تعد الجنسية رابطة قانونية وسياسية بين الفرد والدولة، فضلاً عن كونها رابطة اجتماعية وروحية تتضمن ولاء الفرد لدولته التي يحمل جنسيتها، فالجنسية هي النظام القانوني التي يتحدد بمقتضاه التوزيع القانوني للأفراد بين الدول، وهي التي تكفل للفرد التمتع بحقوقه الاساسية، كما انها تكفل حمايته في...
أ.م.د. رحيم حسين موسى/دعاء ابراهيم زهراو-كلية القانون – جامعة ميسان
بحث مقدم الى مؤتمر (الاصلاح التشريعي طريق نحو الحكومة الرشيدة ومكافحة الفساد) الذي اقامته مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام وجامعة الكوفة/كلية القانون 25-26 نيسان 2018
مقدمة
تعد الجنسية رابطة قانونية وسياسية بين الفرد والدولة، فضلاً عن كونها رابطة اجتماعية وروحية تتضمن ولاء الفرد لدولته التي يحمل جنسيتها، فالجنسية هي النظام القانوني التي يتحدد بمقتضاه التوزيع القانوني للأفراد بين الدول، وهي التي تكفل للفرد التمتع بحقوقه الاساسية، كما انها تكفل حمايته في المجتمع الدولي، فحماية الفرد دولياً لا يكون الا عن طريق الدولة التي ينتمي اليها.
والدولة حرة في تنظيم المسائل المتعلقة بالجنسية، شرط أن لا تتشدد الدول في ذلك التنظيم، كونها يجب أن تُقر بما يخلق روح الأُلفة بين أفراد الشعب ويضمن حرصهم على الولاء الدائم اتجاه دولتهم.
وإذا كان الأصل يقضي أنَّ للفرد جنسية واحدة، فقد يتمتع بعض الأفراد بأكثر من جنسية واحدة وفقاً لأحكام قانون دولتين أو أكثر وذلك لتباين القواعد القانونية الخاصة باكتساب الجنسية في كل منهم، وهنا نكون أمام ظاهرة (تعدد الجنسية) والتي تعد من أهم المشاكل التي تثار في مجال الجنسية وذلك بوصفها وضع شاذ يتعارض مع طبيعة الجنسية ووظيفتها وما تقرٌّ به من اندماج الفرد في الحماية الوطنية للدولة التي ينتسب اليها.
وحيث أنَّ الجنسية تتجسد بالتزامات وحقوق متبادلة بين الفرد والدولة، فمساهمة الفرد في الحياة السياسية، وممارسة لحقوقه وحرياته الاساسية مرهون بتمتع الفرد بجنسية الدولة التي يمارس هذه الحقوق على اقليمها، وحيث أنَّ متعدد الجنسية يحمل جنسية أكثر من دولة فإنَّ تمتعه ببعض حقوقه السياسية كحق الترشيح وتولي الوظائف العامة والمناصب السيادية يثير اشكالات عدة من شأنها التأثير على مستوى ما يتمتع به من تلك الحقوق بالمقارنة مع المواطن منفرد الجنسية.
هذا ولا تشترط بعض الدول أن يتخلى الفرد عن جنسيته الأصلية عند اكتسابه جنسية جديدة، مما يؤدي الى نتيجة حتمية وهي تمتع الفرد بأكثر من جنسية واحدة، إذ أنَّ للدولة مطلق الحرية في معاملة متعدد الجنسية على النحو التي تراه ينصب في مصلحتها العليا.
هذا وقد أورد دستور جمهورية العراق لسنة 2005، نصاً صريحاً يقتضي بـ (يجوز تعدد الجنسية للعراقي، وعلى من يتولى منصباً سيادياً أو أمنياً رفيعاً التخلي عن اية جنسية أخرى مكتسبة، وينظم ذلك بقانون)، وهكذا أفصح الدستور النافذ عن موقفه بجواز تعدد الجنسية بشكل يخالف ما استقرت عليه الدساتير السابقة، والتي لم تنظم هذه الظاهرة بل حاولت الحد منها.
ولكن جواز تعدد الجنسية لم يكن مطلقاً، بل قيده المشرع الدستوري بوجوب تخلي من يتولى منصباً سيادياً عن اي جنسية اخرى مكتسبة، وذلك لتحقيق التوازن بين رغبة الفرد بالاحتفاظ بجنسياته الاخرى أضافة الى الجنسية العراقية من جهة، وبين وجوب مراعاة احترام حقوق الفرد منفرد الجنسية من جهة أخرى.
كما سمح قانون الجنسية العراقية النافذ رقم (26) لسنة 2006 بجواز تعدد الجنسية وبصورة صريحة وذلك في الفقرة الاولى من المادة العاشرة من القانون، ولكن قيد ذلك بالنسبة لمن يتولى منصباً سيادياً حيث نصت المادة (9/رابعاً) على أنه (لا يجوز للعراقي الذي يحمل جنسية أخرى مكتسبة أن يتولى منصباً سيادياً أو امنياً رفيعاً إلا إذا تخلى عن تلك الجنسية).
أهمّية البحث
تتجسد أهمية البحث في محورين:
الأول / تسليط الضوء على المخاطر التي تنجم عن تولي متعدد الجنسية منصباً سيادياً، فرغم أنَّ مبدأ المساواة يقضي بممارسة جميع المواطنين لحقوقهم السياسية دون تمييز، فإنَّ طبيعة بعض المناصب وعلاقتها بسيادة الدولة وأمنها الوطني يقتضي حرمان متعدد الجنسية من توليها.
الثاني / ما يثيره البحث من اشكالية هامة على صعيد التطبيق، فرغم النص الصريح الذي أورده دستور جمهورية العراق لسنة 2005، لا زال الواقع العملي يشهد تولي متعددي الجنسية لبعض المناصب السيادية، الأمر الذي يستدعي تنظيماً قانونياً دقيقاً وحاسماً للموضوع محل البحث.
اشكالية البحث
تثير ظاهرة تعدد الجنسية مشاكل عديدة على الصعيد القانوني بصورة عامة، فضلاً عن ما لها من تأثير على مباشرة متعدد الجنسية لحقوقه السياسية بشكل خاص، إذّ أنَّ تولي متعدد الجنسية منصباً سيادياً من شأنه التأثير على سيادة الدولة وأمنها وذلك لخطورة المهام التي يمارسها شاغل هذا المنصب وما يتولد عنها من قرارات مصيرية ترتبط ارتباطاً مباشراً بمصالح الدولة العليا.
ولعل النقص الواضح في التنظيم القانوني لحق متعدد الجنسية في تولي المنصب السيادي يشكّل النقطة الاساسية لإشكالية الدراسة، فالنص الدستوري الصريح الذي أورده دستور جمهورية العراق لسنة 2005 لم يكن كافياً للإحاطة بالمشكلة وحلّها، فغياب التنظيم القانوني الدقيق أفقد النص الدستوري قيمته في التطبيق وجعله عرضة للمخالفة.
