المقدمة
مضى البحث في إطار العلاقة بين الدولة والشعب، وتبين ضرورة البحث في البصائر القرآنية، في بحث العدل ومعالمه، وضمن محور الضمانات التي ينبغي أن تتوفر في الجيش، لكي تضمن استقامته ونزاهته وعدالته وليس حياديته فقط، فيما لو نشب نزاع وخلاف بين الحكومة وبين الشعب، أو في الحالات الأخرى، وتبينت الحاجة البحثية للتعمق في هذه الضمانات، من خلال التدبر بالآية الشريفة، والنظر في البصائر القرآنية.
الغاية
بيان البصائر القرآنية لبيان مفهوم العدل ومقاصده، ومن ثم الاستدلال منها على معالم الضمانات وسياقاتها وأنواعها، لتحديد الأداء المهني السليم للقوات المسلحة، من خلال الاستقامة والنزاهة والعدالة، وليس الحيادية فقط، ثم الإجابة على التساؤلات ذات العلاقة بموضوع البحث.
المبحث الأول: بصائر قرآنية في بيان معالم العدل وأصنافه
1- البصيرة الأولى: معنى العدل
إنه حيث أمر الله تعالى بالحكم بالعدل، فلابد من السؤال ماذا يعني العدل؟.
نجيب بأن العدل قد عرف بتعاريف شتى مختلفة، إلا أنها تلتقي وتصب في مصب واحد، فمن تعاريفه: إن العادل هو (الذي يضع الأشياء مواضعها).
ومنها: إن العادل هو (الذي لا يميل به الهوى فيجور في الحكم).
وهنالك تعاريف أخرى للعدل وللعادل لعلنا نتطرق لها لاحقاً. فالعادل هو الذي يضع الأشياء في مواضعها، وهو الذي لا يميل به الهوى أو الأهواء النفسانية فيجور في الحكم، سواء في عائلته أم في شركته أم في حكومته ودولته وسلطته.
2- البصيرة الثانية: أصناف العدل
إن العدل يمكن تصنيفه إلى أصناف ثلاثة:
الصنف الأول، هو العدل في الحكم.
الصنف الثاني، هو العدل في طريقة الحكم وكيفية الحكم، ولا يغني الأول عن الثاني. فلو كان الإنسان عادلاً في الحكم، لكنه لم يكن عادلاً في طريقة وكيفية تفعيل وتنفيذ تلك العدالة، لم يكن عادلاً.
والصنف الثالث، هو العدل في نتائج الحكم الاختيارية، وفي الآثار البعيدة المدى، الناجمة عن ذلك الحكم.
أ- العدل في الحكم
وتوضيح ذلك باختصار: إن العدل تارة يقصد به (العدل في الحكم)، وذلك بأن يعطي الإنسان كل ذي حقه، وهذا هو العدل بالمعنى المتعارف والمتداول. فلو جاء متنازعان إلى شخص، فعلى القاضي أن يعطي لكل منهما حقه.
وكذلك في إطار الدولة، لو حدث نزاع بين وزير وشخص أخر بسيط، مثل مزارع أو عامل، أو بين الموظف البسيط ورئيسه في العمل أو الشركة، فيجب أن يُعطى ذو الحق حقه، حتى إذا كان هو المزارع أو العامل، أو الموظف البسيط، الذي ترافع إلى القاضي في مقابل رئيس الشركة.
وكذلك في أية خلافات تحدث بين السلطة وبين قطاع من الناس، بين اتحاد أو نقابة أو حزب أو تنظيم أو تجمع، فكيف لو حدث النزاع بين السلطة وبين عامة الشعب!.
ب- العدل في كيفية الحكم
والصنف الثاني من أصناف العدل، هو في كيفية الحكم وفي طريقة الحكم، فقد يكون الحكم بما هو هو عادلاً، إلا أن الكيفية تكون غير مستقيمة، وغير ذات استواء، فهذا أيضاً لا يعد عدلاً، ويظهر ذلك لنا جلياً في قصة أبي الأسود الدؤلي، مع سيد الموحدين وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه صلوات المصلين).
فقد كان أحد القضاة هو أبو الأسود الدؤلي، الواضع لعلم النحو بتوجيه أمير المؤمنين (عليه السلام)، لكن أمير المؤمنين عزله عن القضاء. فجاء إلى أمير المؤمنين مستوحشاً ومتسائلاً: (يا أمير المؤمنين، لم عزلتني وما خنت وما جنيت!).
والخيانة في الأموال والجناية في النفوس، وهنا نلاحظ قمة الحرية، حيث كان بإمكان الموظف أن يعترض ويحتج على الحاكم وعلى القائد الأعلى للقوات المسلحة، على أمير المؤمنين (عليه السلام) بكل حرية.
فأجابه أمير المؤمنين (عليه الصلاة وأزكى السلام) بما يوضح أنه لم يكن السبب وجود إشكال عليه في الحكم نفسه، بل لقد كان عادلاً بالفعل في الحكم، في الصنف الأول من الحكم، حيث لم يجن ولم يخن، بل السبب هو عدم عدله في طريقة الحكم.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (إني رأيت كلامك يعلو على كلام الخصم)[1].
أي أن المشكلة كانت في طريقة الحكم، لم تضع الأشياء مواضعها، فالمفروض إن القاضي عندما يتكلم فينبغي أن لا يعلو صوته صوت الخصمين، حتى لا يتهيباه ويخشياه منه.
