استهلال:
"بديهي أننا كمثقفين نحمل جميعنا فهما عمليا أو ترسيمة معينة للنظام العالمي... على أنه فقط من خلال المواجهة مع ذلك النظام... تخاض المبارزات وربما ينعقد الفوز فيها أيضا."1[1]
لا يعتبر ادوارد سعيد مجرد مثقف كوني يحتل مكانة فكرية عالمية تضعه إلى جانب عمالقة الثقافة في الكوكب بل تقول سيرته الذاتية عنه أنه فلسطيني منفي حاول الغرب طمس هويته وتزييف جوهر رسالته ومازالت مجهوداته النقدية ومواقفه السياسية وأفكاره الفلسفية تمتلك راهنية وتمثل مادة خصبة للمعالجة.
لم يمنع حل الدولة الواحدة الذي نادى به سعيد من أن يكون منظورا فلسطينيا للصراع العربي الصهيوني ومن التحول إلى أشد المدافعين على القضية في الدوائر الغربية ومن المتمسكين بالحقوق الثابتة والتاريخية بل صار رقما صعبا في الذاكرة النضالية ضد الامبريالية وناطق رسمي باسم المقاومة الأممية ضد الظلم.
لقد حاول تخليص العرب من الصورة النمطية التي دأب الأدبي الغربي على تقديمها عنهم وبذل جهودا لإيقاف مهزلة تغطية الإسلام وإلصاقه بالإرهاب وأدرك على الفور ضرورة إنارة الرأي العام والتعريف بالقضية والتخصص في مناهضة التطبيع مع الواقع المهزوم والمداومة على التشهير بالعنصرية والتمييز. لقد كان دائم التساؤل:" لمَ لا نقوم نحن بدراستهم؟ إن تلك هي الوسيلة لمعرفة من هو جارك أو عدوك، اذا كان هذا حاله"2[2]. كما بيَّن سعيد أن الميديا قد غطت على التعاليم المنفتحة والمشرقة للإسلام ووضعت مكانها صورة منفرة وعنيفة ولقد شارك خبراء الإعلام في تشكيل صورة همجية ومتخلفة عن العرب والشرقيين وبالتالي تشكل سوء تفاهم مع الآخر وتسربت روح عدائية في نظرتهم إلى بقية العالم وأثرت في تعاملهم مع الشعوب3[3].
على هذا الأساس ماهو الدور الذي يلعبه الكتّاب في الدفاع عن القيم الكونية ومعارضة الحرب والانتصار إلى ثقافة السلام؟ كيف يمكن للسلطة أن تنبثق من قلب الممارسة الفكرية والمعرفية؟ هل من داخل الجامعة أم من خارجها؟ لماذا يواجه الكاتب أو المثقف في الشأن العمومي العديد من المشاكل والمخاطر حينما يؤثر الكلام على الصمت ولما يخرج من السكون إلى الحركة وعندما يستجيب للأمر الوجودي وينخرط في غمار السياسة؟ وهل توجد طريقة ملموسة وغير قابلة للبرمجة عن التجارب التي تتشكل منها النضالات اليومية للمثقفين؟
ما يراهن عليه أدوارد سعيد هو إخراج الكتاب والمثقفين والمفكرين من وضعيات الاندماج والخدمة والصمت والتبرير والشرعنة والتواطؤ والتطبيع والتنازل والاستسلام والتزييف والانبطاح وتهيئة إمكانيات التدخل في الحيز العمومي بالتزام ومسؤولية واستكشاف عناصر نضال وأشكال مقاومة في متناول اليد ووضع برامج بديلة بوضوح فكري وترجمة عملية والتصميم على تغيير العقول والواقع.
