ولاية الفقيه أو ولاية الفقهاء تعليقية غير منجّزة فإذا رضي به أو بهم الناس كانت له أو لهم الولاية مادام رضا الناس مستمراً وإذا لم يرضَ الناس بالفقهاء حدوثاً أو بقاءً فلا ولاية لهم عليهم فلا يجوز للفقيه أو الفقهاء فرض أنفسهم بالقوة على الناس
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ)(1)
من بصائر النور في آية الصراط
سبق ان المراد من الهداية في الآية الكريمة قد يكون هو الهداية في مرحلة العِلّة المبقية فيكون الطلب طلباً لديمومة الهداية واستمراريتها فهو طلب يتعلق بالهداية في عمود الزمن وامتداداته، وقد يكون طلباً للمراتب العليا من الهداية فهو طلب يتعلق بالجانب الكيفي ودرجات الإيمان والهداية والاهتداء، وقد يكون طلباً للهداية التكوينية بعد التشريعية التي تعني الإيصال للمطلوب لا مجرد إراءة الطريق، وقد يكون طلباً للهداية بحسب تجلياتها في المفردات المتجددة والمصاديق المستحدثة، والكلام الآن يدور حول القسم الرابع فنقول:
دوائر الهداية في المفردات المتجددة
ان الهداية لدى مواجهة المصاديق المتجددة والمفردات المستجدة، لهي ذات دوائر عديدة:
الدائرة الأولى: دائرة الأحكام.
الدائرة الثانية: دائرة الموضوعات.
الدائرة الثالثة: دائرة النظريات العامة.
الدائرة الرابعة: دائرة القيادة الإسلامية.
الدائرة الخامسة: دائرة الأدلة والحجج والبراهين.
طلب الهداية في الأحكام
ويمكن التمثيل للأحكام بـ(حكم المعاملات السابحة) و(حكم السرقفلية وحق الخلو) و(حكم القتل الرحيم) وحكم التعامل بعملة (البيتكوين) أو المراباة بها، وهكذا وهلم جراً مما يتسع ليستوعب الألوف من الأحكام.
الهداية في الموضوعات
كما يمكن التمثيل للموضوع بالرياضات الروحية المخترعة وتشخيص الموضوع فيها وكذلك تشخيص واقع (المعاملات الشبكية) الهرمية التي استحدثت على شبكة الانترنت.
وعلى نطاق أوسع ومع قطع النظر عن قيد المستحدثة فان (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) قد يراد بها الهداية في الموضوعات، فانها تحتاج إلى هداية من الله تعالى فمن الموضوعات مثلاً الغلو والتقصير والصراط الوسط بينهما فان ((الْمُتَقَدِّمُ لَهُمْ مَارِقٌ وَالْمُتَأَخِّرُ عَنْهُمْ زَاهِقٌ وَاللَّازِمُ لَهُمْ لَاحِقٌ))(2) فالصراط الوسط بين الغلو والتقصير هو الصراط المستقيم الذي نطلب من الله تعالى ان يهدينا إليه، أي انه من مصاديقه ومفرداته، وكذلك ولاية أمير المؤمنين والأئمة الميامين ومعرفتهم فان الولاية والمعرفة صراط مستقيم ندعوا الرب الرحيم ان يهدينا إليه.
الهداية في الحجج وفي مرحلة الاستنباط
كما ان (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) قد يراد بها الهداية في مرحلة الاستنباط للأحكام بالنسبة للمجتهد، وللمقلد في مرحلته، فان الحكم المستكشف بالاجتهاد قد يكون صائباً فهو من مصاديق الصراط المستقيم أو لا فلا، ومن الواضح ان الحجة على الحكم الشرعي هي منجِّزه أو معذِّره لكن كونها معذِّرة لدى الخطأ بعد استفراغ الوسع أمر مغاير ثبوتاً للهداية للصراط المستقيم فيه، فطلب الهداية ههنا هو طلب للتسديد لكي نرى الأحكام الشرعية كما هي وكما صدرت من الشارع الأقدس لا لكي نصل إلى المعذِّر فقط.
وليس الكلام الآن عن دائرتي الحكم والموضوع ولا عن دائرة الحجة بل سنقتصر على الكلام عن دائرة النظريات العامة ودائرة القيادة الإسلامية.
أولاً: الهداية في دائرة النظرية العامة:
إن من الواضح الفرق الكبير بين الحكم بالمعنى المعهود وبين النظرية؛ ذلك ان الحكم الشرعي هو عبارة عن الوجوب والاستحباب والحرمة والكراهة والإباحة إضافة إلى الأحكام الوضعية، فذلك هو محور البحث في علم الفقه والذي يدور عملياً حول فقه الأحوال الشخصية، اما النظرية فتتحدث عن الإطار العام والأساس أو المنهج الكلي الذي ينتهجُهُ أو يبني عليه أو يدور في فلكه، المكلّفُ أو التجمعُ أو الأمة أو الدولة والحكومة.
