بدون تحرير الواقعين العربي والإسلامي، من تلك العقلية التي تحول التمايزات الطبيعية إلى مصدر للنزاع والصراع واستخدام القوة، ستبقى إرادة هذا الواقع مرهونة إلى صراعات وحروب مغلقة، لا تزيدنا إلا ارتهاناً وضعفاً. وإن مستقبلنا لن يكون كما نريد إلا إذا عمل الجميع إلى تأصيل قيم التسامح والحوار...

لعل من أهم الحقائق التي تحتاج إلى استيعاب وإدراك تامين، هي حقيقة التعدد والتنوع في هذا الوجود. فهي قاعدة تكوينية شاملة وناموس كوني ثابت. وأي سعي إلى إلغائها بدعوى المماهاة والمطابقة وضرورتهما وفوائدهما، هو سعي عقيم لأنه يخالف الناموس. ويريد تبديل الوجود وهذا ليس بمقدور الإنسان فعله. والصراعات والنزاعات الدائمة، لا تنشأ من وجود الاختلاف والتنوع، وإنما تنشأ من العجز عن إقامة نسق مشترك يجمع الناس ضمن دوائر ارتضوها. والحوار بين الإنسان وأخيه الإنسان، من النوافذ الأساسية لصناعة المشتركات التي لا تنهض حياة اجتماعية سوية بدونها.

وعليه فإن الحوار لا يدعو المغاير أو المختلف إلى مغادرة موقعه الثقافي أو السياسي، وإنما هو لاكتشاف المساحة المشتركة وبلورتها، والانطلاق منها مجدداً ومعاً في النظر إلى الأمور. والدين الإسلامي أولى العناية والاهتمام بقيمة الحوار والدعوة والمجادلة بالتي هي أحسن. وذلك لأنه دين لا بالفرض والقهر والإكراه [لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي} (1) وقال تعالى {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة أدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم}(2).

والحوار بين التعبيرات الاجتماعية والثقافية والسياسية، يفتح آفاق التعاون، ويبلور أطر التضامن، ويدخل الجميع في قافلة الدفاع عن المقدسات ومواجهة التحديات. «وبالحوار يكون الإسلام قاعدة للفكر والعاطفة والحياة، فلا يثير في داخل البشر شعوراً سلبياً لا داعي لإثارته، ولا يواجههم بأفكار سريعة تحتاج في وصولها إلى أفكارهم إلى مقدمات طويلة، تهيئ الجو النفسي، وتمهد الأرضية الفكرية لذلك. ولا يحطم مشاعرهم بالقسوة في الكلمة والحركة والأسلوب. بل يعمل على أن يلامسها باللطف واللين والحكمة، لتكون المدخل الطبيعي للثقة والعاطفة المتبادلة التي تمنح الفكر حالة الهدوء، والشعور حالة الطمأنينة.

وهما المدخل الطبيعي لتكوين القناعات والوصول إلى روحية الإيمان. ولعلنا لا نبالغ حين القول أن التكليف الرباني الأول للإنسان على وجه هذه المعمورة هو خلافة الإنسان، كان الباري عز وجل يحاور ملائكته ويوضح لهم دواعي اختياره. ويختم الباري عز وجل حوارهم عند حدود المعرفة التي يملكونها بقوله {إني أعلم ما لا تعلمون}. وأضحى الحوار بعد ذلك هو أسلوب الأنبياء والأوصياء والصالحين عبر التاريخ» (3). وإن عظمة أية ثقافة في انفتاحها، وقدرتها على تأصيل مفهوم الحوار والنقد في مسيرتها، فثمة أشياء ومعارف عديدة يتم الاستفادة منها من جراء الانفتاح والتواصل والحوار. والثقافة التي تصطنع الانفصال والانغلاق تبتر التاريخ وتقف موقفاً مضاداً من الوعي التاريخي. وإن الثقافة الحوارية، هي المهاد الضروري إلى التقدم الاجتماعي والسياسي والحضاري. فالحوار يعيدنا جميعاً إلى اكتشاف ذواتنا، ويقوي خيارات التواصل والتعارف، ويدفعنا جميعاً إلى التخلي عن تلك الخيارات العنفية والتي تمارس النبذ والإقصاء.

وظائف الحوار

وعلى المستوى السياسي، فإن حوار وتواصل القوى السياسية والاجتماعية، يساهم في تبديد حالة الجمود التي تعانيها ساحاتنا العربية والإسلامية، كما يساهم في بلورة آفاق الحل والمعالجة لحالات انسداد الأفق التي نعانيها في مجالات مختلفة. وبإمكاننا أن نحدد غايات الحوار ووظائفه في الدائرتين العربية والإسلامية في النقاط التالية:

1) التعارف وكسر حواجز الجهل المتبادل، وتعميق عوامل التفكير الحر والسليم.. لعلنا لا نبالغ حين القول، إن الحوار بين البشر هو الوسيلة المثلى للتعارف وإضاءة النقاط المظلمة في العلاقات بين البشر. لذلك أكد القرآن الحكيم على هذه القيمة، وأعتبر أن التعدد والاختلاف الموجود بين البشر، ليس من أجل الاستعلاء والانحباس والانزواء، وإنما هو من أجل التعارف وكسر حواجز الجهل المتبادل وصولاً‏ إلى تعميق عوامل وأواصر التفكير الحر والسليم.. قال تعالى‏{يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عندالله أتقاكم} (4).

لذلك فإن مقولة الحوار تتجاوز السجالات والمجادلات العقيمة والمماحكات، التي لا توفر للأطراف جميعاً فرصة التعارف المباشر على الأطراف الأخرى. من هنا فإننا حينما ندعو إلى الحوار، ونعتبره وسيلة الإنسان الحضارية للتعرف على بني جنسه، فإننا نؤسس لغائية حميدة ينبغي أن لا تحيد عنها عملية الحوار.. فهو من أجل كسر حواجز الجهل، وتعميق عوامل المعرفة المباشرة والتفصيلية بالآخر، حتى يتوفر المناخ النفسي والمعرفي والاجتماعي، لخلق نمط إنساني وحضاري للعلاقة بين مجموع الأطراف المتحاورة.. وذلك لأنه وسيلتنا وخيارنا لتحجيم هواجس بعضنا البعض، ومحاصرة سوء الفهم والظن وموروثات الماضي، كما أنه يبلور وبفعالية عوامل الثقة المتبادلة وأسباب التعاون والتضامن على قاعدة (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب).

2) المشاركة في توفير ‎أسباب العدل والمساواة: فالحوار لا ينحبس في مجرد تداول الأفكار والقناعات والأخبار والأحوال، وإنما يتعدى ذلك من أجل سبر إمكانات الواقع، وفتح مجالات جديدة للتفكير والعمل، باتجاه توفير الأسباب والعوامل المفضية إلى تعميق خيار العدل والمساواة في المجتمع. وبالتالي فإن الحوار، مشروع مفتوح على إمكانات الواقع والإنسان لتوظيفهما لصالح مشروع العدالة والمساواة في المجتمع. لذلك فإننا ضد كل أشكال الحوار التي تبرر الظلم أو تسوغ التفاوت الاجتماعي الصارخ أو تدعو إلى تبني نظرة شوفينية أو عنصرية أو طائفية تجاه الآخرين.

فالحوار الذي ندعو إليه، هو الذي يؤسس حقائق العدل والمساواة في المحيط الاجتماعي. أما الحوار الذي يشرعن الظلم أو يدعو إلى الخضوع والخنوع إليه، أو يمارس منطقاً استعلائياً وعنصرياً تجاه الآخرين، فإننا نرفضه ولا نعتبره الحوار الحضاري المنشود. فإننا مع كل حوار، يتطلع‎ إلى نبذ الظلم ونصرة المظلومين ومحاربة الظلم واجتثاث جذوره وموجباته من المجتمع والأمة. لذلك نهى القرآن الحكيم عن ظلم الآخرين المختلفين والمغايرين وتجاوز كل مقتضيات العدالة.. قال تعالى {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين* إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون} (5).

