ان الحديث عن الهوية من القضايا المهمة في بناء الفرد، ناهيك عن بناء الأمم والشعوب، فهناك علاقة متبادلة وقوية بين الشعور الإيجابي بالهوية لاسيما الوطنية وترسيخ نزعة المواطنة في أي دولة حديثة، وكما سيتبين في ثنايا هذه المقالة.
تعريف الهوية
الهوية في اللغة العربية اسم مشتق من الضمير هو وتعني فيما تعنيه البئر العميقة، ويشير مفهومها اللغوي الى ما يكون به الشيء هو هو، أي من حيث تشخصه وتحققه في ذاته، وتميزه عن غيره، فهو تمثل وعاء الضمير الجمعي لأي تكتل بشري، ومحتوى لهذا الوعاء في الوقت نفسه، بما يشمله من قيم وعادات ومقومات تكيف وعي الجماعة وارادتها في الوجود والحياة داخل نطاق الحفاظ على كيانها.
وفي الاصطلاح تجد للهوية تعاريف كثيرة متقاربة في معناها، فتعرف بأنها " مجمل السمات التي تميز شيئا عن غيره أو شخصا عن غيره أو مجموعة عن غيرها" ويعرفها المفكر الفرنسي اليكس ميكشيللي بأنها" منظومة متكاملة من المعطيات المادية والنفسية والمعنوية والاجتماعية تنطوي على نسق متكامل من عمليات التكامل المعرفي، وتتميز بوحدتها التي تتجسد في الروح الداخلية التي تنطوي على خاصية الإحساس بالهوية والشعور بها، فالهوية هي وحدة المشاعر الداخلية التي تتمثل في وحدة العناصر المادية، والديمومة والجهد المركزي، وهذا يعني أن الهوية هي وحدة من العناصر المادية والنفسية المتكاملة التي تجعل الشخص يتمايز عمن سواه، ويشعر بوحدته الذاتية"، والهوية " هي الوعي بالذات الثقافية والاجتماعية، وهي لا تعتبر ثابتة، وانما تتحول تبعا لتحول الواقع"، وهي" إحساس الفرد بنفسه وفرديته وحفاظه على تكامله وقيمته وسلوكياته وافكاره في مختلف المواقف"، وهي" مجموعة من الميزات الثابتة والمكونة من خصائص الشيء أو الشخص، التي تشتمل على الصفات الجوهرية الثابتة المميزة له والتي تمنحه التفرد والخصوصية، وتحدد في نفس الوقت صورة الشخص عن ذاته والصورة التي يحملها عن نفسه وتقود ادراكه لذاته كموضوع في اطار علاقته مع الآخر".
ويتضح من خلال ما تقدم من تعاريف أن الهوية أس ضروري في كينونة الانسان وتمايزه عن غيره، وهي تمثل روح قبل ان تكون مادة، والاحساس بهذه الروح هو الذي يحدد فاعلية الذات وحيويتها ويرسم مسارات علاقتها بغيرها، ومقدار التقارب او التباعد بين الطرفين.
ولتعقيد الإحساس بالهوية الخاصة ذهب المفكر أريك أريكسون الى الإصرار على أن هوية الفرد لا تتشكل بتأثير المحيط الاجتماعي، وانما تتشكل من خلال كفاح طويل يبدأ من مرحلة المراهقة، ويحكم تشكلها عنصران: الأول اكتساب القدرة على الإنتاج والعلاقة مع المحيط، وثانيهما الإحساس بالاندماج في عالم معنوي مناسب. ولكن رأي السيد اريكسون قد لا يصدق دائما على كل مراحل الإحساس بالهوية، ففي بعض الأحيان يلعب المحيط الاجتماعي دورا فاعلا في اكراه الفرد على الانتماء الى هوية ما دون ان يملك قراره المستقل في هذا المضمار، وكما سيتبين لاحقا، مع الإقرار بحقيقة ان الهوية المكتسبة من النضال الطويل، والإرادة الحرة هي الأفضل في امتلاك صاحبها لشعور الحيوية والايجابية والتوافق مع الذات والمحيط.
