الهداية في مرحلة العِلّة المبقية فيكون الطلب طلباً لديمومة الهداية واستمراريتها فهو طلب يتعلق بالهداية في عمود الزمن وامتداداته، وقد يكون طلباً للمراتب العليا من الهداية فهو طلب يتعلق بالجانب الكيفي ودرجات الإيمان والهداية والاهتداء، وقد يكون طلباً للهداية التكوينية بعد التشريعية التي تعني الإيصال...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ)(1)
القاعدة العامة: المقياس الحق، وبه يُعرف أهلهُ
ان القاعدة العامة هي تلك التي أشار إليها إمام المتقين عليه السلام بقوله: ((انْظُر إِلَى مَا قَالَ وَلَا تنظر إِلَى مَن قَالَ))(2) وقال أيضاً: ((فَاعْرِفِ الْحَقَّ تَعْرِفْ أَهْلَهُ))(3) للحارث الهمداني الذي أدهشه كثرة الاختلاف في أصحاب الإمام عليه السلام والذين كان يتميز بعضهم بانهم من العبّاد الذين انطبعت على جباههم آثار السجود وكان الكثير منهم أهل تعبد وتهجد وتضرع، فقال له الإمام عليه السلام: ((فَإِنَّكَ امْرُؤٌ مَلْبُوسٌ عَلَيْكَ))، ويروي لنا التاريخ تفصيل الحوار بين الإمام عليه السلام وبين الحارث إذ: (دَخَلَ الْحَارِثُ الْهَمْدَانِيُّ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ عليه السلام فِي نَفَرٍ مِنَ الشِّيعَةِ وَكُنْتُ فِيهِمْ فَجَعَلَ الْحَارِثُ يَتَّئِدُ فِي مِشْيَتِهِ وَيَخْبِطُ الْأَرْضَ بِمِحْجَنِهِ وَكَانَ مَرِيضاً فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام وَكَانَتْ لَهُ مِنْهُ مَنْزِلَةٌ
فَقَالَ كَيْفَ تَجِدُكَ يَا حَارِثُ؟
فَقَالَ نَالَ الدَّهْرُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنِّي وَزَادَنِي أَوَباً غَلِيلًا اخْتِصَامُ أَصْحَابِكَ بِبَابِكَ
قَالَ وَفِيمَ خُصُومَتُهُمْ؟
قَالَ فِيكَ وَفِي الثَّلَاثَةِ مِنْ قَبْلِكَ فَمِنْ مُفْرِطٍ مِنْهُمْ غَالٍ وَمُقْتَصِدٍ تَالٍ وَمِنْ مُتَرَدِّدٍ مُرْتَابٍ لَا يَدْرِي أَيُقْدِمُ أَمْ يُحْجِمُ
فَقَالَ حَسْبُكَ يَا أَخَا هَمْدَانَ أَلَا إِنَّ خَيْرَ شِيعَتِي النَّمَطُ الْأَوْسَطُ إِلَيْهِمْ يَرْجِعُ الْغَالِي وَبِهِمْ يَلْحَقُ التَّالِي
فَقَالَ لَهُ الْحَارِثُ لَوْ كَشَفْتَ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي الرَّيْنَ عَنْ قُلُوبِنَا وَجَعَلْتَنَا فِي ذَلِكَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِنَا
قَالَ قَدْكَ فَإِنَّكَ امْرُؤٌ مَلْبُوسٌ عَلَيْكَ إِنَّ دِينَ اللَّهِ لَا يُعْرَفُ بِالرِّجَالِ بَلْ بِآيَةِ الْحَقِّ فَاعْرِفِ الْحَقَّ تَعْرِفْ أَهْلَهُ يَا حَارِثُ إِنَّ الْحَقَّ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ وَالصَّادِعَ بِهِ مُجَاهِدٌ وَبِالْحَقِّ أُخْبِرُكَ فَأَرْعِنِي سَمْعَكَ ثُمَّ خَبِّرْ بِهِ مَنْ كَانَتْ لَهُ حَصَانَةٌ مِنْ أَصْحَابِكَ أَلَا إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَأَخُو رَسُولِهِ وَصَدِيقُهُ الْأَوَّلُ قَدْ صَدَّقْتُهُ وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ...)(4).