فمثلاً: وجوب الصلاة حكم وحرمة شرب الخمر حكم، وهي أحكام هامة جداً نظراً لمصالحها أو مفاسدها البالغة، ولكن، في المقابل، لنضرب انموذجين هامين للنظرية الإسلامية في بعض الشؤون العامة:
ولاية الفقيه أو الفقهاء أو ولاية الأمة؟
النموذج الأول: نظرية ولاية الفقيه أو ولاية الفقهاء التنجيزية أو التعليقية، أو على العكس من ذلك كله: نظرية ولاية الأمة وعدم الولاية للفقيه في الشؤون العامة، فان كلّا منها إطار عام يحدد اتجاه الأمة ومسيرتها على اختلاف ألوانها واتجاهاتها وليس حكماً قائماً بشخص من آحاد المكلفين كما انها الأساس الذي تبتني عليه – أو على عكسه – الأمة والحكومة وهو الإطار العام الاستراتيجي الذي يرسم مسار الأمة في دروب الحياة، وهنا فاننا نطلب من الله تعالى الهداية إلى السداد عند استفراغ الوسع في اكتشاف النظرية العامة في (الولاية) في الأمة أو على الأمة، ولك ان تقول: ان النظرية العامة هي حكم نوعي عام عكس الحكم المنصرِف إلى الحكم الفردي الخاص..
الأقوال في ولاية الفقيه
وتوضيح ذلك: ان رؤوس الأقوال في ولاية الفقيدين:
أ- لا ولاية مطلقة للفقيه أبداً، وهذا رأي مشهور علماء الشيعة قديماً وحديثاً، وان الولاية هي لعدول المؤمنين أو لأهل الحل والعقد أو للأمة، على اختلاف في الآراء.
ب- ان للفقيه الولاية المطلقة، على درجات في حدودها.
ج- ان الولاية المطلقة هي للفقهاء فان أجمعوا فهو وإلا كان المرجع هو رأي أكثريتهم، وان ولايتهم تنجيزية.
د- انها للفقهاء لكنها تعليقية بمعنى كونها معلقة على رضى الناس، وذلك نظير قاضي التحكيم على القول به فان القاضي المنصوب من قِبَل الإمام حكمه نافذ وليس للناس نصبه أو عزله، اما قاضي التحكيم (في زمن الحضور أو – حسب رأي آخر – في زمن الغيبة أيضاً حيث عجز البعض عن تصوّره زمن الغيبة مع وجود أدلة النصب العامة إذا اشترطنا فيه شروط القاضي المعروفة، اما إذا لم نشترطها فتصوره سهل، كما قالوا – وتحقيق ذلك في مظانه) فانه الرجوع إليه طوعي وليس قهرياً فإذا رضي المتخاصمان به صحّ لهما الرجوع إليه، ثم انه إذا حكم بينهما فقد قال جمعٌ بنفوذ حكمه وقال جمعٌ بتعليقه أيضاً على رضاهما.
والحاصل: ان رضاهما به – قاضي التحكيم – شرط قبل الحكم وبعده أو هو شرط قبله فقط ثم إذا حكم نفذ على الرأيين، وموطن الشاهد هو انه كما ان ثبوت الحق له في القضاء معلَّق على رضا المتخاصمين به ثم ان نفوذ حكمه بعد ذلك معلَّق أيضاً على رضاهما حسب رأي جمع، فكذلك يجري تصوير الولاية التعليقية للفقيه، فقد ذهب السيد الوالد إلى ان ولاية الفقيه أو ولاية الفقهاء (وهي مختارُه) تعليقية غير منجّزة(3) فإذا رضي به (4) أو بهم(5) الناس كانت له أو لهم الولاية مادام رضا الناس مستمراً أما إذا لم يرضَ الناس بالفقهاء حدوثاً أو بقاءً فلا ولاية لهم عليهم.
وهذا يعني انه لا يجوز للفقيه أو الفقهاء فرض أنفسهم بالقوة على الناس بل واجبهم، في زمن الغيبة، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقط وليس إسقاط الحكومة وإقامة الحكم الإسلامي أو حتى إعمال الولاية في مساحات معينة حتى إذا أمكنهم ذلك مادام لم يرضَ بهم الناس.