1- الدور العمومي للكاتب:
" لا أحد يكون خارج زمانه...والشخوص ليست رموزا للعبث"4[4]
لا يستمد الكاتب أهليته عند أدوارد سعيد من تلبية دعوة السلطات القائمة ومن الحضور في المناسبات الاحتفالية التي تقيمها الدولة والمشاركة في المسابقات الثقافية واحتلال المراكز الأولى وحصد الجوائز المادية وأوسمة التكريم ونيل التشريفات الرسمية بل من رفض حقه في التصويت ويتم إسقاط عضويته من الجمعيات التي ينشط فيها ويجبر على المغادرة لمناهضته لثقافة الحشد وبقائه ضخما وعصيا عن الضبط.
لا يبلغ الكتّاب السقف من الأهلية بالظهور في المناسبات الإعلامية ومن تقديم أنفسهم على أنهم كتاب محترفين ومن إنشائهم قصورهم المعرفية من أنشطتهم المهنية ومن توافقهم مع المزاج العام وخدمتهم الأجندات السياسية عند تناولهم الشأن العام وإنما من انحرافهم عن المسار العام وتغريدهم عن السرب ويزرعون الارتباك في الثقافة الراكدة ويقحمون أنفسهم في صميم التغيرات ويتسببون في حدوث تحولات.
يعترف أدوارد سعيد بصعوبة تحديد الكاتب من جهة التعريف المفهومي والوظيفة التاريخية والموقع السياسي والصورة الاجتماعية ولهذا الأمر يراجع الكثير من الأفكار السابقة ويقوم بتوسيع الآراء السديدة التي تبناها في كتاب "صورة المثقف" ويلجئ إلى التمييز بين كل من الكاتب والمثقف والمفكر والناقد.
إذا كانت الثقافة العربية الإسلامية تستخدم عبارتي المثقف والمفكر أي رجل الثقافة ورجل الفكر بحثا عن قيادة رمزية وسلطة شرعية مضادة لسلطة الحكام الفاقدة للمصداقية والشعبية والتي تعوزها الثقافة والفكر فإن الثقافة الفرنسية تنطلق من الترسب العمومي القائم في مفردة المفكر والذي يطرح أفكاره للنقاش على الصعيد العمومي وتسمح له من التدخل في السياسيات العامة وتفتح شهية العديد من الناس في إبداء الرأي.
في حين أن مصطلح المثقف هو الأقل استخداما في الثقافة الأمريكية ووقع تعويضه بالخبير وشكلت الاحترافية والتخصصية المعيار الملائم للإنتاج الفكري ولم يعد الكتاب يطمحون للوصول إلى السلطة.
في هذا الإطار يحاول سعيد إدماج كلمتي مثقف وكاتب في مفهوم واحد واثبات الانتماء المتبادل للطرفين بالرغم من كشفه للطابع التفضيلي لموقع الكتّاب المستقل بالمقارنة من موقع المثقفين المتورطين دائما في النقد وذلك لما ينتجه من أدب تسبغ عليه هالة الإبداع وقداسة الابتكار ولما يتميزون به من قدرة نبوية.
لقد حاول سعيد إدغام الواحد بالآخر وبين أنه"خلال السنوات الأخيرة من القرن العشرين ازداد اكتساب الكاتب لصفات المعارضة المنسوبة إلى المثقف من حيث الجهر بالحقيقة في وجه السلطة والشهادة على الاضطهاد والعذاب ورفع صوت التمرد أثناء النزاعات مع السلطات."5[5]
بيد أن سعيد يكشف عن الوضع التراجيدي أو التوتر المستدام الذي يعيشه الكاتب في الحقبة المعاصرة فهو من جهة أولى مطالب بأن يكون لاسياسيا حفاظا على مصداقيته واستقلاليته وحياديته بشأن الحقيقة وبالتالي يغلب عليه طابع الاستكانة الفكرية بدل الاضطلاع بدور انشقاقي ومهام تصعيدية تجاه السلطة ومن جهة ثانية اتسع النطاق السياسي والعمومي جميع مجالات الحياة وأصبح بلا حدود وغمر مجال الكتابة والثقافة وأصبحت كل معرفة منتجة هي في خدمة سلطة معينة وصار القلم تابعا للسيف ضرورة.
