السلطة في المنظور الإسلامي، ليست سلطة مطلقة يمارسها الحاكم كما يشاء، وإنما هي سلطة مقيدة بضوابط الشرع ورضا الأمة. فالجوهر أن تكون الدولة بكل مسئوليها ومؤسساتها، نتاج الحرية والشورى والعقد الاجتماعي المستند إلى حرية الاختيار ورضا الجماعة. فالدولة ليست خارجة عن قيم الإسلام الكبرى كالعدالة والحرية والمساواة...
مفتتح
ثمة مداخل عديدة للمقاربة المنهجية والموضوعية لمسألة الديني والسياسي في التجربة العربية - الإسلامية، في حقيقتها وسياقها التاريخي وبعدها المعاصر، والذي يقترب من طرح موضوعات وقضايا فكرية جديدة، ذات صلة مباشرة بالتطورات الفكرية والسياسية العالمية، ومستوى انعكاسها في المجال الإسلامي. واتخذت هذه المسألة في كتابة الباحثين والفقهاء والمستشرقين، عناوين عديدة، كلها على صلة منهجية بإشكالية الديني والسياسي في الإسلام وتجربته التاريخية.
فأبحاث نظام الحكم في الإسلام، وأسسه القانونية والتشريعية، والجهود الفكرية والسياسية والنضالية التي تستهدف صياغة وتركيب المجتمع المسلم وفقا للفقه السياسي الإسلامي، كلها على صلة مباشرة بهذه الإشكالية التاريخية.
وفي تقديرنا أن جذر هذه الإشكالية على المستوى النظري والفكري، يعود إلى قناعة راسخة فحواها أن قضايا المجتمع السياسي، والدولة، والنظام، والحكومة في الإسلام، على أساس أن تشريعاتها مندمجة في النسيج المتلاحم لكليات ومفردات العقيدة والشريعة في الإسلام، ملابسة لكل مبدأ، وقاعدة، وحكم فيهما.
وهذه القناعة بمتوالياتها الفكرية والسياسية، تطرح مجموعة من الأسئلة الحيوية تجاه طبيعة العلاقة بين الديني والسياسي في المجال الإسلامي. ومن جانبنا نود الاقتراب المنهجي من هذه الإشكالية، من زاوية قدرة الإسلام على بناء دولة مدنية، تستوعب كل الأجناس والانتماءات. والمشكلة الحقيقية التي ابتلي بها المجال الإسلامي على هذا الصعيد، هي سيطرة السياسي على الديني، وتوظيف الرموز الدينية لأغراض ومصالح سياسية آنية. وهذه المشكلة بتداعياتها المختلفة، ألقت بظلها الثقيل والأسود على مجمل الحياة العامة للعرب والمسلمين. ويخطأ البعض حينما يصور المشكلة وكأنها سيطرة الديني على السياسي، لأن هذه المشكلة في أغلب عناصرها وأبعادها مصطنعة، ولا تعكس حقيقة المشكلة التي تعاني منها الأمة على هذا الصعيد. فالمشكلة الحقيقية والشاخصة التي يعاني منها المجال الإسلامي في هذا السياق، هي إخضاع الديني بكل رموزه ومؤسساته وإلحاقه بالسياسي ومصالحه. وإن الحاجة اليوم تتجسد في ضرورة العمل على تحرير الديني من السياسي، وإعادة صياغة العلاقة بعيدا عن سياسات الإلحاق والتبعية والتوظيف السيئ.
فالمشكلة الحقيقية التي تواجهنا في المجال الإسلامي، عكس المشكلة التي واجهت الغرب في تجربته التاريخية. فالمشكلة الغربية كانت في جوهرها تغوّل المؤسسة الدينية - الكهنوتية على كل شيء، بحيث لا توجد مساحة اجتماعية أو سياسية أو ثقافية أو اقتصادية إلا وهي تحت سيطرة الكهنوت. لذلك توجهت الإرادات الثقافية والسياسية والاجتماعية الغربية، لصياغة معالجة تحد من سيطرة الكهنوت وتعيد الاعتبار إلى المجتمع بكل حيويته وإبداعاته، فكان العلاج في العلمانية. أما نحن في المجال الإسلامي، فلم تتغوّل المؤسسة الدينية في حياتنا المعاصرة، وإنما الذي تغوّل هو السياسي بمؤسسته الكبرى (الدولة)، بحيث التهمت كل شيء في حياة العرب والمسلمين. فالمجال الإسلامي بكل عناوينه يعاني الأمرين من دولة تسلطية قمعية، لا هم لها إلا استمرارها حتى لو كان هذا الاستمرار على حساب التاريخ والعصر والوطن. دولة بسلوكها المتعجرف، عمقت الهوة والفجوة بين مؤسسة الدولة والمجتمع. دولة اختزلت الجميع في دائرة ضيقة، لا تتعدى في بعض الأحيان مدرسة الأمين العام. فالدولة بمنطقها القروسطوي وعنفها وجبروتها وعسكرتها لمجتمعها، أجهضت الكثير من الآمال والأحلام.
إننا نعتقد أن هذه هي المشكلة التي تواجه المجال الإسلامي. وينبغي أن تتجه الجهود صوب تحرير المجال الإسلامي، من تغوّل الدولة وسيطرتها على كل شيء في الحياة. لذلك نجد أن الخيار أو التجربة العلمانية في المجال الإسلامي لم تتمكن من الحد من تغوّل الدولة وهيمنتها على كل شيء. فالكثير من الكيانات السياسية العلمانية، لم تستطع أن تتجاوز عصبيات الواقع والدوائر التقليدية الموجودة في المجتمع والأمة. بمعنى أن العديد من الوجودات السياسية العلمانية، هي عبارة عن يافطة حديثة لواقع تقليدي، عصبوي.
فالتجربة العلمانية في مجالنا الإسلامي، مارست السياسة بآليات متخلفة وتنتمي إلى عصور الانحطاط، واستقوت على غيرها من الوجودات والتعبيرات، بالاستقواء بالعصبيات التي جاءت على المستوى النظري بتجاوزها ومنع تأثيراتها السلبية. فالممارسة العلمانوية أضحت في مناطق العالم العربي، ممارسات طائفية، حيث الاحتماء بطائفة ضد أخرى، وممارسات قومية شوفينية، حيث الاستناد على قومية وقمع القوميات الأخرى، وممارسات ديكتاتورية حيث حاولت أن تعمم رؤيتها للمجتمع والحياة بوسائل قهرية واستبدادية.
وهذا أدى في المحصلة النهائية إلى أن التجربة العلمانوية العربية، أنتجت وبزخم جديد كل الصراعات والنزاعات الداخلية، والتي جاءت كوصفة نهائية لعلاجها وإسقاط موجبات بقائها.
لهذا كله وفي سياق البحث في إشكالية الديني والسياسي في المجال الإسلامي، نتساءل: كيف نحرر الديني من تغوّل السياسي عبر مؤسسته الكبرى (الدولة) في التجربة العربية - الإسلامية؟.
نحاول الإجابة على هذا السؤال المحوري، ضمن محورين أساسيين وهما:
1- الاقتراب المنهجي من التجربة النبوية في تأسيس الدولة، وكيف أن هذه التجربة لم تفض إلى تغوّل الديني في بناء الدولة، وإنما تم بناء الدولة على أسس التعاقد والرضا الشعبي، مع الاحترام التام لقيم الإسلام العليا.
وحتى تكتمل الصورة، نعمل أيضا في هذا السياق، على بيان قيم الإسلام في السلطة أو للسلطة.
2- الانطلاق من فرضية أساسية لهذا البحث، وهي أن أحد طرق الخروج من تغوّل السياسي في التجربة العربية - الإسلامية هو غياب الدولة المدنية. وعليه فكلما اقتربنا على الصعيد السياسي والدستوري من حقائق الدولة المدنية ابتعدنا بذات القدر من الهيمنة الشاملة للسياسي.
دولة الرسول في المدينة المنورة
لقد تكونت النواة الأولى للدولة الإسلامية في العهد النبوي، عند إنجاز بيعة العقبة الثانية بين النبي (ص) ووفد الأوس والخزرج إلى موسم الحج في مكة. وقد تمت هذه البيعة قبل أشهر من هجرة النبي (ص) إلى المدينة. وقد كان مضمون هذه البيعة تعاقدا على تأسيس سلطة سياسية بما لهذه الكلمة من معنى مألوف، تحكم مجتمعا سياسيا ملتزما. وقد أقامت هذه السلطة السياسية على أساس الإسلام نظاما للحياة والمجتمع. فكانت بيعة العقبة الأولى تمثل الأساس الأيدلوجي - العقدي للبيعة الثانية، والمدخل إلى تكوين قاعدة أولية للإسلام في يثرب، تولى مبعوث النبي (ص) (مصعب بن عمير) مع المبايعين إعدادها. ومثلت بيعة العقبة الثانية، التعبير السياسي - التنظيمي لهذا المضمون. وقد شكل النبي (ص) أدوات هذه السلطة الوليدة في هذه المرحلة الأولية من تشكيل الدولة بنصب النقباء الإثني عشر (ثلاثة من الأوس وتسعة من الخزرج) على الأوس والخزرج. وقد تم اختيارهم من قبل الأوس والخزرج أنفسهم في العقبة الثانية. ولم يفرضهم النبي (ص) مع قدرته على ذلك، واستعداد القبيلتين لقبول ذلك منه (ص). وقد ولدت هذه الدولة، بوصول النبي (ص) إلى المدينة المنورة.
