بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ)(1)
وقال الله جل اسمه: (وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ)(2)
وقال الإمام علي صلوات الله عليه: ((الشَّكُّ عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ عَلَى التَّمَارِي وَالْهَوْلِ وَالتَّرَدُّدِ وَالِاسْتِسْلَامِ... وَمَنِ اسْتَسْلَمَ لِهَلَكَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ هَلَكَ فِيهِمَا))(3).
من البصائر القرآنية:
نتوقف في البدء للتزود من بعض البصائر القرآنية على ضوء الآيتين الكريمتين ولنكتشف من بعدُ مغزى كلام الإمام عليه السلام باعتباره امتداداً لتلك البصائر فنقول:
المحاكاة والتقليد والتقمص تعد مظاهر منوعة من علاقة الأنا بالأنا الآخر:
المحاكاة
فـ(المحاكاة) تعني ان يحاكي الإنسان بفعله أو بفكره أو مواقفه أفعال الآخرين أو أفكارهم أو مواقفهم وقد تكون تلك المحاكاة عن اجتهاد وإيمان ولا تكون مستندة إلى مجرد صدورها من الأنا الآخر بل تكون وراءها أدلتها وبراهينها، نعم قد تكون المحاكاة مندرجة في التقليد في بعض الحالات ولذا فسرها بعضهم بالتقليد، وقد تنتقل المحاكاة إلى مرحلة (التجسيد) وقد عرّفها البعض بانها تجسيد يحاكي حدثاً بهدف تحقيق التطهير، وفسرها البعض الآخر بـ: تماثل بنية العمل البشري مع العمليات الطبيعية العضوية من حيث الغائية، واما في حقل الفن فقد قيل: ان المحاكاة هي فن يحاكي الطبيعة موجداً تقليداً من الدرجة الثانية.
وعلى أي فإنها بأجمعها تفسير بالمصداق أو فقل تفسير بالأخص.
التقليد
اما (التقليد) فهو الاستناد إلى الغير في العمل أو العمل عن استناد إليه أو الالتزام بقول الغير، على الأقوال في حقيقته، فهو يستند إلى الغير ويذعن بالفكرة أو الرأي أو المسألة أو الموقف لأن الغير قد إرتآه وقاله لا عن برهان.
نعم التقليد أيضاً على قسمين: فقد يكون لا عن برهان على مرجعية المقلَّد وحجية أقواله فهذا هو التقليد المذموم قطعاً إذ لا حجة للمقلِّد حينئذٍ على الرأي والفكر والفتوى ولا على الرائي والمفكر والمفتي.
وقد يكون عن برهان على مرجعية المقلَّد وذلك كتقليد أهل الخبرة فان البرهان دل على مرجعيتهم فيما هم خبراء فيه، وهذا التقليد ليس بمذموم لأنك وإن افتقدت الحجة على الفتوى والفكرة بذاتها لكنك لم تفتقد الحجة على المفتي والمفكر بمعنى ان يكون الدليل قد دلّك على ان قوله حجة إجمالاً وإن لم تعرف تفصيل وجوه التزامه بهذا الرأي أو ذاك.
وصفوة القول ان النسبة بين المحاكاة والتقليد هي العموم المطلق إن لم نقل بانها هي من وجه. فتدبر
التقمُّص
واما (التقمُّص) فهو أشد عمقاً ورسوخاً من المحاكاة والتقليد، ذلك انه يعني ان يتقمص الشخص شخصية الآخر وان يتلبس بلباسه وان يستعير شخصيته مطلقاً أو في الجملة حتى يصير لكأنه هو هو، وبعبارة أخرى هو ذوبان الأنا في الأنا الآخر، وذلك يشكل أقصى درجات الانبهار به والاعتزاز والاعتداد والاعتقاد.
و(التقمص) مرض نفسي إذ يفقد معه الإنسان حريته وإرادته، مطلقاً أو إلى حد بعيد جداً، فيصبح مثل المنوّم مغناطيسياً يتحرك وينطلق ويتخذ المواقف لا عن إرادة بل يسير كما يوجهه الآخر أو كما يعتقد هو ان الآخر كذلك.
