تبرز اشكالية ورقتنا ما تمارسه دول المنبع من سياسات مائية واجراءات، متمثلة بتضييق الخناق من خلال بناء السدود وانشاء منشآت كبيرة وتشغيلها على الانهار وتحويل روافد العديد منها، وعدم اعترافها بالاتفاقيات المبرمة بين دول الأنهار والدول المتشاطئة وعدم مراعاتها للقانون الدولي، ما أثر على مستقبل مياه العراق...
إعـــــــداد: حــــمزه رحيـــم الـــمفرجــي، دراسـات عـليـا/ تـخصص دراسـات استـراتيـجية وأمـنية
مقدمة
يعد الأمن المائي أحد أهم محاور الأمن القومي لأي دولة، وتبرز أهمية الأمن المائي بوصفه من الموضوعات الاستراتيجية ذات العلاقة بالأمن الوطني والأمن القومي، لاسيما وأنه يمس وجود وحياه شعوبها وكيانها وسيادتها، ولأن المياه تعد أكثر الموارد الأساسية تجاوزا للحدود، فإن الدول تتسابق فيما بينها لتأمين قدر كافي من المياه لضمان الاستمرار بخططها التنموية، لذلك تسن البلدان تشريعات للمياه لاعتبارها من الأصول الوطنية، وفي ظل الظروف المتمثلة بالزيادة السكانية المستمرة وما تتطلبه هذه الزيادة من تخطيط مستقبلي هام لقطاع السكان والزراعة وغيرها من السياسات الهامة التي لها صلة وثيقة بالقطاع المائي.
وفي ظل ما يمر به العراق من أزمات وما يواجهه من تحديات عدة فهو كغيره من الدول يعاني من أزمة نقص مياه حادة، نتيجة لما تمارسه الدول المتحكمة بمنابع أنهار العراق دجلة والفرات والزاب الاسفل وديالى وروافدهما من سياسات مائية لا تتناسب مع مصلحة العراق وتضر بأمنه المائي الى حد ما، اذ تريد هذه الدول والمتمثلة بتركيا من الشمال وايران من الشرق استخدام المياه كورقة رهان رابحة في كل المفاوضات كعنصر ضغط لتحقيق اهداف ومآرب سياسية ولكون العراق يعتمد بشكل اساسي على ما يرد من مياه من هذه الدول.
الاشكالية: تبرز اشكالية ورقتنا البحثية من خلال ما تمارسه دول المنبع من سياسات مائية واجراءات، متمثلة بتضييق الخناق من خلال بناء السدود وانشاء منشآت كبيرة وتشغيلها على الانهار وتحويل روافد العديد منها، وعدم اعترافها بالاتفاقيات المبرمة بين دول الأنهار والدول المتشاطئة وعدم مراعاتها للقانون الدولي، وهو ما أثر على مستقبل مياه العراق ومشاريع تطويرها، وهذا يتطلب البدء بالضرورة بالعمل المشترك وانتهاج سياسات وحوارات جديدة مع دول المنبع، بهدف الوصول الى اتفاقيات حول تقاسم المياه وفقا للقانون الدولي الخاص بالأنهار الدولية.
الفرضية: ان الفرضية التي تقوم عليها ورقتنا البحثية هي ان الشعوب تمتلك حق تقرير مصيرها، وتتحدى كل اوجه الهيمنة والاستعمار، ونظرا لقيام الدول التي تنبع منها أنهار وروافد العراق والمتمثلة بتركيا وايران باستخدام المياه كورقة ضغط ومساومة في علاقاتها مع العراق دون النظر الى مصلحته وامنه المائي، فإن العراق يعتبر ان الانهار المشتركة معه هي انهار دولية، وبالتالي لا يحق لأي من دول المنبع أن تقوم بما ترغب من مشاريع مائية عليها دون التوافق المسبق مع الدول الأخرى التي يمر فيها الانهار، وان استمرار هذه الدول بسياساتها المائية الضارة في العراق ستخلق أزمة مائية سياسية محكمة، لذا تتطلب هذه الاشكالية استراتيجية للتحرك ومواجهة هذا الخطر، والعمل على الاستثمار الأمثل للمياه في المجالات كافة، والحذر من تأثير المخاطر الخارجية مع وضع خطط متنوعة مشتركة لإدارة هذا الملف.
أهمية الدراسة: يعتبر الكثير من الباحثين والمختصين في الشؤون الاستراتيجية ان المياه تعد عنصرا هاما من عناصر الصراع في القرن الحالي، لما ستلعبه من دور كبير في استمرار عمليات التطور والتقدم الصناعي والتنموي وفي تحقيق خطط الدولة في اغلب القطاعات، تنبع اهمية الدراسة من كون الموضوع له اهمية بالغة على الصعيد الاقليمي والعربي على وجه الخصوص، كما ومن الممكن ان تعمل هذه الدراسة على تنمية وزيادة وعي المجتمع العراقي بأهمية المياه ودورها، كما وقد تساهم الدراسة في التعرف على مشكلة المياه وايجاد الحلول لها خاصة بعدما اصبح الامن المائي ضرورة لابد منها في اولويات الامن القومي لعديد من الدول.
الهيكلية: اشتملت الورقة البحثية على مقدمة وخاتمة وثلاث مباحث وهي كالآتي:
المبحث الاول
المطلب الاول: تناولنا فيه بداية أزمة المياه في العراق وأهم اسبابها الداخلية والخارجية.
المطلب الثاني: تناول استراتيجية تركيا المائية وانعكاساتها على امن العراق المائي.
المطلب الثالث: احتوى على اهم المشاريع التركية المقامة على نهري دجلة والفرات.
المبحث الثاني
المطلب الاول: ركز هذا المطلب على سياسة ايران المائية وتأثيرها على علاقتها مع العراق.
المطلب الثاني: تحدث هذا المطلب عن النزاع العراقي الايراني حول المياه المشتركة واهم الاتفاقيات المعقودة بشأن تنظيمها.
المبحث الثالث
المطلب الاول: تناولنا فيه اهم الرؤى الاستراتيجية لإدارة المياه.
المطلب الثاني: توصلنا به الى توصيات عدة في ادارة ملف المياه العراقية المشتركة مع دول المنبع.
المبحث الاول
المطلب الاول
بداية الازمة المائية في العراق واهم واسبابها
الازمة المائية في العراق
يقع العراق شرق الوطن العربي وتحده إيران من الشرق وتركيا من الشمال، وتبلغ مساحته 437.072 كيلومترًا مربعًا، ويبلغ عدد سكان العراق حاليًّا 39.33 مليون نسمة، يسكن حوالي 25% منهم في المناطق الريفية، وتبلغ الكثافة السكانية 5 أشخاص لكل كيلومتر في أجزائه الغربية، وتزداد هذه النسبة إلى 170 شخصًا تقريبًا لكل كيلومتر مربع في الأجزاء الوسطى، ويشترك العراق بحوالي 50 نهراً مع بلدي الجوار تركيا وإيران، أغلبيتها مع الأخيرة، لكن الأنهار القادمة من تركيا تضخ كميات تفوق الـ40 نهراً مشتركاً بين العراق وإيران. (1).