إذ أن طبيعة الناس عندما يأتون إلى قاض أن تتملكهم المهابة فيتلجلج بحجته، ففي الحادثة لم يكن أبو الأسود الدؤلي، قد جار ولا خان في الحكم، بدليل تقرير الأمير (عليه السلام) له على كلامه، لكن مشكلته كانت في طريقة الحكم، (إني رأيت كلامك يعلو على كلام الخصم).
ومن هذه القضية نعرف أن القضاة في عهده (عليه السلام) كم كانوا مثاليين وإلى أبعد الحدود، وهذه هي حكومة أمير المؤمنين (عليه السلام) التي التف حولها الناس حتى الآن، وأن البشرية هي أحوج ما تكون إلى مثل هذه الحكومة.
وفيما يرتبط بصلب بحثنا في الجيش والحكومة والسلطة، فإن الملك أو القائد أو القائد الأعلى للجيش، إذا لم يرضَ به الناس، فإن المظهر الأول للعدل أن يتنحى عن الحكم فوراً، وأن يضع الأشياء مواضعها؛ لأنه لا يعدو كونه وكيلاً للناس، فكيف يبقى دون رضاهم؟!.
ثم إذا عزله الناس فكيف يتشبث بالحكم رغم أنوفهم؟!.
وقد تم التطرق سابقاً إلى العلاقة بين الحاكم والشعب، وأن الحاكم وكيل، أو مأذون، أو أجير، أو بعقد مستأنف[2].
والحاصل: إنه إذا كان على الحاكم أن يتنحى عن الحكم، فلو تنحى فقد عدل وأحسن، وقد وضع الأشياء مواضعها، وهذا يكشف عن أنه لم يمل به الهوى وحب الرياسة، فيتشبث بالسلطة فيقتل الألوف من الناس، لشهوة الرياسة، مع أن السلطة زائلة وأيام الدنيا معدودة، ومن ورائهم عذاب غليظ وشديد.
وأما المظهر الثاني للعدل فإنه يتجلى في طريقة التنحي، إذ لا يكفي التنحي عن الحكم في كونه عدلاً، إذ أنه لو تنحى عن الحكم، ولكنه سلّم الأمر للعسكر والجيش فهذا ليس عدلاً، وليس وضعاً للأمور مواضعها؛ لأن الجيش يجب أن لا يتدخل في قضايا السياسة والحكم، لأن مهمته محددة ومعينة وخاصة هذا أولاً.
وثانياً لأن أي نوع من تدخل الجيش في السياسة يشكل خطراً على الحريات في البلد، وعلى الأمن في المستوى السَـوقي (المدى الإستراتيجي)، وإن كان في المستوى التعبوي (المدى التكتيكي) قد يتخيل بأن تدخل الجيش هو لصالح البلد، والحال أنه في المدى الاستراتيجي فإنه يحطم أسس المجتمع المدني، سواء كان التدخل سافراً أم خفياً.
إذن يجب أن يكون التنحي عن الحكم، من حيث الكيفية أيضاً بالعدل، وذلك بأن يسلم الأمر مثلاً إلى البرلمان، الذي هو الأقرب لإرادة الناس في الفترة الانتقالية، إلى أن تجري انتخابات عامة.
بل إننا نرى أن تسليم الأمور بيد نائبه أيضاً خطأ وظلم؛ لأن الناس لا يقبلونه هو فكيف بنائبه؟! وهو فرعه؟! اللهم إلا إذا رضي الناس بذلك في الفترة الانتقالية.
نموذج آخر: أن يتنحى ولكن بعد فترة طويلة، بعد أن يقمع المتظاهرين، أو حتى بعد نوع مماطلة متشبثاً بسلاح الوقت ومتذرعاً بذريعة (المفاوضات) مع الناس؛ لأن مثله كمثل خادم انتهت مدة العقد معه فانتهى العقد وانحل، أو كمثل خادم أخل بالشروط، يفسخ المستأجر العقدَ، فإنه يعزله وانتهى الأمر.
وليس له الحق في التمسك بكرسي الحكم تحت حجة (المفاوضات)، فارضاً نفسه وفارضاً مفاوضاته على الناس رغماً عنهم، كلا.. لا يحق له ذلك أبداً.
وفي مثال اجتماعي لا بأس أن نسوقه: نجد أن كثيراً من الناس في الإرث مثلاً، يظلم الأولاد الكبار والزوجة أو البنات أو الأولاد الصغار، فلا يعطونهم حصتهم، هذا ظلم في الحكم نفسه، لكن كثيراً من الناس قد يعطي، ولكن بعد أن يؤذي وبعد أن يزعج الطرف الآخر، فيعطي المرأة مثلاً إرثها، ولكن بعد محاكاة ومداولات وضغوط.
فإن هذا قد أعطى وقد عدل حيث أعطى، إذ أوصل الحق إلى ذي الحق، ولكن لم يراع العدل في كيفية العطاء، إذ أعطى بمنة أو بعنجهية، أو بعد مماطلة، حتى لكأنه هو صاحب الحق والفضل عليها، أو عليهم، فهذا أيضاً هو نوع من الظلم.
إذن فالعدل لا يتحدد بالعدل في ذات القضية وجوهرها، بل العدل أيضاً مفهوم يتسع ليشمل في كيفية تنفيذ الحكم، وكيفية العطاء وكيفية الأخذ وكيفية الإدارة، فالموظف الذي يستحق الترقية، فيُرقّى هذا عدل، وبخلافه فهو ظلم، لكن لكيفية الترقية أيضاً قسط من المعادلة، فإن كانت مع المن والأذى فهو ظلم، وهكذا في سائر المقامات.