والسر في قوله عليه السلام: ((إِنَّ دِينَ اللَّهِ لَا يُعْرَفُ بِالرِّجَالِ بَلْ بِآيَةِ الْحَقِّ فَاعْرِفِ الْحَقَّ تَعْرِفْ أَهْلَهُ))
واضح وهو ان الأشخاص يقيَّمون بمدى اقترابهم من الحق وتفاعلهم معه وانقيادهم له فـ(الحق) هو المقياس وليس (الشخص) فان الحق حق مطلقاً واما الشخص فقد يكون على حق وقد لا يكون، فعليك ان تتخذ من الحق مقياساً لتقييم الآخرين وليس العكس، ولذلك أيضاً ورد ((خُذِ الْحِكْمَةَ وَلَوْ مِنْ أَفْوَاهِ الْمَجَانِينِ))(5) فان الحق وإن كان في فم المجنون هو كالجوهرة فانها جوهرة وان ابتلعتها الكلاب و((الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ فَحَيْثُمَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ ضَالَّتَهُ فَلْيَأْخُذْهَا))(6) وورد أيضاً ((اطْلُبُوا الْعِلْمَ وَلَوْ بِالصِّينِ))(7).
من البصائر في آية الصراط: المقياس أهل الحق، وبهم يُعرف الحق!
وذلك كله صحيح وعلى حسب مقتضى القاعدة، ولكن الغريب الملفت ان القرآن الكريم في آية الصراط المستقيم عندما أراد تعريفه، عَدَل عن تعريفه بالقيم والمثُلُ العليا والمبادئ إلى تعريفه بالأشخاص، فبدل ان يعرف الصراط المستقيم بانه (الدين القويم) أو انه (العدل والإحسان والصلاة والصيام) وشبه ذلك، عرّفه بـ(صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ)(8) فكيف وجه الجمع؟ وما هو السر في ذلك؟
والجواب هو: ان هذا هو الاستثناء من تلك القاعدة والذي يؤكد في الوقت نفسه القاعدةَ، فان القاعدة هي ما ذكر ولكن يستثنى من ذلك أشخاص هم قمة قمة القمة في الطهارة والنزاهة والعلم والمعرفة والسير والسلوك والخلق القويم والقلب السليم، وهم (المعصومون عليه السلام) من كل دنس ورجس ونجس وخطأ وخطل وريب وشبهة، وهم المطهرون من الرجس العملي والفكري والقلبي حتى انهم لا تخطر في بالهم أشباح المعاصي ولا وساوس الصدور وهم الذين قال عنهم تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)(9).
فهؤلاء هم مقاييس الحق والصدق، والفرق بينهما هو ان الحق هو بلحاظ المطابَقية، والصدق وهو بلحاظ المطابِقية، فإذا لاحظت (الكلمة الصائبة) من حيث انها مطابِقة للواقع كانت صدقاً وإذا لاحظتها من حيث انها مطابَقة له حتى لكأنّها الأصل والواقع الفرع كانت حقاً.
ولذلك كله قال تعالى: (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ)(10) فالصراط المستقيم إذا أردت اكتشافه فعليك بالبحث عن القمم السامقة التي تجسّده وعن الأشخاص النموذجيين الذين يحتضنونه.. أي ان عليك ان تبحث عن (الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ...).
وهؤلاء تصرح آيتان أخريان بشخوصهم الكريمة وهما: (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا)(11) و(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا)(12) و(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا)(13) و(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا)(14) و(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا)(15) إلى أن يقول: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا)(16).
السر في مَدارِيّة المعصومين عليهم السلام رغم وجود العقل
وسرّ السرّ في ذلك كله: ان الإنسان بعقله المتأرجح بين الحكمة وبين الأهواء والشهوات، والمتذبذب بين نور البصيرة وبين حكومة القوة الغضبية ونوازع المادية، والمختلف من حيث القوة والضعف باختلاف الحالات وباختلاف الأشخاص، لا يمكنه ان يصل إلى (الدين) بنفسه إلا للاوحدي من الرجال(17)، على ان دائرة المستقلات العقلية محدودة جداً فلا يمكنه إلا معرفة مفردات وجوانب قليلة من الدين فقط، ويكون فيما عداها مسرح الأخطاء الكبرى والزلات العظمى..
لذلك جعل الله مقياس الحق والباطل هو (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا)(18) وقال: ـ(صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ). هذا
موجز الأجوبة عن طلب الحاصل في آية الصراط
وقد مضى: (الوجه الخامس: الهداية الشهودية بعد الهداية العلمية
سبقت الإجابة عن شبهة ان طلب الهداية من الله تعالى في قولنا (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) إنما هو طلب للحاصل، خاصة وإن هذا الطلب في هذه السورة جاء بعد التصريح بالإذعان بالله تعالى وبصفات جماله: (بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) وبحمده والثناء عليه: (الْحَمْدُ للّهِ) وبكونه المربي للعوالم كلها: (رَبِّ الْعَالَمِينَ) وبعد التصريح بالإيمان بالآخرة وانه تعالى مالك لها: (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) ثم بعد كل تلك الاعترافات تقول: (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) أفليس ذلك طلباً للحاصل؟
وقد أجبنا عن ذلك بأجوبة عديدة عناوينها هي:
(ان المراد من الهداية في الآية الكريمة قد يكون هو الهداية في مرحلة العِلّة المبقية فيكون الطلب طلباً لديمومة الهداية واستمراريتها فهو طلب يتعلق بالهداية في عمود الزمن وامتداداته، وقد يكون طلباً للمراتب العليا من الهداية فهو طلب يتعلق بالجانب الكيفي ودرجات الإيمان والهداية والاهتداء، وقد يكون طلباً للهداية التكوينية بعد التشريعية التي تعني الإيصال للمطلوب لا مجرد إراءة الطريق، وقد يكون طلباً للهداية بحسب تجلياتها في المفردات المتجددة والمصاديق المستحدثة،...)(19).