وكان العراق ولوجود نهري دجلة والفرات والروافد والانهار الاخرى النابعة من مناطق الدول المجاورة، يعتبر من الدول الغنية بموارده المائية حتى السبعينات من القرن الماضي، وقد اقدمت دولتا الجوار خلال السنوات العشرة الأخيرة باستخدام سياسات استراتيجية لتخزين مياه السواقي المنهمرة من جبالها، وإعادة توزيعها في الداخل، على حساب جريانها التقليدي نحو الأراضي العراقي السهلية(2).
اذ بدأت سوريا وتركيا بناء السدود على نهري دجلة والفرات مما تسبب بنقصان كبير في تصاريف الأنهار الواردة إلى العراق مؤثرة على خططه التنموية وفي مجالات عدة، ونتيجة لذلك بدأت نوعية وكمية المياه بالتردي، وتسبب هذا الوضع باهتمام أكبر بالحصص المائية لكل دولة متشاطئة في حوضي نهري دجلة والفرات لما لها من تأثير كبير على الأمن الوطني واستراتيجيات التنمية لهذه الدول، ويمكن ان نعتبر ذلك بداية لحدوث ازمة ونقص حاد في المياه العراقية(3).
كما ان الموارد المائية في العراق تعتمد بصورة رئيسية على نهري دجلة والفرات اللذين يجريان من تركيا ثم سوريا شمالًا باتجاه الجنوب، وايران شرقا، ويلتقي النهران جنوب العراق في القرنة ليشكلا ما يُعرف بشط العرب، ويأتي معظم مياه النهرين من تركيا بنسبة (71%)، وتليها إيران (6.9%)، ثم سوريا (4%) والمتبقي من داخل العراق من المياه الجوفية والتي تكون كمياتها محدودة جدا، وكانت تصاريف هذه الانهار طبيعية قبل العام 1973، أما بعد ذلك فإنها تأثرت ببناء السدود عليها وتغيير بعض مجاريها لمناطق اخرى كما يحدث في الجانب الايراني حاليا، اذا انه يتبين من خلال ما اجرته منظمة الإسكوا (ESCWA) تحليلًا لتصاريف الانهار خلال الفترة من 1931 ولغاية 2011 ان كميات هذه المياه بدأت تتناقص بعد ذلك حتى وصلت إلى 19.5 بليون متر مكعب من العام 1974 وحتى العام 2005، بعدما كانت بنسبة 21.3 متر مكعب، وكما ذكر سابقا ان بناء السدود وتغيير روافد الانهار قد ساهم في تقليل المياه بكميات وبنسب كبرى ولسنوات متتالية(4).
اسباب الازمة المائية المتنوعة في العراق
هناك ضرورة للاطلاع على الاسباب المختلفة والمتنوعة لحدوث الازمة المائية التي يمر بها العراق ويمكن ان نقسم هذه الاسباب على النحو التالي:
1. الاسباب الخارجية
يمكن ان نعتبر ما قامت به دول المنبع من مشاريع مائية على الانهار والروافد وفروعها المشتركة مع العراق هو أحد الاسباب الخارجية التي زادت من تفاقم ازمة المياه العراقية،
اذ عُقدت اتفاقيات ونظمت اجتماعات عدة حول المياه والمشاريع المائية خلال الفترات التي كانت فيها المنطقة تحت الحكم العثماني، ومن ثم الهيمنة البريطانية والفرنسية، وأول اتفاقية وقعت بين بريطانيا وروسيا وإيران وتركيا كانت عام 1913 حول تنظيم نهر شط العرب وبعدها وقعت فرنسا وبريطانيا اتفاقية لتنظيم استخدام مياه نهري دجلة والفرات عام 1920، تلتها اتفاقية ثالثة عام 1930، وعندما حصل العراق على استقلاله عام 1932 وقعت اتفاقيتان إحداهما عام 1937 مع إيران حول شط العرب والأخرى مع تركيا عام 1946 (5).
وبعدها توالت اجتماعات بين الأطراف بدون التوصل إلى أي اتفاق وبدأت سوريا ببناء سد الطبقة، وعند العام 1975 تفاقم الخلاف حول مياه نهر الفرات بين العراق وسوريا ووصل الأمر إلى شفا الحرب لولا توسط المملكة العربية السعودية، وتوالت الاجتماعات إلى الثمانينات بدون التوصل إلى أية اتفاقية ملزمة للدول المتشاطئة، ثم تفاقم الخلاف بين تركيا وسوريا، عام 1987، عندما اتهمت تركيا النظام السوري بمساعدته للمتمردين الأكراد وهددت بقطع المياه عن سوريا ثم تم التوصل إلى اتفاقية لحل المشكلة. واستمرت تركيا ببناء السدود على الفرات ودجلة وعند بناء أي سد يزداد الخلاف السياسي بين تركيا وسوريا والعراق(6).
كما وان هناك اسبابا خارجية اخرى غير تلك الاسباب المتعلقة بمشاريع دول المنبع المائية، وان هذه الاسباب هي ما تتعلق بالتغيرات المناخية التي شهدها العراق، اذ تدل الدراسات على ان منطقة الشرق الأوسط هي من اكثر المناطق تعرضا او تأثرا بالتغيرات المناخية، كما ووضحت هذه الدراسات أن تصاريف الأنهار في منطقة الشرق الأوسط ستقل نتيجة التغيرات المناخية، كما ويبين العديد من الباحثون أن فترات هطول الأمطار ستكون قصيرة نسبيًّا، أي إن الأمطار قد تتساقط بتركيز عال في فترة قصيرة، وإن هذه الأمر سيؤدي إلى تعرية التربة وبالتالي يؤدي إلى تدهور الإنتاج الزراعي، كما أن هذه التربة المنجرفة ستترسب في خزانات السدود مما يؤدي إلى تقليص القدرة التخزينية لهذه الخزانات، إضافة إلى ذلك فإن كمية المياه في الخزانات الجوفية ستقل حيث إن كمية المياه المترشحة من الأنهار إلى هذه الخزانات ستنخفض نتيجة تقلص فترة هطول مياه الأمطار(7).
