في الحفاظ على التوازن البيئي.
ولنعد صياغة القصة مع بعض التفاصيل المهمة الأخرى:
بداية القصة: إبادة الذئاب (1870–1926)
مع توسع المستوطنين الأوروبيين في الغرب الأمريكي في أواخر القرن التاسع عشر، اعتُبرت الذئاب الرمادية مصدر خطر على الماشية وحيوانات الصيد مثل الأيائل والغزلان. وعلى ضوء ذلك أُطلقت حملات صيد منظمة بتمويل حكومي للقضاء على الذئاب، واستخدمت فيها الفخاخ والسموم.
بحلول عام 1926، تم القضاء على آخر ذئب معروف في منتزه يلوستون الوطني.
أدى القضاء على الذئاب إلى انفجار أعداد الأيائل (Elk)، التي لم يعد يوجد أمامها أي مفترس طبيعي،
الأيائل أفرطت في الرعي، وخاصة على ضفاف الأنهار حيث تنمو أشجار الحور الرجراج (Aspen) والصفصاف (Willow).
أدى تراجع الأشجار إلى انخفاض أعداد القنادس، التي تعتمد على تلك الأشجار لبناء السدود.
تآكلت ضفاف الأنهار نتيجة غياب جذور النباتات القوية التي كانت تثبت التربة.
تأثرت الحياة البرية المتنوعة في النظام البيئي، بما في ذلك الطيور والأسماك.
الدعوة لإعادة الذئاب (1970–1995)
خلال سبعينيات القرن العشرين، بدأ علماء البيئة في إدراك الدور الحاسم للذئاب في الحفاظ على التوازن البيئي. وتمّ إدراج الذئب الرمادي ضمن قائمة الأنواع المهددة بالانقراض في عام 1973 بموجب قانون الأنواع المهددة بالانقراض في الولايات المتحدة.
وبعد سنوات من الجدل والمعارضة من قبل مربي الماشية، تمت الموافقة على مشروع إعادة توطين الذئاب في يلوستون.
إعادة إدخال الذئاب (1995–1996)
في عامي 1995 و1996، تم نقل 31 ذئبًا رماديًا من مقاطعة ألبرتا في كندا إلى منتزه يلوستون.
تم إطلاق الذئاب في مناطق آمنة ومحاطة بأسوار مؤقتة لضمان تكيفها مع البيئة الجديدة.
بدأت الذئاب تتكاثر وتنشئ مجموعات أسرية (حزم الذئاب – Wolf Packs).
وهذه بعض النتائج الإيجابية لإعادة الذئاب:
تنظيم أعداد الأيائل: أدى وجود الذئاب إلى تقليل أعداد الأيائل ومنعها من الرعي المكثف في مناطق حساسة مثل ضفاف الأنهار.
تعافي النباتات: استعادت أشجار الحور الرجراج والصفصاف نموها الطبيعي، مما ساعد في استقرار التربة.
عودة القنادس: بفضل استعادة الغطاء النباتي، زادت أعداد القنادس التي عادت من جديد إلى بناء السدود، مما أدى إلى تحسين موائل الأسماك.
تنوع الأنواع: ازدهرت الكائنات الأخرى مثل الطيور والأسماك والحشرات، مما أدى إلى إعادة تنشيط النظام البيئي بأكمله.
الفيديو الذي يوثق قصة إعادة الذئاب إلى منتزه يلوستون وتأثيرها المذهل على النظام البيئي يُعرف باسم: "How Wolves Change Rivers" إنتاج: مؤسسة Sustainable Human السنة: 2014.
المحتوى: يشرح الفيديو بأسلوب بصري رائع كيف أدى إعادة إدخال الذئاب إلى تغييرات بيئية جذرية، بما في ذلك استعادة الغطاء النباتي، وعودة القنادس، وحتى تغيير مسار الأنهار.
فهذا عن التجربة الأمريكية مع الذئاب.
قصة الحرب الصينية ضد ملياري عصفورة!
ولنقدم نموذجاً آخر عن التجربة الصينية مع العصافير فحسب بعض الباحثين: في عام 1958 قررت الصين إعلان حرب، لكنها لم تكن حربًا ضد دولة أخرى، بل كانت حربًا ضد العصافير. والغريب أن الحرب انتهت بانتصار ساحق للعصافير، وقد كلفت الصين حياة ما بين 30 و45 مليون شخص!.
ولكن، لماذا قررت الصين القيام بذلك؟ وكيف خطط الجيش الصيني لمهاجمة ما يقارب من 2 مليار طائر في السماء؟
كانت الصين تسابق الزمن لتطوير نفسها، وكان الرئيس الصيني ماو تسي تونغ قد وضع خطة ضخمة لتحويل البلاد من مجتمع زراعي إلى قوة صناعية عظمى في أسرع وقت ممكن. ضمن رؤية الرئيس الصيني للتطور، قرر أن هناك أربعة مخلوقات يجب القضاء عليها: الفئران، الذباب، الناموس والعصافير.
