تنتقد الطرف الآخر سِرّاً، مادام يمكن إصلاحه بذلك ومنها ان يكون النصح بعبارات لطيفة غير نابية كي لا تجرح به عواطفه فتستثير فيه القوة الغضبية، وذلك ان النصيحة لكثير من الناس هي كالدواء المرّ والدواء المرّ يغلّفه الحكماء ويضعونه في كبسولة كي لا يكرهه المريض لمرارة طعمه...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(1).
والبحث يقع في فصلين: الأول: في فقه مفردة (يَأْمُرُ) وفلسفة استخدام الفعل المضارع دون غيره، الفصل الثاني: في ان من مفردات الإحسان إهداء العيوب للإخوان.
من فقه مفردة (يَأْمُرُ) في الآية الكريمة
الفصل الأول: موقع مفردة (يَأْمُرُ) ودلالاتها، والذي يكشف لنا التدبر المعمق فيها عن آفاق معرفية – علمية جديدة، وذلك في ضمن النقاط لتالية:
الزمن هو السجن للماديات ولمصادر الأفعال
الأولى: ان الزمن كما يشكل السجن اللابدي للماديات كذلك يشكل السجن المفروض على المصادر(2)، ذلك ان كل مادي فهو يعيش في سجن الزمن فإما هو في الماضي أو في الحاضر أو في المستقبل، وفي الواقع فان كل مادي وكل إنسان فهو حبيس لحظته التي يعيش فيها والتي لا يملك غيرها وكما قال الشيخ البهائي:
ما فاتَ مَضى وَما سَيَأْتيكَ فَأَيْنَ-----قُمْ فَاغْتَنِمِ الْفُرْصَةَ بَيْنَ الْعَدَمَيْنِ
فأنت لا تملك الماضي الآن لأنه قد انقضى والماضي لا ينقلب عما وقع عليه، كما لا تملك المستقبل الذي لا تعلم انك هل سوف تحط رحالك على عتباته أو يسبقك إليه ملك الموت؟ وإنما تملك هذه اللحظة ولا خيار أمامك إلا ان تستثمرها أفضل استثمار وتنتهزها أكبر الانتهاز لبناء آخرتك ولعمران أرضك وبلدك (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ)(3) و(هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فيها)(4).
وكما في الجواهر والأجساد فان الزمن يشكل السجن للأفعال والكم المتصل غير القار، ذلك ان الفعل الماضي سجين زمانه وكذلك المستقبل والحاضر فإذا قلت: ذهب زيد، سوف يذهب زيد، زيد يذهب الآن إلى المدرسة، فقد حصرته في إطار الماضي أو ظلال الحاضر أو أفق المستقبل وكذلك لو قلت أمر، سيأمر، يأمر زيد الآن بكذا.
وأما المصدر فانه المتحرر من سجن الزمن فان (الذهاب، الأمر، الخروج و...) يشير إلى المادة والمعنى الخارج عن قيد الزمن، لذلك يصلح المصدر ان يتقولب في قالب أي واحد من الأزمنة الثلاثة.
وإذا عرفنا ذلك فيجدر بنا ان نتساءل: لماذا ورد التعبير بـ(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ) بصيغة المضارع، وليس بصيغة المصدر المجرد مثلاً (إنّ أمرَ الله تعالى هو ان تعدلوا وتحسنوا...)؟
الوجود إما وجود ممتدّ أو متعدّد متجدّد
الثانية: ان الوجود على قسمين: وجود واحد ممتد، ووجود متجدد، وتوضح الفرق بينهما بوضوح هاتان الكلمتان: (الضغط والضرب) فانك لو ضغطت على يد زيد لمدة دقيقة مثلاً، فان هذه الضغطة وجود واحد ممتد وليس وجودات متعددة، أما لو ضربته في دقيقة واحدة خمس صفعات فانها وجودات متعددة متجددة.
فهل قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) يشير إلى وجودٍ واحد ممتد للأمر؟ أو يشير إلى وجودات متجددة بتجدد الأزمان؟ ففي كل ثانية هنالك أمر بالعدل، لا ان هنالك أمراً واحداً ممتداً منبسطاً على امتداد الزمن؟.