ج- العدل في نتائج الحكم
والصنف الثالث من العدل، هو العدل في النتائج، إذ قد يكون العدل في الحكم محققاً، والعدل في كيفية تنفيذ ذلك الحكم متوفراً، لكن لا تكون هنالك عدالة ـ أي وضع للأشياء مواضعها ـ في النتائج.
وموضع الشاهد في هذا المبحث، هو أن العدل مفهوم عام، يشمل هذه الأصناف الثلاثة بأجمعها، سواء في القضايا الشخصية أو النوعية.
ويتضح ذلك باستخراج المثال والشاهد من الآية الشريفة: [فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا][3]، حيث لو لوحظت القضية بذاتها، وأنه كيف خرق الخضر سفينة هؤلاء الأيتام؟ فقد يتصور بأنه ظلم.
لكن إذا لوحظت النتائج، وأنه لو لم يتم هذا الخرق للسفينة، لصادرها ذلك الملك الجبار، لكان هذا الفعل بنفسه عدلاً كما صرح الخضر بعدها بالنتائج البعيدة المدى لخرقة للسفينة.
هل تُجرى الحدود الآن؟
أما مورد الابتلاء ومثار الشبهات فهو (الحدود)، وكان السيد الوالد (رحمة الله تعالى عليه) يرى بأنها لا تجرى في صور كثيرة، ومن تلك الصور ما إذا لم يكن النظام من حيث المجموع نظاماً إسلامياً.
بمعنى عدم كونه نظاماً ملتزماً بالاقتصاد الإسلامي، ومطبقاً لقوانينه وتعاليمه، فكيف تُجرى الحدود عندئذٍ بأن تقطع يد السارق مثلاً، والحال أن الاقتصاد الإسلامي غير مطبق؟!.
وكيف يلتزم الحاكم بتطبيق الحدود الإسلامية ويترك وراء ظهره قاعدة (الأرض لله ولمن عَمَرَها)[4]، أو (من حاز مَلَك)[5]، أو (دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ)[6]؟!.
أليس هذا مصداق: [أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ][7].
وكذلك إذا كانت الحريات غير موفرة، وكان الحاكم مستبداً، وهو يحكم عباد الله وبلاده بطريقة حكم فرعون، فكيف يصح له حينها تطبيق الحدود، وهو لم يطبقها على نفسه، بل هو أولاً من ينبغي أن تجرى عليه حدود الله[8].
ومن العلل: إن من مباني وأسس النظام الإسلامي العام، ومن مقاصده هو (العدل)، وهو يلاحظ بالقياس إلى المجموع، وليس قضية منعزلة.
وقد ذكر هذا الشرط السيد الوالد في كتاب "الفقه: ج101-102 الدولة الإسلامية" وفي كتاب "الفقه: 105-106 السياسة" وفي "الفقه: ج87-88 الحدود" من موسوعة الفقه، وأضاف: من الشروط أن لا يسبب إجراء الحدود، تلويث سمعة الإسلام أو المسلمين، فمضافاً إلى شرطية كون النظام الإسلامي مطبقاً، يلزم ملاحظة هذه القضية أيضاً؛ أن لا يسبب إجراء الحدود، تلويث سمعة الإسلام والمسلمين.
بل نقول: إن بعض هذه الدول التي تدعي الإسلام، والتي تطبق الحدود، متظاهرة بأنها الحامية للإسلام، هي في الواقع مزيج من الكذب ومن الدجل؛ فمن جهة نجد أن هؤلاء لم يطبقوا النظام الاقتصادي الإسلامي، ولا عملوا بالمنهج السياسي الإسلامي، ولا التزموا بالعدل الاجتماعي الإسلامي، فلِمَ يتشبثون بالحدود فقط؟! إن عليهم لو كانوا مسلمين التمسك بها بأجمعها.
ومن جهة ثانية، لم تلاحظ تلك الدول المستبدة الآثار السلبية الكبيرة الخطيرة الناجمة على ذلك والمترتبة عليها. ومن جهة أخرى، فإن الهدف من وراء هذا الدجل هو إعطاء الشرعية لحكومة هذا الملك أو ذلك القائد؛ إذ يحاول بذلك أن يسبغ الشرعية على حكومته، متذرعاً في كونه حامي حمى الإسلام بحجة إجرائه للحدود؛ قطع يد السارق أو رجم الزاني وجلده.
لكنه إذا كان حامي حمى الإسلام والمسلمين أو ولي أمرهم، فلِمَ لم يوفر فرص العمل للناس، مئات الألوف أو الملايين من العاطلين عن العمل؟!.
ولِمَ لَمْ يقضِ على التضخم، بتطبيق قوانين الإسلام، من قبيل (الأرض لله ولمن عَمَرَها)[9]، ومن قبيل (دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ)[10] ونظائرها؟!.
هذه القوانين التي إذا طبقت، فإن معدلات التضخم والفقر والبطالة سوف تتقلص وتتقلص إلى أن تختفي.
ثم نقول: لماذا لا يطلق للناس حرياتهم، مع أن ذلك من أهداف بعثة رسول الله (صلى الله عليه وآله) حيث يقول الله تعالى: [وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ][11]. فإنه إذا أراد أن يكون حامي حمى الإسلام حقيقة، فعليه أن يطبق أهداف النبي، التي صرح بها القرآن الكريم.
إذن التشبث بتطبيق الحدود فقط، وإهمال باقي الأسس والقوانين الإسلامية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية هو الدجل بعينه، وهو ليس عدلاً.