فينبغي أن تكون كل تصرفاتنا ومواقفنا وأفعالنا وردود أفعالنا في نطاق وفضاء العدالة. واختلاف الآخرين معنا، ينبغي أن لا يدفعنا إلى تجاوز مقتضيات العدالة، بل هناك دعوة قرآنية صريحة إلى البر والرفق بالمخالفين الذين لم يحاربونا ولم يحملوا السلاح في وجوهنا. لذلك ينبغي أن يتجه الحوار دائماً، إلى توفير أسباب العدالة والمساواة في المجتمع، ومن الأهمية بمكان، أن نمتلك الوعي العميق والعزم الصادق والإرادة المستديمة، حتى نتمكن من إبقاء مسيرة الحوار في نطاق توفير متطلبات العدالة وعوامل المساواة في المجتمع والوطن.

3) تنمية القناعات والمساحات المشتركة: فالقرآن الحكيم يعلمنا، أن الحوار يستهدف الانطلاق من القواسم المشتركة، ويسعى عبر آلياته وأطره إلى تنمية المساحات المشتركة والعمل على تفعيلها.. قال تعالى {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً‏ من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} (6). فالحوار لا يستهدف بالدرجة الأولى إقناع الآخرين بقناعات الذات، وإنما تعريفها إلى الطرف الآخر. وبالتالي فإنه حوار لا يستهدف الإفحام والقطيعة، وإنما التواصل والتعايش.. فـ«الإسلام يدعو إلى التحرر من كل القيود التي تمنع الإنسان من الإنطلاق في خط الحرية والمسؤولية أمام الله تعالى، كما أنه يدعو أيضاً إلى الخروج من كل الضلالات والجهالات التي تمنعه من أن يكون خليفة لله تعالى على الأرض، وهو يتمكن من ذلك حينما يقدر على إصلاح نفسه ومجتمعه على ضوء التشريع الإلهي من خلال الالتزام به» (7).

وينهى القرآن أيضاً‏ عن المراء والجدال الذي لا يفضي إلى نتيجة، بل قد يزعزع المشتركات، ويوجد مناخاً نفسياً‏ يحول دون تنمية القواسم المشتركة.. قال تعالى {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً ‏لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون} (8). وقال تعالى {وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب} (9). فإننا مطالبون جميعاً، أن نمارس فعاليتنا الفكرية وحيويتنا الثقافية، لتوطيد أركان وعوامل المنهج الحواري، حتى نكون جميعاً‏ بمستوى المشاركة النوعية في صنع حقائقنا وصياغة راهننا وإنضاح خيارات غدنا ومستقبلنا.

وكما يقول أحد المفكرين الإسلاميين (10): إن الحوار بحاجة إلى ثقافة وفكر يحترم الفروق والتنوع. ويرى أن الحقائق المجتمعية ماهيات مركبة ذات وجوه وأبعاد لا جواهر بسيطة مطلقة ذات بعد واحد. إنه فكر يجيد التبادل والتأليف انطلاقاً من توسط مشرف من غير أن يجنح إلى دمجية كلانية تلغي المسافات والتخوم أو يقع في تفريعية انقسامية تقطع العلائق وتعدم التواصل.

ولقد أظهرت وقائع الحروب والمنازعات أن التصادم داخل الجماعة البشرية الواحدة، كان أشد فتكاً من تصادم الجماعات البشرية المختلفة. وما يجري من قتل وفظاعات وتدمير أعمى في الجزائر وأفغانستان وبعض دول القرن الأفريقي، يؤكد هذه الحقيقة، ويجعلنا نجزم أن ضحايا الحروب الداخلية والاقتتال الأهلي، أكثر فظاعة وتدميراً من كل الحروب الخارجية التي خاضتها البلدان العربية والإسلامية.

ولقد أوضح الدكتور (عبد المنعم سعيد) هذه الحقيقة بالأرقام وقال: إن الصراع مع إسرائيل كلف في العقود الخمسة الماضية حوالي 200 ألف من الضحايا، ولكن الصراعات الأهلية والحروب الداخلية بين البلدان العربية والإسلامية كلفت 2.5 مليون ضحية ومن حيث التكلفة المالية، فإن الصراع كلف الدول العربية حوالي 300 بليون دولار أما باقي الصراعات فبلغت تكاليفها حوالي 1.2 تريليون دولار. وهكذا نجد أن (80%) من الحروب والصراعات والنزاعات تقع تحت عنوان الحروب الداخلية التي تتنازع فيها القوى المختلفة حول السلطة والثروة والنفوذ.

ويشير أحد المفكرين إلى هذه الحقيقة بالقول: وما تزال الحياة تحتضن الحوار، وترزح في الوقت نفسه تحت ثقل الأساليب العنيفة التي تريد أن تخنق الحوار بالجو الخانق الذي تصنعه، وبالقوة المادية الغاشمة التي تحشدها، وبالعقليات الضيقة التي تربيها ويقف الحوار أمام القوة كما وقف الأنبياء ليعلموا القوة أنها لا تستطيع ان تبني الحياة التي تصنعها إلا من خلال الحوار. لأن القوة التي تفقد ذلك سوف تدمر نفسها في نهاية المطاف. لأنها لا تجد أمامها إلا الحجارة التي ترجم حجارة، دون هدف أو معنى. إن الحوار يعطي القوة المضمون الذي تتحرك من خلاله، والهدف الذي تسعى إليه والروح التي تعيش فيها.

لهذا فإن الحوار الثقافي والتواصل الإنساني، ينبغي أن لا يتوقف عند الأحكام القاطعة والكاسحة، والتي هي صدى أو انعكاس لحقبة التضيفات الأيديولوجية، وبذور الحوار والتلاقي الذي يقمع بالإدانات والتهويش والتخوين، وقد كلفت هذه المرحلة العالم العربي والإسلامي الكثير من الضحايا والجهود والإمكانات. وإن الحوار في الحقل الثقافي والإنساني يقتضي العمل على مستويين في آن واحد، مستوى الذات والعمل على التخلص من رواسب لغة النفي والإقصاء والتخوين وكل المفردات التي تلغي المختلف والمغاير، ولا تسمح بأي شكل من الأشكال بأي مستوى من الحوار معه.

ولذلك فإن تنظيف النفس والعقل من كل المفردات والمنطق السائد في تلك الحقبة التاريخية، يعد من الأعمال الجوهرية التي ينبغي أن نتوجه إليها وتكون لدينا الشجاعة الكافية، لإعلان نهايتها ودخولنا في حقبة تاريخية جديدة تشجع الحوار وتؤسس للتسامح وتؤصل الحرية لرأي الآخر. ومستوى الواقع الذي ينبغي أن يسوده الحوار ونتدرب فيه على احترام التنوع وإدارة الاختلاف بعقلية حضارية منفتحة وبعيدة كل البعد عن التعصب المقيت الذي لا يفضي إلا إلى المزيد من الحروب والاقتتال الداخلي. والحوار الثقافي الذي يخرج من هذا السياق أو النطاق، يتحول إلى حوار طرشان لا يفضي إلا إلى المزيد من التعصب للرأي وسيادة عقلية الخصم والإفحام وهي العقلية التي تدفع بشكل جنوني إلى خيارات عنيفة، تدمر الجميع وتحيل الأوطان إلى أرض خربة تعشعش فيها الغربان والحيوانات المفترسة.

