باختصار، الشكر لله على المعارف يكون من خلال الاستخدام الحكيم والمتزن للعقل والحواس في كل ما يرضي الله وينفع الإنسانية، سواء عبر العبادات أو الأفعال النبيلة التي تمثل الأثر العملي للامتنان، إذًا، وفقاً لهذه الرؤية الحضارية، الآية تحث الانسان على إدراك قيمة الحواس والعقل كأدوات إلهية للمعرفة...

يقول الله في سورة النحل الاية ٧٨: "وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ". الاية، وهي من الايات المكية، تطرح عدة مفاهيم حضارية وأساسية لفهم الإنسان ومعرفته.

١. المرحلة الأولية للطفل:

- الفهم الحضاري هنا يشير إلى أن الإنسان عند ولادته لا يحمل معه أية معرفة مكتسبة. عندما يُولد، يكون الإنسان كصفحة بيضاء من حيث المعارف المكتسبة. ما يستثنى من هذا هو المعارف الأولية التي يحتاجها الدماغ لإدارة وظائف الجسم الحيوية، مثل التنفس والمص والبلع، وبهذه الفطرة يولد الطفل مستعداً للتعلم واستقبال المعرفة.

٢. أدوات المعرفة:

- الله سبحانه وتعالى يوضح أن الإنسان زُوّد بالحواس والعقل كأدوات رئيسية للمعرفة. الحواس مثل السمع والبصر تمكنه من التفاعل مع البيئة المحيطة واكتساب خبرات جديدة عن طريق التجربة. العقل يعمل كبنية أساسية للمنطق والفهم، حيث يمكن الإنسان من إجراء العمليات العقلية الأساسية والاستنتاجات المبنية على ما يجمعه من تجارب حسية. ولا يصح الاقتصار على واحدة من ادوات المعرفة: الحسية او العقلية، وانما لابد من الجمع بينهما. الجمع اكمل.

- هذه الأدوات تمثل الأسس الحضارية للمعرفة البشرية التي تطورت عبر الزمن بفضل هذه الحواس والعقل الذي يستوعب، يحلل، ويفسر البيانات القادمة من الحواس.

٣. نعمة المعرفة وشكر الله:

- من النقاط الجوهرية التي تذكرها الآية هي أن جميع المعارف التي يكتسبها الإنسان خلال حياته هي من نعم الله عليه. يجب أن تثير هذه النعم في قلب الإنسان شعور الشكر والامتنان. العلم والمعرفة في الحضارة الإسلامية لا تقتصر على الجوانب الدينية بل تتوسع إلى شتى مجالات العلوم والفنون، وهذا التنوع في الفهم والمعرفة يعد من نعم الله التي تستحق الشكر. نشكر الله على ما افاء به علينا من المعارف.

الشكر لله على المعارف التي نحصل عليها عبر الحواس والعقل يمكن أن يكون بطرق متنوعة، تجمع بين العبادات التقليدية والسلوكيات والأفعال اليومية. إليك بعض الطرق الهامة التي يمكن من خلالها شكر الله على هذه النعم:

١. التأمل والتفكر:

- استخدام العقل في التفكر والتأمل في خلق الله وتسخير ذلك في زيادة الإيمان. التفكير النقدي والمنطقي في الأمور المختلفة وإدراك الحكمة وراء خلق الكون.

٢. العلم والتعليم:

- استخدام المعرفة لفائدة المجتمع والآخرين. تعليم الآخرين ما تعلمناه ونقل العلم بطريقة توجيهية وإرشادية تعد شكراً عملياً لله.

٣. توجيه المعرفة لخدمة الخير:

- استخدام المعرفة والتخصصات العلمية في نفع الإنسانية. مثلاً، العلماء الذين يبتكرون أدوية أو تقنيات تساعد في تحسين الحياة البشرية يظهرون شكراً فعلياً لنعم المعرفة.

٤. السلوك الأخلاقي:

- من المهم أن تترافق المعرفة بالسلوك الأخلاقي. يجب أن يستخدم الإنسان معرفته بطرق تعزز العدالة، الأمانة، والإحسان، وهذا في حد ذاته يعتبر شكراً لله على النعم.

٥. العبادات والشعائر:

- الانتظام في العبادات مثل الصلاة، الزكاة، الصوم وغيرها، وتخصيص نية شكر الله على النعم. الدعاء والشكر اللفظي أيضاً طرق مباشرة للتعبير عن الامتنان.

٦. العمل والإنتاجية:

- بذل الجهد في العمل والإنتاج، والسعي لتحسين الذات والمجتمع باستخدام العقل والحواس، هو شكل من أشكال الشكر. الإخلاص في العمل والتفاني يعتبران امتناناً للنعم.

٧. المحافظة على الحواس والعقل:

- رعاية الجسد والعقل من خلال تجنب ما يضرهما من العادات السيئة والملوثات الفكرية، وتغذية العقل والمعارف بما هو مفيد وصحي يعتبر شكراً عملياً على النعم.

٨. الشكر الاجتماعي:

- التعبير عن الامتنان للأشخاص الذين ساهموا في نقل المعرفة إلينا، سواء كانوا معلمين، آباء أو زملاء. هذا الشكر المتبادل يعزز المجتمع ويثري العلاقات الإنسانية.

٩. البحث والتطوير:

- الاستمرار في طلب العلم والبحث عن المعرفة الجديدة بكل تواضع، وإدراك أن كل نجاح وتقدم هو بمشيئة الله ورحمته، يعكس الشكر.

باختصار، الشكر لله على المعارف يكون من خلال الاستخدام الحكيم والمتزن للعقل والحواس في كل ما يرضي الله وينفع الإنسانية، سواء عبر العبادات أو الأفعال النبيلة التي تمثل الأثر العملي للامتنان.

إذًا، وفقاً لهذه الرؤية الحضارية، الآية تحث الانسان على إدراك قيمة الحواس والعقل كأدوات إلهية للمعرفة. يدعو الإسلام إلى استخدام وتطوير هذه الأدوات ليس فقط لتحقيق تقدم مادي، ولكن أيضاً روحاني وأخلاقي، وكل ذلك في إطار الشكر لله على النعم الممنوحة. وهذا كله ضمن منظومة القيم العليا الحافة بالمركب الحضاري وعناصره الخمسة اي الانسان والارض والزمن والعلم والعمل.

اضف تعليق