إنه يجري الحدود لكي يسبغ شرعية متوهمة على حكمه، وهذا هو الظلم والجور في واقعه، وهذا الحاكم قد مال به الهوى، لكي يكرس سلطانه وسلطته وحكومته وولايته، فيتمسك بهذه الظواهر، والتي لا يجوز شرعاً إجراءها، بدون تحقيق سائر الظواهر والبواطن أيضاً.
ويعني ذلك أنه بدون تطبيق سائر قوانين الإسلام، لا يجوز له أن يجري هذه الحدود؛ فإن الحدود تدرأ بالشبهات، وما ذكرناه يعد من مصاديق شبهة الفقيه على أقل تقدير، لو لم نقل بأنه تورث الاطمئنان، بعدم جواز إجراء هذه الحدود في هذه الظروف.
إذن العدل يجب أن يكون من حيث القضية بنفسها، ثم العدل من حيث الكيفية وطريقة التنفيذ والآليات المستخدمة والمتبعة، ثم العدل من حيث إحراز النتائج والتوقي عن المضاعفات السلبية، وللبحث حول هذا الموضوع مجال آخر، ونكتفي ها هنا بهذا المقدار في هذه الآية القرآنية الشريفة.
المبحث الثاني: ضمانات استقامة الجيش وحياديته
ضمانات لاستقامة الجيش
ونعني بالضمانات: تلك التقنينات والأسس والضوابط والآليات، التي تحول دون أن يتحول الجيش إلى أداة بيد السلطة، التي يميل بها الهوى، فلا تحكم (بين الناس) بالعدل، ولا (على الناس) بالعدل.
إن إصرارنا وتأكيدنا على الضمانات؛ لكي يكون الجيش في موضعه اللائق به، ولا يتجاوز حدوده، فيكون كابوساً على رقاب الناس والأمة، وقد تم التطرق إلى ثلاثة منها في المبحث السابق، وننتقل الآن إلى الضمانة الرابعة.
4- التثقيف الحقوقي للجيش
الضمانة الرابعة ـ وهي ضمانة مهمة ـ من ضمانات استقامة الجيش ونزاهته، وعدم تحوله إلى أداة قمعية بيد المستبدين، بل وعدالته فوق حياديته ـ حيث إننا لا نرى أن الجيش يجب أن يكون حيادياً، فيما لو حدثت هنالك خلافات جوهرية بين الدولة وبين الشعب، على العكس ممن يرى أن الجيش ينبغي أن يقف على الحياد؛ وذلك لأن الجيش ينبغي أن يدافع عن المظلوم وليس عن الظالم، ولا يصح أن يسكت ويتفرج، وهذا بحث قد نتطرق له لاحقاً إن شاء الله تعالى ـ هي:
(التثقيف الحقوقي) المكثف والمركز والمتواصل للجيش، بكافة درجاته، قادة كانوا أم ضباطاً أم منتسبين أم جنوداً عاديين. فإن التثقيف المكثف والمتواصل والمركز للجيش حقوقياً، هو من الضمانات لاستقامته في جملة من الأبعاد، ومنها: التي تخص العلاقات العسكرية المدنية، أي علاقة الجيش بالشعب؛ وذلك لأن الكثير من الجيوش ـ خاصة في الدول الاستبدادية ـ لا يعرف أكثر أفرادها حدود علاقتهم مع الناس، وما هو إطار العلاقة بين الجندي وبين الإنسان العادي، وبين الجيش كجهاز وبين النقابات، والبرلمان والاتحادات والأحزاب.
وهذه مسألة حيوية جداً، وهي المعرفة بضوابط العلاقات العسكرية ـ المدنية، ما هي الحدود فيها؟! وعلى الأقل ما هو الضابط الجوهري والرئيسي فيها؟!.
وهنا نشير فقط لجوهر الرابطة بين الطرفين، وهو أن الجيش خادم للناس لا غير، هذا هو جوهر العلاقة: إن هذا في خدمة ذاك، وذلك تماماً مثل العلاقة التي تحكم الحارس بمن يعمل له، إذ لا يحق له أن يتحول رئيساً يفرض قراراته وقوانينه، بل هو مجرد حارس بأجر.
فعلى الجيش أن يعرف جوهر موقعه، وأنه بالنسبة للناس هو التابع وليس القائد، وهو المقود الذي يمشي وراء الناس، وحسب تعبير أمير المؤمنين ومولى الموحدين (عليه صلوات المصلين) في "نهج البلاغة": (فَالْـجُنُودُ بِإِذْنِ اللَّهِ حُصُونُ الرَّعِيَّةِ)[12].
العلة الغائية للجيش
وبتعبير آخر: إن الجيش له الطريقية لا الموضوعية، فغاية الجيش هو: الدفاع عن الوطن، والمحافظة على أعراض الناس، وعلى أموالهم، وعلى أنفسهم، وعلى حقوقهم بشكل عام.
فالعلة الغائية للجيش هي الحفاظ على هذه الأمور الخمس: الوطن، والأنفس، والأعراض، والأموال، والحقوق، في مقابل هجمات الأعداء، من الخارج أو في مقابل مؤامرات الأعداء من الداخل، وإن كان ذلك العدو هو الحاكم نفسه أو القائد أو الملك أو من أشبه ذلك.
فهذه هي العلة الغائية للجيش، ويجب أن يثقف الجنود عليها.