وللشخصية الأخرى التي تقمّصَتْها الأنا تأثير لا محدود على المتقمِّص حتى انه قد يتناقض مع ذاته إذا كان لتلك الشخصية موقف آخر أو رأي أو نمط آخر في الحياة، وكثيراً ما يحسم المتقمِّص الصراع لصالح الأنا الآخر، وقد يعيش اضطراباً نفسياً عنيفاً بين قناعاته الفطرية أو المكتسبة سابقاً وبين هيمنة الأنا – الآخر عليه.
الكفار وتقمص شخصية آباءهم
وهذا هو بالضبط ما نجده في الكفار فانهم من جهة لم يكن أكثرهم مقلدين لآبائهم فحسب بل كانوا متقمصين لشخصياتهم تماماً إلى درجة ان عارضوا الحجج الجلية والبراهين الفطرية التي جاء بها الأنبياء إليهم فقالوا: (أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا)(4) مع أن أباءهم لو كانوا قد شاهدوا الأنبياء فلعلهم كانوا قد أذعنوا لهم وآمنوا بهم، وهكذا نجد انهم لم يكن رفضهم لحركة الأنبياء ورسالتهم مستنداً إلى دليل بل ولا حتى إلى تقليد للآباء فحسب بل كان انبهارهم بآبائهم إلى درجة أفقدتهم شخصياتهم الذاتية فتحولوا إلى تجسيد مشوّه لآبائهم الماضين وإلى نسخة أخرى تمشي على الأرض بعد موت الآباء والأجداد والأسلاف.
ومن جهة أخرى، فان الكثير منهم عاشوا التناقض بين شخصياتهم المسحورة بالآباء والمندكّة فيهم وبين قوة براهين الأنبياء حججهم، لذا عانوا اضطراباً داخلياً عنيفاً، وهكذا وجدناهم يترنحون بين الشك والإنكار فهم شاكون كما يصرحون به أحياناً لكنهم في الوقت نفسه كفار رافضون، مع ان الشاك متحير وجاهل باعترافه فلا يحق له الكفر والرفض والإنكار بل غاية الأمر ان يقول: لا أدري أنك نبي أم لا؟ لا أن ينكر نبوته ويرفضها وكانّ عدمها من المسلّمات.
فلاحظ قوله تعالى حكاية عن الكفار: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)(5)
إذا كانوا شكاكاً فكيف يكونون كافرين؟
فإذا كانوا شكاكاً (وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ) فكيف يقولون: (إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ)؟ ما ذلك إلا لاضطراب الشخصية وتناقض الأنا الصافية من الشوائب مع الأنا المتقمصة للأنا الآخر.
ثم ان الغريب ان الأنا المتقمصة للأنا الآخر، قد تنعكس على جوارحها وحركاتها وحتى أسارير وجهها، ملامح شخصية الأنا الآخر، وذلك ما نجده في الكثير من الناس إذا انبهروا بشخصية ما انبهاراً شديداً فانه سوف يقوم، لا شعورياً، بتقليده حتى في حركات يديه وطريقة مشيته أو جلوسه وقيامه بل وحتى في نظراته وكيفية تفاعل ملامح وجهه مع الأحداث والمواقف والأشخاص.
نعم يبقى استثناء واحد يكون فيه التقمّص – لا إرادياً كان أو إرادياً – أمراً حسناً مطلوباً وهو ما كان الأنا الأخر يجسّد القمة في الطهر والنقاء والفضيلة والتقوى كما يجسد القمة في العلم والمعرفة والسلوك وغير ذلك، ولا يكون ذلك إلا في الذين عصمهم الله تعالى عن كل خطأ وخطل وشك وسهو أو جهل، قال تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)(6) وقال: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)(7) وقال: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ)(8).
ولعل ذلك مما يُفسَّر به ما ورد عن الصديقة الزهراء من ((مَا تَخْرِمُ مِشْيَتُهَا مِشْيَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم))(9) فانه من الواضح انها عليه السلام لم تقلده صلى الله عليه واله وسلم في طريقة المشي بالتدريب والتمرين، بل كانت مشيتها وحركاتها وسكناتها كمشيته لأنها كانت نسخة ثانية عنه إذ كانت ((فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي)) بل كانت ((رُوحِيَ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيَّ))(10) فهي صلوات الله عليها أسمى وأجل وأعلى من أن يطلق عليها مصطلح كذلك المصطلح.