الاسباب الداخلية
تتنوع الاسباب الداخلية التي ادت الى تفاقم ازمة المياه في العراق، وهذه الاسباب قد تتعلق بالسياسات الداخلية المتبعة في آلية استخدام المياه وادارتها، او في اشكالية شبكات توزيع المياه والصرف الصحي وشبكات توزيع مياه الشرب رديئة جدا حيث إن كفاءتها لا تزيد عن 32%، والطلب على المياه يبلغ 11 مليون متر مكعب يوميًّا بينما التزويد المائي الفعلي يبلغ نصف هذه الكمية، أما بالنسبة لشبكات الصرف الصحي فإن 14 مدينة من مجموع 252 مدينة لها خدمات صرف صحي، وكميات المياه المعالجة تخدم 8% فقط من السكان، علمًا بأن شبكات الصرف الصحي مهترئة وتحتاج إلى صيانة وإعادة تأهيل حيث يتسرب 70% من مياه هذه الشبكة إلى الأنهار بدون تنقية، وقد تسببت رداءة شبكات توزيع مياه الشرب وشبكات الصرف الصحي باختلاط مياه الصرف الصحي مع مياه الشرب وانتشار الأمراض مما انعكس ذلك سلبا على نوعية المياه المراد استخدامها لأغراض اخرى(8).
وتعد سوء ادارة الموارد المائية من احدى اهم الاسباب التي زادت من تعقيد مشكلة المياه في العراق، وقد تسبب غياب الأهلية بعدم قيام وزارة الموارد المائية العراقية ببذل أي مجهود لمحاورة دول الجوار لتأمين حصة العراق المائية إطلاقًا. أما على الصعيد الداخلي، فقد تركت الوزارة عمليات صيانة مشاريع الري والبزل وحاليًّا لا يعمل أكثر من 15% من هذه المشاريع، كما قامت الوزارة بمنح حصص مائية لأراض خارج مناطق الإرواء وتحوير شبكات الري من أجل ذلك خلافًا لكل التعليمات ولتحقيق مصالح شخصية، وغابت أية خطة لتشغيل السدود مما أدى إلى انخفاض خزين المياه في هذه السدود إلى أدنى مستوياته، وإضافة إلى ما تقدم قامت الوزارة بغمر أراض ضحلة كالأهوار مما أدى إلى زيادة الملوحة في هذه المناطق، وهذه تمثل اجراءات سلبية أثرت وستؤثر مستقبلا على خطط الادارة المائية وفي حفظ الامن المائي للعراق(9).
المطلب الثاني
استراتيجية تركيا المائية وانعكاسها على امن العراق المائي
وضعت تركيا اهدافا استراتيجية تدعم من خلالها قرارها بتعزيز مكانتها وقوتها الدولية والاقليمية واعادة وضعها السياسي والاستراتيجي في المنطقة، لذا وضعت على رأس اهدافها خلق نفوذ مؤثر في منطقة الشرق الأوسط، وقد وجدت من الكميات الهائلة من المياه التي في حوزتها وسيلتها لتحقيق اهدافها المنشودة في تطوير سياستها الداخلية من جهة، وتجسيد اهدافها الاستراتيجية في تحقيق دور اقليمي مؤثر من جهة اخرى.
تسعى تركيا دائما الى المماطلة والتسويف فضلا عن اطالة المفاوضات التي تتم لإدارة المياه المشتركة مع دول المصب، فهي تسعى بذلك لتحقيق هدف خفي في سياستها المائية في حوضي دجلة والفرات ألا وهو تغليف مسألة المياه بإطار سياسي، لكي يتيح لها ذلك الاستمرار بسياسة بناء المشاريع الاروائية على حوضي دجلة والفرات دون الالتفاف الى حقوق العراق وسوريا واضعا اياهم امام الامر الواقع، بعد ان هيأ لها الوضع الجغرافي عاملا استراتيجيا تستطيع من خلاله التحكم بمياه النهر واستغلاله كورقة ضغط او مساومة في علاقاتها مع دول المصب والعراق احداها(10).
كما وتسعى تركيا الى توظيف هيمنتها الاستراتيجية على منطقة الشرق العربي ودول الجوار الجغرافي عن طريق استغلال علاقاتها الدولية، هادفة بذلك قيام امبراطورية تركية جديدة قوامها المياه، وان في هذا المسعى دورا للولايات المتحدة والكيان الصهيوني اللذان قدما لتركيا حلولا لتحقيق اهدافها المنشودة، عن طريق نصح تركيا ان تعمل على تقسيم الفرات بينها وبين سوريا، حتى لا تضطر سوريا الى تخصيص جزء من مياه الفرات الى العراق، وان تؤجل تطوير حوض دجلة ليتنازل العراق عن مياه الفرات ويعوض باستخدام مياه دجلة، وان هذا التقسيم سوف يلزم العراق على استخدام مياه دجلة فقط من جهة، والاقتصاد في استخدام مياهه من جهة اخرى(11).
وان تطور الوضع الاقليمي الحالي ساعد على الهيمنة التركية على المنطقة عبر الوسيلة الاقتصادية باستخدام الموارد المائية الحيوية للمنطقة بغرض انماط سياسية في المنطقة تكون لتركيا الدور الفاعل فيها، والذي يشكل من الناحية العملية الاستراتيجية التركية السائدة، والتي تعبر عن ثوابت متفق عليها من قبل الاوساط التركية السياسية والاكاديمية والثقافية، ونظرا للارتباط بين الاهداف الاقتصادية والسياسية التركية استبعدت الاخيرة في تكوين اواصر التعاون الاجتماعي والثقافي بين تركيا والوطن العربي جزءا من اعادة ترتيب الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لتحقيق الاهداف الاقليمية التركية في المشرق العربي، وذلك من منطلق شعار النفط مقابل المياه(12).
ان المتتبع للاستراتيجية التركية في ادارة ملف المياه المشتركة لن يخفى عليه ان هذه الاهداف حددت السلوك التركي القائم على ركائز اقتصادية، والتي ترمي الى تحقيق هدفين رئيسيين وهما تكوين رصيد مالي لتطوير الاقتصاديات التركية، واستخدام المياه كسلاح سياسي لتحقيق اهدافها الاستراتيجية من خلال التعامل به كعامل مؤثر في علاقاتها مع دول الجوار العربي والعراق خاصة(13).
ويمكن ان نحدد طبيعة هذا التعامل من خلال السياسات المتنوعة التي قامت تركيا بتنفيذها وبدورها اثرت على الامن المائي العراقي وعلى امنه القومي، وان اهم هذه السياسات هي تقسيم المياه، اذ لم تبقى السياسة التركية ضمن حدود ردود الافعال ازاء مطالب سوريا والعراق بل طوت اهدافها لوضع خطط لتطويع المنطقة لمخططاتها السياسية، ولهذا رفض الساسة الاتراك الالتزام بالمواثيق الدولية المرتبطة بتقاسم المياه الدولية، واكد ذلك رئيس وزراء تركيا السابق سليمان دميرال بقوله (ان لتركيا حق السيادة على مواردها المائية، ويجب على الجميع ان يدركوا ان نهري دجلة والفرات ليستا من الانهار الدولية، بل هي من الانهار التركية حتى النقطة التي يغادران فيها الاقليم التركي)(14).