عناصر الهوية
تختلف المقولات حول تحديد عناصر الهوية، فهناك من يقصرها على عنصرين هما: الأرض واللغة، وهناك من يحددها بخمسة هي: الأرض، والذاكرة التاريخية المشتركة، والثقافة الشعبية الموحدة، والحقوق والواجبات المشتركة، والاقتصاد المشترك، كما تجد من يحددها بستة هي: الأرض، واللغة، والتاريخ، والحضارة، والثقافة، والطموح. وعلى الرغم من تعدد المقولات، يمكن القول: ان عناصر الهوية تشمل كل العناصر أعلاه، كما تشمل العادات والقيم والتقاليد وطرق التفكير السائدة وغيرها، نعم قد يصح القول بأن بعض هذه العناصر ثابتة، كالدين واللغة، وبعضها الآخر متغير، لكن كل من الثابت والمتغير هي عناصر تشكل الهوية وتصقلها وتحدد معالمها.
صور الهوية
الهوية ليست صورة واحدة، بل لها صورا متعددة منها ما هو فردي كالهوية الشخصية التي تميز شخصا بشكله واسمه وصفاته وجنسيته وعمره وتاريخ ميلاده. ومنها ما هو جمعي كالهوية الوطنية او القومية التي تحدد مجموع السمات والخصائص المشتركة التي تميز أمة أو مجتمع أو وطن معين عن غيره، فيعتز بها وتشكل جوهر وجوده وشخصيته الجمعية المميزة، وقد يختلف الأفراد الذين يحملون هذه الهوية ببعض الميزات ويتشابهون في أخرى، لكن ذلك لا يؤثر على كونهم مجموعة متميزة. وانسياقا مع الصور الجمعية للهوية فان هناك تفريعات أخرى كثيرة كالهوية المهنية للذين ينتمون لمهنة ما، والهوية الفئوية التي تميز فئة اجتماعية عن أخرى، والهوية المذهبية التي تميز أبناء مذهبا عن مذهب آخر داخل الدين الواحد، والهوية الدينية التي تميز أبناء دين عن دين آخر، والهوية الحضارية التي تميز أبناء حضارة ما عن أبناء حضارة أخرى وغيرها. وان تتعدد الهويات لا يعني بالضرورة تصارعها مع بعضها، فقد يحمل الانسان الإحساس الإيجابي بهويات عدة في نفس الوقت دون أن يشعر بالتناقض والصراع الداخلي، فالمشكلة ليست في الإحساس بالهوية وانما في طريقة التعاطي مع هذا الإحساس، وطريقة التعبير عنه بشكل صحيح في العلاقة مع الآخر.
مراحل الإحساس بالهوية
يمكن للإنسان في تعاطيه مع قضية الهوية ان يكون في واحدة من المراحل الآتية:
1-مرحلة انجاز الهوية، في هذه المرحلة تمتلك الأنا قدرتها على اتخاذ قرارها المستقل في تحديد الهوية التي ترغب في حملها والاندماج فيها، وإعلان الانتماء لها بحرية، ومن ثم تقديم الولاء لها بما يقتضيه ذلك الولاء من متطلبات مادية ومعنوية، فتكتشف ذاتها وتندمج في إطار جماعة ما، فيكون الانسان في هذه المرحلة أكثر توافقا مع محيطه، واعلى تقديرا لذاته، كما ترتفع انتاجيته، وتقل لديه درجات القلق والاضطرابات النفسية والسلوكية.
2- مرحلة تعليق الهوية، وهي المرحلة التي لم يتخذ فيها الانسان بعد قرار الاندماج في مجموعة ما والانتماء الى هويتها الخاصة، فيعاني مما يسمى بأزمة هوية، وأزمة الهوية تعرف بأنها " الاضطراب الذي يصيب الفرد فيما يختص بأدواره في الحياة، ويصيبه الشك في قدرته أو رغبته في الحياة طبقا لتوقعات الآخرين عنه، كما يصبح غير متيقن من مستقبل شخصيته اذا لم يتيسر له تحقيق ما يتوقعه الآخرون منه فيصبح في أزمة"، ولكن الانسان في هذه المرحلة لا يفقد حيويته، وان كانت بدرجة أقل من المرحلة الأولى؛ لأنه يبقى حاملا في ذاته قدرته على اتخاذ قراره المستقل في اطار رحلته للبحث عن هوية ما.
3- مرحلة انغلاق الهوية، وهي المرحلة التي يواجه فيها الانسان عجزا واضحا في تحديد هويته، ويكون مستسلما لقوى خارجية تحددها له، كما يفعل الآباء في تحديد هوية أبنائهم، نعم قد يشعر الإباء بالرضا عن سلوك الأبناء المستسلمين لإرادتهم، لكن الأبناء سيعانون من درجة عالية من ضعف نمو الأنا، ويحملون مشاعر كبيرة من الاعتمادية والقلق.