الهداية العلمية والهداية القلبية
(ونضيف: ان الهداية على قسمين: الهداية العلمية أو العقلية، والهداية القلبية أو الشهودية، فيكون من مصاديق الآية الشريفة الدعاء بالهداية القلبية والشهودية بعد حصول العلمية العقلية)(20).
منطقتا القلب والعقل، وما تحتضنانه:
وبعبارة أخرى: هنالك منطقتان في الإنسان تحتضن كل منهما سلسلة من الخصائص والمواصفات والقدرات وهما: منطقة القلب ومنطقة العقل.
فأما منطقة القلب فتحتضن فيما تحتضن: الجبن والشجاعة، والجود والبخل، والحب والبغض، وأما منطقة العقل فتحتضن العلم والمعرفة.
فالجبن والشجاعة يرتبطان بقوة القلب وضعفه ورباطة الجأش وعدمها وليستا من الأمور العلمية التعقلية الصرفة فان الكثير من الناس يعلم مثلاً بان الميت لا يمكنه إيذاؤه لكنه مع ذلك يخاف من النوم في حجرة واحدة مع الميت وذلك لضعف قلبه وسيطرة القوة المتخيلة عليه، والكثير منهم يخاف من الذهاب إلى المقبرة ليلاً، أو يخاف من المشي على الحبل حتى وإن علم انه لا يسقط، بل بعضهم يعاني من رهاب الطائرة أو المناطق العالية أو غير ذلك.
وكذلك الجود والبخل فانهما يرتبطان بالنفس والقلب، لا المخ والعقل، فان الكثير من الناس يقطع بثواب الآخرة وبتعويض الله تعالى له أضعافاً مضاعفة إن هو جادَ وأعطى، لكنه مع ذلك يبخل بالصدقة والعطاء والبر والإحسان، بل قد يبخل حتى بأداء الواجب من الخمس والزكاة ورد المظالم والكفارات والنفقة الواجبة.
وبالعكس: الكثير من الناس جواد كريم لا لأنه يعلم بان سيُعوَّض بل مع علمه بانه سيفتقر إذا بذل وأعطى لكنه مع ذلك يجود ويعطي وذلك لأن طبعه الكرم ولأن قلبه جواد.
تعارض مدركات العقل مع أحاسيس القلب
وفوق ذلك كله: (الحب والبغض) فان كثيراً من الناس ينبعث عن الحب في أعماله وتصرفاته أكثر مما ينبعث عن الأحكام العقلية، أو ينبعث عن البغض أكثر مما ينزجر عن أحكام العقل والمدركات النظرية.
بل قد يدخل ذلك في باب التعارض أيضاً فان مدركات العقل قد تتعارض مع أحاسيس القلب، وقد تكون الغلبة تارة للعقل وقد تكون أخرى للقلب؛ ألا ترى انه كثيراً ما يقع الشخص في غرام امرأة يحكم عقله بضرورة الابتعاد عنها لكن قلبه يأسره ويستعبده؟ أو العكس إذ انه كثيراً ما ينقبض قلبه من شخص ما لكن حساباته العقلية تدفعه للتقرب إليه والتودد له بل وإطاعته والانقياد له؟
وصفوة القول بناء على ذلك: ان الهداية تارة تكون عقلية مبتنية على الأدلة النظرية والبراهين العقلية العلمية دون ان تلامس شغاف القلب كي يحنّ ويَخفِق، وأخرى تكون قلبية تتملك قلبه وتهيج مشاعره وتتفاعل معها كافة جوانحه حتى كأنها تنبض بالنور والهدى وتتموج بالحب والإيمان.
وقد قال تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)(21) واللافت للنظر انه تعالى لم يقل (سنعلمهم آياتنا) مع ان العلم هو القطع المطابق للواقع الذي لا يحتمل معه الخلاف، إلا ان الرؤية هي فوق ذلك وذلك لأنه قد يعلم الشخص بآيات الله علماً نظرياً، وقد يراها بأم عينيه (الباصرتين) وقد يراها بعين قلبه، وهذه هي الدرجة العليا من الهداية ولذا قال أمير المؤمنين عليه السلام: ((مَا كُنْتُ أَعْبُدُ رَبّاً لَمْ أَرَهُ))(22) و((لَا تُدْرِكُهُ الْعُيُونُ فِي مُشَاهَدَةِ الْأَبْصَارِ وَلَكِنْ رَأَتْهُ الْقُلُوبُ بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ)).