ومن السياسات الاخرى التي اتبعت في ملف المياه المشتركة من قبل تركيا هي استخدام المياه كورقة ضغط او مساومة على الرغم من نفيها المستمر لهذا الامر، الا انه من الناحية الفعلية اتضح ذلك في خطوات عدة ومنها محاولة الخارجية التركية ان تتعامل على نحو دبلوماسي مع سوريا والعراق بشأن مشكلة المياه من حيث الفصل بين الاعتبارات السياسية والاقتصادية، الا انها فشلت في ذلك وخرجت عن هذا النهج عند قيام وزير خارجية تركيا آنذاك دينزبايكل بتهديد سوريا عام 1995، من اجل ان لا تدعم سوريا احزابا معارضة وايواء قياديها في اراضيها، لان تركيا لا تنسى دمائها التي سالت بسبب الارهاب(15).
ولا يمكن التغاضي عن السياسات الاخرى التي تم متابعتها في سلوك تركيا الخارجي، ودورها في زيادة تفاقم ازمة المياه المشتركة وخاصة مع العراق، ويتضح ذلك في سعيها لتعميق الخلافات والانقسامات المختلفة ولأسباب عدة بين العراق وسوريا، بما ينعكس ذلك ايجابيا على تحقيق مصالحها في مواصلة مشاريعها الضخمة على حوض الفرات.
ان وضع تركيا اهدافا استراتيجية تدعم من خلالها قرارها بتعزيز مكانتها وقوتها الدولية والاقليمية واعادة وضعها السياسي والاستراتيجي في المنطقة كما ذكرناها سابقا، وان هذا لايتم الا من خلال تبني سياسة مائية متمثلة بعدد من المشاريع والخطوات التي تحقق اهداف تركيا، وهي بدورها اهدافا تحقق مصالح تركيا وتدعم اهدافها لكن ذلك يتم دون الاعتراف بمصلحة العراق وامنه المائي والقومي، وما ستعكس هذه السياسات والمشاريع ازمات متنوعة يعاني منها العراق مستقبلا.
المطلب الثالث
المشاريع المائية التركية المقامة على نهري دجلة والفرات (مشروع شرق الاناضول ــ مشروع انابيب السلام)
قامت تركيا وتنفيذا لسياستها المائية، وتحقيقا لأهدافها الاستراتيجية بتنفيذ مشاريع مائية عدة تمثلت ببناء السدود على حوضي دجلة والفرات، ويمكن الحديث في بحثنا عن اهم مشروعين مائيين وهما مشروع شرق الاناضول المعروف بـ GAP ومشروع انابيب السلام.
مشروع جنوب شرق الاناضول (GAP)
يعد مشروع جنوب شرق الاناضول من اكبر المشاريع في تركيا، وهو مشروع متعدد الاغراض بدأت تركيا بتنفيذه على احواض دجلة والفرات وروافدهما، ولتركيا آمالا كبيرة متعلقة في تنفيذ هذا المشروع خاصة في محافظاتها المتخلفة الواقعة في جنوبها الشرقي، وتبلغ المساحة التي يغطيها المشروع حوالي 73 كم2 اذ تعادل هذه المساحة 9% من مساحة تركيا، كما وقدرت تكلفة هذا المشروع الضخم بـ200 مليار دولار(16).
وتذهب المصادر التركية الى القول ان مشروع جنوب شرق الاناضول هو مجموعة من الانشطة المتكاملة والمتداخلة، وليس فقط مجرد سدود وقنوات ري، لذا تكون المشروع من عدة مشاريع اخرى رئيسية وثانوية يهدف الى بناء 22 سدا على روافد النهرين المختلفة(17).
ويمكن ان نذكر اهم المشاريع التي اقيمت على نهري دجلة والفرات من خلال ذكرها كل على حدا (18):
المشاريع السبعة المقامة على نهر الفرات هي مشروع الفرات الأسف وسد قرقاية ومشروع سد الفرات، ومشروع سيروك بازيكي، ومشروع اديامان كهتة وايامان جدكو، واخيرا مشروع جازينب.
أما المشاريع التي اقيمت على نهر دجلة فهي ست مشاريع ومن أهمها مشروع دجلة كراكيزي ومشروع باتمان ومشروع باتمان سيلفان، ومشروع كارزان وسد أليسو ومشروع سيرز.
واكد الساسة الاتراك ان هذا المشروع سيحقق طموح تركيا في خلق دولة قوية ومتطورة، خاصة انه اشتمل على احتواء مشاكل داخلية مثل القضية الكردية والتمرد في المناطق الكردية بسبب وضعهم المعيشي(19).
مشروع أنابيب السلام
شارك العديد من الدبلوماسيين الامريكيين ومسؤولين من وزارة الدفاع الامريكية الى جانب دبلوماسيين اتراك ومن اسرائيل في مؤتمرات عدة بجامعة جورج تاون الامريكية، وقد هدفت هذه المشاركات البحث عن مشكلة المياه واحواض انهار الاردن والفرات ودجلة والنيل، والبحث ايضا في اسباب انخفاض المياه في دول الشرق الاوسط، لذا قدم الجانب التركي اقتراح مشروع مياه السلام لتزويد الاردن وسوريا وبلدان الخليج العربي بفائض مياه نهري سيان وجيهان، واكد وزير خارجية تركيا آنذاك جم دونا ان تركيا اطلقت هذا الاسم على هذا المشروع لاقتناعها بأن تطوير علاقاتها الاقتصادية مع دول الشرق الاوسط تزيد من امكانية تحقيقها لمنافع كبيرة لكلا الطرفين باشتراكها في مياهها مع هذه الدول، اذ ان هذا المشروع يعمل على نقل 6 ملايين متر مكعب من المياه موزعة على دول الشرق الاوسط، كما وتمر المياه ابتداءا من الاراضي التركية ومرورا بسوريا والاردن وصولا الى المملكة العربية السعودية(20).
كما تنطلق تركيا في تبنيها لهذا المشروع على دافع عدة منها سياسية ومادية، وان الهدف الاسمى لها هو توسيع دائرة التحكم التركي في المنطقة، اما الدوافع السياسية والتي هي من اهمها لتركيا في هذا المشروع هو حرصها على تعزيز دورها الاقليمي في منطقة الشرق الاوسط، والسيطرة على مياههِ كليا لدعم مكانتها في لدى الاوساط الغربية كعنصر للتوازن والاستقرار في المنطقة(21).
سعت تركيا الى الاستفادة من وفره مواردها المائية في تغطية افتقارها الى موارد اخرى هي بحاجة اليها لتحقيق ما تطمح اليه من اهداف واهمها النفط، لذلك اعتمدت على مورد المياه كعنصر جيوبوليتيكي في المنطقة يدعم اهدافها وصورتها، لذا نجد ان النتائج التي حققتها تركيا من خلال هذه المشروعات كانت على حساب العراق لما عاناه من آثارا اقتصادية أثرت في كل قطاعاته ولاسيما الزراعية، مستغلة انشغال العراق في حروبه وخلافاته مع دول جواره، واكد هذا ما صرح به مسؤولون اتراك عن دور انشغال العراق بالحرب الايرانية والضربة التي وجهت له من التحالف الدولي آنذاك في انجاز المشروع الذي كان من الممكن ان يغيب او يتوقف ولن يرى النور لو كان العراق مستقرا.