لقد أعيد تشكيل دور الكاتب وتوفرت متنوعات مختلفة في موقعه الجسدي والمجازي وصار بإمكانه القيام بوظائف متفاوتة تصل إلى حد التناقض فهو يعمل على مواجهة الجهل والخرافة بالتربية على قيم التنوير ولكنه يتحول إلى أداة من أدوات التي تستعملها الأجهزة الإيديولوجية للسلطة في معركتها مع خصومها.
لقد دافع سعيد عن الدور العمومي للكتاب في زمن شهد انتصار الاقتصاد المعولم وتسليع كل شيء وفي عصر انتشار التخصص وسيادة الخبراء وفند بذلك الأطروحة التي تقول بأن المثقفين لم يعد لهم وجود وعلى خلاف ذلك بين للعالم أن أفعال الكتاب المرتبط بالشأن العام ومواقفهم مازالت تؤثر وتنبض بالحياة.
إذا كان رجال الاقتصاد والسياسة يضغطون في اتجاه اكتساب المزيد من السلطة والمنفعة فإن عدة شرائح من المجتمع تعتقد بأن المثقف بالمعنى الغرامشي مازال محل ثقة وتعتبره كائنا يجب الإنصات إليه وتنظر إليه بوصفه المنقذ لحظة الكارثة والمرشد زمن الاضطراب والحكيم في وسط الارتباك والتعثر.
لقد تنصلت الدولة الليبرالية الجديدة التي خلفت دولة الرعاية من كل التزاماتها تجاه مواطنيها وتشبع خطابها بالمصالح والسلطات التي تحوز عليها وتستهدفها وتركت الباب مفتوحا أمام المثقفين من أجل الانخراط في جبهة حقوقية تناضل في سبيل بيئة طبيعية وإحراز مهنة إنسانية واحترام الأخلاق الطبية.
لقد وقف سعيد إلى جانب الحركات المنادية بحقوق الأقليات والإنسان وطرح على طاولة النقاش قضايا النسوية والبيئة واعترض على الحروب غير العادلة وغير المشروعة وجسد مقاومة الواقع العولمي الزاحف ووجه الانتقادات الأكثر جذرية إلى النظام العالمي الجديد محاولا قطع الطريق أمام الإرهاب والتمييز العنصري والنزعات اللاّإنسانية وناضل من أجل بناء حقول تعايش بدل من ميادين قتال وحرب.
لا تكمن مهمة الكاتب في الدفاع عن مصالح القوى المسيطرة ولا في ادعاء النضالية المغلقة بالغوص في رطانة الخطاب التخصصي وممارسة التجريد الأكاديمي وإنما عليه بالإسراع بالتدخل الحاسم في الشأن العام والتسلح بامبريالية الفضيلة والاشتباك مع الخصوم المسؤولين عما آلت إليه الأحوال بشكل مباشر.
إذا كان خطاب الخبراء شعائريا واختزاليا وتمنعه البراغماتية والمباشراتية من التأثير وتقديم الحلول فإن المثقفين المستقلين يمكنهم أن يشكلوا شبكات ضغط وبؤر مقاومة تستعمل وسائل الاتصال بطريقة ثورية.
هكذا يمكن للمثقف أن يتحول إلى طاقة فكرية ذات قدرة على الحركة والتأثير باستعمال لغة تسهل عملية التواصل وأيضا بتقديم نفسه تارة كمواطن وطورا بوصفه المعبر بشكل واضح عن وجهات النظر البديلة.
غير أن المثقف- الكاتب مطالب بأن يجمع في دوره المركزي ووظيفته العضوية بين الشهادة على تجربة خصوصية وتدوين هويتها العمومية ويلعب الدور الناطق بلسانها من جهة وأن ينخرط في عملية توعية المواطنين ديمقراطيا ويدعم الأجندة السردية الكونية ويناهض كل أشكال التعصب واللاّتسامح والهمجية ويدافع على الحقوق والحريات ويعمل على استبقاء الجمالي في الفعل الفردي والجماعي من جهة أخرى.