ولعل المراد من (سَنُرِيهِمْ) رؤية القلب، لا البصر المجرد عن رؤية القلب فانه قليل القيمة إن لم يكن عديمها، ولعل (وَفِي أَنفُسِهِمْ) تصلح قرينة على ان المراد: رؤية القلب لا الباصرة إذ ما في النفس لا يُرى بالعين الباصرة، وقد يكون المراد: الأمران معاً فيما أمكنا فيه وإلا فرؤية القلب خاصة، فتدبر
شهادة الرسول صلى الله عليه واله وسلم لأويس القرني بالجنة
وفي حالات أويس القرني الرائعة أكبر الشواهد وأكبر العِبَر أيضاً:
فقد كان (أويس القرني) من القلائل الذين بشّرهم رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بالجنة، بل ان الغريب ان النبي الأعظم صلى الله عليه واله وسلم كان يكرر في مواطن شتى وعلى رؤوس الأشهاد الشهادة له بالجنة، حتى تضافرت رواية ذلك عند العامة والخاصة، ولعله من القلائل الذين أجمعت العامة والخاصة على جلالة شأنهم وانه من أهل الجنة، ولعل السرّ في ذلك ان النبي صلى الله عليه واله وسلم أراد أن يصنع مرجعيات وأعمدة هداية كبرى وشواهد صدق عظمى لا يمكن لأحد أن ينكرها، على حقّانية أمير المؤمنين عليه السلام وانه الخليفة الأول بعد الرسول ووصيه ووارث علمه، حتى إذا ما اختلف الناس وجار المبطلون ضد أمير المتقين صدح أولئك بالحق فتمت الحجة على الجميع.
وجاء في منتهى المقال في أحوال الرجال: (أويس القرني: بفتح الراء، أحد الزهّاد الثمانية، قاله الفضل بن شاذان، صه(23).
وفي كش(24): عليّ بن محمّد بن قتيبة، قال: سُئل أبو محمّد الفضل بن شاذان عن الزهّاد الثمانية فقال: الربيع بن خيثم وهرم بن حيّان وأويس القرني وعامر بن عبد قيس، وكانوا مع عليّ عليه السلام ومن أصحابه، وكانوا زهّادا أتقياء)(25).
وقال: (أويس رحمه الله:
وكان أويس من خيار التابعين، لم ير النبيّ صلى الله عليه واله وسلم ولم يصحبه. فقال النبيّ صلى الله عليه واله وسلم ذات يوم لأصحابه: أبشروا برجل من أُمتي يقال له: أويس القرني، فإنّه يشفع لمثل ربيعة ومضر... إلى أن قال(26): ثمّ قتل بصفّين في الرجالة مع عليّ بن أبي طالب عليه السلام.
وفيه أيضا في أوائل الكتاب: ... قال أبو الحسن موسى بن جعفر عليه السلام: إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: أين حواريّ محمّد بن عبد الله صلى الله عليه واله وسلم الذين لم ينقضوا العهد ومضوا عليه؟
فيقوم سلمان، والمقداد، وأبو ذر.
ثمّ ينادي المنادي: أين حواريّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام وصيّ رسول الله صلى الله عليه واله وسلم؟
فيقوم عمرو بن الحمق، ومحمّد بن أبي بكر، وميثم التمّار ـ مولى بني أسد ـ وأويس القرني.
ثمّ ينادي المنادي: أين حواريّ الحسن عليه السلام؟...)(27)
وقال: (ومضى في الفوائد حصول الظن المعتبر شرعا من أمثال هذه الروايات.
وفي حواشي السيّد الداماد على كش: هذه الرواية يعوّل عليها في ارتفاع منزلة هؤلاء المتحوّرين السابقين المقرّبين؛ وقول بعض شهداء المتأخّرين في حواشي صه: إنّ في طريقها عليّ بن سليمان وهو مجهول، لا تعويل عليه كما قد دريت)(28).
وجاء في مستطرفات المعالي (أُويس القرنيّ: عن النبي صلى الله عليه واله وسلم انه خير التابعين أو: من خير التابعين أويس القرنيّ.
واستشهد مع أمير المؤمنين في صفّين.
وهو من الزهّاد الثمانية.
وهو من حواريّ أمير المؤمنين عليه السلام.
قال المامقاني: أتّفق الفريقان على وثاقة الرجل، وتقواه وزهده، وعلاه)(29).