ففي حادثة طريفة، يقال: بعد حرب طاحنة ضروس، انتصر الجيش فيها، تملك العجب والغرور أحد الجنود، الذي كان محملاً بطاقة فائضة، وبعجب متزايد. فمر بمكان ليرى مجموعة من أساتذة الجامعة مع علماء الحوزة العلمية، في حلقة نقاشية بحثية في أمر يهم شأن البلاد. فلم يكن من هذا الجندي المنتفخة أوداجه من زهو النصر، إلا أن اقترب إليهم وخاطبهم قائلاً: (أين كنتم عندما كانت المعارك مشتعلة والحرب متأججة؟!).
معرضاً بهم وأنهم كانوا مشغولين بالكلام والبحث، ومشغولين بدروسهم وكتاباتهم وبفكرهم، وقد غابوا عن المعركة الحقيقية بالبنادق والدبابات والطائرات.
فما قيمة هذا العمل الذي تقومون به!! حتى وإن كانت بحوثاً عن حقوق الناس، وعن الاستبداد، وضمانات الحرية، وسبل الازدهار.
أحدهم أجابه جواباً لطيفاً، إذ قال له: (نحن تلك الحضارة التي اشتركت أنت في الحرب للدفاع عنها).
وهذا يعني أن فلسفة وجود الجندي وسائر الجنود، هو الدفاع عن المفكرين الذين يحمون البلد، وعن الهوية التي يرسمها العلماء والمفكرون.
إن الجندي قيمته طريقية وليست موضوعية، هو حصن الرعية وليس سيداً على الرعية، وهذا الكلام هو عين الحكمة. فإن فلسفة وجود الجيش هي أن يدافع عن المعلِّم والطبيب والمهندس والصحفي والمحامي، والأطفال الذين هم بناة المستقبل، وعن الصناعة والتجارة والزراعة، وعن الحوزات والجامعات، وعن المدن والقرى والأرياف، وعن الحقوق والناس.
موقع الجيش في نهج البلاغة
ولنرجع إلى "نهج البلاغة" إذ فيه كل البركة وكل الخير، وكل الفكر وكل المعرفة، يقول أمير المؤمنين (عليه صلوات المصلين): (فَالْـجُنُودُ بِإِذْنِ اللَّهِ حُصُونُ الرَّعِيَّةِ، وَزَيْنُ الْوُلَاةِ)[13]، إن الحصن قيمته طريقية، كما السور في البلد، فقد أوجد ليكون حصناً للناس، وفي خدمة الرعية، فقيمته بأن يحافظ على حقوق الناس، على العلم وعلى الكرامة وعلى الحرية.
فالجنود ـ بإذن الله ـ هذا هو موقعهم، وهذا هو ما ينبغي أن نثقف الجندي والجيش والناس عليه، ليعرفوا موقع الجيش بالضبط، وأنه ليس سوى حصناً وسوراً وحارساً ومحامياً عن الحقوق، وليس ساحقاً للحقوق، ومضيعاً لها، (فَالْـجُنُودُ بِإِذْنِ اللَّهِ حُصُونُ الرَّعِيَّةِ، وَزَيْنُ الْوُلَاةِ).
كما نلاحظ أيضاً في هذا الكلام المبارك أن أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يبدأ بالأمن، بل بدأ بحصن الرعية (فَالْـجُنُودُ بِإِذْنِ اللَّهِ حُصُونُ الرَّعِيَّةِ)، وهو عكس ما تراه الحكومات الديكتاتورية، حيث إنها تعتبر الأمن هو الأولوية وهو المقدم.
والحال أن كلام الأمير (عليه السلام) يفيدنا أن حصانة دماء الناس، أموالهم، أعراضهم وحقوقهم، هي ذات الأولوية.
ونضيف أن الجنود إذا كانوا بالفعل حصون الرعية، فإن سبل الأمن ستتوفر طوعياً، وليس الأمر بالعكس؛ لذا بدأ الأمير (صلوات الله وسلامه عليه) بحصون الرعية، فإذا قام الجنود حقيقة بدورهم الأول، فكانوا بالفعل حصوناً للرعية، فالأمن سيتوفر دون شك.
أما إذا كان الهاجس كله الأمن، فذلك يعني أن الأمن قد تغلب على حقوق الناس، وذلك كمثل الحكومات العسكرية والدكتاتورية، حيث إنها بذريعة الأمن وبحجة الأمن، تصادر حقوق الناس، وتصادر حريات الناس.
وبعبارة أخرى: الأمن طريق للحفاظ على الحقوق، ولا ينبغي أن يكون الأمن سبباً لنسف الحقوق، وتحطيم الحقوق. فالأمن في خدمة الحقوق، وليست الحقوق في خدمة الأمن، كما قال عيسى المسيح (عليه السلام) في موطن آخر: (السبت إنما جعل لأجل الإنسان، لا الإنسان لأجل السبت)[14]، وتفسير هذا الحديث له مجال أوسع، فليراجع في محله.
منظومة قِيَم الجيش وقيم المجتمع
الملاحظة الأخرى هنا تتعلق بـ (قيم المجتمع) و(قيم الجيش)، وماهية العلاقة بينهما، وهي نقطة مفصلية وجوهرية، وهي غير موضحة عادة للجيوش؛ لأنه ليس من صالح الديكتاتور والمستبد توضيح قيم المجتمع للجيوش، أي قيم المجتمع العقلاني والديني، وعلى رأسها:
(العدالة) لأنها من أهم قيم المجتمع العقلاني؛ لأن هذه القيم دينية وفطرية وعقلية.
و(السلام) [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً][15].
و(الحريات المشروعة) وما أكثرها وما أوسعها، [وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ][16].