لقد آمن سعيد بلغته وجعلها أداة مقاومة "فاللغة العربية هي في قلب هوية الشعوب ومقاومتها للمشاريع الكولنيالية. لكن العربية تملك خصوصية أن تكون منشطرة بين لغة كلاسيكية ولهجات وطنية تكون في بعض الأحيان غير مفهومة من بعضها البعض. فهل من الممكن أن نجعل من هذه الثنائية ثراء وقوة؟"6[6]
تجمع اللغة بين عبقرية الكاتب الذاتية وخصوبة الثقافة الموروثة ويمكن تحويلها الى وسيلة للاستثبات وأطار لتقرير مصير الجماعة التاريخية التي تنطق بها وتؤدي مهمة معرفة هذه الجماعة لنفسها وبالعالم.
على المثقف أن يتجاوز الأسلوب الجدلي والدور الاعتراضي وأن يختار الوقوف في الموقع الذي يمكنه من دفع الناس إلى التعبير عن مطالبهم ورغباتهم وأن يسعى إلى بلورة جملة من التوقعات والانتظارات وتقديم بدائل تجمع بين العدالة الاجتماعية والمساواة السياسية وتوفر التطور الثقافي والنمو الاقتصادي.
تتمثل رقابة المثقف في"أن جزءا مما نمارسه نحن المثقفين لا يقتصر على تعيين الحالة الراهنة وإنما يشمل أيضا استكشاف إمكانات التدخل النشط، أمارسنا هذا النشاط بأنفسنا أم اعترفنا به لدى آخرين"7[7].
يقترح سعيد أدوار ثلاث أو مهام نضالية يجب على الكاتب- المثقف أن يقوم بها:
المهمة النضالية الأولى تتمثل في منع اضمحلال الماضي واستباق عمليات إخفائه ويفسر ذلك بالتركيز على الكتابات المتحررة من ضغوطات السلطة واكراهاتها وذلك بالكف عن إعادة صياغة التقاليد وتقديم تبسيطات للتاريخ وفق الذاكرة الرسمية لاستراتيجيات السلطة وتبتكر سرديات بديلة ومنظورات مختلفة.
المهمة النضالية الثانية تستند إلى بناء حقول تعايش بدلا من ميادين قتال بواسطة الجهد الفكري والحوار العقلاني عن طريق مد جسور المثاقفة بين الشعوب والأمم وتنشيط حركة الترجمات والنقل المعرفي.
المهمة النضالية الثالثة تقوم على تحويل المثقف الكاتب إلى ذاكرة مضادة وسارد لتاريخ منسي ومهمش ويتمتع بالجرأة والجهد والقدرة على التخيل التي تجعله يمنع الضمير الإنساني من الاستسلام إلى النوم. على هذا الأساس يجب أن يمتلك المثقف خطابا معاكسا للمزاج العام ويواجه الخطاب الإعلامي الذي يبني منطقه بالاعتماد على التضخيم والتزويق وينتصر إلى قيم الحق والعدل ويناصر القضايا المصيرية لأمته. "ان المنزل المؤقت للمثقف هو حومة فن متطلب مقاوم وغير مساوم لا يمكن أن يبحث فيه عن حلول"8[8]. وبالتالي يقبض المثقف في حقل النفي الهش على صعوبة لا مخرج منها ولكنه يقدم على اكتناهها.