هذا ويمكن ابراز اشكالية البحث من خلال الاسئلة الآتية:
1. هل يمكن لمتعدد الجنسية ممارسة حقوقه السياسية أسوة بمنفرد الجنسية؟ وهل هناك قيود معينة تمنعه من ممارسة تلك الحقوق؟
2. هل كان المشرع الدستوري موفقاً في تنظيمه لحق متعدد الجنسية في توليه المنصب السيادي، وهل يُعدُّ هذا التنظيم كافياً للحد من تولي متعددي الجنسية للمناصب السيادية في العراق؟
خطّة البحث
لأجل الاحاطة بتفاصيل الموضوع ارتأينا تقسيم الدراسة فيه على مبحثين، تناول المبحث الأول ماهية المنصب السيادي، وذلك في مطلبين خصصنا الأول لبيان مفهوم المنصب السيادي، وتعرضنا في المطلب الثاني الى مخاطر تولي متعدد الجنسية للمنصب السيادي.
أما المبحث الثاني فقد بحثنا فيه عن حق متعدد الجنسية في تولي المنصب السيادي، وذلك في مطلبين، كُرّس الأول لبحث مدى امكانية تولي متعدد الجنسية للمنصب السيادي، وأفرد الثاني لبيان موقف المشرع العراقي من تولي متعدد الجنسية للمنصب السيادي.
وسننهي البحث بخاتمة نعرض فيها أهم النتائج والتوصيات التي تمخض عنها البحث.
المبحث الأول
ماهية المنصب السيادي
قبل الخوض في بحث حق متعدد الجنسية في تولي المنصب السيادي وموقف المشرع العراقي منه لابد من القاء الضوء على مفهوم المنصب السيادي والمخاطر التي تترتب على تولي متعدد الجنسية لهذا المنصب، وهذا ما سيشكّل موضوع البحث في المطلبين الآتيين.
المطلب الاول
مفهوم المنصب السيادي
للوقوف على مفهوم المنصب السيادي، لابد من تعريف هذا المنصب أولاً، وهذا ما سيقع عليه البحث في الفرع الاول من هذا المطلب، ثم التعرض لخصائصه ثانياً وهو ما سيتم تناوله في الفرع الثاني من هذا المطلب.
الفرع الاول
تعريف المنصب السيادي
إنَّ الخوض بتعريف المنصب السيادي يقتضي منا أنْ نقسم هذا الفرع الى فقرتين، نبيّن في الاولى تعريف المنصب السيادي لغة، ونوضح في الثانية تعريف المنصب السيادي اصطلاحاً.
أولا: تعريف المنصب السيادي لغة
المنصب السيادي مصطلح مكون من مفردتين هما (المنصب) و(السيادي). والمَنْصِبُ: المَقَام، ويقال لفلان مَنْصِبٌ: أي علو ورفعة(1)، ونصّب الفرد: أسند اليه منصباً، ونصّب الرئيس فلاناً: أي ولّاه منصباً، ويقال خطاب التنصيب: أي خطاب يلقيه الفرد عند توليه منصباً، والمنصب ما يتولاه المرءُ من عمل، يقال: تولّى منصِبَ الوزارة أَو القضاء ونحوهما، وهو أيضاً ما يتولاه المرء من عمل أداري أو حكومي أو نحوه، وقد يشغل الفرد وظيفة ذات شأن، أي يشغل منصباً رفيعاً، ومناصب البلاد: حكامها وأعيانها(2).
اما (السيادة): أسم مفرد مصدرها سادَ، ولها معانٍ عدة كالسلطة، والغلبة، والهيمنة. ويقال دولة ذات سيادة: دولة مستقلة، وكذلك يقال سيادة القانون: احترامه وتطبيقه بين الجميع، وقد يطلق لفظ (السيادة) كلقب احترام وتشريف ويستعمل لأصحاب المقامات الرفيعة والمناصب العالية كسيادة الرئيس، الوزير، الملك(3).
وقال أبن الانباري، قال قائلا: كيف سمّى الله عز وجل يحيى سيداً وحصوراً والسيد هو الله اذا كان مالك الخلق اجمعين ولا مالك لهم سواه؟ قيل له لم يرد بالسيد هنا المالك وانما الرئيس والإمام كما يقول العرب: فلان سيدنا أي رئيسنا الذي نعظمه، وسيادة: عظم وشرف، وسادَ القوم صار سيدهم، والفرد ذات سيادة: أي صاحب القدر الرفيع الذي غلبهم في شرفٍ أو نحوه(4).
ويقابل كلمة السيادة في اللغة الانكليزية كلمة (sovereignty)، وباللغة الفرنسية كلمة (souverainete)، وتعني حق الدولة في ممارسة اختصاصاتها وتحديد علاقاتها مع الدول الاخرى بحرية تامة ودون خضوع لأي سلطة اجنبية(5).
ومن خلال ما تقدم، يمكن تعريف المنصب السيادي لغة بأنه كل منصب يتولى فيه الفرد مكاناً مرموقاً وذات رفعة في الاجهزة المرتبطة بسيادة الدولة.
ثانياً: تعريف المنصب السيادي اصطلاحاً
اختلف الفقه الدستوري في تحديد معنى المنصب السيادي، إذ تحدد هذه المناصب في ضوء طبيعة المسؤولية الملقاة على عاتق من يشغلها، وفي إطار المهام المنوطة به. وقد تبنى الفقه أكثر من اتجاه بهذا الخصوص، ولتوضيح هذه الاشكالية لابد من لنا من تناول أراء الفقهاء في هذا الشأن وعلى النحو الآتي:
الرأي الاول: يذهب هذا الرأي الى أنَّ المنصب السيادي هو كل منصب يكون لشاغله القدرة على القيام بعمل من أعمال السيادة أو المشاركة فيه بصورة مباشرة وفقاً للدستور أو القوانين النافذة، كرئيس الجمهورية، ورئيس مجلس النواب ونوابه وأعضائه، ورئيس الوزراء ونوابه والوزراء، والمحافظون، والقيادات العليا في الاجهزة الامنية والعسكرية، وممثلي السلك الدبلوماسي(6).
وقد حاول بعض أنصار هذا الرأي التوسع في مفهوم المنصب السيادي ليشمل المناصب الاخرى وصولاً الى منصب مدير عام، باعتبار أنَّ من يتولى تلك المناصب يشغل درجة خاصة(7)، يتطلب اشغالها والبقاء فيها إجراءات خاصة ومحددة تفوق غيرها من الدرجات الأخرى.