وقد قام الرسول (ص) في الأيام الأولى لوصوله المدينة بالخطوات التالية:
1- بناء المسجد وجعله محور ونقطة انطلاق للمجتمع الجديد. وبدأ الرسول (ص) من منبر المسجد يعرفهم الدين ويعمق في نفوسهم مفاهيم الإسلام.
2- المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار: كانت يثرب تعيش الفرقة والنزاعات المتلاحقة التي تقضي على جميع مقومات المجتمع الواحد. وكان الرابح الأكبر من هذه الأجواء يهود المدينة. ومع مجيء الرسول (ص) أعلن المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين. وكانت لهذه المؤاخاة انعكاساتها العميقة على البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمجتمع المديني.
3- تشريع الأذان والإقامة: ولقد جاء في سيرة ابن هشام أن رسول الله (ص) حينما قدم المدينة ورأى اليهود فيها يستعملون بوقا للإعلام عند حضور الوقت المعين لاجتماعاتهم وعباداتهم، عندما رأى ذلك فكر أن يستعمل البوق لإعلام المسلمين بأوقات الصلاة، وأشار عليه بعضهم باستعمال الناقوس لهذه الغاية. وظل المسلمون يتداولون الأمر بينهم، فبعضهم كان يرجح بوق اليهود والبعض الآخر يرجح ناقوس النصارى، وبعد ذلك نزل الأذان على رسول الله وعلمه عبد الله بن زيد بن ثعلبة وأمر بلالا فتعلمها وأذن لهما، لأنه كان أحسن المسلمين صوتا.
4- إصدار الوثيقة (صحيفة المدينة) والتي تنظم العلاقة بين المسلمين واليهود، باعتبارهم يشكلون مجتمعا سياسيا واحدا متنوعا في انتمائه الديني. ولقد كان من الممكن لهذه التجربة الحضارية الإنسانية الفريدة من نوعها أن تستمر وتنمو لولا أن اليهود -الذين تمتعوا بها- أفسدوها وقضوا عليها. لقد استغلوا وضعهم المميز داخل المجتمع الإسلامي فحاربوا النبي (ص) والدعوة الإسلامية بالأراجيف والأكاذيب في أوساط المشركين والمنافقين، ثم دخلوا في مؤامرات تحالفوا فيها مع المشركين على حرب النبي والمسلمين. وأدى ذلك إلى انهيار صيغة المجتمع المتنوع التي كونها النبي (ص). ولكن انهيار هذه التجربة بإفساد اليهود لها، لا يعني إنهاء مشروعيتها في الإسلام، فإن الصيغة بقيت تتمتع بالشرعية الكاملة في الفقه الإسلامي، ويمكن تطبيقها في كل مجتمع سياسي-إسلامي.
5- تحويل القبلة إلى جهة الكعبة المشرفة، وإعادة تسمية عاصمة الدولة من يثرب إلى المدينة المنورة. وكوّن الرسول (ص) الجهاز الإداري لتسيير شؤون الناس، وعين العمال والممثلين الشخصيين له في المناطق البعيدة عن المدينة (مكة - الطائف - صنعاء - حضرموت) وغيرها. وإذا غاب عن المدينة، عين خليفة له عليها، ينوب عنه. وعين الجباة وعمال الصدقات، وعين مسئولين عن إبل الصدقة، واهتم بسلامة الخيل المعدة للجهاد وحمى لها الحمى (المراعي الخاصة). وأخذ خمس الغنائم الذي هو ضريبة الدولة على غنائم الحرب والأموال المصادرة من الأعداء المحاربين. وتولى النبي (ص) مسؤولية القضاء بين الناس في جميع ما كانوا فيه يختلفون من شؤون عائلية، ومالية، وجرائم قتل واعتداء، ونفذ العقوبات والتعزيرات والحدود في المجرمين.
وفي سياق الدفاع عن المجتمع والدولة، قسم الرسول (ص) مجتمع المدينة إلى عرافات، وجعل على كل عشرة عريفا، وعين القادة وأمراء السرايا. وأولى عناية خاصة بمسألة توفير السلاح الذي تملكه الدولة، فكان يشتري السلاح، ويستعيره، ويستأجره.
وعمل (ص) على إيجاد مجتمع الكفاية والعدل، وخصص جزءا من الأموال العامة للإنفاق على الأيتام والمعوزين والعاجزين عن العمل. ووضع النبي (ص) أسس العلاقات الخارجية مع الأقوام والدول الأخرى، وأوفد السفراء إلى الدول الأجنبية وعقد المعاهدات والاتفاقيات. وبهذه الأنشطة والمنظومة تشكلت الدولة على أساس الإسلام، وتنظمت شؤون الفرد والأسرة والجماعة والمجتمع على هدى التشريع الإسلامي.
قيم الإسلام في السلطة
إن السلطة في المنظور الإسلامي، ليست سلطة مطلقة يمارسها الحاكم كما يشاء، وإنما هي سلطة مقيدة بضوابط الشرع ورضا الأمة. لذلك فإن «المسؤولية السياسية العامة تقع أصلاً على عاتق الأمة كافة، لأنها هي صاحبة المصلحة الحقيقية بمقتضى توجيه الخطاب الإلهي إليها، بتحقيق ما وعدها الله تعالى من الاستخلاف في الأرض، التمكين لها فيها بالنص القرآني الصريح، ولا جرم أن المسؤولية العامة تقتضي التكليف العام وهو إنقاذ التشريع كله، إذ لا مسؤولية حيث لا تكليف، ولا تكليف حيث لا سلطة تمكن المكلفين من الأداء، وهذه هي السيادة الممنوحة للأمة شرعاً، لتدبير شؤونها كافة، والوفاء بالتزامات هذا التمكين لها في الأرض، الذي يعني قيام الدولة تمكيناً قائماً أصلاً على عقيدة الاستخلاف بالنص الصريح القاطع» (1).
وبهذا تتكامل المسؤولية الإدارية والقيادية بين القمة والقاعدة في إطار السلطة الإسلامية. بحيث أن كل طرف يتحمل مسؤوليته ويلتزم بواجبه في سبيل تحقيق عناصر المشروع الإسلامي الحضاري في الواقع الخارجي.
ويشير إلى هذه المسألة أحد المفكرين بقوله: «أما في الإسلام فالشعب إنما يتولاها (السيادة) على الأرض بعهد الخلافة من الله وبشرط الخضوع لله، وتحقق دواعي ذلك الإيمان الجزاءات المترتبة عليه في الدنيا والآخرة. فسلطة الشعب المستمدة من سلطان الله بعهد الخلافة المشروط سلطة الشعب وفقاً على الالتزام بالشريعة» (2).
وبهذا يمكننا أن نقرر أن مصدر السيادة في السلطة الإسلامية أمران:
أ) سيادة التشريع عقائد وفضائل ومقاصد.
ب) سيادة الشعب لتوقف مشروعية القيادة والولاية العامة على من يلتزم بشرائع الإسلام وقيمه ومبادئه وتأييد الشعب له.
ومن هنا نجد أن آية الاستخلاف (النور 55) لم يتوجه الخطاب فيها لقمة الدولة أو السلطة مثلاً، وإنما توجه خطاب الآية المباركة إلى الأمة كافة، مما يفيد أن مسؤولية العمل الصالح (بمعناه العام) ليست خاصة بالقائد أو الرمز فقط وإنما لعموم الأمة الإسلامية إذ يقول تعالى {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون}.
وعلى هذا فإن جميع قيم الإسلام والحكم لا يمكن أن يتحققا في الواقع الخارجي بدون المأسسة. وبالتالي فإن ممارسة الحاكم للسلطة في المجتمع مرهون بقدراته على أن يكون عادلاً في ممارستها، وأن لا يبدأ إلى الإجبار إلا في الحالات الضرورية التي نص عليها الإسلام. وهذا كله لا يتأتى إلا بتحويل السلطة من حالة فردية إلى واقع مؤسساتي في المجتمع.
التقدم الإنساني:
بما أن المجتمع الإنساني، يتحرك دائماً باتجاه التطور والمأسسة، لذلك ينبغي أن يطال هذا التطور البنيان السلطوي في المجتمع؛ إذ لا يعقل أن أكبر مؤسسة في المجتمع تبقى تدار بعقلية فردية شخصية في زمن تتعاظم فيه دور المؤسسات والأطر الاجتماعية وتختفي فيه تدريجياً كل الأعمال الفردية لصالح الأعمال المجتمعية.