المبحث الثاني
المطلب الاول
سياسة ايران المائية وأثرها على علاقتها مع العراق
سياسة ايران المائية
ساهمت السياسة المائية في إيران في تفاقم المشكلة على طول حدودها الغربية مع العراق، حيث يذهب نحو ثلثي إجمالي الـ 10.2 مليار مر مكعب من المياه الإيرانية المتسربة من البلاد إلى العراق، ويتوقع الخبراء أن تفقد المحافظات الإيرانية الغربية احتياطاتها من المياه في مرحلة ما بسبب تدفق المياه السريع إلى العراق، ما يعني أن على الحكومة الإيرانية اتباع سياسات مائية صارمة تسمح لها باستخدام موارد المياه المتسربة من البلاد بشكل كامل، إذ ستقوم في هذا العام وحده ببناء ثلاثة عشر سدا جديدًا، علما بأنها بنت أكر من 600 سدّ في العقود الثلاثة الماضية، كما نفذت مشروعات أخرى لنقل المياه على نطاق واسع أدت إلى حرمان المحافظات الغربية المحاذية للحدود العراقية من المياه التي هي في أمس الحاجة إليها وحولَتها إلى المحافظات الوسطى والشرقية في إيران(22).
ونتيجة لهذه السياسة المجحفة بحق العراق من المياه الدولية المشتركة وفق القانون الدولي للمياه، ساءت العلاقة بين إيران والعراق نتيجة أزمة المياه بن الدولتين، إذ ان إيران تذهب الى ان أزمة المياه فيها ظهرت منذ عام 2011، وتتوقَّع أن تتفاقم هذه الازمة وتؤدي إلى نقص كبير في مياه في البلاد بحلول عام 2036، ولقد تغاضت إيران عن هذه المشكلة بحثًا عن حلول سريعة ومجدية كالسدود الضخمة ومشروعات نقل المياه، وعلى الرغم من العواقب الاجتماعية والاقتصادية لمثل هذه المشروعات ألا ان البرلمان الإيراني قد فشل مرارا في تعطيل خطط نقل المياه وبناء السدود المزمع تنفيذها على مدار السنوات الخمس المقبلة(23).
ومنذ العهد الصفوي في القرن السادس عشر اعتمدت أصفهان في مياهها على نهر كارون، بالإضافة إلى نهر زايانده رود، وهو نهر رئيسي آخر يجري عر الوادي الأوسط في إيران. كذلك قامت ايران بنقل المياه من زايانده رود إلى محافظة يزد على الحدود الإيرانية الشرقية، كما ان هذه السياسات زادت الامر سوءا اذ كان لها اثارا سلبية على بعض مناطق ايران نفسها، لأنه وكما زادت عمليات تحويل المياه من نهري كارون وزايانده رود إلى المحافظات الشرقية أصبح المزارعون في الوادي الأوسط لإيران أكثر عدوانية للمزارعين في محافظة خوزستان المجاورة، وهي مشكلة زادت حدة التوتّر القائم على طول الحدود الإيرانية مع العراق وأثرت على المناطق والقرى الحدودية المحاذية للأراضي الايرانية(24).
أثر سياسة ايران المائية على علاقتها مع العراق
نتج عن شُح المياه في ايران مشكلات اجتماعية وسياسية وأمنية كبيرة، اما العراق فقد يعاني من نفس المشكلات ما اذا استمرت ايران في سياساتها المائية، فهو يلقي باللائمة على إيران في المساهمة على تفاقم هذه الازمة من خلال قيامها بتحويل مجرى الأنهار التي ترفد نهري دجلة والفرات، فضلا عن بناء سدود مخالفة للقانون الدولي، ومن المحتمل أن تدخل إيران في صراع كبر حول المياه مع العراق اذا لم تسعى كلتا الدولتين الى حل المشكلة من خلال دبلوماسية مائية تعكس آثارا ايجابية لكلا الطرفين، ألا ان ايران تعرف بأن مثل هذه الدبلوماسية غر موجودة او لا يمكن تحقيقها(25).
اذ لا يوجد حل واضح حول كيفية إدارة أزمة المياه في إيران على طول الحدود مع العراق، وإذا لم تُحل المشكلة فمن المحتمل أن تتحول إلى تهديد أمني كبر لإيران وللآمن القومي العراقي ايضا، ما يؤثر ذلك على علاقات البلدين ببعضها، فبدل من مواجهة المشكلة تعمل إيران عموما على التعامل مع الصراع المائي مع العراق كمسألة داخلية لا إقليمية، وفي الواقع لا يوجد اتفاق رئيسي أو شامل بين إيران والعراق على إدارة الأنهار المشركة بينها، وقد منح القانون الدولي إيران حقوقا وواجبات في ما يتعلق باستخدام المياه الحدودية، إلا أن هذا القانون لا يزال يعتريه الكثير من الغموض لأن القانون الدولي في مثل هذه الأمور يقوم إلى حد كبير على الاتفاق بين الدول، وفي كثر من الأحيان تتجاهل إيران المعاير الدولية ذات الصلة التي تنطبق على الدول في إدارة المياه المشركة مِاَّ يجعل من الصعب عليها عمل سياسات لزيادة استخدام المياه الحدودية، رغم من ان اللجنة الايرانية الوطنية للتنمية المستدامة قد حملت مسؤولي الدولة المسؤولية عن القرارات المتعلقة بسياسات توزيع المياه داخليا وخارجيا(26).
حذر العديد من المسؤولين الايرانيين من أن شح المياه يمكن أن يؤدي إلى توترات إقليمية مع الدول المجاورة بما فيها العراق، خاصة بعدما ادركت ايران بعد سيطرة تنظيم داعش على سد الموصل والبنى التحتية المائية في مناطق قريبة منها، انها تحتاج الى سيطرة افضل على مياهها الحدودية مع العراق من خلال بناء السدود وتحويل روافد العديد من الانهار الى اتجاهات اخرى، لذلك اعتبرت هذه الخطوة هي حماية لأمنها القومي من هذا الخطر، على الرغم من علمها ان ذلك ليس بالآمر السهل وانه يشكل خطرا على الامن المائي العراقي، والمتمثل بحرمان العديد من مناطقه من المياه العذبة وتطوير خططه الزراعية.
