على النقيض من موجات الارتحال المصري ذات الدوافع السياسية في المرحلة الممتدة من خمسينيات إلى سبعينيات القرن العشرين، تضم الدفعة الراهنة من المغادرين كوكبة متنوّعة جداً من الأشخاص ذوي الهويات والدوافع والوجهات المختلفة والتجارب المختلفة في المنفى. وفي حين أنه يصعب الحصول على بيانات محدّدة...
بقلم: ميشيل دنّ/عمرو حمزاوي
يواجه المنفيون المصريون صعوبات جمّة في عيشهم في الخارج ومحاولة العودة إلى وطنهم. وفي ظل القمع المستمر للحكومة، يجدون أنفسهم أمام خيارات مؤلمة تتعلق بمستقبلهم.
يهاجر المصريون، منذ عقود من الزمن، إلى الخارج بحثاً عن عمل، إنما تحدث تغريبةٌ من نوع آخر منذ العام 2011: فقد غادر عشرات الآلاف البلاد لأسباب سياسية. فبعضهم هجر البلاد انطلاقاً من انطباع عام بأن المناخ السياسي بات محفوفاً بأخطار شديدة تتهدّدهم، وبعضهم الآخر ارتحل مدفوعاً بمخاوف محدّدة بسبب صدور أحكام قضائية بحقهم في المحاكم أو ملاحقتهم قضائياً أو خسارتهم وظائفهم أو تعرضهم للتشويه في وسائل الإعلام أو للتهديدات المباشرة على خلفية نشاطهم السياسي أو الصحافي أو المدني. وخلال الاضطرابات التي شهدتها مرحلة الانفتاح السياسي الوجيز في مصر بين 2011-2013، قيل لمعارِضي صعود الإسلاميين بالدارجة المصرية "لو مش عاجبكم، روحوا لكندا ولا أمريكا" – ثم بعد الانقلاب العسكري في العام 2013، قيل للإسلاميين "لو مش عاجبكم، روحوا لقطر ولا تركيا".1
وعلى النقيض من موجات الارتحال المصري ذات الدوافع السياسية في المرحلة الممتدة من خمسينيات إلى سبعينيات القرن العشرين، تضم الدفعة الراهنة من المغادرين كوكبة متنوّعة جداً من الأشخاص ذوي الهويات والدوافع والوجهات المختلفة والتجارب المختلفة في المنفى. وفي حين أنه يصعب الحصول على بيانات محدّدة، يبدو أن المرتحلين المصريين بعد العام 2011 هم، عموماً، أكثر عدداً وأصغر سناً وذوو كفاءات علمية أعلى بالمقارنة مع المرتحلين في السابق.2 وأحد الأسباب خلف أعداد المرتحلين وتنوّعهم هو أن أعداداً أكبر من الفئات تُواجه خطراً جدّياً في مصر اليوم مقارنةً بالسابق، وتشمل هذه الفئات المواطنين الأقباط كما المنتمين لجماعات الإسلام السياسي، والليبراليين كما اليساريين، والفنانين كما رجال الأعمال، والمفكّرين المرموقين كما النشطاء المشاكسين. أما في الماضي، واجهت فئات أقل اضطهاداً سياسياً أو اجتماعياً في مختلف المراحل.
وفقاً للسرديات المتداوَلة، شهدت مصر ثلاث موجات متداخلة من الارتحال منذ العام 2011: أعداد صغيرة من رجال الأعمال الموالين لمبارك وأعداد أكبر من المسيحيين الذين غادروا اعتباراً من العام 2011؛ وأعداد كبيرة من الإخوان المسلمين وسواهم من الإسلاميين الذين بدأوا بالارتحال منذ منتصف العام 2013؛ وأعداد أقل من العلمانيين (المفكّرين والنشطاء) الذين هاجروا البلاد مع تصاعد حملة القمع ضدهم بدءاً من العام 2014.
تطرح دراسة ارتحال المصريين إلى المنافي، تحدّيات لأسباب كثيرة؛ فعدد كبير من المرتحلين يخشى على سلامته ولا يكشف عن نفسه، وبالتالي لا يتم احتسابه في عداد المرتحلين، في حين أن الحكومة المصرية، من جهتها، تسعى إلى التعتيم على واقع أن عدداً كبيراً نسبيا من مواطني البلاد يسجل رفضه للأوضاع السياسية والاجتماعية عبر الارتحال. فالبيانات المتوفرة، وبعضها بيانات للحكومة المصرية، تدلل على أن آلاف المصريين الناشطين وذوي الكفاءات العلمية العالية يعيشون في المنافي السياسي وأن أنشطتهم لا سيما في مجالَي الإعلام والدفاع عن حقوق الإنسان تقلق الحكومة المصرية بسبب تأثيرها المحتمل على الرأي العام الداخلي وكذلك على التوجهات الدولية.
من غادر منذ 2011 ولماذا؟
فرضت استقالة الرئيس الأسبق مبارك في 11 فبراير 2011 على بعض رجالات نظامه الارتحال إما إلى الدول الغربية أو إلى دول خليجية كالإمارات العربية المتحدة والسعودية والبحرين التي لم ترض عن التنحي وفتحت أبوابها لوزراء ومسؤولين سابقين. وتباينت دوافع هؤلاء لمغادرة مصر بين استباق قيود توقعوها على حرية حركتهم (المنع من السفر) وبين خشية الملاحقة القضائية والسياسية في أجواء غير مستقرة (يوسف بطرس غالي ورشيد محمد رشيد كنموذجين).
بين 2011 و2013، أي في سنوات التجربة الديمقراطية التي شهدت صعودا لجماعات الإسلام السياسي خاصة الإخوان المسلمين والسلفيين، بحثت أعداد متزايدة من المصريين الأقباط ميسوري ومتوسطي الحال عن سبل للهجرة إلى أمريكا الشمالية وأوروبا وأستراليا خوفا من تداعيات سيطرة الإسلاميين على الحكم. فقد كانت التيارات السلفية، وفي مقدمتها جماعة الدعوة السلفية وحزب النور، قد صدرت خطابا تمييزيا ضد الأقباط وأنكرت عليهم حقوق المواطنة المتساوية ووظفت حضورها في الهيئات الدستورية والتشريعية للضغط باتجاه تديين الدولة والسياسة والفضاء العام. كذلك أضافت الهجمات الطائفية المتكررة (حادثة كنيسة أطفيح وكنائس امبابة في 2011 والهجمات الطائفية في محافظات الصعيد في 2012 و2013) إلى مخاوف الأقباط ودفعت ومعها التدهور العام في الأوضاع الأمنية والاقتصادية بعضهم إلى تقديم طلبات الهجرة والإقامة واللجوء إلى الغرب (كان لأحد كاتبي هذه الدراسة حوار في 2013 مع السفير الألماني في القاهرة والذي أكد أن طلبات الحصول على إقامة ولجوء في جمهورية ألمانيا الاتحادية من قبل المصريين الأقباط قد تضاعفت 3 مرات بين 2011 و2013).
ولم يكن خوف الأقباط بغير المبرر، بل رتبه امتناع جماعة الإخوان المسلمين، وهي شكلت الكتلة الأكبر في الهيئات الدستورية (الهيئات التي أنيط بها إما تعديل الدستور المصري أو وضع دستور جديد) والمجالس التشريعية وأوصلت مرشحها في الانتخابات الرئاسية إلى سدة الحكم (محمد مرسي)، عن تبني خطاب سياسي وممارسات سياسية صريحة الالتزام بحقوق المواطنة المتساوية بين المصريين المسلمين والأقباط (في الهيئات الدستورية والمجالس التشريعية رفض الإخوان مرارا إقرار ضمانات لحقوق المواطنين الأقباط السياسية والمدنية، وبينما واظب الرئيس الأسبق محمد مرسي على أداء الصلوات في المساجد لم يزر كنيسة واحدة إن مهنئا بالأعياد أو معزيا في ضحايا بين صيف 2012 وصيف 2013).