الحوار والتواصل

والحوار لا يلغي ضرورات الاعتزاز بالذات، ولكنه اعتزاز لا يصل إلى مستوى العصبية المذمومة، أو يكرس نظرة شوفينية واستعلائية للذات ضد الآخرين. إنه اعتزاز بالذات، لا يلغي متطلبات الوحدة وشروطها النفسية والأخلاقية.. وقد قال الإمام علي بن الحسين السجاد (ع) «العصبية التي يأثم عليها صاحبها، أن يرى الرجل شرار قومه خيراً‏ من خيار قوم آخرين. وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم» (11).

كما أن الحب ينبغي أن لا يخرج الإنسان عن ضرورات التواصل مع الآخرين، وتحكيم المثل الأخلاقية في طريقة التعاون معهم. فقد روي عن الإمام زين العابدين (ع) أنه قال (أحبونا حب الإسلام) (12). ويعلق السيد محمد حسين فضل الله على هذه الرواية بقوله: «أن خط أهل البيت (ع) هو أن ينطلق المسلم في حركة العاطفة، فيما هو الحب الروحي لأهل البيت (ع)، من خلال الصفة الإسلامية لمضمون الحب لا من خلال الصفة الذاتية، ما يجعل الإسلام في انفتاحه أساساً للعلاقات بالمستوى الذي يخضع فيه للموازين الإسلامية الأصيلة، فيؤدي إلى الانفتاح من موقع الحوار والمحبة» (13).

وتؤكد التوجيهات الإسلامية، على ضرورة الانفتاح والتواصل مع مختلف دوائر ومكونات المجتمع الإسلامي.. فعن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) (أوصيكم بتقوى الله ولا تحملوا الناس على أكتافكم فتذلوا، إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه [قولوا للناس حسنا} (14) عودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، واشهدوا لهم وعليهم، وصلوا معهم في مساجدهم) (15). فمن الأهمية بمكان إيجاد مسافة موضوعية بين الآراء والمعتقدات. فليس كل رأي هو عقيدة، وإن أي محاولة للدمج بين الآراء والمعتقدات، يفضي في المحصلة النهائية إلى سيادة التعصب الأعمى بكل أشكاله وصنوفه. لذلك فإنه ويل لأمة (على حد تعبير الشيخ محمد تقي القمي) تتحول فيها الآراء إلى معتقدات. فالالتزام بالفكرة، لا يشرع للتعصب لها، وإنما هو يدفعك ويحركك نحو التجسيد العملي لكل جوانب الفكرة ومجالاتها وآفاقها.. والمغاير لنا في الالتزام والقناعات والمواقف، نعترف بوجوده، وننظم علاقاتنا وتواصلنا معه، ونتحاور معه حول كل القضايا والأمور، من أجل أن تتراكم أسباب المعرفة، وتتوطد عوامل العلاقة، وبهذه العقلية والروحية تتجذر مفاهيم حقوق الإنسان وتتأكد قيم التسامح والتعاون والتضامن.

الحوار فعالية

والحوار قبل أن يكون أطراً وهياكل، هو روحية واستعداد نفسي، يرتبط بوجداننا وقيمنا الإسلامية، التي أسست لهذا الخيار في كل جوانب وشؤون حياتنا. والحوار لا يستهدف شيوع حالة الفوضى في الآراء والمواقف، وإنما تضييق مساحات الخلاف والنزاع، وإبراز عناصر الوحدة والائتلاف. فمن ساحة الحوار تنتج الوحدة، وبالحوار تضمحل الخلافات وتزول أسباب الصراع العنفي. وبدون إرساء دعائم الحوار المتواصل مع تعبيرات الأمة ومؤسساتها وفعالياتها المتعددة، يتم التعامل مع العديد من القيم والمبادئ كتهويمات أيديولوجية مجردة عن وظيفتها الحضارية، وبعيدة كل البعد عن النسيج المجتمعي. وهكذا فإن الإنسان، لا يجسد قيمه إلا بالمزيد من الحوار. حوار الإنسان مع ذاته، وحواره مع دوائره الاجتماعية المتعددة، وحواره مع ظواهر الطبيعة لمعرفة أسرارها لتسخيرها بما يخدم العمران والتقدم الإنساني.

والحوار بين التعبيرات السياسية ومكونات الأمة الفكرية والاجتماعية، هو مشروع مفتوح على كل التجارب، ويفيد من كل الممارسات والمكاسب الإنسانية، لذلك فإن عملية الحوار مطلوبة لذاتها، وبحاجة إلى عمل الجميع من أجل إرساء دعائم وتقاليد الحوار الحضاري في فضائنا المعرفي والسياسي. وفعالية الحوار تنبع من أنه يجعل كل الآراء والقناعات والمواقف في ساحة التداول، لتقويمها وتمحيصها وتطويرها. ولا ريب أن لهذه العملية التداولية تأثيرات إيجابية على الصعيد المجتمعي، حيث أنها تحرك الراكد، وتساءل السائد، وتبحث في آفاق وفرص جديدة ممكنة، وفي المحصلة النهائية تكون عملية الحوار فعالية مجتمعية متميزة.

ونستطيع القول وبقناعة تامة، إن النص القرآني، نص حواري بامتياز فتحدث عن كل الموضوعات والقضايا بدون موانع وعقبات، واستخدم في ذلك أدق التعبيرات وأبلغها دلالة ومعنى، وأكد في آياته على ضرورة التفكر والتعقل والتدبر والنظر والتأمل، ووبخ أولئك النفر الذين يسيرون بلا هدى وبصيرة، أو يقلدون الآخرين بدون علم ومعرفة إذ قال تعالى {قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون} (16). وقال تعالى {ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً‏ من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} (17). وقال تعالى {والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد* الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب} (18).

ولقد علمتنا التجارب، أن غياب الحوار كاستراتيجية لتنظيم العلاقات بين مجموع القوى المتوفرة في الوطن والأمة، يهدد الجميع بانقسامات وتشظيات تهدد الجميع وتدخلهم في دهاليز القهر والعنف المتبادل. لذلك من الضروري أن نؤمن إيماناً عميقاً، أن الحوار هو سبيلنا جميعاً‏ لحل مشكلاتنا وتجاوز موروث الحقد والضغينة.

ولكي نصل إلى المستوى الأخلاقي لممارسة الحوار بعيداً‏ عن المسبقات الفكرية أو المواقف الجاهزة، نحن بحاجة إلى مجاهدة النفس، والتغلب على الأهواء والنوازع الضيقة، والانعتاق من كل أشكال التعصب الأعمى للذات أو لأفكارها وقناعاتها، والسعي الحثيث نحو الاقتراب من الآخر، ومحاولة فهمه بشكل مباشر. وذلك من أجل أن يكون الحوار في الداخل العربي والإسلامي، هو الأصل والثابت الذي لا نحيد عنه، مهما كانت النوازع ومهما كانت المشكلات التي تحول دون ذلك. و«إن تواصل الحوار بين الأطراف المختلفة، فئات أو أفراداً، يفضي مع مرور الزمن إلى تقلص شقة الخلاف بينهم، وذلك لدخول هذه الأطراف في استفادة بعضها من بعض، حيث إن هذا الطرف أو ذاك قد يأخذ في الانصراف عن رايه متى تبيّن له، عند مقارعة الحجة بالحجة، ضعف أدلته عليه، ثم يتجه تدريجياً إلى القول برأي من يخالفه، أو يأخذ، على العكس من ذلك، في تقوية أدلته متى تبينت له قوة رأيه، مستجلياً ‏مزيد الاهتمام به من لدن مخالفه، حتى ينتهي هذا المخالف إلى قبول والتسليم به، وهكذا، فإذا أنزل الخلاف منزلة الداء الذي يفرق، فإن الحوار ينزل منزلة الدواء الذي يشفي منه» (19). وإن الضرورة الحضارية تفرض علينا وعياً‏ مزدوجاً لعملية الحوار الثقافي، وعي مستوى الحوار الثقافي والإنساني الذي وصلت إليه المجتمعات المتقدمة بين دولها وتياراتها ومدارسها الفلسفية والفكرية والسياسية. ووعي واقعنا العربي والإسلامي وتلمس الممكنات المتوفرة لانطلاق هذه العملية الحضارية والعقبات التي تحول دون ذلك.