ويوضحه: الفرق بين الجملة المكتوبة على السبورة الخشبية فانها جملة واحدة تتميز بكونها وجوداً واحداً ممتداً مادام رسم المكتوب موجوداً، وبين الجملة المكتوبة بنفسها على السبورة الذكية أو السبورة الإلكترونية التفاعلية المضيئة حيث ان الجملة تتكرر وتتجدد بتجدد إشارات السبورة وإضاءتها، وبوجه آخر: ان المصباح مضيء، ولكنه يستمد طاقته في كل جزء جزء من اللحظات من التيار الكهربائي الساري من مولّد الطاقة والمارّ عبر الأسلاك إلى المصباح ففي كل لحظة هناك طاقة تضخ وهناك كهرباء تسري في الأسلاك ومن ثم هناك نور يشع، ولكننا، نظراً لاتصال الإضاءة، نتصورها نوراً واحداً ممتداً وطاقة واحدة ممتدة إلا ان الواقع هو انها دفقات طاقة متتالية، وذلك، في مثال آخر، يَظهر أيضاً عبر التمثيل بالرسوم المتحركة حيث ان عدسة الكاميرا تسلط الأضواء على ألوف الصور الساكنة ولكن المرسومة بدقة كي تعكس توالي حركات الرجل مثلاً منذ خروجه من منزله وحتى وصوله إلى سيارته، ولكن الكاميرا حيث تمضي سريعاً جداً على الرسوم المتتالية فاننا نتصور ان ما نشاهده هو الرجل في حالة حركة واقعية إلا ان الواقع هو مجرد آلاف الرسوم الدقيقة المرسومة بدقة ليعكس كل منها جزء من حالته في العُشر الأوُل من الثانية الأولى وجزءً من حالته في العُشر الثاني من الثانية التالية وهكذا وهلم جرا.
الأدلة على كون (يَأْمُرُ) متعدداً متجدداً بتجدد الأزمان
فهل الأمر الإلهي (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ...) أمر متجدد في كل آن، أو انه أمر واحد ممتد على طول الأزمان؟.
قد يستدل على كونه أمراً متجدداً بقوله تعالى: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ)(5) وبان الأمر الممتد هو شأن البشر العاجز عن إيجاد الأمر بامتداد الزمن لألوف أو ملايين المرات فيكتفي بإصداره مرة واحدة بانياً على امتداده وتمدده عبر الزمن، ولكن الله تعالى ((لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ))(6) فيمكن ان تكون أوامره في القرآن الكريم، كإفاضته الخلق، متجددة آناً فآنا. فتأمل
كما يمكن ان يستدل بقوله (عليه السلام): ((الْقُرْآنَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ))(7) فإن من مصاديق حياته الدائمة انه ينطبق على الأقوام الذين عملوا مثل عمل السابقين ومن مصاديقه ما ذكرناه، ولو احتمالاً، من أن ما فيه من أوامر ونواهي ومواعظ و... هي أوامر متجددة تُنشأ بشكل متتالٍ وليست شيئاً صدر في قديم الأيام كما فيمن لا يمكنه إلا ذلك حيث يأمر بأمرٍ ما في قطعة زمنية محددة، ثم تشغله الشواغل، وينسى الأمر كلياً، لكنه يبقى لأنه أقامه ثابتاً في عالم الاعتبار.
وعليه فان نظائر قوله تعالى: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنينَ)(8) و(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) قد يقال بانها أوامر ونواهي متجددة آناً فآناً فهو خطاب الله تعالى الموجه إلينا على امتداد الأزمنة، حياً طرياً، وليس أمراً ميتاً صدر في الماضي مستشرفاً المستقبل، كما يدل عليه أيضاً قوله (عليه السلام) ((إِنَّ الْقُرْآنَ حَيٌّ لَمْ يَمُتْ وَإِنَّهُ يَجْرِي كَمَا يَجْرِي اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَكَمَا يَجْرِي الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَيَجْرِي عَلَى آخِرِنَا كَمَا يَجْرِي عَلَى أَوَّلِنَا))(9).