المنفيين بعد 2013
انتزعت المؤسسة العسكرية السيطرة على حكم البلاد وأطاحت بعد مظاهرات شعبية بالرئيس الأسبق محمد مرسي ودفعت به ومعه قيادات الصف الأول من جماعة الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة (أسسه الإخوان في 2011) إلى السجون. وفي 14 أغسطس 2013، فضت السلطات المصرية اعتصامات الإخوان وأنصارهم بقوة مفرطة أسفرت عن مقتل أكثر من 800 مواطنة ومواطن (كانت الاعتصامات في ميداني رابعة العدوية في القاهرة والنهضة في الجيزة، وسقط العدد الأكبر من الضحايا في رابعة).
وتبع تدخل المؤسسة العسكرية في السياسة وفض السلطات العنيف للاعتصامات تنفيذ إجراءات قمعية وعقابية واسعة النطاق بحق الإخوان وأنصارهم الذين وجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها مسلوبي الحرية ومواجهين بملاحقات قضائية. بعض أعضاء جماعة الإخوان المسلمين شارك في أعمال عنف والبعض الآخر لم يشارك، غير أن الحكومة المصرية أعلنت في ديسمبر 2013 جماعة الإخوان المسلمين منظمة إرهابية واعتبر الانتماء إليها وحتى الدعم لها مخالفة تستوجب السجن. ولم تكن ممارسات القمع والعقاب والملاحقة وفي أجواء استقطاب مجتمعي حاد غير أن تسبب موجة ارتحال كاسحة بين أعضاء جماعة الإخوان من الصف الثاني وما تلاه وبين بعض المتعاطفين مع الجماعة من الكهول ومتوسطي العمر والشباب.
تنوعت الخلفيات الاقتصادية والاجتماعية لمرتحلي الإخوان وتفاوتت انتماءاتهم العمرية، وتنوعت أيضا وجهاتهم بين قطر وتركيا والسودان ومنافي أمريكا الشمالية وأوروبا وآسيا، وكانت موجتهم بين 2013 واليوم هي الأكثر كثافة عددية والأكثر تنوعا في هوية المرتحلين.
أما السلفيون، مجددا جماعة الدعوة السلفية وحزب النور، فقد انقلبوا على تحالفاتهم السابقة مع الإخوان والتحقوا بركب مبرري انقلاب 2013 ومؤيدي صعود وزير الدفاع الأسبق ورئيس الجمهورية الحالي عبد الفتاح السيسي وصاروا من المعتاشين على السلطوية الجديدة التي أنهت تجربة التحول الديمقراطي بين 2011 و2013. أما بعض السلفيين من غير المنتمين للدعوة السلفية أو حزب النور فقد انسحبوا من المشهد السياسي، بينما انتهى الحال بالبعض الآخر إلى التعرض لسلب الحرية ودفع بهم إلى خلف أسوار السجون لدعمهم حركه الإخوان المسلمين في الاعتصامات والمظاهرات المعارضة للحكم الجديد.
بين 2013 و2015، لم تكتف السلطة الجديدة وحكامها العسكريون والأمنيون بقمع وعقاب وملاحقة الإخوان وأنصارهم. تعقبوا أيضا النشطاء من الشباب الذين طالبوا بالديمقراطية قبل وبعد ثورة يناير 2011، وألقوا بهم وراء أسوار السجون موظفين قوانين وتعديلات قانونية مررت على عجل لتهجير المواطن بعيدا عن الفضاء العام (قانون التظاهر 2013 نموذجا). كما أن النفر الصغير من الكتاب والمثقفين الليبراليين واليساريين الذين عارضوا الانقلاب وأدانوا الفض العنيف للاعتصامات والانتهاكات المتراكمة الأخرى لحقوق الإنسان لم يسلم من تعقب وتشويه الحكام العسكريين والأمنيين، وألفوا أنفسهم إما في مواجهة محاكمات صورية أو أمام إجراءات بمنع السفر والمحاربة في الرزق أو خليط من هذا وذاك. كذلك استهدف الحكم الجديد من أيد في بداية الأمر الانقلاب العسكري في 2013 ثم شرع في انتقاد الممارسات القمعية.
وبذلك أضيفت مجموعات جديدة لموجة هجرة ما بعد 2013، فقد طرق نشطاء شباب وكتاب ومثقفون وفنانون وإعلاميون أبواب المنافي الغربية واستقبلت عواصم أوروبية كلندن وبرلين وأيضا بلدان مثل كندا والولايات المتحدة الأمريكية غالبيتهم وتوزع آخرون في كل جهات الأرض.تواصلت الضغوط الحكومية على منظمات المجتمع المدني وخاصة منظمات حقوق الإنسان، ودفع ذلك بعض النشطاء المصريين إلى التقدم بطلبات للتدخل العاجل من اجل الحماية لدى العديد من المنظمات الأوروبية والأمريكية.
وفضلا عن المطالبين بالديمقراطية ممن نجوا من التعقب، غادر مصر أيضا شباب ومتوسطو العمر من ميسوري الحال اقتصاديا واجتماعيا طلبا للدراسة أو العمل في أمريكا الشمالية وأوروبا.
الهجرة الحالية بالمقارنة مع موجات الهجرة السابقة
موجات عديدة سابقة لارتحال المصريين إلى المنافي بسبب السياسة، تتسم موجة الارتحال الراهنة والتي بدأت في أعقاب ثورة 25 يناير 2011 بالتنوع الكبير في هوية الملتحقين بها ودوافعهم والمنافي التي يتجهون إليها.
قبل نهاية الحكم الملكي في البلاد وجلاء القوات البريطانية في خمسينيات القرن العشرين، لم تسجل هجرات واسعة النطاق بغية الابتعاد عن قمع السلطات أو تعقب المستعمر. اقتصر الأمر إما على نفي زعماء الحركة الوطنية إلى الخارج أو على طرقهم هم أبواب أوروبا لكسب شيء من التعاطف الدولي مع "المسألة المصرية" (أي المطالبة باستقلال البلاد). على سبيل المثال، نفي أحمد عرابي في نهايات القرن التاسع عشر وبعد أن قاد حراكا وطنيا ضد المستعمر البريطاني إلى سرنديب (سيريلانكا الحالية)، وفي بدايات القرن العشرين عاش مصطفى كامل ومحمد فريد سنوات في المنافي الأوروبية للدعوة للاستقلال. وفي 1919، نفت السلطات الاستعمارية البريطانية إلى جزيرة مالطة سعد زغلول والزعماء الآخرين الذين طالبوا بحق تقرير المصير وأشعلوا ثورة 1919 وأرادوا تمثيل البلاد في مؤتمر فرساي للقوى المنتصرة في الحرب العالمية الأولى (1914-1918).