لذلك فإن التقدم الإنساني، يفرض علينا أن نطور من الكيفية التي ندير من خلالها أنفسنا ومجتمعنا. والانتقال من الطريقة الأولية في الإدارة التي تعتمد على الفرد في كل شيء، إلى طريقة عمل المؤسسة بحيث تمتزج الآراء وتتكاتف الجهود وتصقل المواهب ويتأكد التعاون وتخلد قضايانا بخلود المؤسسة ولكن السؤال الذي يطرح في هذا المجال هو: كيف نحوّل السلطة من حالة فردية إلى واقع مؤسساتي؟
مجتمعية السلطة:
بمعنى أن تأسيس السلطة السياسية في الإسلام لا يتم من الخارج وإنما هي تنبثق من المجتمع الإسلامي ذاته، أي أن معيار الدخول في الحكم السياسي هو قدرة المرء على خدمة مجتمعه وتطويره وتقديمه، لا على ضغوطات خارجية أو توازنات سياسية وإنما وفق ارتباط الإنسان بمجتمعه، ومدى امتلاكه للمؤهلات التي تسمح له أن يباشر عملية الخدمة الرسالية من موقع السلطة السياسية للناس والأمة.
وقد نقل التاريخ أن ابن مؤذن رسول الله (ص) دخل على الخليفة عمر بن عبد العزيز فوجد حاجباً بالباب فاستأذن منه فأذن له الخليفة ورحب به وقال له عظني، فقال حدثني أبي بلال أنه سمع رسول الله (ص) يقول " من ولي شيئاً من أمور المسلمين ثم حجب عليه حجب الله عنه يوم القيامة. فنادى حاجبه وقال له: الزم بيتك. ثم قال ابن بلال بن رباح لا شيء أضيع للمملكة وأهلك للرعية من شدة الحجّاب على الوالي ولا أهيب للمسئولين وللعمال من سهولة الحجّاب لأن المسئولين إذا وثقوا بسهولة الحجاب أحجموا عن الظلم ".
ولذلك وبما أن السلطة جاءت وتشكلت من أجل خدمة الناس والمجتمع وتنسيق أعماله ونشاطاتهم.. لذلك فهي مطالبة أن تكون على علاقة مباشرة بالناس بحيث أن تكون القاعدة الاجتماعية للسلطة واسعة لكي تستوعب كل المجتمع أو أغلبه.
وهذه الاجتماعية التي ينبغي أن تتوفر للسلطة، هي الوعاء الأول الذي يمكن أن ننطلق منه لتحقيق واقع المأسسة في السلطة، لأن حاجات ومتطلبات المجتمع عديدة وكثيرة ولا يمكن أن يستوعبها المرء بمفرده لذلك ومن واقع المجتمع ومتطلباته وعلاقاته بالسلطة نبدأ عملية التطوير والمأسسة.
تركيز قيمة الحرية في نظام السلطة:
الحرية في الإسلام ليست مفهوماً سياسياً وإنما هي جزء من المنظومة القيمية الإسلامية، وتشمل جميع أبعاد وحقوق الحياة البشرية الفردية والجمعية معاً.. ولهذا فإن الحرية الإسلامية مفهوم إنساني وسياسي واجتماعي واقتصادي شامل، بحيث أن قيم الحرية وأشكالها ينبغي أن تتحقق في كل الحقول وعلى مختلف المستويات والصعد.
وعند التحقيق في الكثير من القيم والمبادئ الإسلامية نجد أنها ترتد إلى مقصد الحرية التي جاء التشريع الإسلامي من أجل المحافظة عليها ومنع عوامل وأسباب الاعتداء عليها.. ولهذا نرى أن «القرآن الكريم صريح الدلالة على اعتبار إزهاق النفس الإنسانية دون وجه حق، بمثابة قتل الناس جميعاً وأن إحياءها - وهذا هو اللازم العقلي للحكم الأول جاء به صريحاً تأكيداً له - في حكم إحياء الناس كافة، قال تعالى {من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً}.
وفي هذا إيماء بوجوب التكافل الإنساني للعمل على استئصال شأفة هذه الجريمة النكراء من المجتمع البشري كله، لأنها - في حكم هذا التشريع - تشكل تهديداً خطيراً لوجوده، وتحدياً لمشاعره وتقويضاً لأمنه، واستقراره، وهو ما يتنافى مع رسالة الإسلام في الإصلاح العالمي» (3).
وعلى هذا وحتى يتحقق تطلع المأسسة لا بد من تكريس قيم الحرية في السلطة وممارساتها المختلفة.
ومن هنا فإن «أزمة الشورى أو الديمقراطية في مجتمعات المسلمين لن تعالج بأشكال دستورية تضفي على نظام السلطان، إلا يؤصل الأمر ويؤسس على أصل الدين المضيع، وبالإسلام تصبح السلطة خلافة مسئولة في الأرض تحتلها الجماعة ولا تكلها إلى أفراد أو فئة، وبالإسلام تكون الشورى نظام حياة شاملاً لا ممارسة سياسة محدودة.. فالأسرة تقوم على التراضي والتشاور والتكافل لا على الاستبداد، فيتربى فيها الفرد والداً ومولوداً على المشاركة لا على الاستئثار، والتجارة تنعقد عن تراض وتعادل لا عن استغلال وتظالم، والعلم والرأي كله متاح مباح لا يكتم العلم ولا يحتكر ولا يحجر الاجتهاد ولا يقصر على الأفذاذ.
هكذا شؤون الحياة جميعاً تقوم على أصول من حرية الكسب ومن وصله بنظام الكسب العام مع الآخرين، وهذا التوازن أو التوحيد بين الحرية والنظام أو الحقوق والواجبات هو دعامة نهج الشورى وهو ضمانة الدولة الرشيدة التي تستمد من الرعية ولا تستبد دونها ولا تكبتها» (4). وهكذا نحقق عملية المأسسة المطلوبة على صعيد السلطة والمجتمع.
وهذا كله يقودنا إلى القول:
إننا مطالبون جميعاً للعمل على توفير الأرضية المناسبة، والمحيط الملائم للانتقال في كل دوائر عملنا ونشاطاتنا المختلفة، من العمل الأحادي الفردي، إلى العمل الجماعي والمؤسساتي، وصولاً إلى السلطة السياسية في مجتمعاتنا الإسلامية التي ينبغي أن تكون سلطة ذات قاعدة مؤسساتية بحيث أن تحقق قيم الإسلام في واقع ممارستها وحركتها الداخلية والخارجية.
وتستوعب القوى الاجتماعية والسياسية التي تشكلت في المجتمع.. وبهذه الطريقة نقيم سلطة سياسية منسجمة مع الإرث الحضاري والقيمي لأمتنا، ومتناغمة مع متطلبات العصر وضروراته.
الإسلام والمدينة:
هناك علاقة وثيقة بين المدينة والإسلام، إذ ارتبط الإسلام منذ انطلاقته الأولى بالمدن وحواضر الجزيرة العربية، وتأكد هذه الارتباط مع هجرة الرسول (ص) إلى يثرب التي سارع رسول الله إلى تسميتها بالمدينة. فعلاقة الإسلام بالمدينة والحواضر علاقة حميمة، إذ أن مجـموع قيمه ومبادئه تدفع نحو الإقامة والاستقرار النفسي والاجتماعي. وقد قال تعـالى [الـذين أمنوا وتطـمئن قلـوبهم بـذكر الله ألا بـذكر الله تطمـئن القلوب ] (5).
ومن المؤكد أن الإقامة والاستقرار الذي يوفرهما الدين الإسلامي، من الشروط الضرورية لتأسيس المـدينة وفق قواعد ومتطلبات تزيد من فعالية الناس وحيويتهم الحضارية.
والمدينة أو الحاضرة لم يجعلها الإسلام بلا قانون وترتيب إداري يساهم في تنظيم شؤون المدينة من جميع النواحي، وإنما عمل على تنظيم شؤون المدينة، ودفع باتجاه الحشد واستكمال الجماعة، وحارب كل النوازع التي تحول دون استقرار المدينة وتطورها النفسي والاجتماعي والحضاري. ويبقى خيار الإسلام الأول انطلاقا من رؤيته وخبرته وعلاقته بالمدينة والحواضر، أنه يسعى إلى تمدين الريف وغرس القيم المدنية والحضارية في محيطه وأجوائه. عكس الخيار المتبع عند الكثير من المدارس والأنظمة اليوم، التي فرضت خياراتها ومشروعاتها الاقتصادية والإدارية والاجتماعية ترييف المدن والحواضر، وذلك عبر المجتمعات الهامشية وأحزمة البؤس ومجتمعات الصفيح التي تشكلت في ضواحي المدن.
فالخيارات الاقتصادية والتنموية المتبعة، هي التي أرغمت أبناء الريف والقرى إلى الهجرة القسرية إلى المدن والحواضر بحثا عن لقمة العيش.