الرأي الثاني: ويقصر المنصب السيادي على المناصب التنفيذية العليا دون غيرها، ومن ثم فإن المنصب السيادي وفقاً لهذا الرأي يشمل كل منصب تنفيذي أو أمني رفيع كـرئيس الجمهورية ونوابه، ورئيس مجلس الوزراء ونوابه، والوزراء، ومستشار الامن الوطني، ورؤساء الهيئات المستقلة(8).
وهكذا فقد أستبعد هذا الاتجاه أعضاء السلطة التشريعية ممثلة برئيس مجلس النواب ونوابه وأعضاء المجلس وكذلك أعضاء السلطة القضائية من نطاق المناصب السيادية رغم أهمية هذه المناصب وتعلقها بسيادة الدولة ومصالحها العليا، فعضوية السلطة التشريعية تدخل ضمن أطار المناصب السيادية لما تنطوي عليه من تمثيل للإرادة العامة التي تمنح أعضاء هذه السلطة مكانة عليا لا تقل شأناً عن المناصب التنفيذية(9)، وكذلك الحال بالنسبة للسلطة القضائية التي تحتل مكاناً مرموقاً بين سلطات الدولة مما يضفي على مناصبها وصف المناصب السيادية.
الرأي الثالث: يذهب هذا الراي الى أنَّ المنصب السيادي هو ذلك المنصب الذي يتطلب التعيين فيه إجراءات خاصة تختلف عن تلك المتبعة في التعيين في المناصب العادية. وتقسم المناصب السيادية وفقاً لهذا الرأي على ثلاث فئات، تشمل الفئة الاولى المناصب ذات الصبغة التنفيذية كــرئيس الجمهورية ونوابه، رئيس مجلس الوزراء ونوابه، والوزراء ووكلائهم ومن هم بدرجة الوزير، والسفراء. بينما تشمل الفئة الثانية المناصب ذات الصبغة القضائية كــرئيس مجلس القضاء الأعلى، ورئيس وأعضاء المحكمة الاتحادية العليا، ورئيس الادعاء العام، ورئيس هيئة الاشراف القضائي، ورئيس وأعضاء محكمة التمييز الاتحادية، أما الفئة الثالثة فتشمل المناصب الامنية الرفيعة كـمستشار الأمن الوطني، وــرئيس جهاز المخابرات، ورئيس أركان الجيش ومعاونيه، ورؤساء الأجهزة الامنية، وكل من هم بمنصب قائد فرقة فما فوق(10).
ويلاحظ على هذا الرأي أنه استبعد من نطاق المناصب السيادية منصب رئيس مجلس النواب ونوابه وأعضاء المجلس في الوقت الذي توسع فيه بالنسبة للمناصب الاخرى ذات الصبغة التنفيذية والقضائية والأمنية.
ويتضح لنا من مطالعة الآراء السابقة إنَّ أولها هو الأقرب الى الصواب، وذلك لأنه ربط مفهوم المنصب السيادي بسيادة الدولة وأمنها شاملاً لمناصب تشريعية وتنفيذية وقضائية مختلفة، في الوقت الذي ضيّقت فيه بقية الآراء من نطاق المناصب السيادية مستبعدةً المناصب التشريعية من نطاقها.
ويمكن لنا أنْ نعرف المنصب السيادي بأنه ذلك المنصب الذي يتصل بصورة مباشرة بسيادة الدولة وأمنها، بحيث يمنح شاغله القدرة على أتخاذ القرارات المتعلقة بسياسة الدولة وأمنها ومصالحها العليا.
الفرع الثاني
خصائص المنصب السيادي
من خلال التعريف المتقدم يمكن أن نستنتج جملة من الخصائص التي تميّز المنصب السيادي عن غيره من المناصب، وأهم هذه الخصائص هي:
أولاً: أنه منصب يتصل بسيادة الدولة وأمنها الداخلي والخارجي ومصالحها العليا، فمن يشغل هذا المنصب يكون ممثلاً للدولة ورمز من رموز سيادتها، ومن ثم فأنَّ هذا المنصب سيتيح لشاغله الاطلاع على جملة من الامور الهامة ذات الاتصال المباشر بمصالح الدولة العليا وأمنها الوطني، فمنصب رئيس الدولة مثلاً يعد منصباً سيادياً نتيجة لأهمية هذا المنصب وخطورته إذّ يقع على عاتقه ضمان احترام الدستور وسيادة القانون والمحافظة على استقلال الوطن وسلامة أراضيه(11).
ثانياً: أنه منصب رفيع (عالي) مؤثر، أي أنَّ له تأثير على سيادة الدولة، وشاغل هذا المنصب يكون له القدرة على المساهمة في رسم السياسة العامة للدولة بما فيها الجوانب الامنية والسياسية والاقتصادية. ولا تعد جميع المناصب في الدولة مناصب مؤثرة، فمثلاً المدير العام في دائرة معينة لا يعد منصبه رفيع ومؤثر، بعكس منصب الوزير مثلاً حيث يُعد هذا منصب عالي ومؤثر(12)، إذّ يقوم الوزير برسم سياسة الوزارة في حدود السياسة العامة لدولته(13)، وكذلك الحال بالنسبة الى منصب المحافظ والذي يعد من المناصب الرفيعة والمؤثرة ايضاً، وذلك باعتباره الرئيس التنفيذي الأعلى في محافظته، اضافة الى مسؤوليته في تنفيذ السياسة العامة للدولة في نطاق المحافظة(14).
ثالثاً: أنه منصب يتطلب اشغاله أحكاماً خاصة ومعقدة تختلف عن الأحكام والشروط المحددة لأشغال المنصب العادي، فحيث أنَّ اشغال المناصب العادية يخضع من حيث الأصل لأحكام قانون الخدمة المدنية، فإن المناصب السيادية تخضع لشروط واجراءات خاصة تنسجم مع طبيعة هذه المناصب وأهميتها، كما هو الحال بالنسبة لمنصب رئيس الوزراء أو الوزير(15).
رابعاً: إنَّ تولي المنصب السيادي يمنح صاحبه قدرة كبيرة على اتخاذ قرارات مصيرية ذات أهمية كبيرة في أدارة الدولة ومرافقها الهامة، وهذه القرارات أما يتخذها بصورة مباشرة أو يساهم في اتخاذها، كإصدار العفو الخاص، واعلان الحرب وحالة الطوارئ، وابرام المعاهدات، ورسم السياسة العامة، وغيرها من القرارات(16).
هذا ولم تتضمن نصوص دستور جمهورية العراق النافذ لسنة 2005 والتشريعات ذات العلاقة ومشروع قانون التخلي عن الجنسية المكتسبة أي تحديد لمفهوم المنصب السيادي، بل اكتفى الاخير بتعداد المناصب السيادية والامنية الرفيعة(17).