وبعد إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية وجلاء القوات البريطانية وسيطرة الجيش على الحكم، بدأت موجات ارتحال المصريين لأسباب سياسية. فضلا عن مغادرة أميرات وأمراء الأسرة الملكية للبلاد، شهدت الخمسينيات رحيل الأغلبية الساحقة من المواطنين اليهود الذين صاروا ضحايا للصراع العربي-الإسرائيلي وللحروب التي بدأت في 1947 ثم تكررت في 1956. ولم يفرق الحكام الجدد للبلاد بين النفر القليل من اليهود المصريين الذي تعاطف مع الحركة الصهيونية وأيد تأسيس إسرائيل وبين الأغلبية الساحقة التي كانت مصر وطنها الذي أرادت العيش به ولم ترغب في مغادرته ولم تذهب بعد تهجيرها إلى إسرائيل، بل استقر بها المقام في المنافي الأوروبية والأمريكية الشمالية. ومع شروع الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر (1954-1970) في تطبيق سياسات التمصير والتأميم وإجراءات اشتراكية أخرى، غادرت مصر عائلات صناعية وتجارية كبيرة وبعض كبار ملاك الأراضي الزراعية بعد أن وضعت ممتلكاتهم تحت الحراسة (السيطرة الحكومية) أو نزعت منهم وصارت ملكية عامة. وكانت المنافي الأوروبية والأمريكية هي أيضا وجهة أغنياء مصر المرتحلين. الإضافة لكل ذلك بعثت الحكومة المصرية تحت حكم جمال عبد الناصر بير من المعلمين والقضاة والإداريين الى المحيط العربي للمساعدة في بناء مؤسسات الدولة في البلان العربية.
أما فيما خص موجة ارتحال قيادات وأعضاء جماعة الإخوان المسلمين والتي بدأت في النصف الثاني من الخمسينيات واستمرت حتى نهاية الستينيات. فقد أطلقت محاولة اغتيال جمال عبد الناصر في 1954 والتي تورطت بها جماعة الإخوان المسلمين موجة من القمع الحكومي ضد الجماعة. ثم كان أن دفع القمع الرسمي للإخوان، وهما ترجما إلى عمليات واسعة لسلب الحرية والإبقاء لسنوات وراء أسوار السجون وفي بعض الحالات الإعدام، دفع القيادات والأعضاء الذين لم تطلهم يد الأجهزة الأمنية والاستخباراتية إلى مغادرة البلاد باتجاه دول الجوار العربي ومنها السعودية والكويت وذهب قليل منهم إلى بلدان أوروبية.
وبجانب هجرة الإخوان في الخمسينيات والستينيات، ارتحل أيضا لأسباب القمع والتعقب الكثير من كوادر الشيوعيين المصريين الذين عاداهم الحكام العسكريون ولم يتركوا لهم مجالا للعمل العام لا في الحركات العمالية والنقابية التي خضعت للسيطرة الحكومية ولا في الأحزاب السياسية التي حلت وألغي وجودها. ارتحل الشيوعيون المصريون إلى وجهات متعددة، من لبنان في الشرق الأوسط والجزائر في شمال إفريقيا (بداية من الستينيات) إلى الاتحاد السوفييتي السابق ودول الكتلة الاشتراكية السابقة وبعض المنافي الأوروبية الغربية. في لبنان والجزائر وبريطانيا وفرنسا وسويسرا، على سبيل المثال، استقر نفر من الشيوعيين الذين كانوا إما يعملون في الصحافة أو يمتهنون الكتابة الأدبية. وفي الاتحاد السوفييتي السابق وألمانيا الشرقية السابقة وغيرهما من البلدان الاشتراكية آنذاك، استقر آخرون ممن كانت تخصصاتهم العلمية تراوح بين العلوم الاقتصادية وبين الدراسات الاجتماعية (كان لأحد كاتبي هذه الدراسة في تسعينيات القرن العشرين فرصة نادرة للتعرف على بعض الشيوعيين المصريين الذين استقروا في ألمانيا الشرقية وصاروا من مواطني ألمانيا الموحدة، وكان المشترك في قصص رحيلهم بعيدا عن مصر هو القمع الناصري وتعقب أجهزة الدولة للشيوعيين طوال عقدي الخمسينيات والستينيات).
ومع وفاة جمال عبد الناصر وارتقاء أنور السادات إلى سدة السلطة في 1970، توالت موجات ارتحال المصريين غير أن هوية المنتمين إليها تغيرت. بين 1970 و1973، حدثت أعمال طائفية ضد الأقباط (كان أشدها وقعا أحداث الخانكة في 1972) وتزايدت من جراءها أعداد الأقباط الذين طرقوا أبواب المنافي.
بعد 1973، شرع السادات في تغيير وجهة السياسات الاقتصادية والاجتماعية للبلاد متبنيا الليبرالية الاقتصادية ومنقلبا على التجربة الاشتراكية لسلفه عبد الناصر. وفي السياسة الخارجية، ابتعد السادات عن التحالف مع الاتحاد السوفييتي السابق والكتلة الاشتراكية السابقة وبحث عن سبل لإنجاز معاهدة سلام مع إسرائيل وصادق الولايات المتحدة الأمريكية لبناء علاقة تعاون استراتيجي معها. وللتخلص من إرث التجربة الاشتراكية والحد من نفوذ الناصريين ومجمل التيارات اليسارية، عزل السادات قيادات الناصريين واليسار من الكثير من المناصب الرسمية (كان بعضهم من شاغلي المناصب العليا قد عزل بالفعل فيما عرف "بثورة التصحيح" في 1971) وحاصر المثقفين والكتاب والصحفيين والفنانين ونشطاء الحركات الطلابية الذين عرفوا بالانتماء إلى اليسار ودأبوا على انتقاد سياسات السادات. وفي المقابل، سمحت الأجهزة الرسمية والأمنية لتيارات الإسلام السياسي بالعودة إلى الجامعات وساحات أخرى في الفضاء العام وحفزتها على مقارعة نفوذ الناصريين واليسار.
وترتب على ذلك نشوء ظاهرتين، هجرة ارتدادية لقيادات وعناصر جماعة الإخوان المسلمين الذين كانوا قد غادروا مصر في الخمسينيات والستينيات وموجة ارتحال واسعة بين الناصريين واليسار إلى المنافي العربية والأوروبية. ترك العديد من المثقفين والكتاب والصحفيين البلاد إلى الخليج والعراق ولبنان وليبيا حيث عملوا في وسائل إعلام حكومية وخاصة تبنى بعضها توجهات مضادة لسياسات السادات خاصة بعد زيارته للقدس في 1977 وشروعه في مفاوضات للسلام مع إسرائيل (اتفاقية كامب ديفيد في 1977 ومعاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية في 1979). وارتحل بعض المثقفين والكتاب والصحفيين اليساريين إلى بريطانيا وفرنسا وسويسرا، ونجحوا هناك إما في الالتحاق بالمشهد الصحفي والإعلامي العربي (الصحفي محمود السعدني وعمله في لندن مثالا) أو استكمال كتاباتهم الأدبية في بيئات حرة (الروائي بهاء طاهر ومنفاه السويسري نموذجا). وفي السبعينيات أيضا، هاجر الكثير من المصريين اقتصاديه بحثا عن فرص عمل في الخليج وليبيا وخاصة في حقول النفط.