(ولاية الفقيه) عند عرضها على كتاب الله تعالى
ولا نريد في هذا المبحث الموازنة بين هذه الأقوال ومحاكمة أدلة كل منها: ولكن نشير إشارة مبدئية إلى أن من الثابت ان الروايات المتعارضة – أو مطلقاً – يجب عرضها على الكتاب العزيز وقد ورد في الكافي: ((عَنْ أَيُّوبَ بْنِ الْحُرِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام يَقُولُ: كُلُّ شَيْءٍ مَرْدُودٌ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكُلُّ حَدِيثٍ لَا يُوَافِقُ كِتَابَ اللَّهِ فَهُوَ زُخْرُفٌ))(6)
و((عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ وَغَيْرِهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ: خَطَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله بِمِنًى فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ مَا جَاءَكُمْ عَنِّي يُوَافِقُ كِتَابَ اللَّهِ فَأَنَا قُلْتُهُ وَمَا جَاءَكُمْ يُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ فَلَمْ أَقُلْهُ))(7)
وكما ورد في تفسير العياشي: ((عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام: يَا مُحَمَّدُ مَا جَاءَكَ فِي رِوَايَةٍ مِنْ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ يُوَافِقُ الْقُرْآنَ فَخُذْ بِهِ، وَمَا جَاءَكَ فِي رِوَايَةٍ مِنْ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ يُخَالِفُ الْقُرْآنَ فَلَا تَأْخُذْ بِهِ))(8) و((عَنْ سَدِيرٍ قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليهما السلام): لَا تُصَدِّقْ عَلَيْنَا إِلَّا بِمَا يُوَافِقُ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وآله ))(9)
وذكر الشيخ الصدوق: قول الإمام الرضا عليه السلام: ((فَمَا وَرَدَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَبَرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَاعْرِضُوهُمَا عَلَى كِتَابِ اللَّهِ فَمَا كَانَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَوْجُوداً حَلَالًا أَوْ حَرَاماً فَاتَّبِعُوا مَا وَافَقَ الْكِتَابَ وَمَا لَمْ يَكُنْ فِي الْكِتَابِ فَاعْرِضُوهُ عَلَى سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله فَمَا كَانَ فِي السُّنَّةِ مَوْجُوداً مَنْهِيّاً عَنْهُ نَهْيَ حَرَامٍ وَمَأْمُوراً بِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله...))(10)
فإذا كان حال الروايات هو هذا وإن كانت صحيحة السند في صورة التعارض فقط كما هو مقتضى الرواية الأخيرة أو مطلقاً حتى لو لم يكن تعارض بل كانت قد وصلتنا رواية واحدة مثلاً، كما هو مقتضى إطلاق الروايات الأولى(11) فما بالك بالنظريات؟ وعند طرح نظرية شورى الفقهاء ونظرية ولاية الفقيه على الكتاب العزيز نجد نظرية الشورى موافقة لقوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)(12) ونظرية الولاية مخالفة، أفلا يكون الكتاب هو المرجع حينئذٍ؟(13)
ولاية الفقيه التنجيزية أو التعليقية
ثم اننا عند طرح نظرية الولاية التعليقية والتنجيزية على الاصول والقواعد العامة، نجد ان الولاية هي خلاف الأصل إذ الأصل انه لا ولاية لأحد على أحد أبداً (اما الله تعالى فولايته ذاتية لأنه المالك الحقيقي) والقاعدة العامة هي (الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم وحقوقهم) فمدِّعي الولاية التنجيزية على الناس هو المطالَب بالدليل، واما التعليقية فعلى الأصل إذ للناس ان يسلطوا على أنفسهم من جمع الشرائط بالحدود التي يقررونها، فان ذلك من فروع سلطنتهم على أنفسهم، وقد فصلنا الكلام عن ذلك وما قد يورد عليه والأجوبة في كتاب (شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية) فراجع.
بل نقول: ذهب الكثير من الفقهاء إلى عدم إجراء الحدود زمن الغيبة وإن إجراءها خاص بالإمام عليه السلام فكيف بالأعم من ذلك. فتأمل.
فما هو الصراط المستقيم في ذلك؟
وبيت القصيد وموضع الشاهد: ان الفقيه إذا تفرغ لاستنباط النظرية العامة للشريعة المقدسة في ولاية الفقيه أو الفقهاء وكونها تعليقية أو تنجيزية فان عليه أولاً ان يستعين بالله لإرشاده إلى الصراط المستقيم وهو ولاية الفقيه أو عدمها، وعلى تقديرها فهل هي للفقيه أو للفقهاء؟ ثم هل هي تنجيزية أو تعليقية؟ وعليه ان يفرِّغ ذهنه من السوابق المعرفية والمواقف المسبقة وان يُسلِس قياده لدى دراسة فقه الآيات والروايات ويستسلم لها لا ان يحمل آراءه على الكتاب والسنة فإذا أخلص الدعاء بـ(اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) كان أحرى بان يرشده الرب الكريم إليه.
وقد سبق ان (الصراط) يعني (الطريق ومعرفة الإمام عليه السلام) كما في الرواية) فهل ولاية الفقيه هي الطريق إلى رضا الله تعالى؟ أم شورى الفقهاء التعليقية أو التنجيزية؟ أو عدم الولاية مطلقاً؟
الحكومة الوطنية أو الدينية المستبدة أو الشورية؟
النموذج الثاني: النظرية السليمة في الحكومة الدينية، فانها أيضاً مما تستدعي الالتجاء إلى الله تعالى في إلهام الصواب عند استفراغ الوسع في استنباطها من الأدلة الشرعية، ذلك ان الآراء الرئيسية متعددة:
الرأي الأول: ذهب عدد من الأعاظم إلى حرمة إقامة الحكومة الدينية في زمن الغيبة وان هذا المقام خاص بالإمام واستندوا إلى روايات مثل ((عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ: كُلُّ رَايَةٍ تُرْفَعُ قَبْلَ قِيَامِ الْقَائِمِ فَصَاحِبُهَا طَاغُوتٌ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ))(14) وغير ذلك، بل قالوا بان الأدلة دلت على حرمة إقامة الحدود (وهي إحدى شؤون الحكومة) زمن الغيبة فكيف بالحكومة؟
وقالوا: بان المستفاد من الروايات ان سلبيات الحكومة الدينية، وإن كانت مستقيمة صالحة فرضاً، هي أكثر من حيث المجموع من إيجابياتها ليس فقط بلحاظ تموجاتها السلبية على عامة الناس إذ لا يستسيغون مرّ الحق (على فرض انه الحق وان تشخيص الحكومة الإسلامية صحيح) بل حتى لو فرض ان هذه الحكومة الدينية في هذه الحقبة الزمنية كانت ناجحة إلا ان الروايات الشريفة حرّمت الحكم الديني في زمن الغيبة بنحو القضية الحقيقية نظراً للحكمة العامة وهي: ان فتح هذا الباب يؤدي إلى تسلط حكومات باسم الدين على رقاب الناس وظلمهم لهم بشعارات دينية في الأعمّ الأغلب والذي لا يشفع لتجويز إقامة حكومة دينية حتى استثناءً وذلك نظراً لقاعدة سنّ القانون وان (الحكمة) لا يدور مدارها الحكم وجوداً وعدماً. فهذا هو الرأي الأول، والبديل الذي يطرحه أصحاب هذا الرأي هو (الحكومة الوطنية)(15).