فلسفة وجوب اليقين في أصول الدين
وعوداً على بدء: فان من ذلك كله نعرف ان (أصول الدين) لأنها الأساس لكل شيء وللحياة بكافة أبعادها، فانه لا يصح فيها إلا الاجتهاد والإذعان عن برهان ولا يكفي فيها التقليد أبداً، كما هو شِبه المجمع عليه، وإن كانت الأقوال في المسألة ستة، فكيف بالتقليد الأعمى النابع عن تقمص شخصية الأنا – الآخر؟ وذلك لأن التقليد حيث لم يكن عن برهان فانه ينهار عند الاصطدام ببيئة أخرى وأجواء أخرى أو آراء أخرى أو عند مواجهة أدلة أو حجج مضادة وإن كانت جدلية.
وهذا ما نشاهده في الكثير من شبابنا الذي يسافرون إلى أجواء حضارية أخرى كبلاد الغرب، فانهم سرعان ما يذوبون في تلك الأجواء ويفقدون دينهم ومعتقداتهم كاملة أو في الجملة، وما ذلك إلا لأحد أمرين: اما انهم كانوا مقلدين في قضايا أصول الدين لذلك انهاروا عند أول مواجهة مع أدلة اجتهادية مضادّة، واما انهم كانوا متقمصين لشخصيات أبهرتهم في بلادهم لكنهم حيث سافروا إلى بلاد أخرى وتغيرت الظروف والسياقات الاجتماعية وتألّقت أمامهم شخصيات أخرى بدت لهم أشد بريقاً وعظمة، فانهم لا شعورياً بدأوا يتقمصون هذه الشخصيات الجديدة لتكون هي الأنا – الجديدة لهم. هذا من جهة، ومن جهة أخرى:
الفرق الجوهري بين الإسلام والاستسلام
فان من الضروري، لكي نفهم بنحو أعمق، مغزى كلام الإمام عليه السلام: ((وَمَنِ اسْتَسْلَمَ لِهَلَكَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ هَلَكَ فِيهِمَا)) ان ندرس الفرق بين الإسلام والاستسلام، فمع ان المادة واحدة إلا ان الظِّلال والدلالات مختلفة؛ إذ صيغت بتصريفات وهيئات متغايرة:
فان (الاستسلام) يستبطن وجود قوة قاهرة يخضع لها الإنسان لمجرد انها أقوى، لا لكونها حقاً أو أمراً برهانياً وإن كان قد يكون كذلك لكنه غير ملاحَظٍ في حيثية الاستسلام، تقول مثلاً: إستسلَمَ لسلطان الشهوة أو لسطوة المرأة أو استسلم للعدو أو حتى للنوم.
وفي المقابل فان (الإسلام) يعني الخلوص والخلو من الشوائب، قال تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ)(11): ان تسلم وجهك لله (وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ)(12) وقال: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)(13) أي قالوا قولاً ليس في إثم ولا تعدٍّ، والمسلم هو السالم إيمانُه من الشرك والرياء والحسد والحقد ومن الفسق والفجور ومساوى الأخلاق، فهذا هو المسلم حقاً.
وقال تعالى: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(14) فقد أسلم أمره وأسلس قياده لله تعالى ليوجهه نحو مدارج الكمال والقُرب، وليكون بوصوله إلى أعلى مراتب الإسلام والتسليم إماماً (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(15).
فالاستسلام إذاً هو الخضوع والانقياد لقوة قاهرة أو سلطة أقوى لمجرد انها قوة أقوى وقد تكون الشيطان نفسه أو قد تكون الأهواء والشهوات وقد تكون كما قال عليه الصلاة والسلام: ((وَمَنِ اسْتَسْلَمَ لِهَلَكَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ هَلَكَ فِيهِمَا)) و(هلكة الدنيا والآخرة) تعني مهلكات الدنيا والآخرة أي ما يهلك الإنسان إذا انقاد له وخضع.