اغتيال الرئيس الأسبق السادات في 1981 وتولي الرئيس الأسبق حسني مبارك الحكم (1981-2011)، هدأت تقلبات السياسات المصرية تدريجيا. لم تعاد حكومات الرئيس مبارك المتعاقبة الناصريين واليسار، بل رأت في تمكين أغلبيتهم من العودة بعد ارتحال فرصة لإظهار تميزها عن سياسات وممارسات السادات. عاد الكثير من الناصريين وأهل اليسار إلى مصر، وعاد بعضهم إلى المؤسسات الصحفية والإعلامية ذات الملكية العامة في بادرة حسن نية من الرئيس الأسبق مبارك. تواصلت أيضا في عقدي الثمانينيات والتسعينيات والسنوات الأخيرة في حكم الرئيس الأسبق مبارك عودة الإسلاميين من المنافي، خاصة مع اتساع دوائر مشاركة الإسلام السياسي في الحياة العامة من النقابات والمجتمع المدني والنشاط الاقتصادي إلى المنافسة في الانتخابات البرلمانية. بل أن الصراع المسلح التي تورطت به تيارات إسلامية متشددة (تنظيم الجهاد والجماعة الإسلامية) مع الأجهزة الرسمية والأمنية لم يرتب ارتحال أعضاء تلك التنظيمات ممن لم يسجنوا إلى خارج البلاد (اقتصر الأمر على حالات فردية، أبرزها أيمن الظواهري ونفر آخر من الجهاديين المصريين الذين أصبحوا من النافذين في تنظيم القاعدة الإرهابي). بين 1981 و2011، اقتصر ارتحال المصريين لأسباب سياسية على الأقباط الذين استمر بعضهم في الابتعاد عن البلاد بسبب أحداث العنف الطائفي والممارسات التمييزية ضد المجتمع القبطي (من أحداث الزاوية الحمراء في 1981 إلى تفجير كنيسة القديسين في 2011).
إلى أين غادر المرتحلون
البيانات المحدّدة عن أعداد المصريين الذين هاجروا، أو سعوا إلى الهجرة، وما هي البلدان التي قصدوها، قليلة جداً. غير أن الأدلة الكمّية والكيفية المتوفرة تدلل على زيادة كبيرة في أعداد المرتحلين منذ العام 2011، ولا سيما منذ العام 2013. يبدو عموماً أن المرتحلين المصريين ذوي الخلفيات المنتمية لجماعات الإسلام السياسي توجهوا نحو تركيا أو قطر إلى جانب وجهات عدة أخرى في آسيا وأفريقيا، في حين أن غير الإسلاميين يُبدون ميلاً أكبر للهجرة إلى أميركا الشمالية أو أوروبا بحثاً عن ملاذ. لكن هذا التمييز ليس مطلقاً، إذ يعيش مرتحلون ذوو ميول أيديولوجية متنوّعة في جميع هذه الأماكن.
وقد فاقت الزيادة في أعداد المصريين الذين تقدّموا بطلبات للحصول على تأشيرة هجرة إلى الولايات المتحدة، الضعف على امتداد سبع سنوات، فقد ارتفعت أعدادهم من 534375 في العام 2011 إلى 960279 في العام 2013، و1274751 في العام 2018 (ولم يحصل سوى عدد قليلٌ منهم على التأشيرة).3 تُظهر بيانات البنك الدولي أن 181677 مصرياً هاجروا إلى الولايات المتحدة في العام 2018، و171985 في العام 2017، بالمقارنة مع 132513 في العام 2010 (لا تتوافر بيانات عن العام 2011).4 وكان المرتحلون لدوافع سياسية، في الأغلب، مجرد مجموعة فرعية صغيرة من أولئك المهاجرين الذين غادر معظمهم لأسباب اقتصادية على الأرجح. إلا أن ذلك لا يدحض أن هذه الأرقام تُظهر أن المصريين يغادرون إلى الولايات المتحدة بأعداد أكبر من المعهود.
ومن البلدان الأخرى التي استقبلت، كما هو معلوم، أعداداً كبيرة نسبياً من المرتحلين المصريين، تركيا وقطر – حيث تتعاطف الحكومة في البلدَين مع الإخوان المسلمين – فضلاً عن السودان وكندا وألمانيا والمملكة المتحدة. فقد استضافت قطر، مثلاً، 166840 مهاجراً مصرياً في العام 2018، و143960 في العام 2013 مقارنةً بـ87727 في العام 2010 وفقاً للبنك الدولي – وذلك في مرحلةٍ تشهد عداوة علنية بين الحكومتَين القطرية والمصرية بالإضافة إلى الحصار السعودي/الإماراتي المفروض على قطر.
وقد أبدت تركيا ترحاباً شديداً بالمنفيين السياسيين، مع تعبير الرئيس أردوغان عن دعمه المستمر للرئيس المخلوع مرسي ومعارضته للرئيس الحالي السيسي. وأظهرت بيانات الحكومة المصرية للعام 2016 أن نحو 25800 مصري يعيشون في تركيا، وفي هذا الإطار، تُشير البيانات المتداوَلة إلى أن عدداً كبيراً منهم يتألف من مرتحلين سياسيين وأفراد عائلاتهم، فضلاً عن بعض العمّال.5 وفي هذا الصدد، يُنظَر إلى تركيا بأنها تؤمّن الحماية لعدد كبير من المصريين، لا سيما أعضاء جماعة الإخوان المسلمين والمتعاطفين معها، من التعقّب المحتمل.6
تَظهر، من حينٍ لآخر، معلومات تُشير إلى أن بعض المرتحلين المصريين يبحثون عن ملجأ في بلدان تقع بعيداً من الملاذات التي التجأوا إليها تقليدياً في الخليج وتركيا وأميركا الشمالية وأوروبا. فقد أعلنت وزارة العدل في كوريا الجنوبية، في تموز/يوليو 2018، عن تعليق العمل بالقرار الذي يُتيح للمصريين دخول البلاد من دون تأشيرة سفر، وذلك بسبب الأعداد الكبيرة من طلبات اللجوء التي تقدّم بها المصريون في العام 2017، والتي بلغت 3244 طلباً، لتأتي في المرتبة الثالثة بعد الطلبات المقدمة من الصين وباكستان. وقد أشار أحد المسؤولين الكوريين إلى أن "عدداً كبيراً منهم يدّعي أنه أُخضِع لمحاكمات جنائية بسبب أنشطته المناهضة للحكومة في إطار عضويته في جماعة الإخوان المسلمين".7
التأثيرات المباشرة وغير المباشرة على مصر
مما لا شك فيه أن موجة المرتحلين التي تشهدها مصر منذ العام 2011، ولا سيما منذ العام 2013، وهي الأكثر كثافة عددياً والأكثر تنوعاً في هوية المرتحلين، تمارس تأثيرها على الوطن الأم. فالمغتربون الذين غادروا مصر طلباً للعمل، على امتداد عقود من الزمن، أمّنوا دفقاً مطرداً من التحويلات المالية، كما أنهم جلبوا معهم نزعات ثقافية ودينية لدى عودتهم. غالباً ما يُلقي المصريون الذين يعترضون على صعود التوجهات المحافظة الدينية في مجتمعهم منذ سبعينيات القرن العشرين، يلقون بالملامة على أبناء وطنهم الذين سافروا مثلاً إلى السعودية أو قصدوها بداعي العمل، محمّلين إياهم مسؤولية جلب التأثيرات الوهّابية معهم إلى البلاد لدى عودتهم.8
لكن المصريين الذين توجّهوا خلال السنوات الماضية إلى المنافي ومكثوا فيها، يمارسون تأثيراً مختلفاً على البلاد بالمقارنة مع أولئك الذين يعملون في الخارج لفترات متنوعة ثم يتمكّنون من العودة إلى ديارهم بحرية. فالمصريون في المنافي يؤثّرون في وطنهم الأم بغيابهم تماماً كما يؤثرون به من خلال أنشطتهم بعيدا عنه.
