تركيز المشاعر والذهن باتجاه المتحدث، وعدم الانشغال مطلقاً بأي أمر آخر، وهذا ما يدعونا اليه القرآن الكريم في الآية المباركة المشار اليها في صدر المقال لأهمية ما يحمله هذا الكتاب العظيم، فهو يضم آثاراً تكوينية مباشرة على الانسان في حياته الدنيا، الى جانب آثاره المعنوية لما ينفعه في الحياة الآخرة...
{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}
ربما تكون مجالس الفاتحة، المكان الوحيد الذي نستمع فيه الى آيات الذكر الحكيم، عندما يجتمع المعزون في مكان واحد، ويبدأ قارئ القرآن الكريم بالتلاوة إهداءً لروح المتوفى، وتخفيفاً عنه في القبر، بيد أن الملاحظ تجاهل القارئ وتلاوته في بعض الأحيان، وانشغال الناس بالاحاديث الجانبية للاستفادة من فرصة اللقاء بمن لم يراه منذ فترة طويلة، والأنكى منه؛ ارتفاع الاصوات حتى تغلب همهمة الحاضرين على صوت المقرئ فلا يكاد يُفهم من التلاوة شيء!
في واقع الأمر، دخولنا الى مجالس الفاتحة التي يُتلى فيها القرآن الكريم يمثل فرصة ذهبية للإستماع والإنصات الى القول الحق، والالتفات الى ما يغيب عنّا خلال حياتنا اليومية من قوانين إلهية، وأحكام، وآداب، جاءت لتوفر أقصى درجات السعادة للإنسان، وكذا الحال؛ في أماكن ومناسبات اخرى مثل؛ ايام شهر رمضان المبارك التي نقترب منها، تشنّف اسماعنا بصوت القارئ للقرآن الكريم.
مهارة نجني منها الكثير
عكف خبراء التنمية على صياغة طرق واساليب تنمي مهارة الاستماع لطلبة المدارس والجامعات بشكل خاص بغية تحقيق أفضل النتائج من مسيرتهم التعليمية، ولعامة الناس في أوساط مختلفة بشكل عام، ولعل أهم الأساليب؛ ربط الدوافع المعنوية بالواقع الملموس، وأن تحقيق الأماني بدرجات عالية في الامتحانات، واحراز الشهادة الجامعية بمراتب عليا، وايضاً؛ استثمار التجارب، مرهونٌ بمهارة الاستماع، وقد بيّن العلماء أن الاستماع يأتي في الدرجة الثانية بعد الإصغاء والإنصات، فهو يكون بقصد الاستفادة المحدودة بأجواء المدرسة او الجامعة، بينما الإنصات، أو الإصغاء في المرتبة العليا في وظيفة السمع، فهو ليس مجرد سمع، او استماع مع القصد والانتباه، إنما هو تركيز المشاعر والذهن باتجاه المتحدث، وعدم الانشغال مطلقاً بأي أمر آخر، وهذا ما يدعونا اليه القرآن الكريم في الآية المباركة المشار اليها في صدر المقال لأهمية ما يحمله هذا الكتاب العظيم، فهو يضم آثاراً تكوينية مباشرة على الانسان في حياته الدنيا، الى جانب آثاره المعنوية لما ينفعه في الحياة الآخرة، ويكفينا مثالاً في الآية الكريمة: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.
ومن أهم ما يحتاجه البشر اليوم؛ الرحمة، فهي تعالج ظواهر ذات مدخلية في معظم مشاكلنا وأزماتنا مثل؛ الظلم فيما بين الناس الذين يرجونها يومياً من الله –تعالى- بأن يرحمهم بزوال أسباب الهم والغم، وبدون ثمن! إن طلباً كبيراً مثل هذا يتطلب شروطاً، وأثماناً كبيرة ايضاً، أهمها؛ معالجة الواقع السيئ والمشحون بالظلم والإثم والعدوان بالقرآن الكريم من خلال الإنصات الى آياته الكريمة، والعملية مُجربة، يقول سماحة آية الله السيد مرتضى الشيرازي في كتابه: "بحوث في العقيدة والسلوك"، بأني "أقول ذلك معتقداً به ومجرباً له ايضاً، وليس عن عقيدة فقط، والآية الشريفة هي أكبر شاهد على ذلك"، فهي ترجو الرحمة للناس المُنصتين والمهتمين بالقرآن بشكل استثنائي.