(تُوبُوا) أمر واحد ممتد أو أوامر متجددة؟
ومما يوضح معادلة الأمر المتجدد في الآيات القرآنية الآمرة أو الناهية، قوله تعالى: (تُوبُوا إِلَى اللَّهِ)(10) فإن الأمر بالتوبة يحتمل ان يكون أمراً واحداً ممتداً كما يحتمل ان يكون منحلاً إلى أوامر بعدد الأزمان التي يمكن له فيها ان يتوب، وعلى الثاني فان الشخص إذا عصى، كما لو كذب أو اغتاب مثلاً، فانه مكلف بالتوبة في الآن الأول فإن لم يتب فقد عصى، ثم هو مكلف بالتوبة في الآن الثاني فإن لم يتب عصى معصية ثانية، وفي الآن الثالث والرابع والخامس وهكذا ففي كل آن كان يمكنه فيه التوبة فلم يتب فهو عاص معصية أخرى، مما يعني انه يستحق عقوبات كثيرة بعدد الآنات التي كان يمكنه فيها التوبة لكنه لم يتب.
من فلسفة شدة العقوبات، ان العصيان متعدد بحسب الأزمنة
لا يقال: من الضروري عدم ترتّب أكثر من عقاب واحد على المعصية الواحدة؟
إذ يقال: الضروري، لو سلّمنا، عدم الترتب الفعلي لا عدم الاستحقاق، والكلام في الاستحقاق، وأما الترتب فان عدم فعلية عقوبة الله تعالى له بأكثر من عقوبة، إنما هو تفضّل.
ويؤكد ذلك ان الإصرار على المعصية معصية أخرى توضيحه: ان ارتكاب الكبيرة مسقط عن العدالة وأما الصغيرة فان الإصرار عليها مسقط لها، فلو ارتكب صغيرة فلم يتب في الآن الأول عصى لكنه لا يصدق عليه انه مصرّ لكنه إذا أمكنته التوبة في الآنات اللاحقة فلم يتب فانه يصدق عليه عرفاً وبالحمل الشائع انه مصرّ على المعصية كما يراه العرف مستحقاً لعقوبة أشد، ولو لم يكن إلا أمر واحد ومعصية واحدة لما كان مجال لاستحقاق عقوبة أشد. فتأمل.
وعلى أية حال فان هذا المدعى، من أنّ الأوامر والنواهي متجددة بتجدد الآنات وأنّ المعاصي متعددة بتعدد آنات الإعراض عن التوبة، لو تمّ، فانه يشكل حلاً جديداً آخر عن الإشكال على فلسفة شدة العقوبات وامتدادها الزمني، على المعصية الواحدة؛ إذ، وحسب هذا التحليل، فان المعصية الواحدة، لو لم يتب عنها العاصي أو المجرم فانه يستحق بكل آن أمكنته فيه التوبة ولم يتب، عقوبةً أخرى، بل نقول: إنّ العرف على ذلك ولو في الجملة فان من آذى أباه مثلاً استحق العقوبة، فإن أصرّ على عدم التوبة والاعتذار، فانهم يجدونه مستحقاً لعقوبة أشد. هذا إضافة إلى أجوبة أخرى عديدة، كتجسم الأعمال، و(وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ)(11) وغيرهما.
الفعل المضارع يفيد التكرر والتجدد
الثالثة: ان قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) يفيد تجدد الأمر بالعدل والإحسان وتكرره كما يفيد تجدد النهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، وتلك هي، وهنا النقطة، خصوصية الفعل المضارع خلافاً للفعل الماضي فيما لو قال (أَمَرَ بالعدل) أو المستقبلي (سوف يأمر بالعدل) لأن الفعل المضارع يحمل خصوصية دلالته على التجدد أو صلاحيته لذلك، وانه لو لم يقيّد بـ(الآن) أو بـ(سوف) فسوف يدل على التجدد، ولئن شُكّ في إطلاق ذلك فلا شك فيه فيما لو كان المتعلَّق متجدداً متكرراً.