التأثيرات غير المباشرة: تكاليف الغياب اقتصادياً واجتماعياً
في ما يتعلق بتأثير غيابهم، فإن هجرة الأدمغة تصبح مسألة تستحق التوقف عندها حين يُغادر هذا العدد الكبير من المفكّرين والنشطاء ورجال الأعمال والصحافيين البلاد في غضون سنوات معدودة. في الواقع، يصعب أن نُحدّد كمّياً التأثيرات التي يتكبّدها الاقتصاد المصري جراء ارتحال بضعة آلاف الأشخاص من أصل نحو 100 مليون نسمة. إنما يبدو أنه تترتب عن ذلك تكلفة ناجمة عن هدر الفرص، فالبلاد معرَّضة لخسارة مكاسب محتملة عندما يغادرها بعض مواطنيها الأكثر كفاءة بصورة دائمة أو شبه دائمة. في هذا الإطار، ورد في تقرير صادر عن البنك الدولي أن "العمّال ذوي الكفاءات العلمية العالية يولّدون تأثيرات إيجابية على المجتمع، وعندما يهاجرون إلى الخارج، تُفقَد هذه التأثيرات".9 وهكذا تتكبّد البلاد، من جملة أمور أخرى، خسائر على مستوى إنتاجية اليد العاملة، والمساهمات في الخدمات العامة الأساسية مثل التعليم والصحة، والإيرادات الضريبية - وفي جانبٍ ينطبق تماماً على هذه المجموعة من الأشخاص، تخسر البلاد "مساهمتهم في النقاش عن المسائل الاجتماعية المهمة وتأثيرها في السياسات والمؤسسات".
وغالباً ما يُشير المصريون أنفسهم إلى نجاحاتٍ باهرة حقّقها مغتربون من بلادهم في الخارج، والتي لم تكن لتتجسد على أرض الواقع لو أنهم مكثوا في مصر، وذلك بسبب القمع الاجتماعي أو السياسي. ومن الشخصيات الاغترابية التي برزت إلى الواجهة مؤخراً أحمد زويل، الحائز على جائزة نوبل للكيمياء، ومحمد البرادعي، الحائز على جائزة نوبل للسلام. وشكّل فوز الممثل الأميركي من أصل مصري، رامي مالك، بجائزة أوسكار في الحفل الأخير، مناسبةً لإطلاق الكثير من التعليقات في مصر والتي تصب في هذا الإطار؛ فقد قالت إحدى الشابات: "إذا سافرتُ يوماً ما إلى الخارج، قد أتمكّن من إنجاز شيء ما بنفسي، لأنني أُسحَق بشتى الوسائل هنا، وما زلتُ عاجزة عن رؤية بصيص نور".10
لقد غادر الأشخاص المذكورون آنفاً مصر قبل وقت طويل، غير أن قائمة المصريين الذين برزوا في مجالات متعددة والذين هاجروا من البلاد منذ العام 2013، طويلة أيضاً. يُشار إلى أن محمد البرادعي الذي عاد للإقامة في مصر في العام 2010 بعدما عاش لسنوات عدّة في الخارج، غادر البلاد من جديد في العام 2013 بُعيد فض اعتصامي رابعة والنهضة، متخلّياً عن منصبه بعدما كان قد عُيِّن نائباً للرئيس الانتقالي. ومن المصريين الذين قصدوا المنفى القسري أو الطوعي منذ العام 2013 شخصيات مرموقة من مؤرّخين وخبراء في العلوم السياسية وروائيين وكتّاب سيناريو وكوميديين ساخرين وممثّلين وصحافيين يعملون في الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب، ومدافعين عن حقوق الإنسان.11
وهؤلاء ليسوا سوى عيّنة صغيرة من آلاف المصريين الذين كانوا يُقدّمون مساهمات إيجابية للحياة العامة قبل العام 2013، لكنهم غادروا البلاد تاركين فراغاً ملحوظاً في الصحافة والخطاب السياسي والمجتمع المدني والفنون – وهي ميادين تواجه أيضاً تحدّيات شديدة بسبب القيود التي تُكبّل حرية التعبير عن الرأي داخل مصر، وأبرزها الملاحقات القضائية والتوقيفات.12 كذلك توجّهَ عددٌ كبير من روّاد الأعمال والعلماء إلى المنفى بسبب ارتباطاتهم الشخصية أو العائلية مع مجموعات معارِضة وما ترتّبَ عن ذلك من خطر تعرّضهم للتعقب والقمع في مصر بعد 2013. ويبدو أن السواد الأعظم من المرتحلين يتألف من مصريين في العشرينات والثلاثينات من العمر، والذين لم تطلق طاقاتهم بالكامل بعد. يقول كاتب السيناريو بلال فضل على سبيل المثال إن مصر كانت لتختلف كثيراً لو بقي الجميع فيها، مضيفاً: "لا أعتقد أنني سأستطيع التعبير عن خطورة تنامي ظاهرة هجرة العقول المصرية وخصوصاً الشابة منها".13
إلى جانب التأثيرات الاقتصادية، يصعب أن نحدّد تأثيرات الارتحال على المجتمع المصري، لكنها كبيرة. فقد اضطُرّ كثرٌ من المرتحلين إلى أن يتركوا وراءهم زوجات وأولاداً ووالدين وأفراداً آخرين من العائلة، ما يتسبب بمعاناة شخصية شديدة.
التأثير المباشر لأنشطة المرتحلين: الدفاع عن الحقوق، ووسائل الإعلام
تمارس أنشطة آلاف المصريين الذين يعيشون في المنفى السياسي تأثيراً في وطنهم الأم. ويتمثّل النشاطان الأبرز منذ العام 2013 في دفاع المرتحلين عن حقوق الإنسان، وفي وسائل الإعلام التي أنشأوها. وفي حين بُذِلت بعض المحاولات للتعبئة السياسية في المنفى، إلا أنها، وحتى كتابة هذه السطور، تتسم بالفشل بسبب الاستقطاب السياسي المستمر وغياب الثقة.
الدفاع عن الحقوق: توجّهَ عددٌ كبير من المدافعين عن حقوق الإنسان إلى المنفى قسراً بسبب تعقّبهم في اتهامات أو صدور أحكام قضائية بحقهم أو حتى تعرضهم لأخطار جسدية، وهذا ما دفع بهم إلى تعزيز جهودهم للدفاع عن حقوق الإنسان وممارسة ضغوط على الحكومة المصرية من الخارج. وفي هذا الإطار، يُشار إلى أن العديد من المنظمات الحقوقية التي لا تزال تعمل في مصر، تُزاول أيضاً نشاطها في المنفى (منها مثلاً مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان)، في حين أبصر عددٌ كبير من المجموعات الجديدة النور برئاسة مرتحلين (مثل مبادرة الحرية) 14 . وهذه المنظمات التي تعمل منفصلةً، أو مجتمعة في بعض الحالات – وكذلك مع مجموعات دولية مثل منظمة العفو الدولية، وهيومن رايتس ووتش، وفرونت لاين ديفندرز – تدأب على إصدار تقارير عن أوضاع حقوق الإنسان في مصر. كما أنها تُبقي وسائل الإعلام الدولية على اطلاع على المستجدات، وتتقدم بشهادات علنية أمام هيئات الأمم المتحدة مثل مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في جنيف. وقد انضوى عددٌ من هذه المجموعات في إطار المنتدى المصري لحقوق الإنسان الذي أعلن عنه في آذار/مارس 2019.