كما لم يتضمن نص المادة (18/ رابعاً) من الدستور أي معيار لتحديد المنصب السيادي، بل أنَّ النص ورد مطلقاً، وهو ما يثير الخلاف حول مفهوم هذه المناصب لاسيما في ظل التجاذبات التي تشهدها الساحة السياسية في العراق(18)، كما لم يحدد لنا النص المذكور المراد بالمنصب (الأمني الرفيع)، وما إذا كان المقصود به المنصب المتصل بالأجهزة الامنية العليا والمتمثل برئيس أركان الجيش ومعاونيه ورئيس جهاز الاستخبارات ومن هم بمنصب قائد فما فوق، والذي تطلب الدستور اجراءات خاصة لإشغالها، أم المقصود به المنصب الأمني المقترن برتبة عسكرية معينة؟(19)
وكان الأجدر بالمشرع الدستوري أنْ يكتفي بالإشارة الى المنصب السيادي فقط دون ذكر المنصب الامني لما يثيره الأخير من تساؤلات حول مفهومه أولاً والمعيار المحدد للمناصب التي تدخل في نطاقه ثانياً، لاسيما وأنَّ المنصب السيادي يشمل في مفهومه المنصب الأمني وذلك لتعلق الأخير بسيادة الدولة والحفاظ على أمنها.
المطلب الثاني
مخاطر تولي متعدد الجنسية للمنصب السيادي
حيث أنَّ متعدد الجنسية يعد مواطناً في كل دولة يحمل جنسيتها فإن توليه منصباً سيادياً في أحد هذه الدول من شأنه أن يثير مخاطر عديدة، وذلك بحكم خطورة هذه المناصب وارتباطها المباشر بسيادة الدولة وأمنها ومصالحها العليا. وتتمثل أبرز هذه المخاطر في تعدد ولاء متعدد الجنسية وتهديد الأمن الوطني للدولة.
الفرع الأول
تعدد ولاء متعدد الجنسية
يعد الولاء ركيزة من ركائز قيام رابطة الجنسية في بعدها السياسي والذي يتجسد فيما يسمى بالمواطنة الصالحة، تلك المواطنة التي تستلزم نصرة الدولة ومحبتها واحترام جنسيتها، فالولاء ترجمة للشعور بالانتماء للدولة والارتباط بها، وهو ما يعني أنَّ على الفرد أن يعمل بإخلاص من أجل دولته وان يكون مستعداً للتضحية في سبيلها(20).
هذا وترجع جذور نظام الجنسية الى فكرة الولاء التي كان يدين بها الفرد في العصور الوسطى للحاكم الاقطاعي أو الملك بصفته الشخصية، ولكن بظهور الدولة وخضوع الافراد لسلطانها المباشر تحولت علاقة الولاء التي كانت تربط الفرد بالملك أو الحاكم الى علاقة التبعية بين الفرد والدولة(21).
والولاء أما أنْ يكون ولاءً شخصياً أو يكون ولاءً سياسياً، فبالنسبة للولاء الشخصي والذي يسمى أيضاً مبدأ الولاء الدائم أو مذهب عدم تغيير الولاء، فيقصد به أنه متى ما أرتبط فرد بدولة معينة فأن هذه الرابطة تظل مستمرة ما دام الفرد حياً، وأنَّ هذه الرابطة لا تنتهي حتى لو غادر الفرد اقليم هذه الدولة وعاش في دولة أخرى لفترة طويلة، وبوفاة هذا الفرد تنتهي رابطة الجنسية(22)، وبحسب هذا النوع من الولاء فالفرد لا يستطيع الانفصال عن دولته الاصلية مهما حدث ومهما تغيرت الظروف إلّا بوفاته، حيث يكون ولاءه دائم لدولته حتى وإنْ تخلى عن جنسيته الاصلية واكتسب جنسية أخرى.
وهذا الامر لا يتفق مع المنطق السليم إذ ليس من مصلحة الدولة ابقاء الفرد متمتعاً بجنسيتها في الوقت الذي يدين فيه بالولاء لدولة أخرى، فضلاً عن أنَّ من اهداف حمل جنسية الدولة أنْ تبسط الاخيرة مظلة الحماية على رعاياها، ومن ثم فأن ولاء الفرد لدولة أخرى مع بقاء حماية الدولة الأم من شأنه أنْ يقيّد الفرد دون رضا منه(23).
ورغم تضاؤل هذا المبدأ خصوصاً بعد الاعلان العالمي لحقوق الانسان لعام 1948 إلاّ أنَّ بعض آثاره لازالت قائمة، إذ تفرض بعض الدول قيوداً على رعاياها في حال تجنسهم بجنسية أخرى، من ذلك ما فعله المشرع المصري الذي أشترط موافقة وزير الداخلية عند رغبة المواطن المصري اكتساب جنسية اخرى(24).
ويرى البعض أنَّ تعليق اغلب الدول النامية حق الوطني في الخروج من جنسيتها على سلطتها التقديرية يعود الى الظواهر الخطيرة التي تؤثر على كيان الدولة، كزيادة هجرة العقول وذوي الاختصاصات اللازمة للتطور الصناعي والاقتصادي الى الدول المتقدمة(25).
أما بالنسبة للولاء السياسي فقد برز بعد زوال مبدأ الولاء الدائم، وأقرَ بحق الفرد في تغيير جنسيته، فالفرد حر في تغيير جنسيته وتدعيم رابطة الولاء بينه وبين الدولة التي يرغب في حمل جنسيتها والانطواء تحت علمها، إذ يحق له أنْ يقطع صلته السياسية والقانونية بدولته ويختار جنسية دولة اخرى، وهذا ما يتماشى مع نص المادة (15) من الاعلان العالمي لحقوق الانسان والتي أكدت الفقرة الثانية منها عدم جواز تعسف الدولة في استخدام حقها لمنع المواطنين من تغيير جنسياتهم، مع الاخذ بنظر الاعتبار حق الدولة في وضع قيود على تغيير الفرد لجنسيته دون أنْ تتعسف هذه الدولة في استعمال حقها، حيث أن للدولة حق في منع الفرد من تغيير جنسيته إذا أراد الافلات من الاعباء والالتزامات التي تفرض على الوطنيين كأداء الخدمة العسكرية، فقد تضع بعض الدول قيود على حق الفرد في تغيير جنسيته كما هو الحال في قانون الجنسية التركي الذي يشترط أداء الخدمة العسكرية(26) في الوقت التي لا تضع فيه دول أخرى أي قيد على حرية الفرد في تغيير جنسيته كما في العراق، إذ يبقى الفرد محتفظاً بجنسيته الاصلية ولا يفقدها إلاّ بإرادته(27).
وتقرُ أغلب التشريعات اليوم حق الفرد في تغيير جنسيته، فلا توجد دولة تُحّرم الفرد بصورة مطلقة من هذا الحق، ومن شأن ذلك أنْ يؤدي الى تعدد الجنسيات في حال إذا اكتسب الفرد جنسية جديدة دون أن تزول عنه جنسيته السابقة(28).