ومن خلال هذا الوعي المزدوج لعملية الحوار الثقافي تتأسس الظروف الموضوعية والذاتية لانطلاق مبادرات نوعية في هذا المجال. ودون هذا الوعي تبقى الكثير من الخطوات شكلية ولا تخرج في كثير من مفرداتها عن موضعة الاستهلاك ورمي الكرة في مرمى الطرف المختلف والمغاير. وفي هذا الوضع تتجلى في الحياة الثقافية كل الأشكال الخادعة والمستعارة لعملية الحوار الثقافي.

ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن الحوار الثقافي الذي يأتي في سياق وعي اللحظة التاريخية لواقعنا العربي والإسلامي ومتطلباته الحضارية، ووعي اللحظة التاريخية التي تعيشها المجتمعات المتقدمة، فإن هذا الحوار يعد نواة صلبة للعمل الثقافي الجاد الذي يتراكم ويتواصل لخلق حالة ثقافية بصفات جديدة وعقلية حضارية تمارس القطيعة المعرفية مع تلك العقلية الضيقة التي لا ترى في الوجود إلا لونين أما أسود أو أبيض.

وليس ما أقوله هنا إسقاطاً لمفهومات غريبة عن تطلعات حياتنا الثقافية، وإنما هي من تطلعاتها الجوهرية ومطامحها الأولى. وبالتالي فإن الحوار الثقافي ليس تصدعاً في الذات الثقافية، بل هو إثراء لها وإضافة نوعية إلى بنائها وسياقها المعرفي. وإن أهم ما تمارسه عملية الحوار هذه أنها ترفع الأوابد عن الإبداع وآفاق الثقافة الجديدة.

وعلى كل حال من الأهمية بمكان على جميع الصعد والمستويات، أن لا تدفعنا اختلافاتنا الفكرية والسياسية إلى القطيعة والجفاء والتباعد، وإنما ينبغي أن تكون هذه الاختلافات مدعاة إلى الحوارات العميقة. لا لكي نتنقل في قناعاتنا، وإنما من أجل أن نتعرف على وجهات نظر بعضنا البعض. ومن أجل إزالة الاحتقانات النفسية المصاحبة للاختلافات الفكرية والسياسية، ولكي يتم تنشيط دور القواسم المشتركة بين الجميع، بحيث الاختلافات لا تلغي المشتركات وتحول دون ممارسة دورها ووظيفتها في الحوار والتعاون والتضامن.

إن ما يشهده الواقع العربي والإسلامي من أحداث وتطورات خطيرة، تؤكد على ضرورة إعادة الاعتبار إلى الفريضة الغائبة في هذا الواقع، وهي فريضة الحوار والتعارف والتواصل الإنساني المتعدد والمتنوع. فالحوار هو طريق إجلاء الحقائق والوصول إلى صيغ لتفعيل المشترك الإنساني، وسبيلنا للحفاظ على مكتسبات الأمة والوطن.

لقد عانت شعوبنا الويلات ومازالت تعاني من جراء التعصب وسوء الظن والنزوع الاستبدادي والعقلية المتحجرة التي تساوق بين أفكارها ومشروعاتها وبين الحق والحقيقة.

وإن الدرس العميق الذي ينبغي أن نستفيده من تجارب العديد من الدول العربية والإسلامية، التي عانت ومازال بعضها يعاني من العنف والتطرف والقتل المجاني هو: أن الفريضة التي ينبغي أن يتجه الجميع إلى إحيائها هي فريضة الحوار. فهي وسيلتنا لصون المحرمات، وحل المشكلات، وتحول دون الكارثة والتدمير الشامل.

والحوار هو سبيلنا إلى التجدد والتطور، والهويات الثقافية لا تقوم على المطابقة والتماثلية المميتة، وإنما على التعدد والتنوع المفضي إلى إثراء المضمون الحضاري لمفهوم الهوية الثقافية. وبالحوار يتكامل منطق الاختلاف ومنطق الاعتراف، وصولاً إلى تأسيس دينامية اجتماعية جديدة، تتجه صوب التطلعات الكبرى للوطن والأمة.

ولنتذكر دائماً وصية الحكيم لقمان لابنه حينما قال: يا بني، كذب من قال إن الشر بالشر يطفأ، فإن كان صادقاً فليوقد نارين ولينظر، هل تطفئ أحدهما الأخرى، بل يطفئ الخير الشر كما يطفئ الماء النار.

وإن الحوار العميق والجاد بين مجموع القوى والتعبيرات المتوفرة في الأمة والوطن. هو الذي يوفر الأرضية المناسبة لترجمة وتنفيذ الكثير من المشروعات السياسية والمجتمعية.

بمعنى أن الحوار يساهم بشكل أساسي في تذليل عقبات الواقع، التي تمنع من تنفيذ الكثير من الطروحات والمشاريع. وفي المقابل فإن الاستبعاد والإقصاء، يقضي على كل الممكنات المناسبة للقاء والائتلاف، كما‎أن هذا المنطق يحرك كل غرائز ونزعات الخصام والتباغض والكره بكل أشكاله ومستوياته.

من أجل شخصيتنا الثقافية

تستهدف الحوارات الثقافية والفكرية، خلق التراكم المعرفي، والمشاركة في الرأي والفكرة، والتواصل الإيجابي بين المهتمين بشؤون الثقافة والأدب، وصولاً لبلورة الأفكار وإنضاجها، وتقليبها على أوجهها المختلفة لتكاملها. وإن من أعمق المشكلات التي نواجهها كأمة، هي المشكلة الثقافية، التي تلقي بظلها على تفاصيل حياتنا، والتي نرى جذورها في طريقة تفكير إنسان مجتمعنا وأمتنا، وطبيعة شخصيته، ونوعية طموحاته، وعلاقته بالزمن. لذلك فإن استعادة شخصيتنا الثقافية والتي كانت ولا تزال حائرة وضائعة بين تيارات ومدارس فكرية مختلفة، وتتآكل على صراعاتها، من أوليات الفعل الثقافي الناجح، والذي ينبغي أن يوليه المثقفون العناية والاهتمام.