الإعلام: إلى جانب الدفاع عن الحقوق، المجال الأساسي الثاني لنشاط المرتحلين الموجَّه إلى مصر هو الإعلام. فقد أنشأوا، منذ العام 2013، عدداً من وسائل الإعلام والمواقع الإلكترونية الناطقة باللغة العربية، وقد اكتسب بعضها قاعدة جماهيرية معقولة داخل مصر وكذلك في بلدان الاغتراب. ومن أشهرها المحطتان التلفزيونيتان الفضائيتان "مكملين" و"الشرق" اللتان تبثّان من تركيا، والموقع الإخباري الإلكتروني "رصد"، وصفحة "الموقف المصري" على موقع فايسبوك. تمتلك ثلاثة منها روابط مباشرة مع جماعة الإخوان المسلمين المحظورة، في حين أن صفحة "الموقف المصري" على صلة بنشطاء شباب غير تابعين للإخوان المسلمين. وكذلك التحق عدد كبير من الصحافيين المصريين بالعمل في وسائل إعلام عربية في الدوحة أو لندن، مثل قناة "الجزيرة" و"التلفزيون العربي" المموّلَين من قطر.
قناة "الشرق" وقناة "مكملين" هما الباقيان الأكبر بين مجموعة من القنوات التلفزيونية الفضائية التي أنشأها مرتحلون منتمون إلى جماعة الإخوان المسلمين أو مقرَّبون منها غادروا البلاد منذ منتصف العام 2013. تبثّ المحطتان مضموناً شديد الانتقاد للحكومة المصرية، لا بل يتسم بديماغوغية واضحة في بعض الأحيان. يتولّى أيمن نور، السياسي العلماني والمرشح سابقاً للرئاسة الذي وقف إلى جانب الإخوان المسلمين ضد انقلاب 2013، رئاسة قناة "الشرق"، ومن البرامج الأكثر رواجاً التي تبثّها المحطة برنامج "مع معتز" الذي يُقدّمه الإعلامي معتز مطر ويروج لخطاب شبيه جداً بخطاب الإخوان المسلمين. وتحصل هاتان القناتان بصورة أساسية على التمويل من الإخوان وقطر.15
وفي حين لا تتوافر راهناً بيانات عن التصنيفات واستطلاعات الآراء، تُشير المعلومات المتاحة إلى أن قناتَي "مكملين" و"الشرق" (اللتين تبثّان عبر قمر صناعي أوروبي) تصلان إلى قاعدة جماهيرية معقولة داخل مصر. وقد أثارت البيانات الأحدث عهداً التي نُشِرت إلى العلن ضجة كبيرة في العام 2017، عندما أشارت شركة "إيبسوس" التي جمعت البيانات إلى أن قناة "مكمّلين" تحظى بنسبة المشاهدة الأعلى في البلاد. فقد أُرغِمت "إيبسوس" على إغلاق عملياتها في مصر في تموز/يونيو 2017 بعد مضي نحو عقد من الزمن على وجودها هناك، بسبب ما زُعِم عن ارتكابها انتهاكات لشروط الصحة والسلامة في مكان العمل.16
وفي العاصمة القطرية، الدوحة، سُجِّلت زيادةٌ في أعداد المرتحلين المصريين الذين يعملون في القنوات التلفزيونية والصحف الورقية والمواقع الإلكترونية القائمة، ومنها قناة "الجزيرة"، وصحيفة "الشرق"، "وعربي21"، وسواها. وقد قام صحافيون مصريون يعملون في قطر، وبينهم صحافيون غادروا مصر بعد إغلاق مكتب "الجزيرة مباشر" في القاهرة في العام 2013، بإنتاج أفلام وثائقية وبرامج تلفزيونية ومقالات صحافية استقطبت جمهوراً من المتابعين في مصر – مثالٌ على ذلك الوثائقي الذي عرضته قناة "الجزيرة" مؤخراً بعنوان "الساعات الأخيرة" عن أيام مرسي الأخيرة في السلطة. وفي لندن التي تُشكّل تقليدياً مركزاً لوسائل الإعلام العربية خارج الشرق الأوسط، تُرجِم الحضور الواسع للمرتحلين المصريين من خلال توافر مساحة إعلامية أكثر انفتاحاً للصحافيين والكتّاب والمفكّرين والسياسيين، ومن الأمثلة في هذا المجال "التلفزيون العربي" والصحيفة اليومية "العربي الجديد". تتلقّى هاتان الوسيلتان الإعلاميتان تمويلاً من الحكومة القطرية، في إطار الاستراتيجية القطرية القائمة على معارضة النظام المصري منذ العام 2013.
يُعتبَر التلفزيون الوسيلة الإعلامية الأوسع انتشاراً في مصر، غير أن المصادر الإخبارية المستندة إلى الإنترنت التي أنشأها المرتحلون تمتلك أيضاً قاعدة كبيرة من القرّاء، وأبرزها "شبكة رصد الإخبارية" و"الموقف المصري". انطلقت شبكة رصد داخل مصر بعيد انتفاضة 2011، لكنها تدير عملياتها الآن من المنفى. وهذه الشبكة التابعة لجماعة الإخوان المسلمين تعمل بمثابة وكالة أنباء مكتملة المواصفات، وتمتلك صفحةً على موقع فايسبوك يتابعها نحو 12 مليون شخص وقناة على موقع يوتيوب مع نحو مليون مشترك.
أما صفحة "الموقف المصري" على موقع فايسبوك فأنشأها نشطاء علمانيون شباب في المنفى، ويتابعها، حتى تاريخ كتابة هذه السطور، نحو مليون شخص. تنشر "الموقف" مقالات وتحديثات إخبارية، لكنها تشتهر على وجه الخصوص بعرض مقاطع فيديو يُعبّر فيها مواطنون مصريون – بعضهم معروفون إنما الأكثرية غير معروفة – عن آرائهم في الشؤون السياسية وغيرها من المواضيع التي تُعتبَر راهناً من المحظورات التي يُمنَع التطرق إليها داخل البلاد. وقد نشرت الصفحة عشرات تسجيلات الفيديو، مثلاً، لمصريين يعبّرون عن معارضتهم للتعديلات الدستورية المقترحة التي من شأنها أن تتيح للسيسي البقاء في السلطة حتى العام 2034. الإطلالة عبر هذه القنوات والتعبير عن الرأي عبر أثيرها أمرٌ محفوف بالمخاطر للمصريين؛ فقد أوقفت السلطات شخصَين على الأقل نشرا مقاطع فيديو معارِضة للتعديلات الدستورية عبر فايسبوك في شباط/فبراير 2019.17
السياسة: لم يُقدِم المرتحلون المصريون، حتى تاريخ كتابة هذه السطور، على تأسيس أي تنظيمات سياسية ذات شأن. أنشئ المجلس الثوري المصري في آب/أغسطس 2014 في اسطنبول، ويضم مرتحلين بينهم أكاديميون (مثلاً مها عزام، رئيسته) ومسؤولين سابقين (مثل القاضي وليد شرابي). في حين يقول المجلس عن نفسه إنه هيئة "تعمل على تجميع المواطنين و الحركات المصرية بالخارج، معاً، بغض النظر عن اختلاف اتجاهاتهم السياسية وانتماءاتهم الفكرية"، يمتلك هو في الحقيقة روابط قوية مع الإخوان المسلمين.18 يوجّه أعضاؤه رسائل مفتوحة أو يُطلّون تكراراً في الإعلام، إنما ليس للمجلس، على ما يبدو، عدد كبير من الأعضاء أو المتابعين عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
وهناك أيضاً منظمات يقتصر وجودها على بلدان معيّنة، مثل تحالف المصريين الأميركيين (تأسس في العام 2005)، الذي يتألف بصورة أساسية من مغتربين مضى وقتٌ طويل على وجودهم في الولايات المتحدة وليس من مرتحلين وصلوا حديثاً، لكنه لا يزال يأمل بالتأثير في أحوال مصر. كذلك هناك عدد من منظمات الأقباط المغتربين مثل منظمه التضامن القبطي وغيرها التي تعنى بشؤون الأقباط في الداخل والخارج. بيد أن الاستقطاب الأيديولوجي (خصوصاً بين الإٍسلاميين وغير الإسلاميين) الذي يُحكم قبضته على مصر، يؤثّر أيضاً، حتى تاريخه، في المرتحلين، ما يجعل من الصعب عليهم رصّ صفوفهم حول هدفٍ سياسي معيّن – وهذا الأمر بات أشد صعوبة بالمقارنة مع العام 2010، مثلاً، عندما حشدَ محمد البرادعي دعماً كبيراً من المغتربين للجمعية الوطنية للتغيير التي أسّسها.19
ردود الحكومة المصرية على الحراك في المنفى
لم يمارس المصريون في المنافي، عموماً، تأثيراً سياسياً كبيراً في الأعوام الأخيرة، إنما كان لدفاعهم عن الحقوق وأنشطتهم الإعلامية أثرٌ ووقع، أقلّه بالنظر إلى الإجراءات المضادّة التي اتخذتها الحكومة المصرية، والتي اشتملت على إنشاء هيئات جديدة لفرض السيطرة على المرتحلين أو التصدّي لنشاطهم، والملاحقات القانونية، وتعبئة المنظمات الموالية للنظام، والحملات الإعلامية التي تتعرّض لصدقية المرتحلين، وأشكال متعددة من المضايقات.