وكذا (الإيمان) و(الأخلاق) و(العلم والمعرفة) و(الاستشارة والشورى)، وما أشبه ذلك.
أما قيم الجيش[17]، فهي: (الطاعة العمياء) وهو أول شيء يعلمونه الجنود بأن يلتزم بالأوامر حرفياً، وأن يتعلم كيف يتحرك في ذهابه وإيابه، و(العنف والخشونة)، و(الحرب والانتصار)، هذه هي منظومة قيم الجيش، وتلك كانت منظومة قيم المجتمع.
لكن ما هي النسبة بين مجموعتي القيم هذه؟.
هذا هو الذي لا يوضح للجندي، بل العكس إذا لم يعلم ولم يثقف إلا على قيم الجيش.. إنهم يدربونه على الطاعة والانضباط، فإذا ثار الناس ضد الحاكم الجائر، هو متعلم على الطاعة وعلى الانضباط وعلى العنف، فإنه سيدخل في معركة ضد الناس؛ لأن تلك القيم، (قيم العدالة، الحرية، الشورية، السلم، وما أشبه ذلك)، ليست هي الأصل عنده.
فالضمانة الرابعة التي ينبغي أن تتوفر، هي أن يعرف الجندي ويفهم ويثقف من البداية إلى النهاية، أن هذه القيم العسكرية ليست قيماً (استقلالية)، بل هي (آلية) في خدمة تلك القيم الدينية العقلانية.
وهذا يعني أنه كما يقال له عن (الانضباط) إذ من الطبيعي أن الجيش يحتاج إلى انضباط، وعن (الطاعة) إذا صدر القرار بالدخول في معركة، كذلك يجب أن يعلم أن القيم الأساسية هي تلك.
وإن هذه القيم العسكرية هي (آلية) في خدمة تلك القيم المدنية الاستقلالية، وأنها لو تعارضت وتضاربت فعليه أن يرجح قيم المجتمع وقيم العقل والشريعة، على هذه القيم الآلية؛ لأن تلك قيمتها موضوعية، وهذا قيمتها طريقية، أي أنها تستمد قيمتها من كونها في خدمة تلك[18].
وعند التدبر في كلام أمير المؤمنين (عليه الصلاة وأزكى السلام) في "نهج البلاغة" نجده (صلوات الله عليه) يركز على أمثال هذه القيم: القيم السماوية والإنسانية والعقلانية كـ (حقوق الإنسان)، وهي قيمة جوهرية أساسية، يقول (عليه السلام): (وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ، وَالْأُخْرَى الْمُعَاهِدَةِ، فَيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وَقُلُبَهَا وَقَلَائِدَهَا وَرُعُثَهَا، مَا تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلَّا بِالِاسْتِرْجَاعِ وَالِاسْتِرْحَامِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ مَا نَالَ رَجُلًا مِنْهُمْ كَلْمٌ، وَلَا أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ. فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا أَسَفاً، مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً)[19].
مما يظهر منه أن حقوق الإنسان مصانة، مسلماً كان أم غيره، وهذا الكلام يحتاج إلى بسط مقال، فلنتركه لمظانه. ولنتدبر في تثقيف أمير المؤمنين (عليه السلام) للجنود ولعامة الناس: (فَيَا عَجَباً عَجَباً!! وَاللَّهِ يُمِيتُ الْقَلْبَ، وَيَجْلِبُ الْهَمَّ مِنَ اجْتِمَاعِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ عَلَى بَاطِلِهِمْ)، أي كسحق الحقوق وإيذاء المرأة المؤمنة والأخرى المعاهدة، وغير ذلك (وَتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ)[20].
المبحث الثالث: أجوبة التساؤلات ذات العلاقة بموضوع البحث
السؤال: النظام الحالي في العراق، هل هو إسلامي أم علماني، وإذا كان إسلامياً فما هو موقف المرجعية مما يجري في العراق؟.
الجواب:
لكي تكون الإجابة أعم فائدة، وأشمل عطاءً، نعمم السؤال ليشمل أية دولة كانت، وليس فقط العراق، إلى: ما هي الضوابط المقاييس والملاكات؟.
ولا نخصص بالذكر العينات الخارجية؛ لأن الضابط هو الذي يكشف لكل إنسان الواقع والحقيقة، سواء كانت دولة العراق أم غيرها.
هل هذه دولة شرعية؟.
هل هي دولة إسلامية؟.
ما هي هويتها؟.
وهل هي علمانية؟.
هل هي عادلة أم هي جائرة؟.
نعمم السؤال أفقياً وعمودياً.
إن المقياس لذلك، هو مدى تطبيق تلك الدولة للقواعد العامة الدينية، والتي هي قواعد عقلائية في الوقت نفسه، فهذه القواعد العامة أي قوانين الإسلام الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وسواها، هي المؤشر لكون الحكم إسلامياً أم لا.
فليس بمجرد أن تدعي دولة ما أنها إسلامية، تكون فعلاً بهذا الوصف، كمثل الجاهل الذي يدعي أنه طبيب أو مهندس أو محامي، فلا يغير الادعاء من الواقع شيئاً، ويبقى الواقع كما هو، وإن طبّل وزمر وسوّق كما يشاء، وسخر الأبواق وصرف الأموال.
إذن مجرد الادعاء بأنها إسلامية، أو ديمقراطية أو استشارية، لا يغير من جوهرها شيئاً. إنما الذي يكشف واقع تلك الحكومة والدولة، أن نرى قوانين الله سبحانه وتعالى مطبقة فيها، [وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ][21].