في هذا الإطار تبرز، جملة من الأفكار الكبرى، والتي تحتاج إلى المزيد من الحوار والتلاقي الثقافي المستمر لإنضاجها، وهي في المحصلة النهائية تشكل بعض طرائق استعادة الشخصية الثقافية لأمتنا، حتى تمارس دورها الحضاري والعالمي، انطلاقاً من انسجامها مع منظومتها الفكرية والثقافية، ومن أهم هذه الطرائق الآتي:

1ـ منظومة جديدة من المفاهيم الثقافية والمعرفية، ‏ إذ أن إعادة الشخصية الثقافية لأمتنا العربية والإسلامية، يتطلب منظومة جديدة من الأفكار، التي تجدد الحياة العربية والإسلامية وتخرجها من الآفاق الفكرية الضيقة، ومن الجمود الثقافي الذي تتسم به أجزاء أساسية من واقع العرب والمسلمين اليوم، ومن الانغلاق القاتل واجترار ثقافة الغير. إن الواقع العربي والإسلامي اليوم، لا يتمكن من الانعتاق من آسار مشكلاته وأزماته ومواكبة متطلبات راهنه وعصره إلا بخلق منظومة جديدة من الأفكار والقيم الثقافة والمعرفية، وتجاوز حالات اليباس الثقافي التي تجعل العرب والمسلمين اليوم يدورون في دوائر مغلقة لا يستطيعون الفكاك منها.. ولابد من بيان أن المنظومة الفكرية والمفاهيمية الجديدة، لا تتأتى عن طريق الاستيراد أو الإسقاطات المعرفية والمنهجية، وإنما عن طريق إعادة قراءة مفاهيم الفكر العربي والإسلامي، قراءة جديدة، وبعقلية نهضوية متحررة من آسار ورواسب عهود الانحطاط والجمود. فالحوارات الثقافية التي لا تخرج من الشبكة الثقافية السائدة، وتسعى بوسائل مختلفة لإبقائها مهيمنة ومستمرة، هي حوارات لا تؤدي إلى نتائج نوعية وذلك بفعل تأخرها أو عدم مقدرتها على المساهمة في خلق منظومة فكرية جديدة، تغرس روح التحدي والنهضة في جسم الأمة، وتحاصر كل أشكال الجمود والتخشب.

ونظرة فاحصة إلى المشهد الثقافي العربي والإسلامي العام، ‏تدفعنا إلى الاعتقاد الجازم بضرورة بلورة منظومة مفاهيمية وفكرية جديدة، ومتناغمة ومنسجمة وأصول الثقافة العربية والإسلامية، وتواكب متطلبات اللحظة التاريخية التي يعيشها العرب والمسلمون اليوم. وبدون هذه المنظومة، سنبقى نعيش الفوضى الفكرية والمعرفية، ونلهث وراء لافتات وعناوين لا تزيدنا إلا ابتعاداً عن مقاصدنا وغاياتنا الكبرى. ومن المؤكد أن هذه المنظومة المفاهيمية والفكرية الجديدة، ‏ستخلق حالة ثقافية متحركة وفاعلة في واقعنا العربي والإسلامي، نتعايش معها ونتفاعل مع حركتها وتكون شيئاً ملموساً على الأرض لها مشخصاتها وقسماتها وآلياتها وفعلها.

وتبرز هنا حاجتنا إلى تطوير كل ما له صلة ودور وتأثير في تحريك المياه الراكدة وتطوير النظرات الثقافية، وتبديد الأوهام المعرفية، حتى تتوفر كل العوامل والأسباب المفضية، إلى خلق منظومة فكرية جديدة للواقع العربي والإسلامي، تأخذ على عاتقها تعبئة كل قوى الأمة في مشروع النهضة والعمران الحضاري. وهذا بطبيعة الحال، بحاجة إلى تكثيف قيم التواصل الثقافي والمعرفي والإبداعي بين مختلف المدارس الثقافية والفكرية، والحوار بين أهل الثقافة والأدب والإبداع، وخلق الطموحات والتطلعات العلمية الجادة، وتحسين مستوى العطاء والإنتاج الثقافي والإبداعي، حتى تشارك جميع هذه العناصر في خلق وإنضاج الظروف المؤاتية لخلق منظومة فكرية جديدة. لذلك نجد أن الحقبة التاريخية المجيدة لعالمنا العربي والإسلامي، كانت تزدهر المحاورات والمجادلات والمناظرات والاحتجاجات، ولم يكن الاختلاف العقدي أو الفكري أو السياسي سبباً للقطيعة والجفاء، لذلك تعددت علاقات الصداقة والجيرة بين المختلفين عقدياً، وجمعت حلقات الحوار والمناظرة المتباينين فكرياً وسياسياً.

ويحدثنا التاريخ أن رسول الله (ص) حاور وناظر زعماء اليهودية والنصرانية والدهرية والثنوية ومشركي العرب في حوار طويل ومناظرة مستفيضة، تم ذكرها بالتفصيل في كتب السيرة النبوية. وإن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع)، دخل في حوارات عديدة مع الكثير من الشخصيات والجماعات التي تتبنى أطروحات وقناعات مناقضة ومخالفة لأطروحات الإمام وقناعاته.. فقد وجه شاكر الديصاني السؤال التالي للإمام: ما الدليل على أن لك صانعاً؟ فقال الإمام: وجدت نفسي لا تخلو من إحدى جهتين: إما أن أكون صنعتها أنا أو صنعها غيري، فإذا كنت صنعتها فلا أخلو من أحد معنيين، إما أن أكون صنعتها وكانت موجودة فقد استغنيت بوجودها عن صنعتها، وإن كانت معدومة فإنك تعلم أن المعدوم لا يحدث شيئاً، فقد ثبت المعنى الثالث أن لي صانعاً وهو رب العالمين (20).

وجاء في الرواية التاريخية، أنه لما قدم الإمام علي بن موسى الرضا (ع) على المأمون أمر الفضل بن سهل أن يجمع أصحاب المقالات مثل الجاثليق ورأس الجالوت ورؤساء الصابئين، والهربذ الأكبر وأصحاب زردشت ونسطاس الرومي والمتكلمين ليسمع كلامه وكلامهم. فجمعهم الفضل وأدخلهم على المأمون فقال لهم: أني إنما جمعتكم لخير وأحببت أن تناظروا ابن عمي هذا المدني، القادم علي فإذا كان بكرة فاغدوا علي ولا يتخلف منكم أحد، فقالوا السمع والطاعة يا أمير المؤمنين نحن مبكرون إن شاء الله.. وفي اليوم اللاحق جرت المناظرة والمحاورة، وقد سجلتها كتب التاريخ والسير.

ولقد جمع العلامة (أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي) من علماء القرن السادس، حوارات رسول الله (ص) وأئمة أهل البيت (ع) مع العديد من زعماء الأديان والمذاهب والنحل المختلفة في كتاب أسماه (الاحتجاج)، ويتضح من كل المناظرات والحوارات، أن الحوار هو السبيل الذي أسسه الإسلام بين المختلفين، وهو الطريق الأمثل لإقناع الآخرين بقناعات الذات وأفكارها..

ومن خلال هذه النماذج التاريخية، نكتشف أن الحوار والمناظرة ثابتة من ثوابت الاجتماع العلمي والسياسي الإسلامي. فالتباين لم يفض إلى القطيعة، بل إلى الحوار والمناظرة بكل مستوياتهما وشروطهما النفسية والاجتماعية.

2ـ النهوض بحركة نقدية في الوسط الثقافي والأدبي والإبداعي العربي، تحمل ملامح الثقافة الجادة، لنقد وتطوير الحياة الثقافية العربية. فالحياة الثقافية لا تؤتي ثمارها على مستوى البناء، ورفد الواقع العربي العام بمقومات المنعة وأسباب القوة، إلا بحركة نقدية جادة وأصيلة تنقد الأفكار لتطويرها، وتراقب المشروعات لبلورتها وغرس قيم التطور النوعي في مسيرتها.