والإسلام هنا لم يلغ نظام الطاعة الطبيعي، إلى الأسرة، العشيرة، القبيلة، وإنما جعل طاعتهم في سياق طاعة الشريعة والالتزام بقيمها ومبادئها. ولقد جاء في الحديث الشريف (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق).
فالإسلام أسس مفهوم الطاعة على أسس جديدة، ومعايير متعالية عن معايير التراب، فالطاعة أضحت مع الإسلام إلى الشريعة وليس إلى أي معيار آخر. ولا شك أن طاعة الشريعة والالتزام بقيمها وترتيب المواقف والخيارات وفق هديها، هو من الشروط الأساسية للاستقرار السياسي والحضاري، وخلق المجتمع المدني - الأهلي في المجالين العربي والإسلامي.
والطاعة وفق هذا المنظور، هي التي تصهر التمايزات أو تجعلها في سياق الوحدة والبناء والانفتاح والتسامح، بدل أن تكون وسيلة وسببا للانكفاء والانعزال والتفتت والانخراط في مشروعات تجزيئية، تزيد من ضعف الأمة على المستويين السياسي والحضاري.
وفي التاريخ العربي والإسلامي، نرى نموذج الحالة المدنية في فعاليات المدينة الإسلامية، والدينامية الاجتماعية التي عبرت عن نفسها بأشكال من التوازن بين التدخل السلطاني، الذي يتمثل في مؤسسات الوالي والقاضي والمحتسب وصاحب الشرطة، وبين الحاجات الاجتماعية (المدنية) التي عبرت عن نفسها بإبتداع أشكال من المؤسسات التي تقوم بممارسة دورها في هذا الصدد. "فالنشاط المديني الذي تركز بشكل أساسي في الإنتاج الحرفي والتجارة انتظم في (الأصناف)، وهذه الأخيرة هي تنظيمات اجتماعية تراتبية متماسكة، كـل تنظيم فيها يُعبر عن أهل حرفـه من الحرف. والمـلاحظ أن التنظيم (الصنف) الذي يدعوه البعض الطائفة، يعتمد تراتبية أهل الصوفية ابتداءً مـن المبتدئ (المريد) إلى الصانع، إلى المعلم، إلى شيخ الحرفة، إلى شيخ السوق. وبين كل مرتبة تقوم أعراف وطقوس وأخلاقيات وتقنيات تعبر بدورها عن التفاوت الحاصل بين كــل مرتبة ومرتبة في المعـرفة والقيـمة، أي وفقـا لـدرجات تحصيل أو معرفة (سر المهنة) الذي أضفى عليه الطابع القدسي-الديني " (6).
فالروح والتراتبية المعنوية، اللتان يبثهما النشاط المديني تشكلان نقطة الانطلاق والتطوير للمسألة المدنية في المجالين العربي والإسلامي.
إذ أن تراث العرب والمسلمين التاريخي في هذا الإطار، ثري، ومتوفر وذو مضمون عميق على مستوى التجربة التاريخية، والخبرة التي أوجدها في النسيج المجتمعي. وذلك لأن التحولات القسرية أو الفجائية، يصحبها تمزق اجتماعي رهيب، لا يجعلها منتظمة في سياق متكامل، وإنما يحولها وكأنها جزيرة معزولة عن المحيط العام.
الإسلام والدولة المدنية
حين البحث التاريخي في التجربة الإسلامية التاريخية، نكتشف أن الدين الإسلامي بكل قيمه وتشريعاته، لم يحدد شكلا محددا للدولة والسلطة، وإنما حدد مجموعة من القيم والمبادئ الدستورية والسياسية ينبغي أن تسود وتتحكم في مؤسسة الدولة بصرف النظر عن شكلها ومسماها. فالدولة ضرورة من ضرورات الاجتماع الإنساني، إذ تتحمل مسؤوليات ومهام كبرى في مسيرة المجتمع، ولكن الإسلام لم يحدد شكلا خاصا للدولة. ولعل في إشارة الإمام علي بن أبي طالب إلى أنه [لا بد للناس من أمير بر أو فاجر] تأكيد على هذه الحقيقة التاريخية والإنسانية. " فقد تعامل الإمام علي مع الدولة كضرورة، أما منشأ ضرورتها فهو الانتظام والنظام العام، الأمن والفيء، أي الإنسان والعمران، بما يقتضي ذلك من إطلاق حرية التملك المضبوطة بالشريعة، حتى لا تتفاقم الفوارق الطبقية، ويستولي الجور على الأغلبية الساحقة من الناس، فتعم الفوضى، ويخرج الجياع شاهرين على الناس سيوفهم ونعود إلى المأثور (سلطان غشوم خير من فتنة تدوم).
إذن فالدولة ضرورة اجتماع، يقتضيها الاجتماع ويبنيها، لا تبنيه، وإن كانت بعد أن يبنيها تعود لتسهم في إعادة بنائه وتجديده، يجددها ويتجدد بها، وتجدده وتتجدد به. والضرورة في قواعد السلوك إنما تقدر بظروفها ومقاديرها، فإذا كانت الظروف متغيرة، أي تغيّر وعي الاجتماع لذاته وعلائقه، وتغير وعي الفرد لموقعه في المجتمع ومسؤولياته وحقوقه وواجباته، وتبعا لذلك تغيرت الأدوار، فلا بد أن تتغير الدولة شكلا، وأداءً، ودورا، ومصدر شرعية، وآليات تحقيق، طبقا للتغيرات الحاصلة في بنيان المجتمع " (7).
فالمهم في مؤسسة الدولة، ليس شكلها، وإنما القيم الأساسية التي تحتضنها، والمبادئ الأساسية التي تعمل على تنفيذها وتحقيقها في الواقع الخارجي.
فالمطلوب دينيا أن تلتزم مؤسسة الدولة بقيم ومبادئ ووظائف، وشكل الدولة ومسمياتها المتعددة، هي خاضعة لظروف الزمان والمكان وتحولات المرحلة، وما هو الإطار الأنسب للوفاء بتلك القيم والمبادئ الأساسية. فـ "لا وصفة دينية ملزمة للدولة، وطالما أن شأن الدين، بما هو معرفة وسلوك وثقافة وقيم وعلائق وتقوى، هو أداء الدولة، أي عدالتها، وطالما أن العدالة من دون حرية هي جور آخر، فالمستبد العادل تلفيق بين مفهومين متناقضين لا يجتمعان أبدا ولا يرتفعان، أي إما مستبد وإما عادل، وطالما أن الحرية من دون عدالة ليست حرية، بل فوضى حاضنة لتوائم أو ضرائر من الاستبدادات المدمرة، فإن الديمقراطية لا بمعناها السياسي الصرف وحده، بل وبمدلولها الواسع، الذي يمتد إلى الشأن الاجتماعي والرعائي والتنموي الشامل، هي التي تجمع الحرية إلى العدالة في بنية مدنية، كمفهومين متشارطين تعريفا وتحقيقا، إلى حد دخول كل منهما في تعريف الآخر " (8).
مدنية الحقل السياسي:
فالجوهر أن تكون الدولة بكل مسئوليها ومؤسساتها، نتاج الحرية والشورى والعقد الاجتماعي المستند إلى حرية الاختيار ورضا الجماعة. فالدولة ليست خارجة عن قيم الإسلام الكبرى كالعدالة والحرية والمساواة، بل هي تجسيد لهما. وانحراف الدولة في مراحل مديدة من التجربة التاريخية الإسلامية عن هذه القيم، لا يشرع للدولة الاستبدادية، ولا يؤسس للنموذج السلطاني الذي لا صلات حقيقية له بالاجتماع الإسلامي. بل على العكس تماما. حيث أن الانحراف التاريخي، يحملنا مسؤولية تاريخية باتجاه تظهير قيم الإسلام الأساسية في السياسية والحكم، وممارسة القطيعة المعرفية والسلوكية مع كل أشكال الاستئثار بالقرار والاستفراد بالحكم.
فالإسلام في كل تشريعاته وأحكامه، يستند إلى الرضا وحرية الاختيار، وليس من المعقول أن يبني نظامه السياسي بعيدا عن مقتضيات الحرية والشورى والعدالة. فكما أن العقود المالية والاقتصادية في الرؤية الإسلامية قائمة على رضا الطرفين، كذلك هو نظام الحكم. فهو يستند في شرعيته ومشروعيته على بعدين أساسيين وهما:
1- انسجام كل الممارسات والخطوات مع هدي الإسلام واختياراته الكبرى.
2- قبول الأمة وانتخابها للحكومة والنظام السياسي.
فالشرعية لا تتأسس فقط من جراء انسجام القائمين على المشروع مع الإسلام ورؤيته في الحكم والسياسة، وإنما من الضروري وذلك من أجل اكتمال نصاب الشرعية من أن الأمة بكل مكوناتها وشرائحها هي التي تختار وتنتخب بشكل حر شكل الحكومة ومشروع النظام السياسي.