التدابير ضد الدفاع عن الحقوق
اتخذت الحكومة المصرية أنواعاً متعدّدة من التدابير لتعطيل جهود الدفاع عن حقوق الإنسان التي يبذلها المرتحلون والقضاء على فاعليتها، وذلك عبر إنشاء هيئة رسمية لدحض الانتقادات، وتدجين عدد قليل من منظمات المجتمع المدني لاستخدامها أداةً في يد الحكومة، وتعقُّب المصريين الذين يتحدثون أمام جمهور دولي عن حقوق الإنسان وتحويلهم عبرةً لمن يعتبر، وترهيب النشطاء في الخارج:
أنشأت الحكومة المصرية، في تشرين الثاني/نوفمبر 2018، اللجنة العليا الدائمة لحقوق الإنسان، ومهمتها تحديداً هي التصدّي للانتقادات الدولية. تضم اللجنة ممثّلين عن وزارة الخارجية والجيش ووزارة الداخلية وأجهزة الاستخبارات. وهي تُضاف إلى العديد من الهيئات الأخرى التي سبق أن أنشأتها الحكومة ومنحتها تفويضات مماثلة، وعلى رأسها المجلس القومي لحقوق الإنسان الذي تأسّس في العام 2004.20
عمدت الحكومة، تحت ستار جهود تنظيم العمل في مجال حقوق الإنسان وإبعاده عن التسييس، إلى ملاحقة مجموعات مستقلة تعمل في الخارج وتُوجِّه انتقادات إلى الانتهاكات في مصر، وذلك عبر مواظبة الإعلام المسيطر عليه أمنيا على نشر تقارير عن "قوائم سوداء" للمنظمات الحقوقية.21 وهذه التقارير، التي غالباً ما تحاول تشويه سمعة النشطاء البارزين عبر تصويرهم بالعملاء المأجورين لدى الدول الغربية أو الإخوان المسلمين أو قطر، شائعة إلى درجة كبيرة.22 كذلك لجأت السلطات المصرية إلى مضايقة المدافعين الحقوقيين بأساليب خارجة عن القانون، مثلاً في المؤتمرات التي تُعقَد في الخارج.23
اشتدّ التعقب الحكومي على وجه الخصوص في جنيف لدى انعقاد مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان. فقد جرى تدجين العديد من المنظمات المصرية التي تبدو مستقلة في الظاهر للدفاع عن سجل مصر في حقوق الإنسان، وتحويل الانتباه نحو بلدان أخرى.24 وخلال انعقاد دورة مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في شباط/فبراير-مارس/آذار 2019، انكبّت هذه المنظمات على تنظيم سلسلة من الأنشطة عن انتهاكات حقوق الإنسان في قطر وتركيا وعلى أيدي الحوثيين في اليمن – وجميعهم ليسوا على علاقة طيّبة بالدولة المصرية – فضلاً عن الصومال وإريتريا وإسرائيل. وبذلت جهوداً حثيثة أيضاً لتحويل الأنظار عن انتهاكات حقوق الإنسان في مصر، معتبرةً أن البلاد تمرّ بـ"مرحلة انتقالية"، وأن حقوق المواطنين بالصحة والسكن والبنى التحتية أهم بمراحل من المسائل "المسيّسة" التي تطرحها المجموعات المستقلة.25 كذلك خصّصت هذه المجموعات التابعة للحكومة قدراً كبيراً من الوقت في الدفاع عن نفسها ضد الاتهامات بأنها منظمات غير حكومية موجَّهة من الحكومة.26
كذلك كانت الحكومة المصرية قاسية في تعاملها مع المدافعين الحقوقيين الذين شاركوا في الحراك في الخارج. فقد أوقفت السلطات المحامي ابراهيم حجازي الذي شارك في تأسيس منظمة "أهالي المخفيين قسراً"، في أيلول/سبتمبر 2017 في مطار القاهرة أثناء توجّهه إلى جنيف للمشاركة في مجموعة العمل التابعة للأمم المتحدة المعنية بالاختفاء القسري أو غير الطوعي، ولا يزال، حتى كتابة هذه السطور، في الحجز السابق للمحاكمة.27 وأوقِف اسماعيل الإسكندراني، وهو باحث واختصاصي في شؤون سيناء عمل سابقاً مع المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، في تشرين الثاني/نوفمبر 2015، عندما حاول دخول الأراضي المصرية من جديد بعد سنوات عدّة أمضاها في الأبحاث وإلقاء المداخلات العامة في الولايات المتحدة وأوروبا. وقد بقي في الحجز السابق للمحاكمة لأكثر من عامَين، قبل أن تُدينه محكمة عسكرية بـ"نشر أنباء كاذبة" و"الانضمام إلى منظمة محظورة"، وتحكم عليه بالسجن عشر سنوات.28
التدابير ضد وسائل الإعلام والصحافيين
لا تتوانى الحكومة المصرية عن بذل جهود أكثر مباشرةً من تلك التي تستخدمها ضد النشطاء، بغية ملاحقة وسائل الإعلام في المنفى. وهذا ليس بالأمر المفاجئ، نظراً إلى أن تلك الوسائل الإعلامية تصل، على ما يبدو، مباشرةً إلى أعداد معقولة من المصريين الذين تنقل إليهم سردية مضادة لتلك التي تُقدّمها الحكومة، في حين أن حراك النشطاء الحقوقيين لا يصل عموماً إلى المصريين خارج دائرة النخبة (مع أنه قد يتسبب بصعوبات للحكومة المصرية في العلاقات الدبلوماسية والعامة على المستوى الدولي).