لذلك ينبغي أن تهتم الحياة الثقافية العربية، بخلق آليات وأطر تمكن المجتمع العربي من تطوير حركة النقد البناء في مسيرته، حتى يتمكن من حل مشكلاته بنفسه، بدون الاستجداء من الغير الحلول والمعالجات لأزمات الواقع العربي والإسلامي. وذلك لأن المجتمع الذي يتمكن من حل مشكلاته بنفسه يستطيع عبور أزماته، دون انتظار للقوة المؤثرة، أو التلهي بالشكوى، مما يعزز الروح الإيجابية والجدية في التعاطي مع الحياة والمستقبل، ويوسع من نطاق التفاعل الداخلي بين قوى الأمة ومدارسها المتعددة، في سبيل معالجة الشعور بالعجز أو النقص الذي يعاني منه الواقع العربي والإسلامي. لأن هذا الشعور يؤدي إلى الإعراض عن التواصل والحوار والتعاون لحل المشكلات العامة التي يعاني منها العالمان العربي والإسلامي. فالضعف والنقص لا يحلان بالتستر عليهما، ومنع عملية الفحص الموضوعي، التي تتجه بنقد بناء إلى تلك المكامن، يبدأ بتعريتها وتقويمها وصولاً إلى بلورة البديل والفكرة أو الرأي الجديد. فالنقد ضرورة من ضرورات الثقافة والمعرفة. ولم يسجل لنا التاريخ الإنساني، أن ثقافة ما نمت وتوسعت وتعمقت، بدون حركة نقدية جادة رافقت تلك الثقافة، وأخذت على عاتقها نقد نقاط الضعف لتقويتها، ونقد المسار لتصحيحه، وبيان النقاط والمواقع التي ينبغي أن تتجه إليها الثقافة لتتكامل. فاستعادة الشخصية الثقافية العربية والإسلامية، لا تنجز إلا بعاملين أساسيين وهما: منظومة مفاهيمية وفكرية جديدة، تطرد الجمود، وتحارب الانهزام النفسي والأفكار القدرية والجبرية وتطور من طموحات أبناء الأمة العربية والإسلامية، وتنضج من خياراتهم في الراهن والمستقبل، وحركة نقدية جادة وبناءة، تأخذ على عاتقها التجديد في طرائق التفكير، والعناية بالنواقص لتكميلها، والعمل على رفد الواقع بأفكار وآفاق جديدة. فالشخصية الثقافية المسؤولة، لا تخلق إلا في محيط اجتماعي دينامي، يأخذ على عاتقه تطوير ذاته، ومقاومة كل عوامل التكلس التي تعترض واقعه.

والحوارات الثقافية والتواصل المعرفي، من ضرورات الحياة الثقافية، لأنهما يساهمان في خلق المنظومة الفكرية الجديدة، التي هي رهان الأمة وسبيلها لبناء راهنها والتحكم في مصائرها المستقبلية. وذلك لأن الحوار، هو الكفيل بامتصاص إشكاليات التباين، ويستوعب حساسيات الخلاف في وجهات النظر والقناعات. بيد أن المسلمين في عصور التخلف والانحطاط، انساقوا بعيداً عن متطلبات الحوار، وأضحت النزعة الاستبدادية والإقصائية، هي السائدة في العديد من العصور والحقب التاريخية.. وإن سيادة نزعة الإقصاء والقطيعة والاستبداد، لم يكن وليد المنظومة المفاهيمية الإسلامية، وإنما من جراء الانحراف عن هذه المنظومة، والعمل على إقصائها من الحياة السياسية والعلمية للمسلمين. لذلك نجد هناك معادلة طردية متواصلة. ففي الحقب التاريخية التي تتراجع قيم الإسلام من التحكم والتوجيه للشؤون السياسية والعامة، في ذات الحقب تسود قيم العنف والإقصاء والاستبداد. أما في الحقب التاريخية، التي تكون قيم الإسلام العليا المكون الأساسي في التعامل مع الشؤون السياسية والعامة، نجد فيها سيادة قيم الحوار والمجادلة بالتي هي أحسن، واحترام التعدد واختلاف الرأي.

من هنا نستطيع القول: إن سيادة نزعات الاستبداد والتهميش والإقصاء في بعض فترات وحقب التجربة التاريخية الإسلامية، كان من جراء إقصاء الإسلام كقيم ومنظومة أخلاقية وحضارية ناظمة لأنماط السلوك الاجتماعي والسياسي من موقع التأثير والصياغة والتكوين. والحوار الذي نتطلع إليه، ونعمل من أجل إرساء دعائمه ومتطلباته في واقعنا، هو القادر على افتتاح مناطق جديدة للعلاقات، واجتراح صيغ متطورة للتعاون والتضامن.. والرهان الثقافي الذي نتطلع إليه وندعو الجميع إلى الالتزام بموجباته، ينطوي على العديد من المسؤوليات والآفاق. لذلك فإن العناصر الأساسية التي تشكل بمجملها رهاننا الثقافي الجديد، بحاجة دائماً إلى جهد إنساني متواصل ينقل الوعد إلى الإنجاز والمفروض إلى واقع. وبدون هذه الإرادة الإنسانية النبيلة، تبقى تطلعاتنا حبيسة صدورنا، ولا تتوفر ممكنات التنفيذ. لذلك فإن الرهان الثقافي الجديد، بحاجة إلى إرادة إنسانية مستديمة، تعمل على تحويل عناصر هذا الرهان إلى حقائق في الواقع الخارجي.

ومجالنا العربي والإسلامي، أحوج ما يكون اليوم إلى ثقافة جديدة ورهانات معرفية مستقبلية تلحظ حاجات الواقع ومتطلبات العصر وقيمنا الحضارية الكبرى. فهذه القيم والموجهات الكبرى، هي جسرنا الراهن لتجسير الفجوة بين الوعد والإنجاز، الواقع والأمل. فاللحظة التاريخية الراهنة، بحاجة إلى نمط جديد للتعامل مع جملة الظواهر الإنسانية، حتى يتسنى للأمة الانطلاق في رحاب البناء والتنمية والعمران الحضاري.

الحوار والنقد

والحوار لا يمنع النقد، وإنما يؤسس للمعرفة المتبادلة العميقة، التي تجعل النقد بناءً وبعيداً عن التصفية والتحطيم. فالنقد هنا لا يتجه إلى الدحض والنقض، وإنما لتوليد رؤى وأفكار وصيغ جديدة، تحرك الراكد، وتستفز الساكن، وتدفع الجميع نحو المزيد من الحوار والتلاقي. وذلك لأن «النقد هو اجتراح ممكنات للتفكير، بتشكيل موضوعات جديدة أو افتتاح حقول جديدة تتغير معها علاقتنا بالمسائل المطروحة، بقدر ما تفضي إلى فتح علاقات مغايرة مع الحقيقة أو إلى استخدام أدوات معرفية تغير تعاملنا مع المعرفة بالذات.. بهذا المعنى إن النقد أبعد ما يكون عن النفي، إنه لا يقوم على دحض المقولات واكتشاف الأخطاء، بقدر ما هو فاعلية فكرية تتيح، عبر استنطاق الخطابات وتأويلها، أو عبر الحفر في طبقات النصوص وتفكيك أبنيتها، تجديد القول ومضاعفة النص، بإشعال بؤرة للأسئلة، أو بافتتاح منطقة لعمل الفكر، أو بانتهاج منحى مغاير في التفكير، أو بابتداع ممارسة فكرية جديدة» (21).

وهكذا لا يتحول النقد إلى ممارسة عشوائية، قوامها النقض والاستفزاز، وإنما هو عملية قصدية وواعية، تتجه إلى اكتشاف مساحات جديدة للنظر والتفكير، وحقول مميزة للعمل والحركة، وآفاق راهنة للتطلع والتحشيد وبلورة الطموح.