على هذا النحو لا يجب أن يعمد الكاتب في خطابه إلى تبرير جملة المصالح الجماعية الطاغية وذلك من خلال إخفائها عن الأنظار أو التغافل عنها بل يفترض أن يقوم بالتنويع في أساليبه التشكيلية ويضاعف حس المعارضة الملتزمة لديه ويبادر بالتشهير بسلبياتها وخلخلتها وتفكيكها بالانتباه إلى تبعاتها الكارثية والوعود البائسة التي تروج لها ويصنع التفاؤل الحذر ويشخص التحديات وينشر أدوات دفاع رمزية ضد التطهير العرقي والرقابة الجماعية والازدراء الاجتماعي ويتصدى لبراغماتية السوق ومنطق الشركة واستراتيجيات الرسملة والسلعنة التي تربط الاستمرار في العيش بالاستمرار في الدفع وترهن القيمة بالفائدة. "هناك بعدا آخر للخطاب الثقافي يتعلق بالقدرة على التحليل بمعنى أن تتخطى القوالب الجاهزة وتضطلع بمهمة تصحيح الأكاذيب التي تصدر عن السلطة وأن تقوم بمساءلتها وبالبحث عن بدائل"9[9]. لكن ماهو الموقف المثير للجدل الذي تبناه أدوارد سعيد من القضية الفلسطينية في طرق التصدي؟
2-تلازم الانتفاضة والمقاومة والعودة:
"لا يجوز الاستخفاف بالطاقة التحريرية لذلك الوضع الجديد ولا بالمخاطر التي تتهددها"10[10]
يتضامن سعيد مع قضية اللاجئين الفلسطينيين الذين يعشون وضعية مأساوية في الشتات وفي دول المهجر ويشيد بمجموعة من الأنشطة عابرة للحدود بطريقة افتراضية من خلال استخدام الفضاء الافتراضي بطريقة تفاعلية قام بها مجموعة من الشبان داخل مخيم "الدهيشة" وأسموها "مركز إبداع" حينما تجاوزوا الحواجز وتمكنوا من تقريب المسافات لأول مرة منذ 1948. لقد "انعقدت أواصر تضامن مدهش في وقت باشرت فيه مفاوضات الحل النهائي السيئة الطالع بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل في تناول قضيتي اللاجئين والعودة، التي شكلتا – مع قضية القدس – صميم عملية السلام الواصلة إلى مأزقها."11[11]
لقد ساهمت هذه التجارب التواصلية الافتراضية في التعريف بقضايا اللاجئين والمبعدين ومنحتهم منزلة جديدة ومكنتهم من الخروج من حالة الصمت والاستكانة والتشتت والإقصاء إلى التعبير عن الوعي بالذات والحضور الفعلي في المشهد واستئناف المشاركة في الصراع والاشتباك وإعادة تنشيط الإرادة السياسية.
الصراع على فلسطين هو النزاع الأقرب إلى الدار حسب تعبير أدوارد سعيد ويطرح قضايا الهوية والانتماء إلى أمة والوفاء للتقاليد ومسألة حضور الماضي بشكل مكثف والاستنجاد بالذاكرة في مواجهة النسيان، ولا يمكن حل هذا الصراع العنيد عن طريق إعادة ترتيب دولية تشتغل على محاور جغرافية يمكن تقاسمها تقنيا بين الفلسطينيين والإسرائيليين لأنها تسمح للمقتلعين من وطنهم والمحرومين من حق العودة والمهجرين قسريا بأن يعيشوا مجرد بوابين لأرضهم المطوقة من قبل العدو. من هذا المنطلق "يبدو أن المجتمعات الحديثة والمجتمعات البدائية قد حصلت بصورة سلبية عن معنى يخص هويتها"12.[12]
هكذا ينبني المخرج الذي يقترحه سعيد بخصوص القضية الفلسطينية على المبادئ الأساسية التالية:
- القضية الفلسطينية ليست قضية سهلة من نوع قضايا حق في مواجهة حق.
- ليس مقبولا أخلاقيا مطالبة السكان الأصليين بالانسحاب من الأرض فيصيروا لاجئين وأجانب.