ويوضح ذلك ويُبرهِنُه قوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)(12) فان الاستدلال المشهور هو بـ(تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ) على وجود الإمام الحي على مرّ السنين، حيث انه فعل مضارع يفيد تنزَّلهم في كل ليلة قدر من كل سنة، فعلى من تتنزَّل الملائكة كل ليلة قدر؟ لا بد ان يكون ذلك الشخص هو الرسول (صلى الله عليه وآله) أو من يقوم مقامه من المعصومين (عليهم السلام) إذ لا يصلح أحد غيرهم(13)، لكي تتنزل عليه ملائكة الرحمن بكل أمر من الأوامر الكونية والتكوينية والتشريعية.
ولو قال تعالى تنزَّلت الملائكة لانحصرت الدلالة في نزولهم على الرسول (صلى الله عليه وآله) مثلاً، في سالف الأيام، لكن المضارع دال على التجدد مفيد لتكرر الحادثة في كل عام.
وكذلك الكثير من الآيات الكريمة الأخرى كقوله تعالى: (قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ)(14) فلاحظ ان كافة أفعال المضارع الواردة في هذه الآيات (تُؤْتِي، تَنْزِعُ، تُعِزُّ، تُذِلُّ، تُولِجُ، وَتُولِجُ، تُخْرِجُ، وَتُخْرِجُ، تَرْزُقُ)تفيد تكرر تلك الأفعال.
وقوله تعالى: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ)(15) وسجودهم له جل اسمه متجدد دوماً وأبداً.
وقوله جل اسمه: (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ...)(16).
وقوله: (وَلا يَحيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ)(17) وغيرها كثير.
وكذلك الروايات الشريفة كقوله (عليه السلام): ((إِنَّ الْمُؤْمِنَ أَخُو الْمُؤْمِنِ عَيْنُهُ وَدَلِيلُهُ لَا يَخُونُهُ وَلَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَغُشُّهُ وَلَا يَعِدُهُ عِدَةً فَيُخْلِفَهُ))(18) فانه ينفي صدور أية خيانة أو ظلم أو غش أو خُلف وعد، منه، في كافة القطع الزمنية الممكن فيها ذلك.
الفصل الثاني: بعض مفردات الإحسان
إهداء العيوب إلى الإخوان والخِلّان
إنّ من مفردات الإحسان: إهداء العيوب إلى الإخوان على عكس ما يتوهمه غالب الخِلّان.
ما هو الفارق بين الصديق والعدو؟
وذلك يستدعي منّا التوقف عند معادلة مفتاحية في الحياة الاجتماعية نصطلح عليها بمعادلة (الفارق بين الصديق والعدو) فان للناس تصورات وآراء شتى في الفارق بين الصديق والعدو، ولكن الذي يستظهر من بعض الأحاديث فارق مهم قد يكون آخر ما يخطر ببال الناس وهو فارق: نقدهم وإهداء العيوب إليهم!، فالصديق هو من يوجّه إليك النقد باستمرار ودون كلل وملل، والعدو هو من يسكت عن عيوبك ولا يذكّرك بها ولا يرشدك إليها، وقد ورد ذلك بصريح القول في كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) إذ يقول: ((مَنْ أَبَانَ لَكَ عَيْبَكَ فَهُوَ وَدُودُكَ))(19) و((مَنْ سَاتَرَكَ عَيْبَكَ فَهُوَ عَدُوُّكَ))(20) والروايتان صريحتان في إعطاء ضابط فاصل وواضح يمكن لكل أحد ان يميز عبره صديقه من عدوه، ويوضحه: ان الشخص لو خرج من منزله وعلى وجهه قذارة ووساخة فالتقى به صديقه فإن كان صديقاً له ودوداً به حقاً لنبّهه على ذلك، ولكنه إن كان، في واقع الأمر، عدواً له، سكت فكان هو جزء السبب في أن يكون صديقه معرضاً للسخرية والاستهزاء والإهانة والازدراء.
والغريب اننا لا ندرك هذا الفارق المفتاحي!