وبهذا فإن الحوار والنقد يتكاملان، فلا نقد بناء بدون حوارات مستديمة ومتواصلة، تتجه إلى تبديد الجهل المتبادل، وتعميق أسباب الفهم والمعرفة. كما أنه لا حوار جاد ومفضٍ إلى الحيوية والفعالية، بدون عملية نقد، تسائل السائد، وتناقش الموروث، وتبدد الرين النفسي والفكري. فالحوار يكسب الإنسان التعدد والتنوع في القناعات والأفكار والخيارات، والنقد يؤسس لعملية انفتاح خصبة سواء على مستوى المعاملة أو التجربة. وكلاهما (الحوار والنقد) يفضيان إلى غنى في الشخصية على مختلف المستويات. وأن العلاقة بين مختلف التعبيرات والأطياف، لا يمكن أن تبنى بعقلية الإقصاء ومنطق التحطيم والمحو، لأن العلاقة مآلها الأخير المزيد من القهر والعنف والأحقاد المتبادلة.. لذلك فإن من الأجدى لنا جميعاً أفراداً وجماعات، أن تبنى علاقاتنا بمنطق التواصل والحوار وبفتح أفكارنا وعقولنا ونفوسنا جميعاً على حقائق التنوع والتعدد. لأن هذا المنطق هو الكفيل بإزالة ماتراكم من سوء في الخطابات والممارسات، في المواقف والقناعات، في الرؤية إلى الذات وإلى المختلف والمغاير.

لذلك فإن المطلوب دائماً، هو الانخراط في مشاريع حوارية، وذلك من أجل إرساء تقاليد للحوار والتعايش والتساكن الحضاري، وحتى يتعمق خيار المنافسة السلمية وبوسائل ديمقراطية، لا تلغي ما عدانا، ولا تضخم ذواتنا، بحيث لا نراها إلا هي على مستوى الوجود والممارسة المتميزة. وبالتالي فإن مفهوم الحوار، ينطوي على قدر من المراهنة على تأسيس لواقع جديد لحياتنا الاجتماعية والسياسية. والإنسان الذي لا يحسن الحوار مع غيره المختلف أو المغاير، لن يستطيع أن يطور علاقاته وأنماط إنتاجه مع المتفقين معه. وذلك لأنه يفتقد القدرة المؤهلة لترتيب علاقته مع كل الدوائر المحيطة به. مما يجعله فاقداً للإمكانية اللازمة لتنمية أسباب العلاقة وعوامل التعاون بينه وبين نظرائه على مستوى الفكر والمعرفة، وعلى مستوى الفعل والممارسة.

وقفة مع الذات

تنبع أهمية الوعي التاريخ، من أنه يكثف لحظات من الزمن بمدلولاتها ودروسها وعبرها. بحيث يضحي الإنسان وكأنه عايش حقباً تاريخية مديدة. فالمعرفة التاريخية المستندة على وعي تاريخي عميق تساهم بشكل أساسي في بلورة طرق الاستفادة من كل منعطفات التاريخ وتحولاته الدائمة. لذلك من الضروري لنا جميعاً أن نخرج من سجن ماضينا المعاصر المليء بالشكوك والفتن والحروب، والتركيز الراهن على ثقافة الوحدة بكل مستوياتها القائمة على قاعدة احترام تنوعات الأمة، واختلافاتها الطبيعية المثرية لمسيرة الأمة في كل المجالات والجوانب. والاقناع الشديد والعميق ومن جميع الفرقاء أن ثقافة الفتنة والعنف والإقصاء، لا تنتج إلا الدمار والحروب والموت. أما ثقافة السلم والتسامح، فتبني وتحررنا جميعاً من عقدنا وهواجسنا، وتعمق في نفوسنا وعقولنا الشوق إلى الكرامة والوحدة.

وإن قراءة تاريخ الأمم والشعوب قراءة متأنية وموضوعية، تجعلنا نعتقد بشكل جازم أن ثقافة العنف والإقصاء ترتد على أصحابها، فتزيد من تدهور الأوضاع، وتدخل الجميع في أتون الحروب المجانية والعبثية. وإن خنق الخصوصيات الثقافية، لا يولد سلماً أهلياً ومجتمعياً، وإنما يفجر الأوضاع ويجعل العنف والعنف المضاد هو القاعدة الواسعة لنمط العلاقات الاجتماعية والإنسانية. وإن تذويب الاختلافات الثقافية والسياسية والعقدية، لا يتم بالقوة والقسر، وإنما هذه الوسائل تزيد الاختلافات وتعمق الشروخ والفروقات، وتحول دون تلمس الأرضية المشتركة للانطلاق منها لتصحيح الأوضاع. وإن تسويد قيم النفي والإقصاء وثقافة العنف، أشد خطراً من المخاطر المحتملة لممارسة حق الاختلاف واحترام التنوعات والتعدديات المتوفرة في داخل الاجتماع الإنساني. ففي كنف الحرية وثقافة التسامح والحوار، تذوب الاختلافات، وتتبلور وظيفتها الحضارية في إثراء المعرفة والواقع، وإنضاج خيارات عديدة للرقي والانطلاق.

وإن مقاربة عميقة اليوم لراهن العرب والمسلمين، نرى أن جذر العديد من الأزمات والحروب والاختناقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، هي في المحصلة الأخيرة من جراء تلك الثقافة التي تعلي من شأن العنف ‏(عنف القول والفعل)، وتحارب كل تعدد وتنوع، وتعتبره شراً يجب اجتثاثه من الجذور، وتضيق بكل الأفكار والآراء التي لا تنسجم مع أفكارها وآرائها. هذه الثقافة بكل تداعياتها ومتوالياتها، هي التي أوصلت العديد من مناطق المجالين العربي والإسلامي إلى مرحلة من الانفجارات السياسية والاجتماعية الخطيرة التي تهدد حاضر هذه المناطق ومستقبلها. ولا نذيع سراً‏ حين القول: إن المناطق العربية والإسلامية التي شهدت انفجارات داخلية، قدمت من الضحايا والخسائر المادية أكثر مما قدمته هذه المناطق في حروب استقلالها وفي مدى زمني طويل ضد المستعمر والمحتل. وليكن شعار الجميع احترام الخصوصيات الثقافية أو العرقية أو الإثنية دون الانحباس فيها. فكلنا يحب خصوصياته ولكننا في نفس الوقت نحب جامعنا المشترك وهو الدين الإسلامي أكثر، وذلك لأنه وسيلة الحماية المثلى لتلك الخصوصيات.

ومن الأهمية بمكان أن يتربى ويتدرب كل واحد منا على كيف يمارس حقه في التعبير عن آرائه وقناعاته داخل إطار الوحدة. فهي المرجعية العليا التي ينبغي أن يستند إليها الجميع، ويسعى الجميع بوسائل حضارية إلى تحصينها وحمايتها من كل الأخطار والتهديدات. والتعصب الأعمى للأفكار والقناعات الذاتية، ليس هو الوسيلة الإسلامية والحضارية للدفاع عنها وحمايتها. وذلك لأن هذا التعصب ينطوي على مخاطر وتهديدات، تناقض في كثير من الأحيان جوهر الأفكار وماهية القناعات التي تعصبت من أجل الدفاع عنها. فالأفكار بحاجة إلى اختيار وإيمان وقناعة طوعية بها، وكل هذه العناصر لا تتحقق بالتعصب الأعمى لها، وأن هذه الوسيلة تزيد من نفور الناس من هذه الأفكار والقناعات.

ويشير إلى هذه المسألة أحد المفكرين المعاصرين بقوله: أما ما هو مشروع، بل ضروري، بشأن العلاقة بين الأفكار وأصحابها فهو: الإيمان بهذه الأفكار، والإيمان شأن آخر يختلف جوهرياً عن التعصب، ونلاحظ أن كلمة التعصب مشتقة من العصب والعصبية. والعصب جهاز في الكائن البشري يستنفره الغضب والخوف والشهوة وما هنالك من الأحاسيس ذات المرجعية العصبية. أما الأيمان فمرجعيته العقل ـ جهاز الوعي والتدقيق والمراقبة والتحليل والحسابات المتأنية. ولا يقلل من مرجعية الإيمان العقلية كونه (الإيمان) يستقر في القلب والوجدان والأحاسيس. لأن الإيمان بالدرجة الأولى هو من مقولة العقل. وحتى عندما يستقر في القلب أو الوجدان أو العاطفة، فليس قبل أن يمحصه العقل.