أنواع الاستسلام للـمُهلِكات:
ثم ان الاستسلام لمهلكات الدنيا والآخرة، أنواع وأقسام وألوان وأصناف، وسنشير إلى بعض تلك الأنواع:
الاستسلام للحضارة المهيمنة
1-5: الاستسلام للحضارة المهيمنة.. وللحكام الطغاة.. وللقيادات الزائفة.. وللمفكرين المتذبذبين أو حتى للشخصيات المرموقة، وهذه الألوان الخمسة تحتاج كل منها إلى وقفة طويلة لكننا سنقتصر الآن على اللون الأول والخامس:
(الاستسلام للحضارة المهيمنة) ولا شك ان الحضارة المهيمنة في عالم اليوم هي حضارة الغرب بما تمتلك من ثروات هائلة وتقدم علمي وتكنولوجي مبهر وقوة عسكرية ساحقة، ومن الطبيعي ان تجد الكثير من شبابنا بل حتى الكثير من مفكرينا (ينبهر) بالغرب ويخضع، فكرياً وسلوكياً، إلى هيمنته الطاغية هذا إن لم تصل درجة الخضوع والانبهار إلى مرحلة التقمص..
سحر الموضة وسحر الأفكار الوافدة
وكما نجد الكثير من الشباب مسحوراً بالموضة وقد تكون مخالفة للفطرة مناقضة للذوق السليم كذلك تجد الكثير مسحوراً بالأفكار الوافدة، وما ذلك إلا للانبهار أو التقمص الذي يحوّل القبيح إلى حسن والمنكر إلى معروف وبالعكس فمثلاً تجدهم في ملابسهم مشدودين إلى آخر الموضات والتقليعات حتى تجد أحدهم يلبس ملابس ممزقة(16) بل انها إذا كانت جديدة فانه يمزقها كي يتناغم من الهيبز(17)، أو يسرح شعر رأسه ويصففه بوضع الأصباغ وأنواع الصمغ كي يظهر كعُرف الديك مثلاً.. وظاهرة (الايمو)(18) هي من الأمثلة على ذلك.
وكما تأسر موضة الأقوياء الشبابَ وتسحرهم، كذلك تأسر الأفكار الواردة من الغرب أو الشرق عقول بعض المفكرين فلا يعود يفكر بعقله بل يفكر وكأنه الأنا الآخر.
والغريب أن الكثير منهم إذا استشهدت لهم بآية أو رواية لم تُقنِعْهُ، ولكنك إذا استشهدت بكلام فيلسوف غربي أو مفكر عالمي أو نجم من نجومهم فانه يرى ذلك سبباً كافياً للإذعان!
بل الكثير من المتدينين تجده لا يكاد يقتنع بالآية والرواية حتى تشفعها له بما يقوله العلم الحديث أو الشخص الشخيص أو المجلة العلمية التخصصية أو شبه ذلك!.
قصة الجمهور الذي كان يردد كافة أقوال الخطيب!
ومن الطريف ههنا ان نسرد الحكاية التالية التي ترمز إلى عمق مأساة الانقياد الفكري والعملي والسلوكي للآخر – الأقوى والانبهار به أو التقمّص لشخصيته، فقد نقل ان خطيباً ذهب إلى منطقة نائية فجمع الناس في إحدى القاعات، ولعلهم لم يكونوا قد شاهدوا خطيباً من قبل، فلما ارتقى المنبر وبدأ البسملة كرر الناس معه البسملة، فتوقع ان هذه عادة لهم، ثم لما حمد الله وأثنى عليه كرروا معه أيضاً! ثم لما افتتح بحثه برواية ردد الناس معه كلامه حرفاً بحرف!!، فقال في نفسه: لا بأس حتى الآن وإن كان ذلك غريباً.. لكنه فوجئ عندما بدأ بشرح الرواية ان الحاضرين رددوا كلامه كلمة بكلمة!! وهنا قال لهم: يا جماعة عندما أتكلم فلا ترددوا كلامي بل استمعوا فقط.. ولكنه فوجئ بشدة عندما وجدهم يكررون هذا الكلام أيضاً هاتفين بصوت واحد (يا جماعة عندما أتكلم فلا ترددوا كلامي بل استمعوا فقط..)!
وهذه هي بالضبط حكاية بعض شبابنا مع الموضة والتقليعة، وحكاية بعض مفكرينا مع كل فكر أو فلسفة وافدة من الغرب.. أليس كذلك؟
وسواء أكانت القصة أعلاه حقيقية أم كانت رمزية فإنها ذات تطبيقات كثيرة جداً في حياتنا كما هي ذات مداليل قوية ومدهشة أيضاً..