فأنظمة الحكم التي تستند على الاستئثار والاستفراد والإكراه، ليست منسجمة وقيم الإسلام السياسية، حتى لو تجلببت بجلباب الإسلام. فلا يمكن أن يتأسس نظام حكم على الإكراه ونربطه بالإسلام. صحيح أن التجارب التاريخية للمسلمين، تثبت ذلك. بمعنى أن هناك أنظمة ادعت الإسلام والالتزام به، وأقامت نظامها وسلطانها على الاستبداد والإكراه. ولكن حين التأمل في قيم الإسلام وتشريعاته، نجد أن هذه القيم والتشريعات، تؤسس لرؤية سياسية مغايرة، رؤية سياسية للحكم والسياسة قائمة في كل أطوارها ومراحلها على الحرية والعدالة والشورى.
من هنا فإننا نستطيع القول: أن الدولة في الرؤية السياسية الإسلامية، ليست دولة الاستبداد والإكراه في كل مراحلها. في مرحلة التأسيس والبناء، وفي مرحلة الإدارة والتسيير، هي دولة المجتمع والأمة باختياراتها وتوجهاتها وقيمها. فلا شرعية لدولة أو لنظام حكم سياسي، لم يصل إلى سدة الحكم باختيار الأمة. فالأمة هي صانعة الحكم، وأي تجربة سياسية بعيدة عن هذا المعيار، فهي لا تنسجم بمقدار ذلك البعد مع قيم الإسلام في الحكم والسياسة. فـ "الفكر الإسلامي يؤسس مشروعه السياسي على الأسس الثلاثة التالية: فهو يغرس الشعور الحر في نفس الفرد بما يمنعه من الوقوع في هاوية العبودية، كما يزرع الشعور نفسه في نفس الحاكمين بما يمنع الوقوع في هاوية الاستعباد، ثم يأتي بعد ذلك دور المؤسسات السياسية والدستورية كنتيجة شكلية، لذلك الشعور، مع ما يستتبع ذلك من وسط ثقافي مستنير، ووسط اقتصادي متوازن" (9).
ومن خلال هذا الشعور الحساس، يتأسس الضمير الإسلامي الجماعي، الذي يدافع عن قيم الإسلام الكبرى، ويكون حارسا على تنفيذها ومراقبا مسئولا على النخبة السياسية وأداءها العام.
ومؤسسة الدولة وهي تمارس، وظائفها وأدوارها، فإنها تمارسها بوصفها مؤتمنة ووكيلة عن الأمة للقيام بها، وليس بوصفها ممثلة للحق الإلهي.
فالدولة حاجة اجتماعية وضرورة سياسية وحضارية، وكل وظائفها وأدوارها ومسؤولياتها، لا تخرج عن نطاق خدمة المجتمع والأمة من موقع المسؤولية والسلطة. والدولة أو السلطة تستمد مشروعية بقاءها واستمرارها من قدرتها على الوفاء بحاجات الناس وتطلعاتهم المتعددة. فهي معنية بأمن الناس الأمني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي، وأي تراجع عن هذه المسؤوليات، يضر بشرعية السلطة، وبمدى قبول الناس بها. فالأمة أو المجتمع هو الحاضن الأكبر لمؤسسة الدولة، لأنها إحدى مؤسساته التي أنيطت بها مسؤوليات محددة ووظائف معينة. وإذا لم تستطع القيام بهذه المسؤوليات والوظائف، فإن المجتمع وعبر وسائل ديمقراطية – سلمية يختار فريقا آخر أكثر تأهيلا وقدرة على تنفيذ تلك المسؤوليات.
و "على المعني بشأن السياسة في الدين، أن يوحد النظر إلى سياق البلاء عبر المراحل والانتقال. فسيرة المتدينين وغيرهم من البشر تتعاقب قرونا، قد يتصاعد الأوائل وعيا وتجددا ونهضة إذا استفزهم تحد أصابهم من أمة أرقى منهم أو قوّمهم بعد الضلال والجمود هدي تنزل عليهم من السماء، أو تذكروه بعد غفلة. وقد يخلف قرن يتم البناء بعد تأسيسه السالف ثم يعقب قرن عاطل لا يجتهد تعويلا على التراث المنقول ولا يجتهد توكلا على الفخر والكسب الموروث. وهكذا تتداول الأيام بالأمم. وهي سنة كان واقعها ظاهرا في تاريخ المسلمين، ولاسيما في سيرتهم، سكونا خاملا بعد حركة حية، وجبروتا مطلقا بعد شورى حرة، وشتات ذليل بعد وحدة عزيزة. وفي دراسة تلك السياقات المتداولة عبرة لتقدير عوامل الانحطاط عن المثال، ولتخطيط حركة جديدة نحو نهضة بعد وهدة، ولتدبير اتصال مراحل المستقبل تعاليا مستمرا ونزوعا دؤوبا نحو المثال لا تصيبه العلة المعهود من طروء العجز والخرف والتقادم عند الخالفين " (10).
فوعينا وإرادتنا الرشيدة، هي القادرة على إنهاء تأثير حقب الانحطاط السياسي والحضاري على واقعنا وراهننا. وإننا بمقدورنا من خلال الوعي والإرادة الجماعيتين، من وقف الانحدار وإنهاء مسلسل التراجع والاستبداد في الحقل السياسي لحياة المسلمين.
الإسلام ونظام الحكم:
لعلنا لا نأت بجديد حين القول: أن قيم الإسلام السياسية، لا تؤسس لنظام حكم ثيوقراطي، وإنما هي تدعو وتحث على تأسيس حكم منبثق من جسم الأمة، ويكون تعبيرا عن حاجاتها وتطلعاتها، ويمارس دوره ووظائفه بوصفها جهازا مدنيا، لا يمتلك إلا السلطة المخولة لهم من الأمة، وهي التي تراقب أداءهم، وهي التي تقرر استمرارهم أو إعفاءهم من هذه المسؤولية الكبرى. فالحكم وممارسته ليس غاية في ذاته، بل هو وسيلة لإنفاذ تشريعات السماء، وتوفير حاجات ومتطلبات الناس. إذ يقول تبارك وتعالى [ وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون] (11). وقال عز من قائل [ ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين * وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون * وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين * أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون * إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون] (12).
لهذا نجد أن الرسول الأكرم (ص)، لم يخرج عن نطاق البلاغ والتعليم والتزكية. وإن نظام السياسة والتدبير، لا يدار بالقهر والاستئثار والاستفراد والإكراه، بل بالحرية والشورى ومشاركة الجميع في صناعة حاضرهم وصياغة مستقبلهم.
فشرعية الحكم الحقيقية في أنه يحكم بالعدل والقسط بين الناس، وحين يخرج الحكم عن مقتضيات العدل والقسط في ممارسة الإدارة والحكم، تنتهي شرعيته، ويتحول إلى حكم مستبد وظالم. يقول تبارك وتعالى [سماعون للكذب أكّالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين] (13).
"فمن هدي الإسلام أن يؤسس الحكم على عقد مواطنة ونظام سلطان، وأن تسود للأفراد حرمات وحريات ومساواة أساسية كيفما اختلفوا أفذاذا وجماعات، وألا يتولى أحد السلطة العليا عنوة بل بخيار الرعية انتخابا حرا عدلا، وأن تكون قرارات الأمر العام الكبرى عن شورى بإجماع أو رأي غالب، وأن تتفاصل تناظيم السلطة وتتكامل وتتوازن وتتضابط تقاسما للسلطة لا احتكارا، وأن يكون الأصل في العلاقات الدولية السلام أو الدفاع عند العدوان، تلك أحكام إسلامية، كلها معروف مقبول في ميزان الإنسانية كافة مبادئ عليا لازمة لا سبيل في دولة للشذوذ عن بعضها من بعض الرعية، لاسيما أنها تؤسس على الحرية والشورى والعدالة وفيها بوح رأي للملل والطوائف، فإن تجمع أهل ملة في إقليم تباح لهم قسمة من السلطات كلها في سلطان الدولة " (14).
الدولة في الإسلام دينية أم مدنية:
إن التأمل في طبيعة الوظائف التي تقوم بها الدولة في الرؤية الإسلامية، يجعلنا نعتقد بشكل لا لبس فيه، أن الدولة في الإسلام هي دولة مدنية وليست ثيوقراطية. وأن المهام والوظائف الملقاة عليها وظائف مدنية. ولعل من الأخطاء الشائعة في الكثير من الدراسات والأبحاث السياسية التي تتعلق بفقه الدولة في المنظور الإسلامي، هو عملية الخلط التاريخي بين وظائف الرسول (ص) أو الإمام أو الخليفة ووظائف الدولة كمؤسسة جامعة وحاضنة لكل التعبيرات والمكونات.