عمر يبلغ سلام الرسول لأويس!
وقد بلغ من إشادة النبي صلى الله عليه واله وسلم به انه أوصى من يسمع شهادته له بالجنة، بان يبلغه سلامه إن رآه، أي ان يبلغ سلام النبي صلى الله عليه واله وسلم لأويس.. وقد شاع ذلك وضاع عطره وذاع صيته، حتى ان عمر بن الخطاب ابان حكومته ارتقى المنبر ذات يوم وأعلن للناس عن انه سمع الرسول صلى الله عليه واله وسلم يطلب ان يبلغوا سلامه إلى أويس!!، وقد نقل انه (قال لعمر "يا عمر ان أنت أدركته فاقرأه مني السّلم" فبلغ عمر مكانه بالكوفة فجعل يطلبه في الموسم لعلّه أن يحج حتى وقع إليه هو وأصحاب له وهو من أحسنهم هيئة وارثّهم حالاً، فلما سأل عنه انكروا ذلك وقالوا: يا أمير المؤمنين تسأل عن رجل لا يسأل عنه مثلك! قال فَلِمَ؟ قالوا لأنّه عندنا مغمور في عقله وربما عبث به الصّبيان! قال عمر ذاك أحبّ إليّ ثم وقف عليه فقال يا أويس أنّ رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أودعني إليك رسالة وهو يقرأ عليك السّلم، وقد أخبرني أنّك تشفع لمثل ربيعة ومضر فخّر أويس ساجداً ومكث طويلاً ما ترقى له دمعة)(30).
وهنا ملاحظات: الأولى: ان النبي صلى الله عليه واله وسلم أمر عمر – على فرض صحة الرواية – ان يبلغه سلامه لأويس، كي تقع الحجة عليه وعلى كافة من يتبّعه، في ان أويس هو رجل الحق والجنة، وبذلك يتجلى بوضوح ان الحق مع علي عليه السلام لأن أويساً كان من أشد المدافعين عنه حتى انه قتل بين يديه في صفّين.
الثانية: ان عمر كان يريد بذلك وأشباهه إضفاء الشرعية على حكومته كي يرى الناس بذلك انه أصبح وسيط إبلاغ سلام رسول الله صلى الله عليه واله وسلم لشخصية عظيمة من أهل الجنة!..
الثالثة: ان أويساً أطال السجود كي يتهرب من الكلام مع عمر والجواب عليه.. وعندما اضطر أجاب بما أتم الحجة عليه أكثر(31).
وعلى أية حال، فان عمر عندما طلب من الناس ان يبلغوا سلام الرسول لأويس، أجابه بعض من يعرفون أويساً، مستغربين، بان أويساً مغمور في عقله مجنون، وانه يعبث به الصبيان ويتلاعبون به كشأنهم مع كل مجنون!
وذلك كان مثار الاستغراب أكثر إذ كيف يبلغ الرسول صلى الله عليه واله وسلم سلامه لمجنون! بل كيف يهتم بذلك اهتماماً كبيراً ويكرّر الطلب على مجاميع مختلفة؟
لماذا تظاهر أويس بالجنون؟
والذي استظهره: ان اويس القرني كان قد تظاهر بالجنون فراراً من ان يُوليه عمر بعض الولايات والدول، فقد كان عمر حريصاً، وكما سبق، على التلفع بلباس الشرعية التي كان يفتقدها بشدة إثر مواجهته لباب مدينة علم رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ولفاطمة الزهراء عليها السلام التي أذعن الخاصة والعامة بـ((إِنَّ اللَّهَ لَيَغْضَبُ لِغَضَبِ فَاطِمَةَ وَ يَرْضَى لِرِضَاهَا))(32) وكان من الطرق: ما سبق، ومن الطرق أيضاً: محاولة اصطياد الأعلام والأوتاد من المعروفين بالقدس والصلاح ليكونوا أمراء على البلاد من قِبَله، ولذلك طلب من سلمان المحمدي مثلاً ان يكون حاكماً على المدائن، ولولا إذن الإمام علي عليه السلام له لما قَبِل، ولعله لم تكن المصلحة في ان يتولى أويس أمرةً كما لم تكن المصلحة في ان يتولاها أمثال أبو ذر، والظاهر ان الطريقة الوحيدة التي رآها ناجعة للفرار من الامرة والتولية هو التظاهر بالجنون.
والذي يدل على ذلك انه بعد تجاوز مرحلة الخطر، استعاد أويس القرني، عقله فجأة ورجع كما كان من الرزانة والمتانة ورجاحة العقل.. فهذا هو المستظهر بالنظر البدوي والله العالم.
ثم ان أويساً انضم إلى جيش أمير المؤمنين عليه السلام في صفّين حتى قتل بين يديه شهيداً فشاهداً.