وكما نجد (الببغاء) تتميز بملكة التقليد من غير وعي أو شعور بمضمون الكلام كذلك من يستسلم فكرياً للأقوى فرداً كان أو حزباً أو حاكماً أو فيلسوفاً أو حضارة أخرى غالبة.
الاستسلام للخبراء في غير حقل تخصصهم
وفي لون آخر من ألوان الاستسلام للأقوى نجد ان الكثير من الناس لا يميّزون بين المرجعية في حقل تخصصي معين والمرجعية في حقل آخر، فإذا برز اسم عالم كبير في الفيزياء أو الكيمياء أو شبه ذلك، كانشتاين أو ستيف هوكينج المعاصر مثلاً، فان كلماته سوف تتسم بطابع الحكمة والقوة والرصانة والحجية لدى الكثيرين منهم حتى إذا كانت في غير حقل تخصصه.
ولذا نجد مثلاً كتاب هوكينج الذي أنكر فيه وجود الإله جل اسمه، أحدث هزة كبرى في العالم، مع انه، من الناحية العلمية والاكاديمية، لا قيمة موضوعية له، وذلك لأنه متخصص في الفيزياء النظرية لا في الفلسفة والميتافيزيقيا، وإنكاره لله تعالى وإن اعتمد على سلسلة من المقدمات الفيزياوية، لكنه في مقدمة جوهرية يعتمد عليها البحث كله اعتمد على فكرة فلسفية واضحة البطلان لدى المبتدئ في علم الكلام أو الفلسفة فقد اعتمد من جهة على انه التفسير الأبسط ومن جهة على فكرة إمكان بدء الأشياء من كتم العدم بدون وجود علةٍ محدِثة(19).. وهذه الفكرة بديهية البطلان عند الوجدان والعقل، كما برهن الحكماء والفلاسفة والمتكلمون على بطلانها بوجوه عديدة منها برهان إبطال الدور والتسلسل، لكن المنبهرين بالغرب أو بالأسماء اللامعة لا يميزون، كما سبق، بين كلام النجم في حقل اختصاصه وكلامه في سائر الحقول.
وبعبارة أخرى: ان الأنا إذا ذابت في الأنا – الآخر فانها تقوم حينئذٍ بتذويب الحواجز العلمية والمعرفية بين حقل تخصصه وبين سائر الحقول، فترى الأنا – الآخر حينئذٍ بمنزلة العالم الخبير الضليع بكل علم وفنّ!
وكذلك الرجوع للعلماء في كل شيء!
بل الأمر كذلك حتى في (العلماء) فان كثيراً من الناس يتصورون علماء الدين علماء في كل شيء ويتوقعون منهم الإجابة على كافة الأسئلة في كل العلوم والحقول، وذلك خطأ فاحش فإن العالم متخصص في الفقه والأصول والكلام مثلاً، لكنه ليس – عادة - متخصصاً في الطب والهندسة، فهل يصح ان نسأل منه مسائلنا الطبية والهندسية؟ وكذلك الحال في السياسة والاقتصاد فان الفقيه إذا لم يكن متخصصاً فيهما ولم يكن خبيراً بخفايا ودهاليز السياسة ولا بأبعاد تشابكات الاقتصاد، فان من تقوى الله المفترضة فيه ان لا يتصدى لقيادة الناس في تلك الحقول، اللهم إلا إذا درس بجدّ وآناة وأصبح خبيراً فيها كسائر الخبراء واستعان، لمزيد من الاتقان واقوائية الإصابة والمطابقة للواقع، بلجنة مرموقة من الخبراء فان مرجعيته في السياسة والاقتصاد وشبهها تكون حينئذٍ على حسب مقتضى القاعدة باعتباره أهل خبرة جامع للشرائط، وتكون تلك الأنواع من (الحوادث الواقعة) مما يرجع فيه إليه.
لكن كثيراً من الناس، وكما سبق، لا يميزون في المرجعية بين حقول الاختصاص فإذا وجدوه مرجعاً في الفقه والأصول اعتبروه مرجعاً في الفلسفة والكلام أو اعتبروه مرجعاً في العلاقات الدولية والإدارة والسياسة وغيرها.