- ليس من الحق ولا من العدل أبدا حرمان شعب بأكمله من أرضه وتراثه وقطع أوصاله وتهجيره.
- لا يمكن الموافقة على بأن احتلال فلسطين كان ضروريا لإيجاد حل للمأساة اليهودية من حيث هي اجتماع ألم بل إن مجرد التفكير بهذه الطريقة هو إهانة للألم الفلسطيني والتسبب في مأساة جديدة.
- لقد تقزمت الأهداف التحريرية للفلسطينيين بل تسفهت حينما تحولت على يد مجموعة نخبوية من الأساتذة إلى صناعة أكاديمية عقيمة واختزلت في مبارزة غامضة بين خصوم ملتبسين.
- لا يمكن للسلام أن يتحقق من دون مساواة وطالما أن عمليات الحرب والسلم يتحكم بها الأقوياء تحت راية الامبريالية الحميدة وتحرض على المزيد من الموت والدمار والرعب للمدنيين الآمنين.
- إن النضال الفلسطيني هو من نوع التجارب المتقاطعة التي لا تقبل المصالحة وتبعث على اليأس ولكنه لا يتطلب من المثقف أن يلعب دور الشاهد الصامت على اللاإنسانية المحيطة بالمجتمع.
لم يعش ادوارد سعيد حياة هادئة ومريحة ولم يكتف بالنشاط الأكاديمي ولم يتنصل من انتمائه لهويته وثقافته وإنما لم يتردد في النشاط السياسي وإبداء الحماس والاهتمام بالدفاع عن الحقوق المدنية وممارسة الالتزام الوجودي بقضايا شعبه بالرغم من علمه أن ما سيتعرض له هو الازدراء والاضطهاد والنبذ. لقد فعل سعيد الكثير من الانجازات الرمزية لفلسطين والفلسطينيين لما رفع القضية إلى مكان بارز في المشهد الإعلامي الدولي وحاول تغيير الصورة النمطية التي ظل المثقفون الغربيون ينظرون بها إلى الشرقيين.
"إن التفاعل بين الفلسطينيين والإسرائيليين يتسم بالكراهية والعداء... إن هذا الواقع لا يمكن تغييره بسحب الناس وراء إلى حدود أو دول منفصلة. إن تورط كل في الآخر... يعود في أساسه إلى العدائية التي مارسها الإسرائيليون منذ اللحظة الأولى التي دخلوا فيها المناطق الفلسطينية...وغزوا الفضاء الفلسطيني"13[13].
يدافع سعيد على ضرورة قيام دولة علمانية ثنائية القومية بتقديم أربع مبررات، يتمثل المبرر الأول في الهوس الاسرائيلي في التوسع الاستيطاني بالرغم من صغر المحيط الجغرافي وتعويلهم على اليد العاملة الفلسطينية في ظروف سيئة وبأجور زهيدة. أما المبرر الثاني فينحصر في أن عمليات الفصل والسحب والتهجير للسكان الفلسطينيين من مدنهم وقراهم لا تقضي على العداوة بل تضاعف من التمييز والازدراء ويزيد من لهيب العنف. في حين يرتكز المبرر الثالث على أزمة الهوية التي يعاني منها جيل جديد من السكان الفلسطينيين الذي حصلوا على جنسية إسرائيلية وهو ما طرح إشكاليات حول المواطنة وماهية اليهودي. يثير المبرر الرابع الواقع السكاني الذي يشهد تفاوتا ديموغرافيا بين الفلسطينيين والإسرائيليين مما يدفع الدولة العبرية إلى تشجيع هجرة يهود العالم وإدامة سياسة التمييز العنصري بطرد الأصليين.
"الوضع هناك رهيب وينذر بالكارثة وهو يعود برمته إلى الاحتلال الإسرائيلي لمدن الضفة الغربية بينما غزة محتجزة فيما يشبه القفص الكبير... أضف إلى ذلك القدس الشرقية التي جرى ضمّها دون شرعية"14[14].