وقد جاء في مجمع الرجال عن الكشي (وروى الحسين بن الحسين القمّي عن علي بن الحسن العُرنَي عن سعد بن ظريف عن الأصبغ بن نباتة قال كنا مع علي عليه السلام بصفّين فبايعه تسعة وتسعون رجلاً ثم قال "أين تمام المائة لقد عهد إليَّ رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أن يبايعني في هذا اليوم مائة رجل" قال إذا جاء رجل عليه قباء صوف متقلّداً بسيفين قال: أبسط يدك أبايعك، قال علي عليه السلام "على ما تبايعني" قال على بذل مهجة نفسي دونك، قال "من أنت" قال أنا أويس القرني، قال فبايعه فلم يزل يقاتل بين يديه حتى قُتل فُوجد في الرّجالة)(33).
وموطن الشاهد: ان الكثير من الناس يركض وراء الشهرة أو الرياسة بل انه قد لا يمانع من ان يبيع كل دينه لمجرد ان يحصل على رياسة عادية، بل ان ادنى إشارة يشير بها الحاكم الجائر إلى البعض تكفي ليتراكض نحوها، وذلك على الرغم من علمه بـ(وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ)(34) وبقول رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: ((إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ أَيْنَ أَعْوَانُ الظَّلَمَةِ وَمَنْ لَاقَ لَهُمْ دَوَاةً أَوْ رَبَطَ كِيساً أَوْ مَدَّ لَهُمْ مَدَّةَ قَلَمٍ فَاحْشُرُوهُمْ مَعَهُمْ))(35) والسبب في هذا الانزلاق الخطير هو ان الهداية لم تتمكن من قلبه ولم تتجاوز حدود العقل النظري الجامد الجافّ.
وأويس القرني، في الاتجاه المقابل، يرفض الرياسة ويدفع ثمناً غالياً جداً لقاء ذلك ألا وهو التظاهر بالجنون لفترة طويلة جداً، والتظاهر بالجنون صعب جداً جداً لوجهين:
الأول: ان من أعزّ ما يمتلكه الإنسان – بل الأعز مطلقاً لدى البعض – هو ماء وجهه، بل نجد ان الكثير يضحي بكل شيء حتى بنفسه لأجل ماء وجهه، والجنون يهبط بالإنسان إلى أسفل الدرجات ويفقده اجتماعياً ماء وجهه تماماً، ومن منّا يستعد بهذه التضحية العظمى لأجل الفرار بدينه؟ أو تراه يتعلل بمختلف الأعذار ليبرر تقبله للدخول في سلك ديوان السلاطين.
الثاني: ان نفس التظاهر بالجنون عمل شاق جداً، خاصة إذا كان لفترة طويلة كسنة أو أكثر إذ يجب عليه ان يتقن التمثيل وان لا يغفل عن دوره كممثل أبداً وإلا افتضح أمره.. فهذا كله من جهة.
يعبد الله 24 ساعة متواصلة ثم يشكو من (عين نوَّامة)!
ومن جهة أخرى: وكشاهد آخر على مفتاحية اختراق نور الإيمان والهداية منطقة القلب حتى يصير متيّماً بحب الله تعالى، فقد جاء في التاريخ: ان أحد الوجهاء الذين سمعوا عن أويس كثيراً، شدّ الرحال إلى بلاده ليراه عن قرب، وكان ذلك ابان عقله، وعندما وصل إلى منطقته وسأل عنه قالوا انه في المسجد فوصل مع صلاة الفجر فوجده منشغلاً بها فانتظر حتى ينهيها لكنه وجده انشغل بالتعقيب حتى شروق الشمس، فظن ان سينفتل.. لكنه استمر إلى آذان الظهر.. ثم صلاها ووصل تعقيباتها والأذكار بصلاة العصر.. ثم استمر مواصلاً حتى صلى المغرب، فتوهم الزائر انه سينصرف إلى منزله لِيُفطر.. لكنه استمر حتى العشاء.. ثم – وهنا الغريب حقاً – استمر حتى فجر اليوم الثاني! ثمّ ولعل ذلك كان مع طلوع الشمس - يقول الراوي: انه هوّمت عينا أويس لدقائق معدودة ثم قام فزعاً متألماً من انقطاعه عن العبادة وقال: (اللهم اني أعوذ بك من عينٍ نوَّامة ومن بطن لا يشبع)! ومعنى ذلك انه يستعيذ من نوم دقائق بعد 24 ساعة عبادة ويعتبرها عيناً نوَّامة! ويعتبر رغبته إلى الطعام بعد هذا الإمساك الطويل من سيئات بطنه الذي لا يشبع!.