ومن الطبيعي أن المنقطع عن اهتماماته في المال والمنصب والسياسة والسوق، والذائب في كلام الله –تعالى- لفترة زمنية معينة، فان آفاق الحلول تُضاء له، ويتمكن من اكتشاف البدائل الحسنة لما هو سيئ، بل يرشده القرآن الى {سواء السبيل}، والى أفضل الطرق للعيش الكريم.
جاء أعرابياً وذهب فقيهاً
بينما كان النبي الأكرم جالساً مع اصحابه إذ وقف عليهم رجلاً من الأعراب، سلّم عليهم وسأل عن الدين الجديد، وما هو؟ فقرأ رسول الله عليه سورة الزلزلة، وما أن انتهى النبي من التلاوة، حتى اسدى الشكر والامتنان للنبي، وقال له: فهمت كل شيء! ثم انصرف الرجل بعد توديعهم، فأثار هذا الموقف حيرة الاصحاب، فسألوه الجلوس والانتظار ليفهم ويستوعب أكثر، لكنه شقّ طريق العودة من حيث أتى، فبادرهم النبي الأكرم بتوضيح هذا المشهد، بأن هذا الرجل "جاء الى المدينة اعرابياً وعاد فقيهاً".
السر في هذه القدرة الاسيتعابية لذلك الرجل البدوي والأمّي من آية لم يمض على نزولها من السماء سوى أيام، هو أمر واحد؛ الإنصات.
فقد كرّس الرجل ذهنه وقلبه ومشاعره على ما يتكلم به رسول الله بحثاً عن الحقيقة، وهذا بدوره يعود الى الصفاء الذهني والنقاء النفسي والقلبي مما ساعد صاحبه على الفهم السريع والاستيعاب، بل والحفظ ايضاً، ومن نافلة القول في هذا السياق؛ خاصية الحفظ لدى شريحة واسعة من المسلمين في العهود الاولى من تاريخ الاسلام جعلنا نحظى اليوم بتراث هائل وغزير من العلم والمعرفة والاحكام والآداب المروية عن المعصومين، عليهم السلام، لاسيما الخطب الطوال، والوصايا، والرسائل ذات البلاغة والمستوى العالي من اللغة.
ومما يؤسف له فقدان هذا الصفاء الذهني والسلامة النفسية وتراجعها بشكل مريع في الفترة الراهنة بسبب الانغماس في افكار وثقافات بعيدة عنّا بدعوى البحث عن المعرفة والتنوع والتجديد، او حتى التعرّف على افكار الآخرين واشباه ذلك.
ما يتم تسويقه من افكار عبر وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي ربما تعطينا بعض المعارف، ولكن بثمن باهض عندما تسلب فرصة التفكير والتحقق من سلامة المعروض، لاسيما اذا ظهر التضارب فيما بينها، او اتضاح عدم المصداقية، فان المتلقي سيصاب بصدمة نفسية، ولوثة ذهنية تجعله يشكك بكل شيء في جدوائيته ومصداقيته، وإن كان صادراً من القرآن الكريم والمعصومين فانه غير عملي في أحسن الفروض.
وهذا لا يعني الانطواء والتقوقع على الذات مطلقاً، بقدر ما هو تعزيز للثقة والايمان بمصدر علمي ومعرفي لا يُضاهى في العالم كله، يكفي اتباع طريقة الإنصات والإصغاء، لان الدافع والحافز أمرٌ اساس في أن تنصت لهذا دون ذاك، فبعد أكثر من اربعة عشر قرناً يبدو اننا بحاجة لأن نتعلم من ذلك الرجل الأعرابي كيفية الانتقال من الجهل والتخلف الى رحاب العلم والثقافة الأصيلة.
اضف تعليق