4- مرحلة تفكك الهوية، وفي هذه المرحلة لن يشعر الانسان بأزمة هوية، ولا يكون باحثا عن هوية ما، ويرى وجوده في الحياة مجرد أدوار ليس لها هدف محدد، أدوار فرضتها عليه الظروف، فيضمحل لديه شعور او الرغبة في الشعور بالانتماء لهوية محددة، وخطورة هذه المرحلة تتجسد في اتسام الانسان الذي يمر فيها بالحدة والعدوانية والانحراف والجريمة، لاسيما في مراحلها المتأخرة.
العلاقة بين الهوية وترسيخ شعور المواطنة
تعرف المواطنة بأنها" صفة المواطن والتي تحدد حقوقه وواجباته الوطنية.. وتتميز المواطنة بنوع خاص من ولاء المواطن لوطنه وخدمته في أوقات السلم والحرب والتعاون مع المواطنين الآخرين عن طريق العمل المؤسساتي والفردي الرسمي والتطوعي في تحقيق الأهداف التي يصبو لها الجميع وتوحد من أجلها الجهود وترسم الخطط وتوضع الموازنات"، وهي" علاقة بين فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة.."، وهي" تجسيد لشعب يتكون من مواطنين يحترم كل فرد الآخر، ويتحلون بالتسامح تجاه التنوع المجتمعي.." وهي" مكانة أو علاقة اجتماعية تقوم بين فرد طبيعي ومجتمع سياسي (دولة) ومن خلال هذه العلاقة يقدم الطرف الأول المواطن الولاء، ويتولى الطرف الثاني الحماية، وتتحدد هذه العلاقة بين الفرد والدولة عن طريق أنظمة الحكم القائمة، ومن منظور نفسي المواطنة هي الشعور بالانتماء والولاء للوطن والقيادة السياسية التي هي مصدر الاشباع للحاجات الأساسية وحماية الذات من الاخطار المصيرية"، والميزة المهمة لشعور المواطنة هو انتاجها لما يسميه احدهم " المواطن الفعال" الذي يقوم برفع المستوى الحضاري لمجتمعه عن طريق عمله الرسمي والتطوعي.
من خلال ما تقدم يبرز تأثير الهوية على أعلاء قيمة المواطنة لشعب ما، فعندما يشعر افراد ذلك الشعب بهويتهم الوطنية المميزة، وعلوها على الهويات الفرعية الأخرى، دون الامتلاء بأحاسيس التصادم أو الصراع بين هذه الهويات والهوية الوطنية، فذلك سيعزز الشعور بالانتماء بين افراد ذلك الشعب، بصرف النظر عن اختلافاتهم العرقية واللغوية والدينية والمناطقية والسياسية والفكرية، وهذا الشعور بالانتماء لهوية وطنية جامعة سيكون كفيلا بخلق الولاء لتلك الهوية، والوصول الى هذا المستوى من الادراك الوجداني والتفاعل الإيجابي الفردي والجمعي بين الهوية الوطنية والمنتمين اليها هو الذي يرفع قيمة المواطنة من مجرد علاقة قانونية بين الفرد ودولته الى قيمة عليا مرتكزها القبول الواعي بالانتماء لرابطة الوطن، والاستعداد لتقديم الولاء المترتب على هذه الرابطة مهما كلف الثمن. وبخلاف ذلك أي في حالة وجود ازمة هوية او انغلاق وتشتت في الهوية فالنتائج السلبية ستكون واضحة على رابطة المواطنة، كما ان النتائج لا تقل سلبية عندما تكون الهويات الفرعية في حالة تصادم او توتر مع الهوية الوطنية.
تلازم العلاقة بين الهوية الوطنية ورابطة المواطنة العراقية
عانت الهوية الوطنية العراقية ولحقب طويلة من موجات مد وجزر؛ بسبب طبيعة الأنظمة الحاكمة وطريقة تعاطيها مع مواطنيها، ونتيجة للصراع الثقافي الإقليمي ومحاولة استلابه للخصوصية الثقافية العراقية لمصلحة الخارج، وبسبب اختلاف وعي المواطن العراقي لذاته بين حقبة وأخرى والبحث في الأسباب يطول، ليس هنا محل الخوض المفصل فيه.