فالرسول (ص) وهو على رأس الدولة في التجربة التاريخية، كان يقوم بوظائف وأدوار بوصفه رسولا ونبيا، وليس بوصفه رئيس الدولة. عملية الخلط على هذين الصعيدين، هو الذي أربك الرؤية تجاه مفهوم الدولة في التجربة التاريخية الإسلامية. وحتى تتضح رؤيتنا في هذا السياق، من الضروري أن نحدد وظائف الدولة كمؤسسة وهياكل إدارية بعيدا عن المهام والوظائف الدعوية والدينية والأخلاقية التي كان يقوم بها الرسول (ص) بوصفه رسولا ونبيا. "والقرآن لا يصف دولة، بل وصف مجتمعا. وإذا ما كان القرآن أفقه الفقه والفقيه، فلا يجوز للأخير أن يتخطاه، أي أنه ليس من شأنه أن يصف شكل الدولة ولا طريقة تشكلها، بل يصف عدلها وجورها فيحث على العدل ويحرض ضد الجور، حتى إذا ما بلغ الجور مستوى نوعيا، اندكّ الفقيه في الاجتماع وفي الطبقة السياسية المعترضة، ليعملوا معا على التغيير، على موجب العدل والعدالة والتقدم، والحرية شرط الشروط. وهنا يمارس الفقيه دوره في الصف الأول كفرد مواطن مدني. وفي الأساس الفلسفي للمسألة أن الاجتماع، بما هو متحدات ثقافية يدخل الدين في أساسها ثابت، بينما الدولة متغير، والمتغير محفوظ في الثابت منهجيا، كما أن الثابت محفوظ في المتغير، ولكن من دون مشروع محدد سلفا، لأن الدولة كضرورة اجتماع مفهوم متحرك تقدر بظروفها " (15).
إننا نعتقد أن وظائف الدولة (أية دولة) بعيدا عن مضمونها الأيدلوجي ورسالتها العقدية هي:
1- حفظ الثغور والحدود ومنع أية محاولة للتعدي والعدوان. وإن أي خلل على هذا الصعيد يعد تهاونا من مؤسسة الدولة.
فالأهداف الحقيقية والمطلوبة من مؤسسة الدولة، بصرف النظر عن أيدلوجيتها ومتبنياتها العقدية والفكرية، هي حفظ الأمن وتوفير الاستقرار والسلام وإقامة العدل وحفظ حقوق الأفراد وحرياتهم وضمان التقدم الاقتصادي، وتوفير الفرص للجميع بلا تمييز ومحاباة وحماية المستقبل للأجيال المقبلة. فصد العدوان بكل أشكاله، هو من المهام والوظائف الأساسية للدولة، وأي تقصير لها في هذا السياق تحاسب عليه.
2- حفظ المصالح العامة: فمؤسسة الدولة لا يمكنها تعميق شرعيتها في الفضاء الاجتماعي، بدون سعيها المتواصل لحفظ مصالح شعبها العامة. والدولة التي تفرط بمصالح شعبها تفقد شرعيتها الاجتماعية ولا تلتزم بوظائفها الرئيسية. فكل التصرفات والممارسات الداخلية والخارجية، التي تقوم بها الدولة ينبغي أن تكون في نطاق حفظ مصالح المجتمع المتعددة.
3- تحقيق العدالة: في المجتمع الإنساني حيث تتضارب الإرادات وتتعدد الميولات وتتراكم نزعات السيطرة والهيمنة، تكون من وظائف الدولة الكبرى تحقيق العدالة في المجتمع، سواء في الفرص التي تتيحها لشعبها، أو في توزيع الثروات والإمكانات، أو في مشروعات البناء والتنمية. فالدولة كمؤسسة معنية بإنجاز مفهوم العدالة في حياة مجتمعها.
"فبيان الأحكام الشرعية من شؤون الإفتاء وهي وظيفة الفقهاء، وليس للحكومة أن تمنع من توفرت فيه شرائط الإفتاء من بيان الأحكام الشرعية وتعليمها، وليس لها – أيضا – المنع من أن يرجع المواطنون إلى الفقهاء لأخذ الفتيا، وإن اختلفت الآراء الفقهية، ما لم تكن ثمة مصلحة تقتضي أن يكون الاجتهاد موحدا. كما في مجالات السياسية والاقتصاد والجهاد، فيكون الاجتهاد المتبع إما اجتهاد الحاكم إن كان مجتهدا، أو يختار اجتهادا من بين الاجتهادات، فيكون هو الملزم. لكن مع ذلك لا يمنع ذلك الفقهاء الآخرين من إبداء رأيهم المخالف، لأن توحيد الاجتهاد يقتصر على مجال العمل والتنفيذ.
وربما يختزن هذا الرأي – ضمنا- قدرا كبيرا من إعطاء حرية التعليم في الدولة الإسلامية، إذ في الوقت الذي لم يكن فيه الحق للدولة الإسلامية أن تحتكر التعليم الديني، فربما من الأولى عدم إعطاء الحق لها في احتكار التعليم غير الديني، ما لم يكن يتعارض مع النظام العام في الدولة الإسلامية، ولكن ذكر الشهيد الصدر في (فلسفتنا): إن الدين باعتباره يؤمن بقيادة معصومة مسددة من الله، فهو يوكل أمر تربية الإنسانية وتنمية الميول المعنوية فيها إلى هذه القيادة وفروعها. ولا نعرف ما إذا كان هذا يعني احتكار الحكومة التعليم. وكذلك القضاء، فليس من مهمات الحكومة بوصفها حكومة، لأنه لا يثبت للحاكم لمجرد كونه حاكما، بل يثبت لمن نصّت الشريعة عليه نصا خاصا، وهم الفقهاء. فإن كان الحاكم فقيها جاز له القضاء، ولكنه لا يمنع غيره من الفقهاء من القضاء، ما لم يكن ثمة مصلحة تقضي بتوحيد القضاء على اجتهاد معين، فمن كان من الفقهاء مصوبا لهذا الاجتهاد فهو يقضي وفقا له بلا إشكال، وإلا قضى بالوكالة عن المجتهد الذي يصوب أو يرتأي الاجتهاد المذكور" (16).
ويتضح من خلال الوظائف المذكورة أعلاه، أن وظيفة الدولة الأساسية وظيفة مدنية، تستهدف المساهمة في تأمين حاجات المجتمع الضرورية، والعمل على خلق فرص التقدم وأسباب التطور في المجتمع.
مكونات الدولة المدنية:
من البديهي القول: إن الدولة كمفهوم هو من المفاهيم الوضعية "والذي تبلور عبر إسهام أجيال متلاحقة من المفكرين والسياسيين. وقد وضعه البشر من أجل بناء جهاز ينظم حياتهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية" (17).
وبالتالي فإن الدولة في مفهومها ووظائفها ومهامها وهياكلها الإدارية والعملية، هي دولة مدنية. أي أن هناك قيم كبرى ومبادئ عليا في الدين الإسلامي، الدولة كجهاز معنية بهذه القيم. ولكن الكيفية التي تحقق بها الدولة هذه القيم، هي كيفية إنسانية مدنية. فكل الإبداعات والمبتكرات والمنجزات الإنسانية والحضارية، التي تفضي إلى الاقتراب والالتزام بمقتضيات هذه القيم هي محل احترام وتقدير.
وإن التفكير في النصوص الإسلامية السياسية، والتي تتعلق بشؤون الحكم والإدارة، وكذلك في التجربة الإسلامية النبوية، يجعلنا نعتقد وبشكل لا لبس فيه أن الدولة المدنية التي يرسي دعائمها ومكوناتها الإسلام، ليس ادعاءً، وإنما لها مكونات أساسية، هي التي تحدد صدق مقولة الدولة المدنية من عدمها. وهذه المكونات هي كالتالي:
1- التعاقد:
إن مفهوم الدولة في الرؤية والتجربة الإسلاميتين، هي دولة تعاقدية، وتنبثق هذه الإرادة التعاقدية من خلال جهد حر وواعي بين الحاكم ومكونات المجتمع الأخرى. فالدولة ليست دولة غلبة وإكراه وانقلاب عسكري أو إلغاء لموقع الناس ورضاهم من إدارة شؤون الدولة والسياسة. فالدولة في الرؤية الإسلامية الحضارية، وفي كل مراحلها، وفي كل مستوياتها ومؤسساتها، هي دولة تعاقدية، بحيث ينوب أهل الدولة ووفق انتخاب واختيار حر، عن المجتمع في إدارة شؤونه المختلفة. فالدولة ليست بديلا عن المجتمع والأمة، وإنما هي وعاء إرادته القانونية والسياسية، والفضاء السياسي الذي يدير الشؤون العامة للأمة.
لهذا يقول الإمام علي [ألا وإن لكم عندي أن لا أحتجز دونكم سرا إلا في حرب ولا أطوي دونكم أمرا إلا في حكم].
وبفعل الصيغة التعاقدية، تترتب حقوق ومسؤوليات كحق الشورى وحق الاختيار وحق المراقبة والمحاسبة ونصح القادة والاهتمام بالأمور العامة للمسلمين وما أشبه ذلك.