ولا نعلم كم يوماً كان أويس على هذه الحال، ولعلها كانت مواسم يحييها بالعبادة بهذه الطريقة لأيام أو أسابيع إذ من المعروف ان الإنسان يتحمل الجوع والحرمان من الطعام حتى 40 يوماً وقد يبلغ بعضهم السبعين يوماً، نعم لا يمكنه تحمل العطش أكثر من ثلاثة أيام، كما ان بعض الناس ممن شاهدناهم تمرن على مقاومة النوم لثلاثة أيام بل لخمسة أيام كاملة(36).(37)
لماذا تكون عبادة بعضهم نقراً كنقر الغراب!
وموطن الشاهد: ان الإتيان بمثل هذه العبادة وهذا الانقطاع مما لا يمكن ان يكون مبعثه إلا القلب الممتلئ إيماناً وحباً لله وهداية ونوراً، اما العالم بالله فقط من دون ان يمتلأ قلبه بالحب فانك قد تراه يصلي حتى صلاته الواجبة وذهنه مشتت إلى الشرق أو الغرب.. بل انه قد يصليها مسرعاً للانفلات منها حتى تكون (نقراً كنقر الغراب) كما قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: ((عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ فَقَامَ يُصَلِّي فَلَمْ يُتِمَّ رُكُوعَهُ وَلَا سُجُودَهُ، فَقَالَ صلى الله عليه واله وسلم: نَقَرَ كَنَقْرِ الْغُرَابِ لَئِنْ مَاتَ هَذَا وَهَكَذَا صَلَاتُهُ لَيَمُوتَنَّ عَلَى غَيْرِ دِينِي))(38).
فهذا هو فارق الهداية العقلية التي لا تبعث إلا على أداء الوظيفة الشرعية وبمقدار أدائها فقط، عن الهداية القلبية التي ترتفع بالإنسان إلى مصافِّ الملائكة المقربين الذين (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ)(39) ولنا من الشواهد على ذلك الكثير:
فالصديقة الكبرى فاطمة الزهراء عليها السلام كانت تصلي واقفةً على رجليها فترات طويلة جداً حتى ورد ان قدميها تورمتا من كثرة العبادة.. وذلك مذهل حقاً إذ ان الرجلين لا تتورمان من كثرة الوقوف إلا إذا استمر ذلك لفترة طويلة جداً، وممن روى ذلك ((الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ إذ قال: مَا كَانَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَعْبَدَ مِنْ فَاطِمَةَ عليها السلام كَانَتْ تَقُومُ حَتَّى تَوَرَّمَ قَدَمَاهَا))(40)
وقد أجهد الرسول الأعظم صلى الله عليه واله وسلم نفسه المباركة في العبادة حتى خاطبه الحق تعالى بقوله: (طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى)(41).
وكان سيد الساجدين عليه السلام يطيل السجود حتى صارت في جبهته الثفنات، والأغرب انها من كثرتها وتناميها كان يأمر عليه السلام كي تقصّ في السنة أكثر من مرة! فعن الإمام الباقر قال: ((كَانَ لِأَبِي عليه السلام فِي مَوْضِعِ سُجُودِهِ آثَارٌ نَاتِئَةٌ وَ كَانَ يَقْطَعُهَا فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ خَمْسَ ثَفِنَاتٍ فَسُمِّيَ ذَا الثَّفِنَاتِ لِذَلِكَ))(42).
وصفوة القول: ان منطق العاقل العالم من حيث علمه وعقله المجرد يختلف عن منطق المحبّ المتيم العاشق الولهان، بل قد لا يدرك العاقل منطق الأحباب وسر الكثير من تصرفات المحبين، واما الحياة فانها لا تقوم على منطق العلم وحده بل تتوقف على منطق الحب كذلك، بل الكمال كل الكمال والسعادة كل السعادة قد تكون مرتهنة بالتعامل بمنطق آخر فوق منطق (العدل) و(العلم) و(القانون).
بين منطق العقل والقانون ومنطق القلب والمحبة
ولنضرب لذلك مثلاً: فان الزوجة لها على الزوجة حقوق وبالعكس، ولكن لو تعامل كل منهما مع الآخر بمنطق الحق المجرد ولم يرتفعا بالحياة الزوجية من منطق (العدل) و(القانون) إلى منطق (الإحسان) و(الحب)، لتحولت حياتهما إلى جحيم، فان حق الزوجة لا يتعدى – حسب المشهور – إلا قضاء الوطر كل أربعة أشهر مرة، ولا يجب عليها الطبخ ولا غسل الملابس ولا حتى إرضاع طفلهما (ولو شاءت كان لها أخذ الأجرة على الإرضاع) ولكن تصوروا حياةً زوجية تبتني على هذه الطريقة القانونية الصارمة! انها حياة بلا حب ولا إحسان ولا عاطفة ولا تفاعل.. بل قد تكون جحيماً تماماً.. إنما الحياة السعيدة تبتني على منطق فوق منطق (الواجبات) و(الحقوق المجردة) إذ تبتني على منطق المعاشرة بالمعروف والتضحية والإيثار والشفقة والعفو والصفح وغير ذلك.