أرغم العديد من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة التي كانت مملوكة من جهات خاصة قبل العام 2013 على بيع كامل أسهمها لشركات يتولّى رئاستها اسمياً أشخاصٌ مقرّبون من الدوائر الحكومية، فيما تقوم الأجهزة الاستخبارية والأمنية بتأمين رأس المال.29 وقد حُظِرت مئات المواقع الإلكترونية، ومنها جميع المواقع تقريباً التي نشرت تغطية مستقلة للأخبار والمستجدات في مصر.30 تعمل وسائل الإعلام المملوكة من الحكومة أو التابعة لها ليلاً نهاراً على تشويه سمعة الصحافيين الذين يقفون خلف وسائل الإعلام في المنفى (عبر تصويرهم في معظم الأحيان بأنهم عملاء للخارج و/أو فاسدون).31
تتخذ الحكومة أيضاً تدابير قانونية وغير قانونية مباشرة ضد الصحافيين أو حتى ضيوف البرامج الذين يوجّهون انتقادات إلى السلطات المصرية. ولعل المثال الأبرز في هذا السياق هو ما حدث مع عبد المنعم أبو الفتوح، مؤسّس حزب مصر القوية والمرشح للانتخابات الرئاسية في العام 2012، الذي أُلقي القبض عليه في شباط/فبراير 2018 لدى عودته إلى مصر بعد انتقاده السيسي في مقابلة أجرتها معه قناة الجزيرة في الخارج. لا يزال أبو الفتوح في الحجز ويُواجِه، بحسب التقارير، اتهامات بـ"التحريض على العنف والفوضى عبر وسائل إعلامية مناهضة للدولة، والانضمام إلى منظمة محظورة، وإلحاق الضرر بسمعة الدولة". وقد أُدرِج اسمه على قائمة الإرهاب.32
وغالباً ما تُوجَّه اتهامات أيضاً إلى شخصيات بارزة على خلفية نشاطها عبر مواقع التواصل الاجتماعي؛ فعلى سبيل المثال صدر حكم قضائي غيابياً بحق الممثل عمرو واكد بتهمة "إهانة مؤسسات الدولة ونشر أخبار كاذبة"، على ما يبدو على خلفية تغريدات نشرها على صفحته على موقع تويتر، كما أنه واجه تباعاً أشكالاً متعددة من المضايقات مثل رفض تجديد جواز سفره المنتهية صلاحيته.33كذلك ألغيت نقابة المهن التمثيلية عضوية عمرو واكد وعضوية الممثل خالد أبو النجا في آذار 2019 بعد أن تحدثوا في ندوة علنية بالكونجرس الأمريكي انتقدا فيها محدودية الحرية السياسية في مصر.
التدابير القانونية لمتابعة ومراقبة المنفيين
وفي هذا الصدد، تقدمت الحكومة بمسودات قوانين متنوعة إلى البرلمان مثل مشروع قانون الجاليات الذي ناقشته لجنة العلاقات الخارجية بالبرلمان في صيف 2018 ولم يسمع عنه بعدها.34 كذلك أعلنت وزارة الهجرة في صيف 2018 عن جهود لحصر أعداد وأسماء المصريين تحت مسمى مشروع قاعدة بيانات المصريين بالخارج ووظفت أدواتها البيروقراطية لعقد المنتديات لهم والترويج لدعم السياسات والقرارات الرسمية كمنتدى المصريين بالخارج والذي انعقد في صيف 2018 بالعاصمة القاهرة وهدف أيضا إلى تشجيع استثمارات رجال الأعمال المصريين المقيمين خارج الديار.35
المضايقات
عملت الحكومة المصرية أيضا على التلويح الممنهج بأدواتها القمعية لكبح جماح المعارضين الموجودين في المنافي واستهدف هنا المضطلعون بالعمل الإعلامي المعارض والمشاركون في تحالفات وجبهات معارضة.
تنوعت الأدوات القمعية التي وظفتها الحكومة بين الامتناع عن تجديد جوازات سفر المعارضين أو تعطيلها وبين الملاحقة القانونية للمعارضين وتوقيع العقوبات الغيابية عليهم وفي بعض الحالات تهديد أسرهم بالملاحقة والتعقب. في أمر آخر اتهمت الناشطة آمال فتحي (زوجة محمد لطفي الناشط في حقوق الإنسان المصري ذي الجنسية السويسرية)، الذي يدير الهيئة المصرية للحقوق والحريات التي تنشط في الدفاع عن حقوق الإنسان في الخارج، السيدة آمال فتحي اتهمت بنشر اخبار خاطئة والانتماء لمنظمات غير قانونية بعد أن نشرت فيديو تتحدث فيه عن التحرش الجنسي في مصر. وقد اعتقلت في 2018 ثم أطلق سراحها وهي الآن قيد الإقامة الجبرية.36
غالباً ما تشمل الإجراءات غير القانونية ممارسة ضغوط على عائلات الصحافيين أو عائلات الشخصيات النشطة في المنافي.
خاتمة
لقد غادر المصريون بأعداد كبيرة إلى المنفى السياسي – الطوعي أحياناً، والقسري أحياناً أخرى بسبب التلويح بزجّهم في السجون أو التهديدات بإلحاق الأذى بهم – منذ العام 2011، وعلى وجه الخصوص بعد منتصف العام 2013. وقد وصل كثرٌ منهم إلى المنافي حاملين معهم آثار الصدمة النفسية التي تعرّضوا لها بسبب العنف أو السجن أو التعذيب، وظلّوا متوارين عن الأنظار أو هاربين طوال أشهر، خوفاً من أن تكون الحكومة المصرية لا تزال قادرة على الوصول إليهم أو إلى أحبائهم. وقد واجه كثرٌ صعوبات للحصول على إقامة قانونية ووظيفة ما.
وعانى جميعهم تقريباً من الاستقطاب الاجتماعي والسياسي المصري العميق، ولم يكونوا يعلمون مَن هي الجهة التي بمقدورهم أن يمنحوها ثقتهم. حتى الشبكات التي كانت متماسكة من قبل، على غرار الإخوان المسلمين، تعرّضت لانقسامات جديدة في المنفى، حيث تجادل الأعضاء حول أسباب الفشل الذريع الذي مُنيت به المرحلة الانتقالية بعد سقوط مبارك، والخطوات التي يجب اتخاذها. لا يزال الكثير من النشطاء العلمانيين والمدافعين عن حقوق الإنسان ينظرون إلى جماعة الإخوان المسلمين بعدم ثقة، خاصة وأن الجماعة فشلت في تقديم تقييم نقدي لدورها في فشل الانتقال الديمقراطي من 2011 إلى 2013.
في نفس الوقت، لم ينس أعضاء جماعة الإخوان دور الحركات العلمانية، الليبرالية واليسارية، في دعم الجيش للسيطرة على السياسة في صيف 2013 وفي بعض الحالات، في تبرير القمع الدموي الذي تلا ذلك. الأقباط المصريون، الذين تركوا البلاد خوفًا من الخطاب التمييزي للإسلاميين، يصرون على تجنب أي تواصل مع جماعة الإخوان المسلمين أو غيرها من الجماعات الدينية بعد تجاربهم السلبية. وهكذا تسببت هذه الظروف ببقاء المصريين على انقساماتهم في الخارج حيث توزّعوا على شبكات اجتماعية وأيديولوجية صغيرة شعروا ضمنها بأمان نسبي، ما حال دون ظهور جهود مشتركة على نطاق واسع في المنفى.
بعد أكثر من خمس سنوات على الانقلاب العسكري ومع اشتداد القمع داخل البلاد، يواجه المصريون في المنفى السياسي خيارات مؤلمة في الوقت الراهن. فهل سيتخلون عن أحلامهم بوطنٍ ينعم أبناؤه بحرية أكبر؟ هل سيبنون حياتهم بصورة دائمة في المنفى؟ هل سيحافظون على التزامهم بشؤون بلادهم، مترقّبين إشارات عن انفتاح جديد محتمل؟ هل سينجحون في تقديم رؤية بديلة لوطنهم الأم؟ تساؤلات سيجيب عليها قادم الأيام.
اضف تعليق