هذا ويعبر الفرد عن ولائه لدولته بوسائل عديدة مادية أو معنوية، كالخدمة العسكرية ودفع الضرائب والحفاظ على أمن الدولة واحترام نظامها السياسي، دون أنْ يمس ذلك معتقده السياسي أو الفكري أو الديني، فالولاء للدولة لا يعني عدم وجود تيار معارض لها، ولكن يجب أنْ تكون هذه المعارضة وطنية الأهداف والأفكار، فلا يجوز أن يقوم الفرد بالتحريض ضد الدولة وتهديد أمنها(29).
وللدولة أن تضع قيوداً على حق الفرد في تغيير جنسيته، فلا تعطيه حرية الجمع بين أكثر من جنسية واحدة، وذلك لأن التعدد يتنافى مع مفهوم فكرة الجنسية التي تعني الانتماء والولاء للوطن، إذ قد يترتب على قيام الفرد باستعمال حقه في تغيير جنسيته أن يصبح متعدد الجنسية وذلك في حالة اكتسابه جنسية جديدة دون أنْ تزول عنه جنسيته السابقة(30).
وحيث أنَّ الجنسية هي رابطة قانونية وسياسية جوهرها الشعور بالولاء والانتماء لدولة معينة، لذا فأنَّ تعددها قد يتعارض مع هذا الشعور، ذلك أنه يعني تعدد ولاء الفرد للدول التي يحمل جنسياتها.
هذا وقد أختلف الفقهاء بصدد أثر تعدد الجنسية على فكرة الولاء، فبعضهم أقر بأن تعدد جنسية الفرد من شأنه أن يؤدي الى تعدد الولاء، في الوقت الذي نفى فيه البعض الاخر أنْ يؤدي تعدد الجنسية الى تعدد الولاء، ولتوضيح هذه الاشكالية لا بد أن نتناول أراء الفريقين في هذا الشأن.
حيث ذهب الاتجاه الاول الى الاقرار بأن تعدد الجنسية سيؤدي حتماً الى تعدد الولاء، ذلك أنَّ تعدد الجنسية هو وضع شاذ تتراكم فيه أكثر من جنسية لدى الفرد الواحد، وهو ما يتناقض مع طبيعة الجنسية، التي تستند بالمقام الاول الى شعور الفرد بالولاء اتجاه الجماعة التي ينتمي اليها، ومثل هذا الشعور لا يتصور أنْ ينقسم الى اكثر من دولة(31)، حيث أنَ متعدد الجنسية يتمتع بأكثر من جنسية واحدة مما يجعل مركزه موضعاً للشك، خاصة إذا أراد المشاركة في الحياة السياسية أو ممارسة حقه في تقلد المناصب السيادية في الدولة، ذلك أن هذه الحقوق قاصرة على من يكون ولاءه لدولته الاصلية دون الدول الأخرى التي يحمل جنسيتها(32).
وحيث أنَّ الجنسية ترجمة للولاء الذي يكنّه الفرد لوطنه، فهذا الولاء لا يقسّم ولا يوزّع، وانما يقتصر فقط على وطنه دون أي وطن اخر، فالولاء بطبيعته غير قابل للتجزئة والتشتت، ومهما تصور انه يمكن أنْ يتحقق الولاء لأكثر من دولة، فمن المستحيل البقاء على هذا الوضع بصورة مستمرة وذلك لأنَ مصالح الدول متغيرة، إذ يمكن أنْ تتفق في وقت وتختلف في وقت آخر(33).
أما الاتجاه الثاني فيرى أنَّ تعدد الجنسية لا يعني تعدد الولاء، فالولاء لا يكون حكراً على المواطن منفرد الجنسية إذّ يتحقق الولاء لدى متعدد الجنسية ايضاً، فهو شعور داخلي غير ظاهر، لا يمكن المحاسبة عليه طالما كان كامناً في الداخل ولم يعبر عنه بسلوك خارجي ملموس(34).
والولاء يختلف من فرد لأخر، فقد يكون للفرد جنسية واحدة لكنه يشكّل خطراً على دولته كالفرد الذي يعمل جاسوساً، ويفشي أسرار دولته، فرغم امتلاكه جنسية منفردة لكن ولاءه منعدم أتجاه دولته(35)، وبما أنَّ الولاء مسألة معنوية لذا فهو فكرة لا تدخل تحت لواء التنظيم القانوني، حيث أنَّ الولاء هو شعور ووجدان لا يمتد اليه تنظيم ولا يرمي اليه قانون (36).
وهكذا فأنَّ هذا الاتجاه ينفي القول بأن تعدد الجنسية يؤدي الى تعدد الولاء باعتبار أنَّ هذه الحجج عاطفية، فالولاء متعلق بالمشاعر، والمشاعر محلها القلب، وبما أنَّ الولاء يكمن في دواخل الانسان فهو احساس داخلي غير ملموس ومتعلق بأخلاق الانسان وتربيته، ومن ثمَ فمن الصعب معرفة ولاء الفرد اتجاه دولته سواء كان منفرد الجنسية أو متعددها.
ورغم ما تضمنته التوجهات التشريعية الحديثة، سواء على النطاق الدستوري أو القانوني، من حق الفرد في اكتساب أكثر من جنسية واحدة إضافة الى جنسيته الأصلية، كالمشرع العراقي الذي أقر صراحة ظاهرة تعدد الجنسية(37)، إلاّ إننا نؤيد عدم امكانية تولي متعدد الجنسية مناصب سيادية في الدولة وذلك لأهمية تلك المناصب وخطورتها، إذ من شأن توليها أن يمكّن متعدد الجنسية من اصدار قرارات تتعلق بمصير الدولة، أو أتخاذ مواقف تمس مصلحتها العليا، على أن لا يكون ذلك بصورة حرمانه من حقه في الترشيح لشغل تلك المناصب، بقدر ما يعني أن يختار جنسية بلده الأم ويتخلى عن أي جنسية أخرى أكتسبها.
وهكذا يشترط فيمن يتولى هذه المناصب أنْ لا يحمل وقت ترشيحه أو طيلة شغله المنصب أي جنسية أخرى مكتسبة غير جنسيته الأصلية، ولعل ما يؤكد هذا أن شرط (وحدانية) الجنسية لا يزال مطلوباً في الوظائف الكبرى والحساسة كرئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء وبعض المناصب النيابية والتنفيذية والقضائية المهمة.
الفرع الثاني
تهديد الأمن الوطني للدولة
يعرّف الأمن الوطني بأنه قدرة الدولة وأجهزتها المختلفة على حماية الجماعة من التعرض للأخطار والتحديات التي تهدد كيان الدولة، واستقلالها، ووحدتها، وشرعيتها، واستقرارها(38).