لقد برز تهميش الهوية الوطنية العراقية بشكل سافر في حقبة البعث، لاسيما في عقد التسعينات، وتجذر أكثر بعد عام 2003 مع تصاعد الحديث عن الهويات الفرعية الطائفية والعرقية والمناطقية والعشائرية ووقوع العراق في قلب الصراع الثقافي-القومي والطائفي الإقليمي، مما خلق حالة مذهلة من التصادم والصراع بين الهويات الفرعية كانت الضحية فيه الهوية الوطنية الجامعة، وقد انعكست هذه الحالة في معاناة الفرد العراقي من كل أمراض الهوية كأزمة الهوية وتعليقها وتشتتها، فتجسدت النتائج في تضخم حجم الازمات وزيادة الصراع مع الآخر الوطني ؛ لعدم ركون الفرقاء الى القواسم المشتركة التي تجمعهم، فغدت وحدة الجغرافيا والتاريخ والدين والثقافة والقيم والعادات وما شابه من عناصر تشكل الهوية العراقية غير كافية للملمة اطراف النزاع وحلحلة الازمات والمشاكل، فساعدت مثل هذه الظروف على تنامي شبكات الإرهاب في بيئات كان بالإمكان جعلها منيعة في وجهه لو كانت مشبعة بالانتماء للهوية الوطنية، وتصاعدت موجات الهجرة الى الخارج بعدما فقدت رابطة المواطنة القدرة على خلق الولاء والاستعداد للتضحية من اجل بناء الوطن، وسادت المصالح الضيقة بشكل خرب الكثير من مفاصل الدولة، في وقت كان مجرد الايمان بالهوية العراقية كافيا لتغليب المصلحة العامة على أي مصالح ضيقة، بل وردع أصحاب المصالح الضيقة من أن يكونوا عوامل تدمير في جسد الوطن.
ان ضعف الشعور بالهوية الوطنية قاد بشكل مباشر الى ضعف رابطة المواطنة، وأخرج الضعف في المتلازمتين المواطن من دائرة التأثير والفاعلية، فلم يعد لدينا ذلك المواطن الفعال القادر على صنع تاريخه الخاص في الامتداد الطولي لتاريخ وطنه. نعم ان الإحساس بالهوية الوطنية يشهد صعودا وهبوطا حسب الظروف والاحداث، وان ما يؤشر على واقع الهوية العراقية محدد بوقته ولا يمكن تعميمه على المستقبل، لكن ما يحتاج الى توضيح هنا هو أن الأوقات التي شهدت تصاعد في مستوى الإحساس بالهوية الوطنية هي تلك الأوقات السعيدة التي حقق فيها شعب العراق الانتصارات الكبيرة، وكان شعبا فاعلا ومؤثرا في تاريخه وتاريخ العالم، واليوم كما في كل حقب التاريخ المماثلة يحتاج هذا الشعب الى استعادة هويته الوطنية الجامعة التي تشعر الافراد والمجتمع بالانتماء اليها، وتكون هوية فوق الهويات الأخرى، تسودها ولا تنفيها، تعززها ولا تحقرها، تحترم تنوعها وتوثق وشائجها، عندها يكون الشعب حاكما فوق الحكومات، وبوصلة مصلحته العليا فوق مصالح ما عداها، وعندها فقط تترعرع رابطة المواطنة وترسخ قيمتها في بنية المجتمع.
وتتطلب استعادة الهوية الوطنية العراقية الى:
- نخبة قائدة مؤمنة حقا بانتمائها الى هويتها العراقية ومدركة لما يمكن لهذا الايمان ان يحققه من نتائج إيجابية.
- مشروع سياسي ينطلق من هذه الهوية ليعززها ويمنح الشعب رؤية واضحة لمستقبل يرغب في بلوغه مهما كان حجم التحديات والتضحيات.
- قناعة شعبية بأن الانتماء الوطني يعزز الانتماءات الأخرى ولا يستهدفها.
- بناء مؤسساتي يوفر الحماية للمواطن دون أن يحرمه حقوقه، ولا يتجاوز على حرياته.
- القوة من الداخل الى الخارج وليس العكس، بمعنى إدراك ان كل تعكز من أي طرف داخلي على قوة خارجية لتحقيق مصلحة آنية ضيقة لا يمنح أي طرف قوة حقيقية، وانما قوة وهمية لمصلحة الخارج تخلق مزيدا من التشتت والضعف في الداخل، وتقود الى تمزيق الهوية الوطنية بذرائع شتى.
- وجود المواطن الفعال الذي من دونه لن يكون لرابطة المواطنة معنى، مواطن يعرف حقوقه وواجباته، وما يجب عليه في الإطار الرسمي والتطوعي.
اضف تعليق