المطلب الثاني
النزاع العراقي الايراني حول المياه المشتركة واهم الاتفاقيات المعقودة بشأن تنظيمها
النزاع العراقي الايراني حول المياه المشتركة
ان الدولة غير القادرة على توفير وتزويد شعبها بالمياه ستتأثر مكانتها وقوتها، ونظرا لأهمية المورد المائي فإن النقص في كمياته يؤدي الى اعاقة الدولة في قدراتها على تأمين الغذاء وإنتاج الطاقة وضرب اقتصادها، ويمكن ان نعتبر دول الشرق الاوسط الفقيرة ستقع حتما في دائرة هذا الخطر، وان العراق باعتباره احد دول الشرق الاوسط فإنه قد مر بنزاعات مع دول جواره بسبب قطع الاخيرة المياه التي تنبع من اراضيها باتجاه الأراضي العراقية، وان اولى بدايات هذا النزاع بدأت مع انخفاض مناسيب المياه وانحسارها في ايران وخوفها على ان يضر ذلك في اقتصادها وامنها المائي.
ان سلاح المياه هو المصطلح الجديد الذي ستتبناه منطقة الشرق الأوسط، لتندلع الحروب بين المزارعين وسكان المدن، وبين المجموعات العرقية، وبين المستفيدين من منبع ومصب النهر نفسه، ويمكن ان نلاحظ ذلك من الوقائع الملموسة اليوم حرب سوريا الأهلية، اذ ان بعض العلماء يرون أن تغير المناخ الذي أدى إلى شحّ المياه أوقع السكان في حالة من الركود والفقر، وهي من أهم أسباب اندلاع ثورة سوريا(27).
ويعد شط العرب من الممرات المائية المهمة التي حدث من اجلها نزاعات بين العراق وايران في الماضي ومنذ تأسيس الدولة العراقية، كما ان شط العرب هو ممر مائي ينتج عن التقاء نهري دجلة والفرات في جنوب العراق وله اهمية كبيرة على الاقتصاد العراقي وامنه المائي، مما ادى النزاع على هذا الممر الى توصل الدولتين الى ضرورة ترسيم الحدود المائية بينها، وقد أدى ترسيم الحدود المائية بين البلدين إلى عدد من المناوشات المسلحة برغم توقيعهما عام 1937 معاهدة استندت إلى معاهدات سابقة بين الدولتين العثمانية والفارسية(28).
وأن التوترات التي نشهدها على الأرض نتيجة تزعزع عنصر المياه واعتباره السبب الرئيسي لحدوث هذه النزاعات، ولعدم وجود قانون دولي للمياه أو قانون يحكم النزاعات بين الدول قد بدأت هذه التوترات تتفشى حول الأنهار والأحواض منذ عقد من الزمن لتتطور وستتفشى على نطاق أوسع في العقد القادم، ويعد ذلك سبب دفع إيران لتضع خطط طوارئ لتقنين المياه في طهران التي تحتضن 22 مليون نسمة، وتمثلت خططها كما ذكرناه في المباحث السابقة ببنائها سدودا عدة حول الانهار التي تتجه نحو الاراضي العراقية وتصب في نهر دجلة، علاوة على قيامها بتحويل روافد ومجرى انهارا اخرى الى داخل اراضيها، تفاديا لوقوعها في ازمة مائية في ظل ما تعانيه من تبعات العقوبات الامريكية تجاهها(29).
اهم الاتفاقيات المعقودة بشأن تنظيم المياه العراقية-الايرانية المشتركة
سعى العراق ومنذ وقت مبكر الى استئناف الحوار مع الدول المتشاطئة وتم عقد عدة لقاءات واجتماعات ثنائية وثلاثية بين العراق وتركيا وسوريا على المستوى الوزاري وعلى مستوى اللجان الفنية في الدول الثلاثة تم خلالها مناقشة العديد من المواضيع المتعلقة بالمياه المشتركة بغية التوصل الى اتفاق يضمن الحصص المائية للعراق طبقاً للمواثيق والاعراف الدولية والاتفاقيات الثنائية كما دعا العراق وبشكل مستمر ومن خلال المؤتمرات والمحافل الدولية الى تطوير قواعد القانون الدولي والاتفاقيات الدولية التي تنظم العمل في قطاعات المياه المختلفة وفي مقدمتها اتفاقيات التقاسم العادل والمنصف للمياه والسيطرة والحد من التلوث في مجاري المياه واتفاقيات التنوع البيئي من خلال استكمال اجراءات الانتماء والمصادقة عليها لتدخل حيز التنفيذ حيث سعى العراق الى تكثيف جهوده السياسية والدبلوماسية من اجل حث واقناع الدول العربية على المصادقة على اتفاقية الامم المتحدة لاستخدام المجاري المائية للأغراض غير الملاحية لعام 1997 لضمان دخولها حيز النفاذ.
ولحل المشاكل العالقة لضمان حصول العراق على حصته العادلة من المياه ورغم وجود عدد من الاتفاقيات الثنائية بين العراق ودول الجوار فيما يخص القسمة العادلة والمنصفة للأنهار الدولية رغم عدم تفعيل هذه الاتفاقيات وفق المواثيق والاعراف الدولية ادى عدم العمل بها وتعطيلها الى مشاكل حقيقية بين هذه الدول وعلاقتها المستقبلية ببعضها.
ومن أهم هذه الاتفاقيـات والمعاهدات هي:
معاهدة عام 1937 الخاصة باقتسام مياه شط العرب
وهي معاهدة تنص على أن الحدود بين إيران والعراق في المنطقة تمتد أساسا على الضفة الإيرانية لشط العرب، وأن العراق يسيطر على كامل مجرى النهر الملاحي ماعدا بعض الأماكن المعينة، وقد تم توقيعها في قصر سعد آباد بطهران في اليوم السابق لتوقيع ميثاق سعد آباد بين إيران والعراق وتركيا وأفغانستان، إذ اشترط الزعيم العراقي بكر صدقي تسوية الخلافات الحدودية مع إيران قبل الدخول فيما أسمته المملكة المتحدة "وفاق الشرق الأوسط"، وتم فسخ المعاهدة لاحقا من قبل الطرف الايراني بسبب انسحاب العراق من حلف بغداد(30)
اتفاقية الجزائر عام 1975
في عام 1975 وقع شاه إيران محمد رضا بهلوي ونائب الرئيس العراقي آنذاك صدام حسين، في الجزائر معاهدة خاصة بالحدود نصت على تسوية الخلاف الحدودي بين البلدين وأُلحقت بها بعض البروتوكولات، وكان من أبرز بنود الاتفاقية إجراء تخطيط نهائي لحدود الدولتين البرية بناء على برتوكول القسطنطينية عام 1913، ومحاضر لجنة تحديد الحدود لسنة 1914،وتضمنت كذلك تحديد الحدود النهرية حسب خط التالوك (أعمق النقاط في وسط شط العرب)، وقيام كل من الدولتين بإعادة الأمن والثقة المتبادلة على طول حدودهما المشتركة، والتزام إجراء رقابة مشددة وفعالة على هذه الحدود من أجل وضع حد نهائي لكل حالات التسلل ذات الطابع التخريبي، وعدّ الكثير من الباحثين ان توقيع صدام على الاتفاقية خرقا للمادة (3) من الدستور العراقي المؤقت عام 1970 التي تنص على أن سيادة العراق وأرضه وحدة لا تتجزأ ولا يجوز التنازل عن أي جزء منها، كما واعتبر توقيع هذه الاتفاقية جاء بعدما شهد الشمال العراقي تمردا كرديا مدعوما من ايران، مما اجبر القيادة العراقية آنذاك الدخول في اتفاقية مع ايران لإيقاف دعمها لحركات التمرد(31).