بمعنى أن تكون لقوانين الله المرجعية للحكم في جميع المجالات، أي كافة القوانين الاقتصادية والقوانين الاجتماعية والقوانين السياسية الإسلامية، ففي الاقتصاد أن تطبق الدولة قانون (الأرض لله ولمن عَمَرَها)[22]، وتسمح لعامة الناس باستثمار هذه الأراضي البوار وما أكثرها.
فيبنون فيها مساكن لهم أو عمارات أو دكاكين أو بساتين أو معامل ومصانع وغير ذلك، وأن يكونوا أحراراً في ذلك بدون حاجة إلى الحصول على الإجازة الرسمية من الحكومة؛ لان الأرض لله بنص حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وكذلك القانون الاقتصادي الآخر: (دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ)[23]، وقانون: لا ضريبة في الإسلام إلا (الخمس والزكاة) على المسلمين، وبتلك الطريقة الأخلاقية والإنسانية الرحيمة المذكورة في "نهج البلاغة"، و(الجزية والخراج) على غيرهم.
وكذلك نظام البنوك في الدولة، هل قوانينها في شتى أبعادها إسلامية وليس فقط في قبض الربا، بل في العشرات من القوانين الأخرى، مثل بيع الكالي بالكالي، فهل هذه الدولة في معاملاتها الدولية، وبنوكها تستخدم طريقة الكالي بالكالي ـ والتي هي معاملة باطلة شرعاً، والأسواق مليئة منها، والبنوك تتعامل بها كثيراً، وذلك بأن يكون كل من الثمن والمثمن مؤجلاً ـ فإن البيع على أربعة أقسام، وهي:
1- البيع نقداً، من الطرفين بضاعة وثمناً، مثمناً وثمناً.
2- وبيع النسيئة، بأن يأخذ البضاعة حالاً والثمن يكون مؤجلاً، وهذا صحيح.
3- وبيع السلم وهو بعكس النسيئة، ويعني دفع الثمن حالاً والبضاعة آجلاً.
4- وبيع الكالي بالكالي، بأن يكون كلاهما مؤجلاً، وهذا بيع باطل، وكثير من معاملات السوق هي كذلك، كما أن كثيراً من البنوك أيضاً تمارس هذه الطريقة الرابعة الباطلة شرعاً.
إذن وعوداً على جواب السؤال المطروح يعرف ـ إسلامية الدولة من عدمها ـ عبر الرقابة والدراسة، وعبر ملاحظة أنها تطبق قوانين الإسلام، في الزراعة وفي الصناعة وفي الجيش وفي الحريات وفي حقوق الناس، وغيرها أم لا؟.
ثم إن مسئولية رصد الدولة، ومدى عملها بالقوانين الإسلامية هي مسئولية العلماء والخطباء والكتاب وعامة المثقفين والجامعيين وعامة الناس، وليس فقط المرجعية الدينية، بمقتضى قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)[24].
فالكل وظيفته الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإرشاد الجاهل وتنبيه الغافل، وعلى العلماء والمثقفين أن يرشدوا الناس إلى مكامن الخلل في الدولة، وما هي قوانينها غير الإسلامية أو غير الإنسانية أو العقلائية، وإرشاد الجاهل وتثقيف الأمة وتنبيه الغافل، وأيضاً الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذه أيضاً من الوظائف البديهية، المأمور بها كل إنسان، والمراجع طبعاً في طليعة المأمورين بهذه الوظيفة الشرعية.
السؤال: أهداف وآليات مؤتمرات الإنقاذ
إن الإمام الشيرازي الراحل (أعلى الله درجاته) قد أكد كثيراً جداً على أهمية عقد المؤتمرات، لدورها في حلحلة مشاكل الأمة ورفع شأنها، فما هي معالم هذه الأطروحة؟.
الجواب:
قد سبقت الإجابة على نظير هذا السؤال، ونضيف هنا: إن مؤتمرات الإنقاذ التي رفع رايتها السيد الوالد (رضوان الله تعالى عليه) بالفترة الأخيرة، وبشكل قوي ومركز ومكثف، تتكون من مفردتين أساسيتين هما: كلمة (مؤتمرات) وكلمة (الإنقاذ).
فالمؤتمرات تكشف عن الآلية والوسيلة والسبيل والطريق، وكلمة الإنقاذ تكشف عن الهدف والغاية والمطلوب والمتوخَّى، ويعني أن الهدف من هذه المؤتمرات هو الإنقاذ.
فإن كثيراً من المؤتمرات تهدف إلى الاستهلاك المحلي، والتهريج الإعلامي، والى امتصاص النقمة، وخاصة في الدول الاستبدادية. حيث نجد أنها مؤتمرات شكلية وغير واقعية، والهدف منها هو التضليل والخداع والتخدير.
أما مؤتمرات الإنقاذ، فهي التي تبحث عن الداء وعن الدواء، ويجب أن تصبّ قلباً وقالباً، شكلاً ومضموناً، ظاهراً وباطناً، في طريق الإنقاذ؛ إنقاذ المسلمين من واقعهم المأساوي المتخلف، من الدكتاتوريات ومن الاستعمار، ولا يكون ذلك إلا بأن تكون هذه المؤتمرات حقيقية، ويشارك فيها مختلف أولئك الذين بمقدورهم إغناء هذا الفكر، أو رفد هذا العمل.