الرأي الثاني: إن إقامة الدولة الدينية مطلوب اما على نحو الاستحباب أو على نحو الوجوب، لمن يقدر عليها، واختلف أصحاب هذا الرأي إلى مدرستين:
المدرسة الأولى: ان الحكومة الدينية يجب ان تكون شورية فيحرم الاستبداد باسم الدين، بل ذهب السيد الوالد وبعض الأعلام إلى انه من الكبائر وان الفقيه إذا استبد بالأمر سقط عن العدالة وزالت ولايته ووجب على المسلمين إسقاطه(16).
المدرسة الثانية: ان الحكومة الدينية استبدادية فللحاكم المسلم أو الشيعي (أو البوذي أو المسيحي أو اليهودي، وهكذا في سائر الأديان) ان يفعل ما يرتأيه سواء أرضى الناس أم لا.
فما هو الصراط المستقيم في ذلك؟
وموضع الشاهد ليس الآن المحاكمة بين هذه الأقوال، بل الشاهد ان أية واحدة من هذه النظريات اخترناها فانها تترك تأثيرات عميقة وواسعة جداً على مصائر عامة الشيعة (أو السنة أو غيرهم) لا في هذه الحقبة الزمنية الخاصة بل تمتد إلى أعماق مجاهيل الزمن المستقبلي أيضاً، فما هو الصراط المستقيم منها إذاً؟.
وقد سبق ان الصراط المستقيم هو (الطريق) وهو (الدين) فهل إقامة الحكم الديني من الدين؟ أو هو على النقيض من أحكامه؟ وهل هو الطريق إلى مرضاة الله تعالى؟ أو انه على النقيض من ذلك؟
ثانياً: الهداية في دائرة القيادة الإسلامية
إن القيادة هي أقرب الطرق إلى الجنّة أو هي – على العكس من ذلك – أقرب الطرق إلى النار، وقد ورد في الحديث ((صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي إِذَا صَلَحَا صَلَحَتْ أُمَّتِي وَإِذَا فَسَدَا فَسَدَتْ أُمَّتِي قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ هُمْ؟ قَالَ الْفُقَهَاءُ وَالْأُمَرَاءُ))(17) كما قال: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ)(18) وفي المقابل: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ)(19). فهذا عن القادة واما عن الناس فالروايات كثيرة ومنها: ((عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ مَنْ أَصْغَى إِلَى نَاطِقٍ فَقَدْ عَبَدَهُ فَإِنْ كَانَ النَّاطِقُ يُؤَدِّي عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَدْ عَبَدَ اللَّهَ وَإِنْ كَانَ النَّاطِقُ يُؤَدِّي عَنِ الشَّيْطَانِ فَقَدْ عَبَدَ الشَّيْطَانَ))(20)
فـ(الصراط المستقيم) هو ((سَاسَةَ الْعِبَادِ وَأَرْكَانَ الْبِلَادِ وَأَبْوَابَ الْإِيمَانِ وَأُمَنَاءَ الرَّحْمَنِ وَسُلَالَةَ النَّبِيِّينَ وَصَفْوَةَ الْمُرْسَلِينَ وَعِتْرَةَ خِيَرَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَى أَئِمَّةِ الْهُدَى وَمَصَابِيحِ الدُّجَى وَأَعْلَامِ التُّقَى وَذَوِي النُّهَى وَأُولِي الْحِجَى وَكَهْفِ الْوَرَى وَوَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَثَلِ الْأَعْلَى وَالدَّعْوَةِ الْحُسْنَى وَحُجَجِ اللَّهِ عَلَى أَهْلِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالْأُولَى وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُه))(21) وهم الأئمة الأطهار ثم من بعدهم وكلاؤهم المراجع جامعي الشرائط.
ثم ان (القادة) هم طيف واسع جداً، والقيادة وذات مستويات متنوعة مختلفة إذ تتسع لتشمل قادة الدول والأحزاب والمنظمات والجمعيات والحوزات والجامعات وغيرها.