ويهدف الامن الوطني الى تحقيق الاستقرار للشعب والحفاظ على أركان الدولة ومصالحها، لذا تتخذ الدولة جملة من الاجراءات الوقائية لحماية أمنها القومي من الاخطار الداخلية والخارجية، كوضع قواعد للمحافظة على أسرارها وحراسة حدودها وتشكيل القوات المسلحة، وتبعاً لذلك تشغل المعلومات السرية مكانة مهمة في مفهوم الامن الوطني، وذلك لارتباطها بمصالح الدولة العليا(39).
وحيث أنَّ اعتبارات الامن الوطني هي الهدف الرئيس في تنظيم جميع المسائل المتعلقة بالمحافظة على كيان الدولة وضمان سيادتها، لذا فإن مصلحة الدولة تقضي حفظ هذه الاعتبارات عند رسم الدولة لسياساتها العامة وعلاقتها بغيرها من الدول، ومن ثم فإن تعدد الجنسية من شأنه أن يضعها في وضع حرج في علاقاتها مع الدول الأخرى، فحماية الدولة لكيانها واستقلالها ووحدتها يقضي خضوع مواطنيها لسلطتها العليا، وهو ما يضمن ولائهم لها والتزامهم بسيادتها الكاملة على اراضيها في مواجهة الدول الاخرى(40).
وهكذا فأن تغليب اعتبارات الأمن الوطني يستوجب استبعاد متعدد الجنسية من تولي أي منصب سيادي، فحماية أمن الدولة تقتضي توخي الحذر أزاء تولي متعدد الجنسية لهذه المناصب.
فقد يضر متعدد الجنسية بأمن الدولة ومصالحها العليا متحصناً بوطنيته (حمله لجنسية الدولة) من أي شبهة غدر وخيانة، وهذا ما حدث للمجري (Tribich) الذي ولد لأبوين مجريين ثم انتقل لأكثر من دولة واستقر في لندن وحصل على الجنسية البريطانية وقام بتغيير اسمه الى (Lincoln)، ورشح نفسه لانتخابات مجلس العموم البريطاني وفاز عن الحزب الليبرالي وأصبح عضواً في مجلس العموم، وهذا ما مكنّه من التجسس لصالح المانيا وحلفائها في الحرب العالمية الاولى، فلم يستطع أحد كشف اعماله لنجاحه في ممارسة عمله على أكمل وجه(41).
وقد يخشى البعض من أنَّ تولي متعدد الجنسية للمناصب السيادية قد يضر بأمن الدولة وسيادتها من زاوية أخرى، كما لو تزوج متعدد الجنسية من امرأة اجنبية تحمل جنسية دولة معادية لدولته الاصلية، فهذا بحد ذاته يشكل خطورة على أمن الدولة الوطني(42).
كذلك قد تطلب الدولة من مواطنيها واجبات والتزامات معينة في مقدمتها الالتزام بأداء الخدمة العسكرية، حيث أنه واجب وطني يلتزم به كافة المواطنين، وأنَ هذا الواجب يحظى بأهمية كبيرة لكونه مرتبط ببقاء الدولة والمحافظة على كيانها ضد أي تهديد وبأي صورة من الصور(43).
ويثير أداء الخدمة العسكرية صعوبات كبيرة تحول دون قيام متعدد الجنسية بالتزاماته وواجباته اتجاه كل دولة يحمل جنسيتها، فأداءه للخدمة العسكرية في أحدى الدول التي يحمل جنسيتها من شأنه أنْ يتعارض مع واجباته تجاه الدول الاخرى التي ينتمي اليها، حيث أنَّ في ذلك تشجيع للهروب من الخدمة العسكرية، إذ قد يصبح تعدد الجنسية سبباً لإفلات الفرد من أداء الخدمة العسكرية في دولته الاصلية، وذلك لأن أي دولة من الدول التي يحمل جنسيتها لن تقبل أنْ تكلفه بأداء الخدمة العسكرية كونه يحمل جنسية دولة أخرى(44).
وقد استقر الحال في القانون الدولي على أنَ متعدد الجنسية لا يلتزم بأداء الخدمة العسكرية إلاّ مرة واحدة فقط، وفي أحدى الدول التي يحمل جنسيتها، ويتم حل هذه المشكلة من خلال عقد الاتفاقيات بين الدول المعنية لتلافي أداء متعدد الجنسية للخدمة العسكرية لأكثر من مرة، وكانت الحلول التي انتهت لها هذه الاتفاقيات أما التزام متعدد الجنسية بأداء الخدمة العسكرية في دولة الاقامة الفعلية له، أو يؤخذ بنظر الاعتبار الدولة التي أدى الخدمة العسكرية فيها أولاً، أو أنْ يترك الاختيار للفرد لتحديد الدولة التي سوف يؤدي فيها الخدمة العسكرية، وفي حال عدم توصل الدول الى حل معين، فقد أستقر الأمر على التزام متعدد الجنسية بأداء الخدمة العسكرية في دولة الجنسية الاصلية فقط، فإذا قام بأدائها في هذه الدولة، سقط عنه أدائها في باقي الدول التي يحمل جنسيتها(45).
ورغم الجهود المبذولة من قبل الدول للحد من ظاهرة التعدد واثارها، إلاّ أنَ غالبيتها لم تضمّن تشريعاتها أحكاماً تتعلق بأداء متعدد الجنسية للخدمة العسكرية، فوجود تشريع يتناول هذه المسألة بالتنظيم كفيل بحل المشكلة من أساسها، وهذا سلكه المشرع المصري، فرغم عدم وجود إشارة واضحة لمتعدد الجنسية في قانون الخدمة العسكرية رقم (127) لسنة 1980 والذي نصت المادة الاولى منه على أنه بأن (تفرض الخدمة العسكرية على كل مصري من الذكور أتم الثامنة عشرة من عمره....)، فقد أدرك وزير الدفاع حساسية موضوع تعدد الجنسية بالنسبة للتجنيد في القوات المسلحة المصرية فعالجه على نحو يحفظ المصلحة العامة للدولة وعدم تعريض أمنها للخطر، حيث أصدر القرار رقم (280) لسنة 1986بأضافة فقرة أخرى للمادة الاولى من قرار وزير الدفاع رقم(115) لسنة 1986 بشأن شروط الاستثناء من أداء الخدمة العسكرية، ونص في المادة الأولى منه على انه (يجوز أن يستثنى من تطبيق حكم المادة (1) من قانون الخدمة العسكرية المشار اليه كل من: د/ المصريون المقيمون في دولة أجنبية الذين اكتسبوا جنسية هذه الدولة مع احتفاظهم بجنسيتهم المصرية ويزول هذا الاستثناء في حالة فقد الفرد لجنسيته الأجنبية)(46).