لقد أسس ادوارد سعيد ثقافة المقاومة واعتبر انتفاضة 2000 شكلا من أشكال القيام الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي وقدم منظور فلسطيني مختلف حيال الصراع مع الايديولوجيا الصهيونية ينبني على نقد للبيروقراطية الإدارية التي تفشت في منظمة التحرير والأحزاب المكون لها وحالت دونها والسيادة الذاتية والقدرة على معالجة مشاكل حياتية حارقة للمواطن الفلسطيني مثل التعليم والشغل والصحة والنقل. بناء على ذلك تمكن ادوارد سعيد من أن يتحول إلى المتحدث الرئيسي باسم القضية الفلسطيني في الغرب وذلك عن طريق مقالاته وبحوثه وعبر مشاركته في حلقات النقاش ووقفات احتجاجية ضد الجدار العازل.
تمثل استقالة سعيد من المجلس الوطني منعرجا حاسما في موقفه السياسي وضوء اخضرا لكي ينطلق في مناهضة توقيع اتفاقية أسلو ورفض عملية السلام والاستيطان وتوجيه انتقادات كبيرة لفتح وللقائد عرفات.
غير أن المثير للجدل هو اعتبار منظمات الدفاع اليهودية ادوارد سعيد بالأستاذ المتعصب لقضيته ونعته بمعاداة السامية وتهديده وتخويف أسرته بالرغم من دفاعه على فكرة التعايش العادل بين اليهود والعرب وإيمانه بحل الدولة الواحدة وتعاطفه مع الأبرياء وهجومه على شعارات العسكرة وكليشيهات التسليح.
اللافت للنظر أن حل الدولة الواحدة لم يتم اعتماده لما فيه من تسويف للحقوق واعتراف بشرعية الاحتلال ووقع اللجوء من طرف المنتظم الأممي الى حل الدولتين وحصل الفلسطينيون على 12 في المائة من الأرض فقط أي الضفة الغربية وقطاع غزة وبذلك أعلنت العديد من الدول الاعتراف بالدولة الفلسطينية ورفع العلم في الكثير من المحافل الدولية سياسية وثقافية ورياضية ووقع تبادل البعثات الديبلوماسية. فألا يكون المخرج المقترح من قبل أدوارد سعيد ضربا من اليوتوبيا السياسية في استمرار الصراع بشكل حاد؟ ولكن من جهة أخرى كيف ارتبط الإيمان بالمقاومة الثقافية عنده بتأسيس علم مضاد للاستشراق ومناهضة النظرة الغربية للشرق وتبني رؤية الأنسنة الثقافية الجديدة التي انتشرت في أروقة الجامعات الغربية؟
خاتمة:
"ما يهمني هو الأنسنة بماهي ممارسة يستخدمها مثقفون وأكاديميون يريدون معرفة ما هم فاعلون وما الذي يلتزمون به كباحثين يرغبون أيضا في ربط تلك المبادئ بالعالم الذي يعيشون فيه كمواطنين"15[15]
من بين المخاطر التي تهدد حركة الأنسنة بماهي تجربة نقدية وفكر ملتزم بالحرية والتنوير يذكر ادوارد سعيد ثلاثة أمثلة وهي الفكر الانتمائي الذي تسقط فيها الايديولوجيا القومية والحماسة الدينية التي تغمر الفكر السياسي والنزعة الاستئثارية التي تميز سرديات الوطنية والانفصالية وتتسبب في موجات تدميرية.
إذا كانت الإنسانوية تعطي العقل والطبيعة والإنسان قيمة كبرى وتدل على الميل إلى الاشتغال بالفنون واللغات والآداب والتاريخ والعلوم فإن الأنسنة عند أدوارد سعيد حركة فكرية وتوجه عام ينخرط فيه الكتاب والمثقفون يقاومون فيه عالما يعج بالاضطراب والعنف ويتدبرون به واقعا متذررا فقد آلهته.