لكن بعد الثورة الإسلامية في إيران، تصاعد التوتر بين البلدين من جديد، فدفع هذا صدام حسين عام 1979، إلى اعتبار مياه شط العرب جزءاً من المياه العراقية، وبعد اندلاع حرب الخليج الأولى أعلن إلغاء المعاهدة، ولكن حديثاً في فبراير 2014، توصّل الطرفان إلى اتفاق جديد بشأن تحديد الحدود النهرية في شط العرب وكيفية المضي قدماً وفق المعاهدة المبرمة عام 1975، الا ان هذه الجهود قد تعثرت مرات عدة حيث اتسمت اللقاءات العراقية الإيرانية بشأن ترسيم الحدود المائية بين الدولتين بشيء من التوتر بعد تجاهل طهران لمطالب الحكومة العراقية المتكررة بضرورة تعديل بعض من بنود اتفاقية الجزائر التي أبرمت في العام 1975، وتتهم طهران من قبل المسؤولين في بغداد بأنها تتعمد في اتباع سياسة مائية معينة تمكنت خلالها من استقطاع أكثر من (2) كيلو متر من شط العرب من ضمنها ميناء العمية والعديد من المنشآت النفطية وضمها إلى الأراضي الإيرانية(32).
هناك تحد كبير سيواجه العراق وامنه المائي، واحتمال دخوله في نزاعات أكبر قد تتطور لحروب على المياه المتبقية مع ازدياد عدد السكان بشكل مخيف بين خمسينات القرن الماضي، اضافة الى التغيرات المناخية التي تشهدها المنطقة، وما تمارسه مصادر مياه العراق الاخرى من سياسات مائية مجحفة متجاهلة مصلحة العراق، وما قد تسببه تلك السياسات من اثار سلبية على الاقتصاد العراقي وعلى مكانته، كما نجد ان الصراعات السياسية والمصالح الاقتصادية لدول المنطقة ومنها ايران إضافة للضغوط السياسية والاقتصادية الخارجية التي عصفت بها ستلعب دورًا رئيسيًا في تفاقم المشكلة بصورة أخطر مما هي عليه الآن في غياب وجود اتفاقيات دولية أو ثنائية تنظم مسألة المياه المشتركة، وهذا بدوره ادى ايضا الى تفاقم توتر العلاقات بين العراق والدول المشتركة معه في الاحواض المائية.
المبحث الثالث
المطلب الاول
رؤى استراتيجية لإدارة ملف المياه مع تركيا وإيران
تجاوز الأزمة المائية ليس بالأمر السهل ويحتاج إلى جهود كبيرة من قبل مختصين في الموارد المائية وفي العلاقات الخارجية مع دول المنبع، اذ لابد من إجراء المباحثات بين الدول المعنية وبوجود وسيط دولي يتم اختياره بتوفر بعض الشروط المهمة به، مثل قدراته المالية والتكنولوجية، وسلطته أو تأثيره السياسي على الصعيد العالمي، لكي يتمكن من خلالها من مساعدة الدول المتحاورة، وتتوفر هذه الشروط ببعض المؤسسات أو الدول مثل البنك الدولي، والامم المتحدة التي من الضروري ان تعمل على احتواء الازمات المستقبلية التي تسببها المياه المشتركة للدول بإعتبارها المسؤولة عن الامن الدولي، وان الدول تعتبر المياه ضمن امنها القومي والاقتصادي، وايضا يمكن ان نعتبر الولايات المتحدة الامريكية من احدى الوسائط التي من الممكن ان تساهم في تقديم المساعدة للدول المتحاورة، لما تملكه من تأثير سياسي على الصعيد العالمي(33).
ويمكن توظيف هذه المباحثات في كسب الملف لصالح العراق من خلال تقديمه أمورا تحفز الجانب التركي والايراني على المشاركة الفعلية، مثل إعطاء تركيا او ايران ما تحتاجه في تطوير وتنفيذ مخططاتها التنموية كسعر مخفضا للنفط المستورد من العراق، او السماح بزيادة صادرات الجانب الايراني الى العراق، حيث إن كافة الاجتماعات منذ السبعينات لم تجد نفعا وكانت مشاركة تركيا فيها لرفع العتب كما يقال.
لذا ان الدول المتشاطئة عليها إعداد خطة استراتيجية لإدارة المياه على أن يتم تنفيذ هذه الخطة بغض النظر عن التغيرات السياسية وغيرها، ويمكن ان نقدم نموذجا لرؤية استراتيجية ناجحة في ادارة المياه، اذ يتوجب يجب مشاركة كافة القطاعات المعنية كالخبراء والاستشاريين والجامعات والوزرات ذات العلاقة كالزراعة مثلًا والمنظمات غير الحكومية المعنية وممثلي المنظمات الدولية في تقديم المقترحات والدراسات التي من شأنها انجاح هذه الاستراتيجية، كما لابد من إعادة تأهيل المؤسسات المعنية بالمياه وتحديث محطات التنقية وشبكات الري وتوزيع المياه، وان لوضع برنامج توعية جماهيرية وكذلك برنامج تدريب وتطوير الكوادر الفنية والإدارية للعاملين في هذه المؤسسات، وتشجيع القطاع الخاص للاستثمار في مجال المياه من خلال وضع خطة تعاون واضحة مع الوزارات الأخرى ذات العلاقة، علاوة على ذلك ان التعاون الدولي والإقليمي ضروري في هذه الاستراتيجية، فإنه لابد من الاستفادة من المنظمات الدولية والإقليمية في مجال إدارة واستثمار الموارد المائية(34).
ونرى ان هناك استراتيجيات اخرى يمكن الاستفادة منها وتوظيفها في ادارة ملف المياه المشتركة مع دول جوار العراق، وهي استراتيجيات تعمل من خلال البحث والتطوير كإجراء البحوث العملية بغية الاستفادة من التكنولوجيا المتطورة واستخدام الملائم منها، وتوفير كافة المعلومات ذات العلاقة والسماح للباحثين وطلبة الدراسات العليا باستخدامه، لتشخيص المشاكل المائية والمساهمة في إيجاد الحلول لها، وفي حال فشل هذه الاستراتيجيات في تحقيق الامن المائي للعراق، فإن ضرورة اللجوء الى تبني استراتيجيات ردع من قبل العراق لابد منها، فالمادة 36 من ميثاق مجلس الامن الدولي تخول المجلس التدخل في اي مرحلة من مراحل النزاع بين الدول واصدار قرارات ملزمة لكل الأطراف، وفرض وساطة دولية لتجنب اي صراع ممكن، ويمكن للعراق ان يستند في خياره القانوني على هذه المادة في الضغط على دول المنبع في حال حدوث توترات مستقبلية اكثر حدة في ملف المياه، كما يمكن للعراق ان يستعمل الورقة الاقتصادية كخيار آخر لمواجهة السياسات المائية مع الدول المتشاطئة بما فيها النفط، اضافة الى توظيف وربط مسألة التبادل التجاري الميال لصالح العراق بالسياسات المائية باعتباره مصدرا مهما في تصريف سلع وبضائع دول المنبع، ولا نستبعد امكانية دخول العراق في تحالفات مع دول تدعم حفاظ العراق على أمنه المائي مما ينعكس ذلك على أمنه القومي وعلى استقرار الامن الاقليمي.