الرقابة على القادة والحكام فريضة إلهية
وعلى ضوء ذلك فان من أهم الواجبات ان تفرض الأمة والجماعات والشعوب والأفراد أكبر الرقابة على القادة بمختلف مستوياتهم، فان القائد وإن فرض عادلاً ورعاً تقياً إلا ان خطر السقوط المدوّي والانحراف كبير جداً؛ إذ ان القدرة طبيعتها الطغيان وقد قال تعالى: (إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى)(22) وقال جل اسمه: (أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ)(23).
وإذا كان أمير المؤمنين وسيد الموحدين عليه السلام رغم عصمته القطعية بنص الكتاب ومتواتر الروايات يقول: ((... فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِئَ وَ لَا آمَنُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِي إِلَّا أَنْ يَكْفِيَ اللَّهُ مِنْ نَفْسِي مَا هُوَ أَمْلَكُ بِهِ مِنِّي فَإِنَّمَا أَنَا وَ أَنْتُمْ عَبِيدٌ مَمْلُوكُونَ لِرَبٍّ لَا رَبَّ غَيْرُهُ يَمْلِكُ مِنَّا مَا لَا نَمْلِكُ مِنْ أَنْفُسِنَا وَ أَخْرَجَنَا مِمَّا كُنَّا فِيهِ إِلَى مَا صَلَحْنَا عَلَيْهِ فَأَبْدَلَنَا بَعْدَ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَى وَ أَعْطَانَا الْبَصِيرَةَ بَعْدَ الْعَمَى...))(24) فما بالك بالغير؟
ومن هنا كانت الرقابة على القادة والحكام فريضة إلهية لأن بيدهم مقدرات العباد والبلاد، وإذا لم يفعل الناس ذلك فان مستقبلهم سيكون مظلماً قاتماً كما قال الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله: ((وَلَا تَتْرُكُوا الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَيُوَلِّيَ اللَّهُ أَمْرَكُمْ شِرَارَكُمْ ثُمَّ تَدْعُونَ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُم))(25).
ومن الطبيعي ان القائد الإسلامي، على أي مستوى كان بدءً من الحاكم الأموي وصولاً إلى الحاكم الوهابي، يستخدم – بشكل ممنهج ومكثف – كافة الطرق لإضفاء الشرعية على قراراته بل انه يستخدم طرقاً مبتكرة في التضليل والتنويم المغناطيسي الجماعي بل قد يتسلح حتى بسلاح الكرامات التي يصطنعها له بطانته أو التي يختلقها بشكل أو آخر.
ولنضرب لذلك مثلاً يعد من أروع الأمثلة المعبّرة عن عمق خطورة التلفع برداء الدين لتكريس دعائم السلطة الدينية وإحكام القبضة على قلوب البسطاء من عامة الناس.
حسن الصباح في امبراطورية الرعب والدهاء وغطاء الشرعية!
فقد ظهر في التاريخ وفي نهايات القرن الحادي عشر الميلادي وبالضبط من العام 1080م، قائد إسلامي بارز – كما يراه أتباعه – استطاع ان يقيم دولة فتية تحدّت الامبراطوريات الكبرى والحكومات القوية المحيطة بها (الفاطميون في مصر وخلفاء بني العباس والسلاجقة والزنكيين والأيوبيين والخوارزميين وحتى الصليبيين) والغريب ان هذه الدولة الفتية استطاعت تحدي كافة هذه الدول واستمرت مع ذلك فترة طويلة جداً!!
مؤسسة هذه الدولة هو حسن الصباح والذي كان من الطائفة الإسماعيلية النزارية(26) والذي هاجر من مصر (الفاطمية) إلى إيران وبذل جهوداً كبرى لنشر دعوته في بلاد الديلم وفارس وأصفهان وغيرها... وبعد ان قام بدراسة معمقة لأوضاع البلاد الإسلامية توصل إلى استراتيجيات مذهلة مكّنته من تأسيس دولة استمرت مدة قرنين من الزمن!!
قلعة ألموت والانقلاب العسكري
في البداية توصل إلى انه لا بد ان يختار بقعة جغرافية محصّنة أمام جيوش الأعداء، وقد توصل إلى أن أفضل منطقة هي القِلاع التي كانت مبنيةً على أعالي الجبال.. ومن هنا بدأ رحلة البحث، مباشرة وعبر ثلة من خِيَرة أتباعه، إلى أن توصل إلى أن أفضل قلعة هي قلعة ألموت إذ كانت تلك القلعة عبارة عن حصن منيع مبني على أعالي جبال البرز على ارتفاع ستة آلاف قدم فوق سطح البحر ولم يكن يمكن الوصول إليها إلا عبر طريق جبلي ضيق منحدرٍ صعب المرتقى مما يضطر جيوش الأعداء إذا أرادوا مهاجمة القلعة ان يصعدوا بصعوبة وكأفراد وببطء نحو القلعة وكان من السهل حينئذٍ اصطيادهم بالنبال والسهام المسمومة وغيرها، وكان أهم ما يميز القلعة، إلى جوار ذلك، انها كانت تشرف من الجهة الخلفية التي لا يصل إليها الأعداء، على وادٍ خصب ممتاز للزراعة يمتد إلى ثلاثين ميل طولاً وثلاثة أميال عرضاً، فكان هذا الوادي بمثابة الحديقة الخلفية التي تمدّ سكان القلعة بالغذاء إلى وقت غير محدود فيما إذا حاصر العدو القلعة من الجهة الأمامية وقطع عنها طريق الإمداد.