لا تقتصر حركة الأنسنة على الفضاء الغربي بل تخاطب الإنسانية بأسرها وتغرس فيها التربية العقلية والممارسة النقدية والتفحص الموضوعي للظواهر والتأويل التاريخي للنصوص والقراءة المنفتحة للعالم. بناء على ذلك تصارع هذه الحركة كل أشكال الهمجية وتحاول التخفيف قدر الإمكان من وطأة المركزية وذلك بإدخال البعد الزمني إلى الهويات الجماعية والاسترشاد بنماذج راقية والسعي المستمر نحو الحرية.
هكذا تعيد الأنسنة الثقافية صياغة طرق النضال من أجل حقوق الإنسان وفق حاجيات الشعوب من السيادة والكرامة وتعيد تحديد مفهوم المواطنة ضمن أفق سياسي مابعد كولونيالي وتلتزم بالنضال الديمقراطي.
ليست حركة الأنسنة عملية استحواذ وهيمنة ولا تقتصر على وضع فضائل وصفات محمودة على النشاط الإنساني بل هي ممارسة مستدامة تمنح المؤسسات قدرات ثمينة وغنية وتتعامل مع الإنسان ككائن بدئي بعد تفحص دقيق لعلاقاته الميتافيزيقية وتمتلك شكلا من الوعي الحاد بحاجة المجتمع لولادة ثقافة جديدة.
كما يرفض سعيد تبرير الجرائم والحروب والتدخل في الدول الخارجية بادعاء تحقيق الغايات الإنسانية والدفاع عن القيم الكونية وينقد مصطلح "الإنسانية العسكرية" وارتكاب التطهير العرقي والقتل الجماعي.
يحاول سعيد مواكبة التغيرات الجذرية التي طرأت على النظرية الإنسانوية واطلاع جمهور المثقفين والكتاب على الوجه الأنجلوساكسوني للأنسنة الشاملة وخاصة صورتها الجديد في الجامعات الأمريكية على غرار كولومبيا ونيويورك مع جايمس كليفورد وآلان بلوم ونورمان فورستر وجاكسون ليزر.
لقد تأثر سعيد بحركة الأنسانيين الجدد التي قامت بالرد على النزعة المضادة للأنسنة التي تشكلت بمفعول اندلاع الحروب العالمية الأولى والثانية وحدوث أزمة في تصور الإنسان لذاته وتأبد العدائية بين البشر.
ترتبط حركة الأنسنة الثقافية بتمجيد القيم الدنيوية مثل التربية على المطالعة والقراءة الأدبية والنهل من العلوم الأنثربولوجية والتجارب التاريخية للأمم الماضية والاهتمام بالشؤون الفنية والتركيز على الترفيه والمتعة. لكنها تؤمن بالعلمنة في الفضاء الديني وتناضل من أجل ترسيخ قيم العلمانية في الفضاء السياسي وممارسة المواطنة التشاركية وتنبذ الانكفاء على الذات واقصاء الآخر وتوصي بالتحرر والتنوير والنقد.
"ليست الأنسنة طريقة في تدعيم وتأكيد ما عرفناه وأحسسناه دوما، وإنما هي وسيلة تساؤل وإقلاق وإعادة صياغة للكثير الكثير مما يقدم لنا اليوم على أنه يقينات مسلّعة، ومعلّبة، مغلقة على النقاش ومشفرة على نحو غير نقدي، بما فيها تلك الموجودة في روائع يجري حشرها جميعا في حظيرة الكلاسيكيات."16[16]، لكن ماذا تراه يقصد أدوارد سعيد حينما يعرف ظاهرة الأنسنة الثقافية الجديدة بكونها "تنافر مضطرب من المدونات غير المحسومة"17 [17] و"تعبير عن تمفصلات الثقافة ذات التشعبات والتطويرات اللاّمتناهية"18[18]؟
اضف تعليق