المطلب الثاني
اهم التوصيات في ادارة المياه العراقية المشتركة مع دول المنبع
أصبح الأمن المائي العربي تحت رحمة قوى خارجية تتحكم الى حد كبير في مصيرنا، ذلك ان مصادر المياه ومنابعها هي خارج البلاد العربية، ويزيد من خطورة هذه المشكلة غياب استراتيجية أمنية عربية لحماية هذه الثروة القومية.
ويرى العراق انه الأكثر تضرراً من نقص المياه سواء بحكم موقعه الجغرافي كدولة مصب، أو من أثر التغيرات المناخية او المشروعات والسدود المائية في كل من سوريا وتركيا، ويرى العراق انه قد تضرر من البروتوكول الموقع بين سوريا وتركيا عام ١٩٨٧، حيث لم تتجاوز حصته عن ٩ملياراتم ٣ سنوياً، وهذا يمثل نصف الحد الادنى للاحتياجات العراقية، وفي الوقت ﻧفسه لا يوجد اتفاق بين سوريا والعراق حول توزيع نسبي لما يبقى من مياه الفرات(35).
وقد وصى العديد من الباحثين والمهتمين في مشكلة الامن المائي العراقي بتوصيات عدة وهي تقاسم مياه دجلة والفرات، وهذا الأمر يتطلب التعاون بين البلدين في توزيع هذه الثروة المائية، لأن انعدام الثقة المتبادلة قد يولد توتراً ونزاعا، كذلك ايجاد مشاريع مائية زراعية بين العراق وسوريا وتركيا وايضا ايران بهدف ضمان استمرار تدفق المياه الى سوريا والعراق وبكميات مناسبة، ويضاف الى ذلك العمل عل تكليل عوامل ضغط في مجال العلاقات الاقتصادية والتجارية والسياحية لغرض التأثير عل الموقف التركي والدفع به باتجاه التجاوب لتحقيق المصالح المشروعة مع العراق في المياه المشتركة(36).
كما ان قضية المياه بين سوريا والعراق تعد قضية اساسية ليس لأنهما دولتان عربيتان فحسب بل لأنهما تتخذان الموقف نفسه ازاء السياسة المائية التركية، فهما يتأثران التأثر نفسه بالسياسة التركية ازاء المسألة المائية، ومن ثم فإن التنسيق السوري العراقي هي مسألة مهمة وضرورية كونهما دولتي مجرى ومصب، وبخاصة ان الأمن المائي العراقي هو أكثر التصاقاً بالأمن المائي السوري نظراً لاشتراك كلا البلدين في أهم حوضين مائيين في المشرق العربي وهما حوض نهر الفرات وبشكل اقل حوض نهر دجلة، كما ان سوريا والعراق يشك ل كل منهما عمقا استراتيجياً للآخر(37).
والتأكيد على الربط العضو بين الأمن المائي والأمن الغذائي بوصفهما الوسيلة الفعالة في تحقيق التنمية الزراعية المستدامة والتي تهدف الى تحقيق أعلى مستوى في الاكتفاء الذاتي، وتفعيل عمل اللجنة الفنية للمياه الدولية المشتركة بين العراق وتركيا وسوريا للإسراع في التوصل الى قسمة عادلة للمياه المشتركة بين الدول الثلاث، وايضا التمسك بحقوق العراق المائية التاريخية والقانونية وعدم التفريط فيها والدفاع عنها شأنها شأن أي شبر من الأرض العراقية (38).
خاتمة
ان عنصر المياه سيكون فعالا في أية استراتيجية دولية مقبلة، كما سيلعب عنصر المياه دوراً كبيراً في إعادة توزيع خريطة القوى السياسية في المنطقة، بحيث تصبح الدول ذات المصادر المائية المتوافرة هي القوى الإقليمية الجديدة والمؤثرة من الناحية السياسية، ومن الناحية الاقتصادية من المتوقع أن يصبح الماء سلعة تباع وتشترى مثل النفط، ومن المتوقع أيضاً ازدياد حدة الأزمة الغذائية، وكل هذه النتائج السلبية هي من آثار تفاقم ازمة المياه وانخفاض كميات تدفقها الى الاراضي العراقية من دول المنبع المتمثلة بتركيا وايران، اذ لكل منها اهدافا في اتباع مثل هكذا سياسات، ولأن الأمن المائي في حوضي دجلة والفرات مثل واحدة من ابرز التحديات والقضايا التي أثرت في الامن القومي العراقي في المستقبل القريب، ومنذ وقت ليس بقصير اصبح ذلك واضحا بسبب السياسات المجحفة التي اتبعتها دول جواره المتمثلة بإقامة المشروعات والسدود وتحويل مجاري الانهار وقطع البعض منها او تخفيض مناسيبها، وهدفها من ذلك استعمال المياه سلاحاً سياسياً وورقة ضغط عليه وضده للوصول الى هدفها في مقايضة المياه بالنفط العربي واهداف اخرى مهمة، لذا نجد من الضروري التفاوض على اتفاقات لتقاسم المياه مع الدول المتشاطئة الأخرى من اجل وضع اتفاقات وقوانين تكفل التوزيع العادل للمياه، ولضمان الحصص المائية لتلك الدول على وفق ما تقرره الأعراف والقوانين الدولية، والاتفاق مع دول الجوار حول الخطة التشغيلية فضلاً عن المعلومات الفنية الاخرى الخاصة بالإطلاق والتخزين في البحيرات المرتبطة مع السدود في تلك الدول.
كما انه لابد من تنمية الموارد المتاحة على المستويين القطري والقومي الشامل مع تدبير موارد جديدة، والعمل على وضع سياسات مائية دقيقة وواضحة تمثل فيها الاحتياجات الحالية والمستقبلية، والعمل وفق استراتيجية الردع للضغط على دول المنبع للعزوف عن سياستها المائية الضارة بمصالح العراق، ورغم كل ما تقدم يبقى هناك قصورا كبيرا من قبل الجهات المسؤولة عن امن المياه في ملف المياه المشتركة، ويتطلب هذا القصور التسابق مع الزمن والعمل بصيغة جماعية كل من موقعه وبكل الامكانيات لتحقيق الامن المائي العراقي.
اضف تعليق