وهنا نقول: ان على رجل الدين إذا تقدم في مراحل العلم وازدادت مكانته في الناس وأصبحت له بشكل أو بآخر مرجعية لشرائح من المجتمع، ان يحتاط بعدم الدخول فيما لا يحسن الدخول فيه وعدم التصدي لما ليس خبيراً فيه، وعليه ان يواجه ضغوط الناس كي يتصدى، بحكمة وقوة ووضوح فيوضح لهم انه ليس أهل خبرة في هذا الشأن أو ذاك فليرجعوا فيه إلى غيره..
وقد وجدنا علمائنا الأبرار كذلك فمثلاً المرجع الكبير السيد تقي القمي الذي توفي العام الماضي وعطلت لأجله حوزة النجف وحوزة قم بالكامل، كان كذلك إذ كان خبيراً فقيهاً أصولياً ضليعاً في هذين العلمين لكنه لم يكن خبيراً بالسياسة والإدارة والاقتصاد وشبهها لذلك تجنب الخوض فيها تماماً، بل انه قدس سره أمر بجمع رسالته العملية من الأسواق واعتزل أكثر فأكثر عندما ضغط عليه البعض ليتصدى لقضايا مرجعية لم يكن يجد من الصحيح ان يتصدى لها، فضرب قدس سره بذلك مثلاً للفقيه الورع التقي.
الاستسلام للأدلة الجدلية المضادة للبيّنات البرهانية
الاستسلام للأدلة الجدلية المضادة للبيّنات الوجدانية أو للبراهين الجلية.. وذلك في الناس بل في طلاب العلم كثير حيث انه كثيراً ما يخمد ويخبو صوت الوجدان ويُطفأ نور الفطرة وتسحق الأدلة البرهانية إذا استسلم الإنسان للأدلة الجدلية.. وذلك لأن للأدلة الجدلية سطوة وسلطة كبيرة فمن خضع واستسلم لها هلك في الدنيا والآخرة كما في الرواية الشريفة الآنفة الذكر.
ولنضرب لذلك مثلين أحدهما دقيق والآخر لطيف:
مرجع (الوحدة في عين الكثرة) إلى جمع الضدين أو النقيضين
المثال الأول: ان من البديهيات استحالة الجمع بين النقيضين والضدين واستحالة رفع النقيضين أو الضدين اللذين لا ثالث لهما أو رفع الأضداد جميعاً، ومن البديهي ان من مصاديق ذلك ان تقول بان الواحد هو ثلاثة والثلاثة هي واحد(20) كما قال المسيحيون أو ان تقول الأسود عين الأبيض أو العلم عين الجهل أو شبه ذلك.
لكن عدداً من الفلاسفة حاولوا إقناع العقول المستسلمة للأدلة الجدلية بان من الممكن: (الوحدة في عين الكثرة) بل هي أمر واقع استناداً إلى مقدمات طولية يدوخ فيها عقل الطالب فيخرج بعد أسابيع من دراسة نهاية الحكمة أو الأسفار مستسلماً لإحدى أبرز مصاديق جمع النقيضين أو الضدين: (الوحدة في عين الكثرة) ومقدماتهم التي يتدرجون بها في الإيقاع بالعقل هي:
1- أصالة الوجود، 2- اعتبارية الماهية وانها حد انتزاعي للوجود، 3- ان الوجود حقيقة تشكيكية واحدة، 4- ان ما به الاشتراك في الموجودات هو نفس ما به الامتياز وهو الوجود نفسه إذ ليس في الدار غيرُه ديار ولا شيء غير الوجود وإلا للزم ان يكون في الدار أصيلان وهو محال، فإذا كان ذلك كله كذلك ثبتت الوحدة في عين الكثرة وان الموجودات في عين كونها كثيرة هي واحدة وفي عين كونها واحدة هي كثيرة.. وفي الواقع ذلك مدخل خفي إلى وحدة الوجود بل وحدة الموجود لأن الماهية لا يعقل ان توجِد تكثراً حقيقياً حسب أصالة الوجود فالكثرات التي تحصل بها انتزاعية غير أصيلة.
وهنا نقول: إذا صحت قاعدتكم فما هو اعتراضكم على المسيحيين إذ قالوا بالوحدة في عين الكثرة بين (الأب والابن وروح القدس)؟ قالوا هم ثلاثة وهم واحد؟ فالمسيح هو الله وهو غيره فهو واحد وهما كثير؟ ثم كيف يعقل ان يتكثر الوجود الواحد الحقيقي، حقيقةً إذا كانت الكثرات بالماهية وهي اعتبارية أو انتزاعية؟ ولذلك كله التزم ملا صدرا في الأسفار بـ(الوحدة الحقيقية الحقة الشخصية للوجود)(21) فلاحظ إضافته للشخصية، وقد بسطنا الكلام حول ذلك في بحث (الاجتهاد في أصول الدين) فراجع.