ولكنّ مشكلة القلعة كانت تكمن في ان لها سكّاناً ومالكاً.. وهنا وفي العام 1090م وضع حسن الصباح خطة تقضي بتسلل مجموعة من جنوده وضباطه الأشداء إلى القلعة تحت عناوين شتى: فبعضهم عامل وبعضهم تاجر وبعضهم مسافر وهكذا.. حتى أحاطوا بأوضاع القلعة خُبراً وعرفوا نقاط القوة والضعف ثم تسلل حسن الصباح بنفسه للقلعة.. ووضع خطة دقيقة للقيام بانقلاب عسكري على مالكها وحاكمها السابق.. وقد نجح الانقلاب العسكري نجاحاً مبهراً إذ لم يكن يتوقع أحد من سكان القلعة أبداً ذلك، وهكذا سيطر حسن الصباح على قلعة ألموت وصار سيدها المطلق..
الغصب المقدس! ورداء الشرعية على السرقة المقنّعة!
ولكن: وهنا تبدأ مرحلة التلبيس والمكر والدهاء لإغواء البسطاء وإحكام السيطرة عليهم، فقد استدعى الصباح حاكم القلعة السابق ودفع له مبلغاً قدره ثلاثة آلاف دينار ذهبي كثمن للقلعة التي اغتصبها منه! ولكن لماذا؟ وهل يجوز الغصب عنوة؟ ثم هل يصبح المال المغصوب حلالاً بمجرد ان تدفع المال لصاحبه حتى إذا كان رافضاً لفكرة البيع بالأساس؟ كلا.. ولكنها مقتضيات السياسة المغلفة بغلاف الدين إذ ان التبريرات الشرعية جاهزة: الأهم والمهم العقلي والشرعي! اقتضى السيطرة على القلعة! ولكن ومع ذلك فان من اللازم إعطاء مبلغٍ لمالكها كي يطمأن عامة الناس إلى انه متشرع مقدس ورع! وذلك ما يذكّرنا بما فعله الخوارج إذ بقروا بطن امرأة مسلمة حامل بلا ورع وتقوى ولكنهم احتاطوا في أكل تمرة بدون إذن صاحبه!
الخوارج: إرهاب وقسوة مع التلفع برداء الدين!
فقد ورد في التاريخ: (إن الخارجة التي خرجت على علي عليه السلام بينما هم يسيرون فإذا هم برجل يسوق امرأته على حمار له، فعبروا إليه الفرات، فقالوا له: من أنت ؟ قال: أنا رجل مؤمن، قالوا: فما تقول في علي بن أبي طالب ؟ قال: أقول: إنه أمير المؤمنين وأول المسلمين إيمانا بالله ورسوله. قالوا: فما اسمك ؟ قال: أنا عبد الله بن خباب بن الارت، صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله، فقالوا له: أفزعناك ؟ قال: نعم، قالوا: لا روع عليك، حدثنا عن أبيك بحديث سمعه من رسول الله، لعل الله أن ينفعنا به، قال: نعم، حدثني عن رسول الله صلى الله عليه وآله، أنه قال: ستكون فتنة بعدي، يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه، يمسي مؤمنا ويصبح كافرا. فقالو: لهذا الحديث سألناك، والله لنقتلنك قتلة ما قتلناها أحدا، فأخذوه وكتّفوه ثم أقبلوا به وبامرأته وهي حبلى متمّ(27)، حتى نزلوا تحت نخل فسقطت رطبة منها فأخذها بعضهم فقذفها في فيه، فقال له أحدهم بغير حلٍّ، أو بغير ثمن، أكلتها؟ فألقاها من فيه، ثم اخترط بعضهم سيفه فضرب به خنزيرا لاهل الذمة، فقتله، قال له بعض أصحابه: إن هذا من الفساد في الارض، فلقي الرجل صاحب الخنزير فأرضاه من خنزيره، فلما رأى منهم عبد الله بن خباب ذلك، قال: لئن كنتم صادقين فيما أرى، ما عليَّ منكم بأس، ووالله ما أحدثت حدثا في الاسلام وإني لمؤمن وقد أمنتموني وقلتم لا روع عليك!! فجاؤوا به وبامرأته، فأضجعوه على شفير النهر، على ذلك الخنزير، فذبحوه فسال دمه في الماء، ثم أقبلوا إلى امرأته فقالت: إنما أنا امرأة، أما تتّقون الله ؟ قال: فبقروا بطنها، وقتلوا ثلاثة نسوة فيهم أم سنان قد صحبت النبي عليه الصلاة والسلام. فبلغ عليّاً خبرهم، فبعث إليهم الحارث بن مرّة، لينظر فيما بلغه من قتل عبد الله بن خباب والنسوة، ويكتب إليه بالامر، فلما انتهى إليهم ليسائلهم، خرجوا إليه فقتلوه، فقال الناس: يا أمير المؤمنين، تدع هؤلاء القوم وراءنا يخلفوننا في عيالنا وأموالنا، سر بنا إليهم، فإذا فرغنا منهم نهضنا إلى عدونا من أهل الشام...)(28)
إن فلسفة الطغاة والمستبدين والحكام باسم الدين على مرَّ التاريخ هي فلسفة متحدة وواحدة وهي: مصادرة الحقوق وقتل النفوس وخنق المعارضة وكمّ الأفواه باسم الدين وتحت عباءة الشرعية!