والحق السياسي هو الذي يهيئ للمواطنين جميعا المشاركة في اختيار الحاكم والطبقة السياسية الحاكمة ومراقبتهم ومحاسبتهم وتقويمهم وفقا لأنظمة الدستور ومواثيق العلاقة بين الحاكم والمحكومين، وذلك عن طريق إبداء الرأي وإعطاء المشورة للحاكم، إما مباشرة، أو عن طريق فرد آخر ينيبه عنه.
2- المشاركة:
لعل من الفروقات الأساسية والجوهرية بين الدول الشمولية والاستبدادية، والدول الديمقراطية والمدنية، هو أن الدول الشمولية مغلقة على فئة قليلة من الناس، هي التي تدير شؤونها وتتحكم في مسيرتها ومصيرها، بينما الدول الديمقراطية، هي دول مفتوحة لكل الطاقات والكفاءات للمساهمة في الإدارة والبناء.
لهذا فإن الدول الاستبدادية، تحارب مبدأ ومشروع المشاركة، وتلغي كل مضمونه الدستوري والسياسي. بينما الدول الديمقراطية تحض وتحث المواطنين على المزيد من الحضور والمشاركة في الشأن العام. والرؤية الإسلامية السياسية، تعتبر كل المواطنين معنيين بشكل أو بآخر بالشأن السياسي والعام، وتحث الجميع على تحمل المسؤولية والمشاركة في الشؤون السياسية والعامة. لهذا نجد الإمام علي بن أبي طالب يدعو الناس للمشاركة في الشؤون العامة. إذ يقول [فلا تكفوا عن مقالة بحق، أو مشورة بعدل، فإني لست في نفسي بفوق أن أخطئ، ولا آمن ذلك فعلي، إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به مني فإنما أنا وأنتم عبيد مملوكون لرب لا رب غيره، يملك منا ما لا نملك من أنفسنا].
ويعظم الدين الإسلامي من شأن إبداء الرأي وحرية التعبير، إذ جاء في الحديث الشريف [من قتل دون حقه فهو شهيد، ومن مات دون مظلمة فهو شهيد، ومن مات دون كلمة الحق فهو شهيد، وأفضل من ذلك كلمة حق عند إمام جائر].
ولا ريب أن تعميق خيار المشاركة الشعبية في الحياة السياسية ومؤسسات الدولة، هو الذي يحول دون تغوّلها وغطرستها وخروجها عن مقتضيات دورها الحضاري المأمول. فلا دولة مدنية ودستورية، بدون مشاركة الشعب على نحو دستوري وقانوني في شؤون الدولة والسياسة.
لهذا فإن من المكونات الأساسية للدولة المدنية، في كل التجارب السياسية، هو في مدى مساهمة ومشاركة المواطنين الحقيقية والفعلية في شؤون الحياة السياسية ومؤسسات الدولة المختلفة. ومبدأ المشاركة الشعبية في الحياة العامة، ليس شعارا يرفع، أو يافطة تعلق، وإنما هو حقائق مجتمعية ودستورية ومؤسسية، تكفل هذا الحق وتفسح المجال للجميع للمشاركة عبر أطر وأقنية دستورية. لذلك فإن شرط المشاركة الفعلية هو الحرية والديمقراطية. فلا مشاركة بدون ديمقراطية، ولا خيار ولا حياة ديمقراطية حقيقية في أي تجربة، بدون مشاركة شعبية – مؤسسية في الحياة العامة.
لذلك فإن "الحرية ليست هواما ليبراليا كما يتخيلها السذج من الحداثيين الحالمين بفراديس أرضية أو بديمقراطيات مثالية. هذه أكبر عملية خداع مارسها وما يزال المثقفون العرب والغربيون في ما يخص تحديث المجتمعات العربية وتطورها. ذلك إن الذي يمارس حريته هو الذي يجترح قدرته ويمارس سلطته وفاعليته، بما ينتجه من الحقائق أو يخلقه من الوقائع في حقل عمله أو في بيئته وعالمه. ومن لا سلطة له لا حرية له. لذا فالحرية عمل نقدي متواصل على الذات، يتغير به المرء عما هو عليه، بالكد والجهد، أو المراس والخبرة، أو السبق والتجاوز أو الصرف والتحول، مما يجعل إرادة الحرية مشروعا هو دوما قيد التحقق بقدر ما يشكل صيرورة متواصلة من البناء وإعادة البناء " (18).
3- المراقبة والمحاسبة:
لا يكفي لاستقامة الدولة والتزامها بالدستور، أن تكون منطلقاتها النظرية والأيدلوجية صحيحة. ومع أهمية المنطلقات وضرورة سلامتها وصوابيتها، إلا أنها بوحدها، لا يمكن أن تعصم الدولة أو المسئولين فيها من الخطأ والزلل والانحراف. لهذا فإن الأمر بحاجة إلى مراقبة مؤسسية وشعبية، وذلك لضمان سلامة المسيرة، والتزام كل المسئولين بالدستور ومقتضيات العدالة والمساواة.
والتعويل على الضوابط الأخلاقية والنوازع الدينية للمسئول فقط، لا يحول دون الانحراف السياسي والسلوكي. لذلك ومع كل الشروط والمتطلبات الدينية والأخلاقية التي ينبغي أن تتوفر في المسئولين، إلا أن مؤسسة الدولة بكل مستوياتها، بحاجة إلى جهاز رقابي مؤسسي وشعبي، يقوم بمراقبة الأداء وتقويم السياسات وتصحيح الاعوجاج، وتطوير الأعمال والممارسات.
لهذا نجد أن الإمام علي يطلب من الناس نصحه ومراقبته. إذ يقول [فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة، ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنوا بي استثقالا في حق قيل لي] (19).
فلا يمكن أن تبنى ديمقراطية، أو تسود قيم العدالة والمساواة في أي مجتمع، بدون مراقبة ومحاسبة ونقد للأداء والسياسات العامة. فالمحاسبة والرقابة الدستورية، هي بوابة التصحيح، وهي سبيل التطوير والتحديث. وحتى لا تكون هذه المسألة خاضعة للميولات والاعتبارات السياسية الضيقة، نحن بحاجة إلى مؤسسة رقابية مستقلة تقوم بدورها الرقابي والمحاسبي بمهنية تامة. ولقد أبدعت الأنظمة السياسية الديمقراطية الحديثة، الكثير من الأطر المحاسبية والرقابية، التي تضبط نزعات الدولة في التفرد والاستئثار، وتحول دون التلاعب بالثروات العامة. ولا أرى موانع دينية أو اجتماعية أو سياسية، تحول دون الاستفادة من هذه الإبداعات الإنسانية والحضارية، التي ساهمت بشكل كبير في تطوير أداء الدولة، وحدت من ظاهرة الفساد في مؤسساتها المختلفة.
والتوجيهات الدينية تحث على أخذ الحكمة بكل تجلياتها، من الإنسان بصرف النظر عن منابته الأيدلوجية والحضارية. ويشير إلى هذه المسألة المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين بقوله: "لنأخذ الإنجاز العلمي في الحضارة الغربية إنه ليس شرا وإن كنا نتحفظ على الخلفية الفلسفية لبعض العلوم الإنسانية أو النتائج الوظيفية لبعض العلوم الفيزيائية والبيولوجية. كالأبحاث الجينية التي تهدف إلى استنساخ البشر – أو الأبحاث الذرية الهادفة إلى أغراض التدمير – أو صناعة الأسلحة الجرثومية التي أنتجت اختلال البيئة وتلويث الطبيعة. إن إنجازات حضارية كبرى في الغرب ينبغي التعامل معها إيجابيا: الجانب التنظيمي والخدماتي في المدنية الغربية، الإنجازات الفنية والإبداعية كالموسيقى والأدب. يجب أن نتجنب الأحكام الإطلاقية، علينا أو عليهم أو على أية حضارة أخرى. الموقف الإطلاقي ليس موقفا قرآنيا. الموقف القرآني موقف نقدي وليس موقف إدانة. والموقف النقدي موقف انتقائي.
إن الله سبحانه وتعالى مدح الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. لم يقل يتبعون (حسنهم). يوجد سيئ ويوجد أسوأ. يوجد حسن ويوجد أحسن. والقول هنا هو القول المطلق، هو التعبير الشفهي والإنجاز العلمي، والممارسة والشكل التنظيمي. إننا نختار الشورى كفلسفة حكم، ونختار آليات الديمقراطية كأدوات وأجهزة ومؤسسات. إن الديمقراطية هي أحسن القول الغربي من الناحية التنظيمية للمجتمع ومن ناحية إدارة عملية تداول السلطة وانتقالها" (20).
فتطوير مؤسسة الدولة، وضبط نزعاتها في الهيمنة والإلغاء، بحاجة إلى تطوير العمل الرقابي في مؤسسة الدولة و في المجتمع. وبدون الرقابة الفعالة، ستعشعش الطفيليات وتنمو السلوكيات والممارسات المنحرفة. لهذا كله: فإن التحديث السياسي في مؤسسة الدولة، لا يتم مهما كانت الدوافع والشعارات، إلا ببناء مؤسسة رقابية، ترصد بدقة الواقع، وتحاسب بشكل قانوني كل من يتورط بالفساد بكل صوره وأشكاله. ولا بد أن نتذكر باستمرار " أن التنظيم الدنيوي أساس متين لاستقامة نظام الدين" (21).