الاستحالية العقلية لالتقاط الصور بآلة التصوير!
المثال الثاني: وهو مثال طريف ذو دلالة بالغة، فقد نقل عن أحد الفلاسفة، ولعله الحكيم السبزواري، انه عندما ذكروا له ان الغرب اخترع جهاز التصوير الفتوغرافي، فكّر قليلاً ثم قال بان ذلك من الناحية الفلسفية مستحيل تماماً! ولعل في الأمر خدعة فانتبهوا!
والسرّ: انه أراد إخضاع كل معلومة علمية إلى العقل الفلسفي مع ان العقل حدوده المستقلات العقلية وأمثال الأوليات والفطريات ولا يمكنه التدخل في نطاق العلم من حيث هو علم أبداً؛ ولذلك وقعوا في عظائم الأخطاء عندما أرادوا بعقلهم، بعيداً عن العلم، تحليل حقيقة الأفلاك فصاروا إلى انها كاقشار البصل والتزموا باستحالة الخرق والالتئام وصار بعضهم إلى رفض المعراج الجسماني لأنه يناقض القاعدة الفلسفية تلك!
ولنوضح الآن كيف ان الأدلة الجدلية تقود إلى استحالة التصوير الفتوغرافي وان من المحال ان يلتقط جهاز بعيد صورة مطابقة لك تماماً بضغطة زر وأنت على مبعدة 10 أمتار مثلاً(!)، والأدلة هي:
أولاً: استحالة الطفرة، وانتقال صورتك فجأة من حيث أنت إلى الجهاز طفرة!
ثانياً: انه يستحيل زيادة الفرع على الأصل، فكيف تزيد الصورة على الأصل إذ يموت الشخص لكن صورته تبقى ثابتة؟ أو يفقد جماله وتبقى صورته جميلة؟ وهكذا.
ثالثاً: وهذا دقيق وقد يدوخ فيه غير الخبير: انه عندما تصوِّر شخصاً فهل ينقص منه شيء أو لا؟: فإن قلت انه ينقص منه شيء (لأنه التقط له صورة هي بنحو ما جزء ذاته أو أمواجه) فيلزم انه كلما التقطت له صوراً أكثر أن يتضاءل ويتضاءل حتى ينعدم تماماً لو التقطت له مثلاً مليون صورة!
ولو قلت لا ينقص منه شيء فانه يلزم استحالة التصوير إذ إذا كان لا ينقص منه شيء (ولا ينتقل منه إلى الكاميرا شيء) فكيف وجدت الصورة من كَتْم العدم؟ فيلزم ان يوجد المعلول بلا علة..!
ولا حاجة لغير المتخصص للبحث عن الجواب عن هذه السفسطة بل يكفيه ان يجيب بانها شبهة في مقابل بديهي حسية، لكنه إذا استسلم لسلطان الأدلة الجدلية تجده يلتزم بالكثرة في عين الوحدة مستميتاً في الدفاع عنها بألوان الأدلة الجدلية التي قد يعجز حتى بعض الفلاسفة عن الجواب عنها! أو تجده يستميت في الدفاع عن فكرة ان الصورة الملتَقطَة ليست منك وإلا للزمت الطفرة أو زيادة الفرع على الأصل أو انعدام الشخص، كما سبق، فيلجأ لحلول غريبة أخرى كالقول بان ذلك نوع سحر؟ أو انه من عمل الجنّ؟ أو انه ايجاد مباشر من العقل الفعال بـ(التوافي) الفلسفي(22).
وختاماً لنتذكر كلمة أمير الحكمة والبلاغة دوماً إذ يقول عليه السلام: ((وَمَنِ اسْتَسْلَمَ لِهَلَكَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ هَلَكَ فِيهِمَا)). أعاذنا الله تعالى من ذلك ومن كافة الشرور والآفات والعاهات والبلايا والمصائب والرزايا، وعجل لوليه الأعظم الفرج وجعل عواقب أمورنا خيراً انه سميع مجيب.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
اضف تعليق