ويُكَبِّرونَ بِأَن قُتِلتَ وإنَّما....قَتَلوا بِكَ التَّكبيرَ وَالتَّهليلا
وهكذا نجد الألقاب والعناوين على مر التاريخ: الحاكم بأمر الله، المعتصم بالله، المستنصر بالله، قائد الأمة، خليفة الرسول صلى الله عليه وآله، ظل الله، ولي الله، خادم الحرمين الشريفين وهكذا... فهذا كله من جهة.
استراتيجية الاغتيالات النوعية، والشرعية أيضاً!
ومن جهة أخرى ولكي يكرس حسن الصباح دعائم حكومته ويكتسب مزيداً من الشرعية، عَمَدَ إلى استراتيجية فريدة في التاريخ، حيث انه وجد – رغم حصانة قلعته – انه لا يمكنه ان يمتد إلى خارج القلعة مع وجود دولة قوية محيطة به وهي تمتلك من الجيوش والجنود ما لا قِبَل له به.. لذلك ابتكر خطة مذهلة في فاعليتها وبساطتها في الوقت نفسه، والخطة هي (الاغتيالات النوعية الكبرى) حيث درّب مجموعة مميزة من الشباب الأشداء على فنون القتال كما غرس فيهم روح الجهاد المقدس والشوق إلى الجنة – تماماً كما تفعله قوى الاستبداد الديني كداعش والقاعدة وغيرهما وتماماً كما تعلّم منه ومن أمثاله مخططوا الغرب الاستراتيجيون، ثم كان يبعثهم نحو الأهداف الكبرى للقضاء عليها بعملية انتحارية نوعية لا تُكلّفه إلا أقل التكاليف الممكنة، وهي خسارة هذا الفدائي وقتله ولا غير!.
وهكذا بعث بعض فدائييه فاغتالوا الوزير السلجوقي نظام الملك، وكذلك اغتالوا الخليفة العباسي المسترشد والراشد!! ومن الواضح ان زعماء الإرهاب يكتسبون شرعية كبيرة ومصداقية عظيمة لدى اتباعهم إذا نجحوا في اغتيال أعظم شخصيات الأعداء من الدول الأخرى.
الشرعية للمستبدّ عبر بوابة مقارعة الصليبيين!
ولكن (الشرعية) و(القداسة) لا تكتسب عند أكثر الناس بمثل ذلك، بل تكتسب بان يتحول القائد إلى رمز أو أسطورة في محاربة الاستعمار (القوى الصليبية حينذاك) وهكذا خطّط حسن الصباح لاغتيال قائد قوات الاحتلال لبيت المقدس وهو الملك (كونراد) الذي كان يتقاسم مع ريتشارد قلب الأسد، زعامة الصليبيين.
وينقل التاريخ انه أرسل اثنين من فدائييه إلى بيت المقدس فتزييا بزيّ الرهبان وبقيا هنالك لمدة ستة أشهر يتظاهران بالقدس والرهبانية وكان يتجسسان سراً على أوضاع البلاد ويتسقطان الأخبار عن حركة الملك كونراد ويراقبانه عن كثب.. ثم بعد هذه المدة الطويلة اكتشف نقطة ضعف كونراد الأمنية إذ عرفا بعض مواعيد خروجه ودخوله وعدد الحراسات حوله وكيفيتها.. وهكذا كمنا في طريق عودته في إحدى السكك وساعدهما على ذلك كونهما راهبين معروفين في تلك المنطقة وعندما جاء الملك راكباً على حصانه مع حرّاسه تقدم أحدهما وبيده رسالة إلى الملك وحيث كان الجنود يعرفونهما بالصلاح والرهبنة لم يتعرضوا لهما ثم بمجرد ان مدّ كونراد يده إليه طعنه الراهب – الفدائي في خاصرته ثم طعنه الآخر بطعنات أخرى فقتل كونراد على إثر ذلك، وقد قتل الجنود أحد المهاجمين واعتقل الآخر فوراً.
ولكم ان تتصوّروا كم هو مدى الشرعية التي يحصل عليها من استطاع قتل قائد الصليبيين الذين كانوا أسوأ حالاً عند المسلمين من الصهاينة الآن!!
كيف استبدل الناس مستبداً بطاغية آخر؟
وبذلك وبغير ذلك وبإرساله الدعاة إلى أطراف البلاد استطاع نشر الدعوة الإسماعيلية في إيران والشام وغيرهما، وقد سيطر أتباعه على طبس وتون وشوش ورودبار ومناطق واسعة في خوزستان وفارس وغيرها متحدياً السلاجقة في عمق مملكتهم.
والغريب، وليس بغريب – ان الناس هم الذين أعانوهم على بسط سلطتهم وتوسعة حكومتهم لما كانوا يرونه من ظلم السلجوقيين فتوهموا ان النجاة والخلاص في الانضواء تحت راية مستبد آخر يتلفع برداء الجهاد والبطولة والفتوة والحمية!