إذ ليس الأمر بالفكر وحده، ولا بالعمل بمفرده، فالناس الذين يستطيعون أن يغنوا هذه الفكرة ويضعوا مخططاً استراتيجياً للإنقاذ، والناس الذين بمقدورهم أن يمارسوا هذا الدور وأن يتحملوا الأعباء ـ وقد تكون أعباء مالية، أو قد تكون أعباء لوجستيكية ميدانية، وقد تكون غير ذلك ـ عليهم جميعاً أن يشاركوا.
مشاركة الفئات الأربع في المؤتمرات
وكان السيد الوالد (رضوان الله تعالى عليه) يؤكد على أن مؤتمرات الإنقاذ ينبغي أن تضم فئات أربع، أو مجاميع أربع:
الفئة الأولى: رجال الدين والعلماء؛ لأن الناس ينظرون إلى العلماء كقادة ومصادر للشرعية.
الفئة الثانية: هم المثقفون، من الجامعيين والأساتذة والمحامين والصحفيين والأطباء والمهندسين. فالأمة لا تقوم بعلماء الدين فقط، ولا بالمثقفين فقط، بل برجال الدين وعلماء الدين من جهة، وبالمثقفين بشتى ألوانهم وأشكالهم من جهة ثانية.
الفئة الثالثة: هم التجار والكسبة والحرفيين والصناعيين من الذين يمارسون إحدى الصناعات، فهؤلاء أيضاً ينبغي أن يكونوا مشاركين في مؤتمرات الإنقاذ.
الفئة الرابعة: هي التجمعات المختلفة، مثل النقابات والاتحادات والأحزاب والعشائر، ومختلف أنماط التجمعات الأخرى.
فهذه القوى الأربعة، لو تعاضدت وتعاونت، يمكنها إنقاذ المسلمين من واقعهم المأساوي.
والذي نلاحظ أن هذه التكاملية غير موجودة عادة في المؤتمرات، فإما هذا الجناح موجود دون ذلك، أو بالعكس، والبحث حول مؤتمرات الإنقاذ طويل، وقد كتب السيد الوالد (رحمة الله تعالى عليه وعلى علماء الإسلام جميعاً) كتاباً باسم "مؤتمرات الإنقاذ" يمكن الرجوع إليه.
السؤال: تداعيات تولّي الجيش للمرحلة الانتقالية من التغيير السياسي
ما هو الرأي حول التصدي المؤقت للجيش لإدارة البلاد، لاسيما في المرحلة الانتقالية من الدكتاتورية إلى الديمقراطية؟.
الجواب:
إن واقع الأمر في بعض البلاد الناهضة أخيراً هو هكذا حالياً، بمعنى أن الناس قد نهضوا واحتجوا واعترضوا، ورفعوا راية التغيير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم إن الحاكم أو الرئيس قسراً كان أو قهراً أو كان طائعاً قام بتسليم زمام الأمور إلى الجيش.
وكلتا الصورتين: التسليم القسري والطوعي للسلطة إلى الجيش، في تصورنا هي باطلة غير صحيحة، وأن التصدي المؤقت للجيش بأي عذر من الأعذار غير صائب؛ لأن تدخل الجيش في شؤون السياسة خطير إلى أبعد الحدود، وهذا يناقض إحدى البديهيات المسلمة في عالم اليوم، والتي تسمى بنظام فصل السلطات، فكيف تتمركز السلطات كلها وفي واقعها بيد الجيش؟!.
إن واقع الأمر هو كذلك، فإن الجيش لو استلم زمام الأمور، فعندئذ لا تستطيع السلطة القضائية أن تقف بوجهه، ولا البرلمان، ولا مؤسسات المجتمع المدني، ولا غير ذلك إلا في صور نادرة، أو مع تضحيات وخسائر كثيرة جداً.
ونضيف: ما هي الضمانة في أن يتنحى الجيش الذي تصدى مؤقتاً؟.
ومن قال أن هذا المؤقت لا يتحول إلى دائم؟.
وذلك يماثل أن تعطى صلاحيات إدارة مفاعل نووي لجاهل، إن ذلك ليس صحيحاً بتاتاً؛ لأن الجيش جاهل في الشؤون السياسية، وفي حقوق الناس، وطبيعته طبيعة خشونة وعنف وأوامر، وهل مثل ذلك إلا كمثل أن تسلم إدارة الجامعة بيد الجيش؟.
إن هذا خطأ فاحش؛ لأن الجيش لا يفهم من شؤون الجامعة شيئاً، أو كمثل أن تسلم إدارة الحوزة العلمية بيد ضباط الجيش. إن ذلك كله خطأ في خطأ في خطأ، حتى إذا كان الأمر مؤقتاً، بل إن هناك جهات أخرى هي الأحرى بأن تتسلم هذه المسئولية.
ومن هذه الجهات على سبيل المثال: البرلمان، أو مجلس الأمة، فلو فرض حدوث فراغ في السلطة بسبب أو بآخر، كما لو قتل الرئيس أو مات أو فرّ أو عزل أو استقال أو أي شيء آخر، ولم تكن هناك آلية واضحة محددة متفق عليها من قبل لانتقال سلمي للسلطة، فأقرب جهة تنتقل لها السلطة بشكل مؤقت لحين أن تجرى الانتخابات، هو مجلس الشعب ومجلس الأمة الحقيقي، المنتخب من قبل الناس، أو في درجة لاحقة، أن تتولّى السلطة القضائية السلطة بشكل مؤقت، أما أن تسلم الأمور للجيش وللقوات المسلحة، فإنه وقوع فيما فررنا منه، وفرار من المطر إلى الميزاب.
اضف تعليق