كان بعض العلماء الصينيين قد أجروا أبحاثًا مثيرة للجدل، حيث أظهرت هذه الأبحاث أن كل عصفورة تستهلك حوالي 4.5 كيلوغرام من الحبوب سنويًا. ومع وجود أكثر من 2 مليار عصفور في الصين، فإن ذلك يعني أن العصافير تستهلك حبوبًا تكفي لإطعام 60 مليون مواطن صيني. بناءً على هذه الأبحاث، أصدر قرارًا يقضي بالقضاء على العصافير.
1- خرج المواطنون إلى الشوارع يقرعون الطاسات والصواني، ويضربون الطبول ويحركون الأعلام في السماء، كل ذلك لمنع العصافير من الهبوط على الأرض أو الوقوف على الأشجار حتى تسقط ميتة من الجوع.
2- حتى أنهم دمروا الأعشاش وكسروا البيض وقتلوا صغار العصافير.
3- وفي بعض الأحيان كانوا يرشون حبوبًا مسمومة كي تتناولها العصافير لتموت.
وقد نجحت الخطة بشكل باهر؛ ففي مدينة شنغهاي فقط، قُتل أكثر من 100,000 عصفور في يوم واحد، بينما في العاصمة بكين، تمكن المواطنون من قتل 420,000 عصفور في يوم واحد.
بحلول عام 1960، وبعد عامين من إعلان الحرب على العصافير، بدأت النتائج تظهر. اكتشف العلماء أن العصافير لم تكن تتغذى فقط على الحبوب، بل كانت تتغذى أيضًا على الحشرات. فالعصفور الواحد كان يمكن أن يلتهم حوالي 700 حشرة يوميًا. لكن مع غياب العصافير، انفجرت أعداد الحشرات بشكل غير متوقع. بدأت الحشرات مثل الجراد تنتشر بسرعة هائلة، مما أدى إلى تدمير المحاصيل بشكل كامل في بعض المناطق.
لم تقتصر الكارثة على المحاصيل فقط، بل هاجمت الحشرات الأشجار ودخلت مخازن الحبوب وأتلفتها، مما أدى إلى القضاء على الزرع الذي كان من المفترض أن يُزرع في المستقبل، بالإضافة إلى الحبوب المخزنة التي كانت مخصصة لإطعام الملايين من الناس.
بدأ العلماء الذين كانوا يدعمون الحملة في التراجع، وأصدروا دراسات جديدة أثبتت أن الحبوب كانت تشكل فقط 20% من غذاء العصافير، بينما 80% منها كان يتكون من الحشرات. وفي محاولة يائسة لإصلاح خطأهم، قررت الحكومة الصينية استيراد 250,000 عصفور من الاتحاد السوفيتي!!.
لم تكن الكارثة البيئية الناجمة عن القضاء على العصافير مقتصرة على انتشار الحشرات فقط، بل كان نقص الحبوب أحد الأسباب الرئيسية في المجاعة الصينية الكبرى التي وقعت بين عامي 1959 و1961، والتي أسفرت عن وفاة ما بين 30 و45 مليون شخص.
في البداية، كان هناك بعض العلماء الذين حذروا من نتائج الحملة وقدموا دلائل على أن الطيور مفيدة للزراعة. ومع ذلك، تم تصنيف هؤلاء العلماء كمناهضين للتطور، وتم الحكم عليهم بالسجن مدى الحياة.
اليوم، تعتبر العصافير في الصين محمية بموجب القانون، وأي شخص يقتل عصفورًا واحدًا يمكن أن يتعرض للغرامة أو السجن!.
العبرة:
وموطن العبرة أن البشر مهما تطور علمياً فإنه لا يعرف من معادلات الكون وأسراره ومن حِكَم الصنعة الإلهية وعللها إلا الأقل من القليل سواء على مستوى الحياة البشرية ام على مستوى الطبيعة المترامية الأطراف.. ومن هنا فإن المرء إذا عرف ان الله تعالى (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَليمٌ)[26]، و(صُنْعَ اللَّهِ الَّذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ)[27]، و(وَما أُوتيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَليلاً)[28] فإنه حينئذٍ سيذعن تماماً أن كل شيء قد قدّر على أفضل نظام، ويعرف، ضمن ذلك، ان ابتلاءات الدنيا والمصائب التي قد تحل به والرزايا والمحن، كلها إذا لم يكن هو السبب فيها، ستكون لصالحه وسيكون هو الرابح 100% وبذلك تجده مطمئن النفس رابط الجأش قوياً في مواجهة المصاعب شامخاً في مقابل الأعاصير... وحينئذٍ ستختفي الكآبة، والإحباط واليأس والأمراض النفسية من صفحات حياته وسيعيش حياته سعيداً ويمضي متى ما مضى حميداً...
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
اضف تعليق