بل بلغ من مكر القائد حسن الصباح ان اصطنع لنفسه كرامات أذهلت أتباعه وجعلتهم يتحولون إلى دمُى وآلات كآلات الربوت يحركهم كيفما يشاء إذ وثقوا بانه الإمام الأعظم والقائد الأكبر المرسل من السماء لإنقاذ البشرية!!
الخدعة الكبرى: الجنة الفردوس على الأرض!
وكان من جملة حِيَله وخُدَعه التي وجدها الأتباع معجزة كبرى وكرامة عظمى اقنعتهم بأن (الجنة) هي بيده يدخل فيها من يشاء ويخرج منها من يشاء! وذلك انهم بعد ان كانوا يختارون بعض الشباب الأقوياء لتجنيدهم كفدائيين، كانوا يقومون بدايةً بغسيل لأدمغتهم بملأها بمبادئ الإسماعيلية النزارية وقِيمها الصوفية ومثلها العليا وانها الطريق الوحد إلى الله تعالى و... ثم عندما كانوا يجدونه مؤهلاً تماماً كانوا يشحذون له سلاحهم الأمضى وهو انهم كانوا يُسرّون له ان حسن الصباح وشيخ الجبل يملك مفاتيح الجنة وانه يمكنه ان يرسل الأحياء إليها لساعات أو أيام ثم يرجعهم إلى الدنيا من جديد!، وذلك كدليل قطعي لا يرقى إليه الشك على انه الولي الإلهي والقائد الرباني والرسول السماوي.. وعندما كانوا يلمسون فيه الدهشة العظمى والشوق الجارف كانوا يَعدِونه بذلك ثم يأخذونه إلى إحدى البيوت الضخمة المعدة لذلك سلفاً وهنالك يسقونه في ضمن الطعام بعض الحشيش المخدر(29) حتى يغيب عن الإحساس ثم ينقلونه إلى (الجنة الموعودة) وكانت (الجنة الموعودة) هي المكر الأعظم الذي خطط له حسن الصباح طويلاً.. فقد كان قد اختار أرضاً كبيرة جداً واستخدم أفضل المزارعين لصناعة روضة غناء في غاية الروعة والجمال كما شق جداول رائعة الحسن ونثر فيها جواهر ودرراً وغير ذلك كما بنى له المهندسون قصراً في غاية الروعة والجمال والبهاء... وكان الفدائي المسكين بعد ان يخدّر كاملاً ينقل إلى هذه الجنة التي كانت تسرح فيها بعض الحوريات الإنسية أيضاً! وعندما كان يعود الفدائي إلى الوعي من جديد كان يذهل إذ يرى نفسه في الجنة وكانت الحوريات يزدنه ذهولاً باصطحابه هنا وهناك ثم، وفي فترات محددة محسوبة بدقة، كن يضعن في طعامه قليلاً من ذلك المخدر بحيث لا يستعيد وعيه تماماً وإلا فلعله كان يدرك الحقيقة رغم إتقان الصنعة وإحكام التدبير.. ثم بعد ساعات من التجول في الجنة والتنعم بأنواع نعيمها كنّ يضعن له في الطعام مخدراً أقوى ليغيب عن الوعي فينقلونه إلى المنزل السابق.. ثم يذهبون به إلى شيخ الجبل الذي يأمره إذا أراد الذهاب إلى الجنة بأن يقاتل في سبيل الله حتى يقتل.. ثم يبعثونه في مهمة انتحارية!
التاريخ يعيد نفسه
والتاريخ يعيد نفسه.. ولو بأشكال أخرى.. وهكذا نجد الآن مثلاً فرقاً ضالة، كمدعي اليمانية، يصورون لاتباعهم انهم موصولون بحبل السماء بكرامات وهمية يتصورها البسطاء حقيقية مستفيدين من (السحر الأسود) تارة ومن (الرياضات الروحية) تارة ومن (التنويم المغناطيسي) ثالثة ومن بعض (الحيل العلمية) رابعة ومن (تسخير الجن) خامسة وهكذا، وقد فصلنا الكلام عن ذلك في كتاب (مناشئ الضلال ومباعث الانحراف) فراجع.
ولقد شكك بعض المؤرخين في صحة الرواية السابقة، لكن الظاهر صحتها بما نعهده من دهاء حسن الصباح وبما نعهده من طريقته الصوفية وبما نعهده من مجمل سيرته..
وعلى أي فان (الخدع) و(الكرامات المزوّرة) لا شك في انها كانت على مر التاريخ إحدى أهم أسلحة الطغاة المستبدين المتلفعين برداء الدين لإغواء البسطاء والمساكين.. ولا نعني بالبسطاء الجهال إذ البساطة ترتبط بالنفس والعقل لا بالعلم، ولعل أستاذاً في الجامعة أو الحوزة أو عالماً في الفيزياء أو الطب أو الهندسة أو الفلسفة والعرفان، يكون بسيطاً تنطلي عليه الخدع المتقنة والحيل المحكمة فيسلس قياده للأئمة الذين يدعون إلى النار وهو يتصورهم من سادات الأخيار! اللهم يا ربنا إليك التجأنا فـ(اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) أمين رب العالمين
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
اضف تعليق