الأميني يبيع داره ليطبع كتابه!
ولقد نقلنا في محاضرة سابقة: ان العلامة الأميني بعد جهود مريرة استمرت سنين طويلة، أكمل تأليف كتاب (الغدير).. ثم بحث عمن يطبعه لكنه لم يجد أحداً.. وذلك غريب حقاً.. إذ كان من المفترض ان يتسابق التجار والشباب والنساء لطبع هذا الكتاب الخالد.. لكنه (الغياب) عن منطق الحب الصادق لأمير الكائنات والغرق في أوحال المادة والأرقام والحسابات الضيقة..
ولكن الأميني كان رجلاً من طراز آخر.. لذلك قرّر ان يبيع بيته الذي يسكن فيه ليطبع به الكتاب!.. وهكذا كان بالفعل إذ باع بيته رغم انه لم يكن له مسكن غيره ولا كان يُرتجى ان يُعوِّضه أحد، وطبع المجلدات العشر في الألوف من النسخ، بثمن البيت كله، فكان هذا السِّفر الخالد.. ان هذا المنطق (بيع الدار الشخصية لطباعة كتاب) ليس منطق الحسابات المادية الجامدة بل قد لا يكون منطق الفقه أيضاً إذ ليس ذلك بواجب إلا إذا اندرج في عنوان ثانوي مما يحتاج إلى دليل، لكنه منطق الولاء الخالص والحبّ العميق الصادق لأمير الكائنات عليه الصلاة والسلام..
ان منطق الفقه هو منطق العقل الذي يشرف على كل قضية من زاوية الواجب والحرام والتزاحم ومرجحاته، وقد يرجع إلى الأصول العملية التي قد تقتضي البراءة في المقام.. وذلك عكس منطق القلب والحب والوَلَه والهيام..
ومن ذلك مثلاً: ان منطق الحق الجامد والفقه والعقل لا يوجب عليك النفقة على الأرحام البعداء كما لا يوجب عليك إقراء الضيف ولا البذل أكثر من الخمس والزكاة.. اما منطق الحب والقلب فانه لا يعرف شعاراً أسمى من شعار المواساة والإيثار، انه المنطق الذي يحملك على أن تُقدّم كل ما تملك على طبق من ذهب لمن تحب وإن كنت بأحوج ما تكون إليه، قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ)(43) و(الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(44) و(لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا)(45).
هل نستشعر كل لحظة إشراف إمام العصر والزمان عجل الله فرجه الشريف؟
وأخيراً: إن المهتدي بالهداية القلبية يستشعر في كل لحظة وعند كل نظرة وهمسة ولمسة وخطرة وخطوة، وبشراشر وجوده، عينَ الله الناظرة في خلقه، وهي تراقبه في كافة تصرفاته.. انه يحس بهذه الرقابة دائماً وأبداً لذا يستحيل، عرفاً، ان يصدر منه محرم كما يستبعد ان يصدر منه مكروه.. أوليس ولي الله الأعظم عجل الله فرجه الشريف هو الناظر له ولأفعاله مباشرة!
ومن المعروف ان سِجلَّ أعمالنا يرفع كل اثنين وخميس إلى ولي العصر والزمان عجل الله فرجه الشريف.. وذلك وإن كان فيه الحافز القوي للمؤمن لكي يراقب أعماله كافة.. ولكن الأمر أعظم من ذلك فانه، لمن اهتدى بالهداية القلبية، الإحساس بإحاطة الإمام عليه السلام به، بإذن الله تعالى، وبأفعاله لحظة بلحظة.
وإذا وصلنا إلى هذا المقام، ترقّينا عن مصاف الملائكة الكروبيين، وكان حينئذٍ الأمل أكبر فأكبر بان يمنّ علينا إله الكون بتعجيل فرج وليه الأعظم عجل الله فرجه الشريف.. ومن يدري؟.. فلعله يكون – بإذن الله تعالى – في الفترة القريبة القادمة.. وليس ذلك من باب التوقيت لبطلانه وحرمته، بل هو من باب القضية الشرطية(46) والأمل والرجاء وما ذلك على الله بعزيز وقد ورد ((إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُصْلِحُ لَهُ أَمْرَهُ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَة))(47) وقد نقل البعض انه ورد (انه يصح أمره في ساعة).
وهكذا.. علينا ان ندعو الله تعالى دوماً وأبداً ان يهدينا إلى الصراط المستقيم.. انه السميع القريب المجيب البر الرحيم
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
اضف تعليق