والسؤال المركزي هو: كيف يتم تطوير العقلية الإيجابية المتسامحة، وبلورتها وتعميقها في المحيطين العربي والإسلامي؟

1ـ التواصل الإنساني والثقافي: وهو يعد ضرورة إنسانية ومساحة حرية وحيوية وتفاعل متبادل. وإن غيابه يعادل خطر غياب قيمة أساسية من قيم الإنسان والحضارية في هذا العصر. فالتواصل الإنساني بكل مستوياته قيمة حضارية ثمينة، ورسالة حوار وتعارف وأرضية تسامح وتعايش بين الثقافات والأفكار المختلفة. وإن هاجسنا جميعاً ينبغي أن يتجه إلى ضرورة إرساء قواعد وأطر للتواصل المستمر بين مختلف الأطياف والثقافات، واستكمال الشروط الضرورية لإطلاق فعل تواصلي شامل، حتى تمارس كل هذه الثقافات دورها في البناء والتطوير.

والوحدة الداخلية في أي مجتمع عربي وإسلامي قائمة على احترام التنوعات والتعدديات، وهو الوجه الآخر لتقدم هذا المجتمع وتطوره في مختلف المجالات. بمعنى أنه لا تقدم اقتصادي واجتماعي حقيقي، بدون وحدة داخلية توفر كل مستلزمات التقدم وشروطه المجتمعية. وفي منظورنا وتقديرنا أن فعل التواصل المستديم، هو الذي يحرر الوعي الوطني والثقافي من كل التشوهات والأوهام التي تغذي حالات القطيعة والإقصاء.

2ـ تأصيل قيم الحوار والتسامح والكرامة الإنسانية في المحيطين العربي والإسلامي، والعمل على تحويل هذه القيم إلى حقائق ووقائع تزيد من فرص الحوار وتعمق خيارات البناء والعمران. ولابد من الإدراك أن الحوار بكل متوالياته وأشكاله ومستوياته، هو البديل الطبيعي لعلاقات التنابذ والنفي المتبادلة لجملة المدارس الفكرية والسياسية. وأن سيادة هذه العقلية الإيجابية ومفرداتها الثقافية والسياسية والاجتماعية، هو الذي يحول دون نجاح مشاريع التفكيك الجديد للمجتمعات العربية والإسلامية. ومن خلال هذه القيم والعناصر، نستمد وعينا الحياتي ونصيغ علاقاتنا وتحالفاتنا، ونحدد مواقفنا من مختلف الظواهر الإنسانية. وإن موجبات النهوض ومتطلبات مواجهة التحديات المصيرية، بحاجة دائماً‏إلى تنقية الأجواء العربية والإسلامية الداخلية من كل ما يعكر صفو التضامن والوحدة والعمل معاً من أجل توفير كل مستلزمات النهوض السياسي والحضاري. والوحدة الداخلية للعرب والمسلمين، بحاجة دائماً إلى إطلاق عملية حوار مستديم، تزيل ركام الماضي، وتؤسس لنمط جديد من العلاقة قوامها العزة والحكمة والمصلحة.

فالتنوع الفقهي والفكري في التجربة التاريخية الإسلامية، لم يكن وليد الانقسام والتشرذم والتفرق المذموم، وإنما كان تعبيراً‏ عن حيوية عقلية وعلمية أدت إلى تعدد الآراء والمتبنيات المنهجية في عملية الاستنباط ودلالات النصوص، مما أتاح للمسلمين في تلك الحقبة الكثير من الآراء والأفهام وأشكال الحوار المستند إلى العلم والمنطق. ولا نعدو الصواب حين القول: إن العديد من منجزات الحضارة الإسلامية ومكتسباتها العلمية والمعرفية والإبداعية، كانت بفعل هذه العقلية وبفضل هذه الروحية السامية.

لذلك فإنه بدون تحرير الواقعين العربي والإسلامي، من تلك العقلية التي تحول التمايزات الطبيعية إلى مصدر للنزاع والصراع واستخدام القوة، ستبقى إرادة هذا الواقع مرهونة إلى صراعات وحروب مغلقة، لا تزيدنا إلا ارتهاناً وضعفاً. وإن مستقبلنا لن يكون كما نريد إلا إذا عمل الجميع كل من موقعه وخندقه إلى تأصيل قيم التسامح والحوار وتحرير الإرادة العربية والإسلامية من كل القيود التي تكبلها. وحده الحوار المستديم والمفتوح على كل القضايا والأمور، هو الذي يفكك الأفخاخ الداخلية ويعطل دورها السلبي والخطير. وذلك لأن في الحوار السليم الاعتبار دائماً إلى الحجة والمنطق والرأي الموضوعي المتجرد.

وآن الأوان لنا جميعاً أن نقف مع ذواتنا، ونعرض قناعاتنا أمام قيمنا الكبرى ومبادئنا العليا. ونراجع ممارساتنا وسلوكنا الخاص والعام لتقويمها ولردم الفجوة بين الواقع والمثال.

......................................
الهوامش
(1) القرآن الحكيم، سورة البقرة، آية (256).
(2) القرآن الحكيم، سورة فصلت، آية (34).
(3) السيد محمد حسين فضل الله، الحوار في القرآن، قواعده، أساليبه، معطياته، راجع مقدمة الطبعة الأولى، الشركة الإسلامية للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، بيروت 1983م.
(4) القرآن الحكيم، سورة الحجرات، آية (13).
(5) القرآن الحكيم، سورة الممتحنة، آية (8ـ9).
(6) القرآن الحكيم، سورة آل عمران، آية (64)
(7) فرح موسى، الشيخ محمد مهدي شمس الدين بين وهج الإسلام وجليد المذاهب، ص186، دار الهادي، الطبعة الأولى، بيروت 1993م.
(8) القرآن الحكيم، سورة الأنعام، آية (159).
(9) القرآن الحكيم، سورة الشورى، آية (14).
(10) السيد محمد حسن الأمين، مجلة المعارج، المجلد السابع، السنة الثامنة، الأعداد (32، 35)، 1418هـ.
(11) الشيخ محمد يعقوب الكليني، أصول الكافي ج2، ص308، دار التعارف، بيروت 1990م.
(12) العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار ج46، ص73، الطبعة الثالثة، دار إحياء التراث العربي، لبنان 1983م.
(13) السيد محمد حسين فضل الله، أحاديث في قضايا الاختلاف والوحدة، ص229، إعداد نجيب نور الدين، دار الملاك، الطبعة الأولى، بيروت 2000م.
(14) القرآن الحكيم، سورة البقرة، آية (83).
(15) العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 74، ص159، مصدر سابق.
(16) القرآن الحكيم، سورة يونس، آية (89).
(17) القرآن الحكيم، سورة الأعراف، آية (179).
(18) القرآن الحكيم، سورة الزمر، آية (17ـ18).
(19) طه عبد الرحمن، في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، ص20، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية، بيروت 2000م.
(20) باقر شريف القرشي، حياة الإمام الصادق ـ دراسة وتحليل، الجزء (1ـ2)، ص162، دار الأضواء، الطبعة الأولى، بيروت 1992م.
(21) علي حرب، الماهية والعلاقة ـ نحو منطق تحويلي، ص180، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، بيروت 1998م.

اضف تعليق