اما في العراق فإن قانون الخدمة العسكرية رقم (65) لسنة 1969 نص في المادة(1/5) على أنَّ (المكلف كل عراقي أكمل التاسعة عشرة من عمره....)، ويتضح من نص هذه الفقرة أنَّ المشرع العراقي لم يفرق بين صاحب الجنسية الاصلية وصاحب الجنسية المكتسبة، مع ملاحظة أنَّ التجنيد الالزامي قد تم تعليقه بعد عام 2003، وهو اتجاه غير محمود، إذّ أنَّ أداء الفرد للخدمة العسكرية يعزز شعوره بالمواطنة كما يقوّي من ولاء الفرد لدولته وارتباطه بها(47).
وبناءً على ما تقدم، ولخطورة الموضوع المتعلق بأداء متعدد الجنسية للخدمة العسكرية، فإن ما ينطبق على انخراطه بالسلك العسكري ينطبق من باب اولى على ترشيحه للمناصب السيادية، وذلك لحساسية هذه المناصب واتصالها بأمن الدولة وسيادتها، ومن ثم فأن حرمان متعدد الجنسية من الالتحاق بالخدمة العسكرية، أو وضع قيود على التحاقه بها يوجب حرمانه من الترشيح لشغل بعض المناصب أو تقييد حقه في تولي المناصب السيادية منها.
ونستخلص مما تقدم، إنَّ الحفاظ على اسرار الدولة من جهة، وضرورات الامن القومي من جهة أخرى تستوجب أعفاء متعدد الجنسية من أداء الخدمة العسكرية بوصفها احدى مصالح الدولة العليا التي يجب مراعاتها دوماً، وهي ذات الاسباب التي يستند إليها في حرمان متعدد الجنسية الذي يشك بولائه الكامل لدولته من أن يتبوأ منصباً سيادياً.
المبحث الثاني
حق متعدد الجنسية في تولي المنصب السيادي
بعد الوقوف على تعريف المنصب السيادي وبيان خصائصه، وتحديد المخاطر التي قد تنجم عن تولي متعدد الجنسية لهذا المنصب، يثار التساؤل هنا حول مدى امكانية تولي متعدد الجنسية للمنصب السيادي، وهل يمكن له أن يشغل هذا المنصب شأنه شأن بقية مواطني الدولة منفردي الجنسية، أم أنَّ تعدد الجنسية سيضع قيوداً على شغله لهذا المنصب، وما هو موقف المشرع العراقي من ذلك؟
إنَّ الاجابة على هذه التساؤلات ستشكّل محور الدراسة في هذا المبحث والذي ينقسم فيه البحث على المطلبين الآتيين:
المطلب الأول
مدى امكانية تولي متعدد الجنسية للمنصب السيادي
تعد مشكلة أحقية متعدد الجنسية في تولي المنصب السيادي من أكثر المشاكل التي أثارت اهتمام الفقه والقضاء، حيث تأرجحت الآراء بين مؤيد يجيز لمتعدد الجنسية تولي المناصب السيادية، بوصفه مواطناً يتمتع بممارسة هذا الحق، وبين معارض يحرم متعدد الجنسية من تولي هذه المناصب كونها مناصب خطيرة وحساسة، يجب على من يتولاها أن يكون ولائه خالصاً لدولته الأم، وقد قدّم كلا الفريقين أدلة وحجج قانونية تعزز صحة آرائهم.
الفرع الاول
اطلاق حق متعدد الجنسية في تولي المنصب السيادي
ظهر هذا الرأي في الساحة المصرية بمناسبة انتخابات مجلس الشعب المصري لعام 2000 والتي شهدت اثارة مشكلة حق متعدد الجنسية في الترشيح للانتخابات البرلمانية، حيث طعن أحد المرشحين وقبل بداية عملية الاقتراع بقرار قبول ترشيح منافسه في الانتخابات كونه يحمل الجنسية الهولندية إضافة الى الجنسية المصرية، وذلك أمام محكمة القضاء الاداري في المنصورة، إذ قدم طلباً مستعجلاً الى محكمة القضاء الاداري بوقف تنفيذ القرار واستبعاد ترشيحه ومنعه من الانتخابات، وقد رفضت المحكمة الطعن مبينة إنَّ المدعى عليه قدّم شهادة تثبت انه مصري الجنسية وهذا ما يخوله ممارسة حقوقه السياسية(48)، وهو الأمر الذي يعني عدم حرمان أي مواطن مصري من حقه في الترشيح حال اكتسابه جنسية أخرى طالما أنه لا يزال محتفظاً بجنسيته المصرية، وقد أسست المحكمة حكمها على أنَّ المدعى عليه قد أدى الخدمة العسكرية وقدم شهادة تفيد بـأنه مصري الجنسية، فلا يوجد نص دستوري أو تشريعي يمنعه من ذلك، وهو الامر الذي يخوّله مباشرة حقوقه السياسية(49).
وفي دعوى ثانية طلب المدعي من المحكمة وقف تنفيذ قرار لجنة فحص الطعون الانتخابية بمحافظة الدقهلية بالموافقة على ترشيح المدعى عليه لعضوية مجلس الشعب عن دائرة بلقاس، لكونه يحمل الجنسية الامريكية، واصدرت المحكمة حكمها بقبول الدعوى شكلاً ورفض طلب وقف تنفيذ القرار المطعون فيه، حيث شيدت المحكمة حكمها على أنَ المدعى عليه استثني من أداء الخدمة العسكرية كونه يحمل الجنسية الاجنبية الى جانب الجنسية المصرية، وهو أمر لا يسقط حقوقه بوصفه مواطناً مصرياً، بما في ذلك حقه في الترشيح لعضوية مجلس الشعب، فلا يسقط عنه هذا الحق لمجرد استثنائه من أداء الخدمة العسكرية، ذلك أنَّ المادة الخامسة من قانون مجلس الشعب رقم (38) لسنة 1972 قد اشترطت فيمن يرشح لعضوية مجلس الشعب أن يكون قد أدى الخدمة العسكرية او أُعفي من أدائها طبقاً للقانون، وهكذا فالاستثناء من أداء الخدمة العسكرية يُعد في حكم الاعفاء منها، ومن ثم فإنه يرتب ذات الاثر المترتب على الاعفاء وهو جواز التقدم للترشيح لعضوية مجلس الشعب(50).
وتعددت الطعون في دوائر ومحافظات أخرى حيث وصل عدد الطعون ضد متعددي الجنسية الذين شاركوا في انتخابات مجلس الشعب لسنة 2000 الى سبعة وتسعين طعناً، وهو رقم كبير قياساً بالفصول التشريعية السابقة(51).