4- التداول والانتقال السلمي للسلطة:
الانتخاب وحرية الاختيار من قبل أبناء الشعب، هو الطريق للوصول إلى سدة المسؤولية والحكم في الدولة المدنية. لذلك فإن التداول السلمي للسلطة والمسؤوليات العامة، من الأركان الأساسية للدولة المدنية. فالدولة التي تغيب فيها أطر وعمليات التداول السلمي للسلطة والمسؤوليات العامة، هي دولة شمولية، حتى لو ادعت الديمقراطية والانفتاح. لأنه لا يمكن أن تكون هناك ديمقراطية، بدون تداول سلمي للسلطة. فالمؤشر الحقيقي لديمقراطية أية دولة، هو في حقيقة التداول السياسي للحكم والسلطة. فالمسؤوليات السياسية للدولة بكل مستوياتها ودوائرها، ليست حكرا على فئة أو طبقة، وإنما هي مجال مفتوح لكل الطاقات والكفاءات الوطنية. والطريقة الوحيدة التي تحسم حالة التنافس بين الأفراد والمجموعات السياسية على هذا الصعيد هي صناديق الاقتراع. فكل القوى والتعبيرات السياسية في الأمة والمجتمع، لها الحق في إدارة شؤون المجتمع والوصول إلى الحكم.
والتنافس السياسي – السلمي والديمقراطي، هو الذي يثري الحياة السياسية والوطنية، وهو الذي يمد مؤسسة الدولة بالكثير من الطاقات والقدرات، القادرة على إثراء الواقع السياسي والاجتماعي. فانتقال السلطة وتداولها بوسائل سلمية – ديمقراطية، يضمن استقرارا وتطويرا في آن. مما يجعل مؤسسات الدولة فاعلة ودينامية وبعيدة عن كل أشكال الجمود والترهل والتوقف عن التطور والتقدم. فالدول التي تتجمد فيها النخب السياسية السائدة، وتتعامل مع مواقفها ومناصبها وكأنها من الحيازات والأملاك الشخصية، لا يفرقها عنها إلا الموت، فإن هذه الدول ستعاني الكثير على صعيد تراكم الأخطاء والمصالح الخاصة، التي تحول دون ممارسة العمل الإداري والسياسي بما ينسجم ومتطلبات العدالة وخدمة الصالح العام.
وفي المقابل فإن الدول التي تنتقل فيها السلطة بمنافسة سياسية – ديمقراطية، فإنها تعيش على نحو دائم الحيوية والفعالية، وتمنع تراكم قوى تعتني بمصالحها الخاصة والضيقة.
والتقدم نحو الحضارة والتطور الاقتصادي والاجتماعي، هو في حقيقته تقدم باتجاه إقامة دولة مدنية، تكون رافعة حقيقية باتجاه قيم وحقائق الحضارة. لذلك لم تبنى حضارة في ظل دولة مستبدة، متوحشة، معادية لحقوق الإنسان، ولا تلتزم بمقتضيات العدالة العامة. والعلاقة بين الحضارة والدولة المدنية، هي علاقة متداخلة ومتشابكة. فلا تبنى الدولة المدنية إلا بقيم حضارية، كما أن الدولة المدنية ومن خلال مفاعيلها وحقائقها المجتمعية، هي تعمق وتجذر قيم الحضارة في الفضاء الاجتماعي والسياسي.
وخلاصة القول: إن الإسلام في نصوصه التأسيسية وتوجيهاته العامة، لا يعارض ولا يناقض حقائق ومكونات الدولة المدنية. وغياب النموذج التاريخي على هذا الصعيد، لا يعني بأي شكل من الأشكال، معارضة النصوص والتوجيهات الإسلامية للالتزام بكل متطلبات بناء دولة مدنية في الاجتماع الإسلامي المعاصر.
خلاصات:
1- إن الكثير من الأزمات والمآزق التي يعانيها اليوم المجال الإسلامي بكل مستوياته، هي من جراء سيادة دولة الاستبداد والإكراه. ولا خيار أمام المسلمين، إذا أرادوا العزة والخروج من مآزق الراهن وأزماته، إلا بذل الجهد المتواصل، من أجل بناء الدولة المدنية، التي تتجاوز نمط الاستبداد في إدارة شؤون الحكم والسلطة، وتتعامل مع جميع المواطنين على حد سواء بصرف النظر عن أصولهم ومنابتهم وقناعاتهم.
إن الدولة المدنية اليوم، والتي تعتمد على قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، هي جسر العبور بالنسبة إلى العالم الإسلامي بأسره نحو الخروج والانعتاق من أزمات الحاضر، وصولا إلى صياغة وبناء مستقبل أفضل للعالم الإسلامي أكثر عدلا وحرية وتسامحا.
2- لا ريب أن بوابة الحد من تغوّل الدولة في التجربة العربية المعاصرة، هو تغيير وتطوير شروط الممارسة السياسية، وتوسيع دائرة النخبة السياسية، وتأسيس العملية السياسية على قواعد أكثر عدالة والتزاما بقيم الأمة وخصوصياتها الحضارية والثقافية، وفتح المجال لكل القوى والتعبيرات للمساهمة في حقل السياسة ضمن الضوابط الدستورية، ومدنية هذا الحقل، وديمقراطية أساليب العمل المتبعة فيه. وأية ممارسة تعسفية لإقصاء السياسة من المجتمع فإنها تؤدي في المحصلة الأخيرة إلى ضعف مؤسسة الدولة ومؤسسات المجتمع.
لهذا نجد أن الحكومات التي تقصي السياسة من مجتمعها وتحارب بمختلف الوسائل نمو الأطر السياسية المؤسسية، تتراجع قيم الحرية في واقعها، وتتضاءل إمكانية التضامن، وتتراجع القيم الضابطة للعمل العام، ويصاب العقد الوطني والاجتماعي بالخلل والانفراط. وهكذا يصبح صوغ مفهوم جديد للسياسة، هو أحد الشروط الأساسية للإصلاح في الواقعين العربي والإسلامي، وذلك لأن التنشئة السياسية السليمة وسيلة أساسية من وسائل توسيع قدرة المجتمعات العربية والإسلامية على تدعيم خيارات العقل والحرية في الممارسة السياسية سواء في مؤسسة الدولة، أو مؤسسات المجتمع السياسي.
3- الاجتماع السياسي الإسلامي التاريخي والمعاصر، تداخلت في كل مراحله وحقبه العناصر الدينية مع العناصر السياسية، بحيث تجد صعوبة كبرى في تفكيك هذا التداخل والارتباط. والمشاريع الفكرية والسياسية التي جاءت لفك الارتباط، لم تتمكن على المستوى الواقعي من ذلك، بل أضافت عناوين جديدة لطبيعة الاشتباك والالتباس بين الديني والسياسي في التجربة العربية المعاصرة. ويبدو لي أن المطلوب في السياق العربي، هو خلق العلاقة المتوازنة بين الديني والسياسي. بحيث لا يتسنى لأي طرف من إلغاء الآخر. والوصول إلى ذلك يتطلب إعادة صياغة العلاقة بين الحاملين المؤسسيين والبشريين لهذه الثنائية. وأقصد بذلك الدولة، لكونها التعبير المؤسسي الثابت للسياسي. والأمة أو المجتمع بوصفه الوعاء الواسع للديني بكل مؤسساته وتعبيراته.
فالمطلوب لخلق علاقة متوازنة بين الديني والسياسي في الحياة السياسية العربية المعاصرة، هو خلق تسوية تاريخية بين الدولة والمجتمع في السياق العربي – الإسلامي. فالتعبير المؤسسي للديني والسياسي في التجارب العربية والإسلامية، يتأثر بالظروف السياسية والمصالح الاجتماعية والثقافات والقوميات. لذلك فهو يقدم مناهج متعددة وخطابات متباينة وفقا للمراحل التاريخية وسياقاتها السياسية والاجتماعية. لهذا فإن عملية الفصل المطلق بين الديني والسياسي، هي عملية نظرية مجردة، لا تصمد أمام حركية الواقع وجدلياته المتعددة.
كما أن الدمج الكلي بين الديني والسياسي، يفضي على الصعيد الواقعي إلى سيادة مفهوم الحق الإلهي – القروسطي، الذي يلتهم كل الإبداعات الإنسانية، ويؤسس لديكتاتورية دينية وسياسية. ويبقى خيار التوازن، والذي لا يساوي الرتابة والجمود، وإنما يتجه لخلق التسوية التاريخية بين أبرز عناوين الديني والسياسي في التجربة العربية – الإسلامية، أي الدولة مع المجتمع والأمة.
اضف تعليق