والغريب اننا ندرك هذا الفارق في الأمثلة المادية البسيطة، ولا ندركه في الأمثلة المعنوية الخطيرة؛ فان من رأى فيك عجباً أو غروراً أو حسداً أو كسلاً أو جُبناً أو بخلاً أو خُرقاً أو حمقاً أو ظلماً للناس وتجاوزاً على حقوق الآخرين، فان كان صديقك حقاً لنبّهك إذ ((أَحَبُّ إِخْوَانِي إِلَيَّ مَنْ أَهْدَى إِلَيَّ عُيُوبِي))(21) وأما أنت فانك إن كنت عاقلاً حقاً لقبلت منه النقد وشكرته على جميل صنعه ووافر فضله، لأنه أشّر على معايبك وهو الحريص على ان تتنزه عنها فتزكو وتسمو وتتكامل، أما مَن سكت عمداً أو خجلاً ومجاملة، فان سكوته سيكون جزء العلة الإعدادية لتمضي وأنت محمّل بالنقائص والخطايا والأوزار التي تستجلب لك كُره الأبرار وغضب الملك العزيز القهار.
ومن الطبيعي ان تكون هنالك للنقد وإهداء المعايب آداب وشرائط ومنها: ان تنتقد الطرف الآخر سِرّاً، مادام يمكن إصلاحه بذلك إذ ((مَنْ وَعَظَ أَخَاهُ سِرّاً فَقَدْ زَانَهُ وَمَنْ وَعَظَهُ عَلَانِيَةً فَقَدْ شَانَهُ))(22) ومنها ان يكون النصح بعبارات لطيفة غير نابية كي لا تجرح به عواطفه فتستثير فيه القوة الغضبية، وذلك ان النصيحة لكثير من الناس هي كالدواء المرّ والدواء المرّ يغلّفه الحكماء ويضعونه في كبسولة كي لا يكرهه المريض لمرارة طعمه، فكذلك النصيحة يجب ان تغلّف بغلاف من اللطف والرقة والهدوء والسماحة، كما في طريقة الدعوة تماماً، إذ يقول تعالى: (ادْعُ إِلى سَبيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)(23).
بل ان أمير المؤمنين (عليه السلام) يترقى عن ذلك فيقول: ((لِيَكُنْ آثَرُ النَّاسِ عِنْدَكَ [إِلَيْكَ] مَنْ أَهْدَى إِلَيْكَ عَيْبَكَ [مَرْشَدَكَ] وَأَعَانَكَ عَلَى نَفْسِكَ))(24) فأفضل أصدقائك عندك والأثير لك والمفضل لديك ينبغي ان يكون من يهديك عيوبك باستمرار وقد ورد في الحديث ((اَلمُؤمِنُ يَحتاجُ إلى تَوفيقٍ مِنَ اللّه وواعِظٍ مِن نَفسِهِ وقَبولٍ مِمَّن يَنصَحُهُ))(25).
الشيخ الانصاري يطلب من الواعظ ان ينصحه!
وأخيراً فان في القصة التالية العبرة الوافية، فقد طلب الشيخ الأعظم الأنصاري على جلالة قدره وسمو مكانته ومرجعيته وكثرة تلامذته، من بعض الوعاظ، ولعله كان تلميذاً له أو حتى بمستوى تلميذ تلميذه، طلب منه أن يأتي إليه أسبوعياً ويرتقي المنبر ويعظه بصريح القول! وكان الواعظ، كما طلب منه الشيخ (قدس سره) صريحاً جداً فكان يقول له مثلاً: يا شيخ مرتضى! لا تغرنك الرياسة وإياك ان تتكبر على الطلبة، فإن أمامك حفرة ضيقة ونكيراً ومنكراً وملائكة غِلاظاً شِداداً وان الله سائلك عن كل ذلك..!! وكان الشيخ يستمع إليه بكل دقة واهتمام، ولعل ذلك كان من أسباب استمراره على مثاليته ونموذجيته، بل الظاهر ان ذلك كان من أسرار البركة الإلهية التي حباها الله تعالى به حيث بارك في كتبه وعطائه فأضحى سيد الحوزات العلمية من الناحية الفقهية والأصولية منذ عشرات العقود وحتى الآن!
والمحصلة من كل ذلك: ان إهداء العيوب إلى الإخوان، لهو من مفردات الإحسان المأمور به في محكم القرآن (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) فإن كان الأمر بالإحسان للوجوب كان إهداء النقد للإخوان واجباً وإن كان للاستحباب كان مستحباً إلا لو وقع مقدمة لواجب فانه يكون حينئذٍ أيضاً واجباً.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
اضف تعليق