وقد أيد الفقه المصري ما أخذت به محكمة القضاء الاداري بحق متعدد الجنسية في الترشيح للمجالس النيابية، وذلك لعدم وجود نص قانوني يحول دون ذلك، فالفرد متعدد الجنسية يتمتع بكافة حقوقه القانونية والسياسية بما فيها حق الترشيح، والدستور بوصفه القانون الأسمى في البلاد لم يمنعه من هذا الحق، فلم يتضمن نصوصاً تميّز في الحقوق ما بين منفرد الجنسية ومتعددها، ومن ثم فلا يمكن للمشرع أنْ يضمّن قانوناً ما نصوصاً تخالف الدستور تقضي بحرمان متعدد الجنسية من الترشيح للمجالس النيابية، أو تقيد ممارسته لهذا الحق، فالأصل في الحقوق الاباحة ما لم تحظر أو تقيد بنص صريح(52).
وحسب أنصار هذا الاتجاه، فإن الجنسية المكتسبة لا تقتلع المصرية من قلب المصري، بل تضم اليها وتضيف الى جانبها، ولذلك سمح المشرع للمصري الاحتفاظ بجنسيته عندما يضم لها جنسية أخرى، وحيث أنَّ العالم يعد قرية صغيرة في عصر العولمة، فأن المصريين في الخارج هم خط الدفاع الأول عن الوطن، وإنَّ وجود المصريين المهاجرين في مواقع حساسة ومراكز مرموقة يعود بالفائدة على مصر، كذلك لا يجوز التشكيك في وطنية من اضطرتهم ظروفهم للعمل في الخارج، كما أكد الفقه أيضاً إنَّ الرأي الذي استقرت عليه المحكمة هو رأي صحيح لأنها لو أقرت بغير ذلك فأنها تكون قد أهدرت بذلك مبدأ المشروعية المنصوص عليه في الدستور والذي يؤكد على أنَّ سيادة القانون أساس الحكم في الدولة(53).
ويمكن القول في هذا المقام، بأن المشرع لم يذكر نصاً يحرم فيه متعدد الجنسية من الترشيح للمجالس النيابية أو رئاسة الجمهورية، ولا يمكن أن ينسب للمشرع النسيان أو الغفلة، بادعاء أنه لم يرد بذهنه هذا الأمر، والدليل أنه عند تنظيمه للمركز القانوني للأجنبي المتجنس بالجنسية المصرية نجده قد قيد حقه في ممارسة حقوقه السياسية باشتراط مضي مدة خمس سنوات على تجنسه لممارسة حق الانتخاب، وعشر سنوات على تجنسه لممارسة حقه في الترشيح، وإنَ اشتراط الجنسية المصرية المنفردة لعضوية المجلس النيابي ستؤدي الى خلل في تطبيق مبدأ مهم نادى به الدستور وهو مبدأ تكافؤ الفرص الذي أكدته المادة الثامنة من الدستور بقولها (تكفل الدولة تكافؤ الفرص لجميع المواطنين)، وهذا يعني أنَ مكتسب الجنسية المصرية سيكون ولاءه أكبر من الذي اكتسب جنسية أخرى، وهو ما يؤدي الى تقسيم الشعب لفئات عديدة، بعبارة اخرى فإن المصري الأصيل سيكون في مكانة أقل من الأجنبي المكتسب للجنسية المصرية، حيث أنَّ الأخير سيتمتع بالحقوق فور انقضاء المدة المقررة له في القانون بعكس المصري المكتسب لجنسية دولة أخرى فأنه محروم من هذه الحقوق بصورة مؤبدة(54).
وإنَّ المشرع عندما حدد شروط الترشيح لمجلس الشعب لم يذكر أنَّ متعدد الجنسية لا يجوز له ممارسة حقه في الترشيح، والقول بغير ذلك من شأنه أضافة شرط جديد الى شروط الترشيح لعضوية مجلس الشعب، وهذا الشرط لم يتضمنه النص، حيث أنه يتعين التقييد بالأحكام المذكورة في التشريع دون التعديل أو الاضافة عليها(55).
كما يرى انصار هذا الرأي أنَ المعيار الأساسي الذي تستند اليه النيابة عن الشعب هو إرادة الناخبين، ومن ثم يجب استبعاد أي تأثير لتعدد الجنسية على الأحقية في الترشيح، وتُعد هذه الارادة إرادة مبصرة وواعية، ولا يؤخذ بعين الاعتبار كون المرشح منفرد الجنسية أو متعددها، طالما أنه مصري، وفي جميع الاحوال فأنه قد حظى بثقة الناخبين، وهذا ما يطابق المادة الثالثة من الدستور المصري الملغى لسنة 1971 والتي نصت المادة على أنَ (السيادة للشعب وحده، وهو مصدر السلطات، ويمارس الشعب هذه السيادة ويحميها، ويصون الوحدة الوطنية على الوجه المبين في الدستور)، اضافة الى ذلك فأن حرص متعدد الجنسية على أنْ يرشح نفسه لمجلس الشعب هو دليل ولائه لبلده، فهو يريد أن يخدم شعبه، والناخب هو من ينتخب من بين المرشحين ما يراه الأصلح بينهم(56).
الفرع الثاني
حرمان متعدد الجنسية من تولي المنصب السيادي
على خلاف الاتجاه السابق، ذهب هذا الاتجاه الى عدم احقية متعدد الجنسية تولي المنصب السيادي، وذلك لأن تعدد الجنسية يُعد مانعاً يحول دون مباشرة متعدد الجنسية لبعض حقوقه السياسية، وهذا ما أرسته المحكمة الادارية العليا المصرية في حكمها الصادر في الطعن بحكم محكمة القضاء الاداري بالمنصورة في جلستها بتاريخ (12/10/2000)، وقد أسست المحكمة حُكمها على أنه ليس من حق متعدد الجنسية الترشيح لعضوية مجلس الشعب، وذلك لأن هذا الأمر يتعارض مع عبارات القسم الواردة في المادة (90) من الدستور المصري الملغى لسنة 1971()، إذّ أنَّ القسم الدستوري يفترض وحدة الجنسية، وأنَّ المحكمة أقرت بأن متعدد الجنسية يكون متعدد الولاء، لأن ولاءه سيكون مقسم لأكثر من دولة، أي أنَّ أداء القسم لا يصلح لأدائه الا المرشح الذي يحمل الجنسية المصرية منفردة ولا تنازعه في الاخلاص لمصر أي دولة أخرى، وقد جاء في حيثيات حكمها (....، ومن حيث الاستخلاص الحتمي لنصوص الدستور وعلى الاخص نص المادة (90) التي تحتم أنْ يقسم عضو مجلس الشعب أمام المجلس قبل أنْ يباشر عمله قسماً مفاده أن يحافظ العضو مخلصاً على سلامة الوطن وأن يراعي مصالح الشعب، مما لا يتصور معه في الاستنتاج المنطقي أن يكون الولاء للوطن شركة مع وطن غيره أو شعب خلاف شعب مصر....، فكل ذلك يتعارض مع صريح عبارة القسم المنصوص عليه بالمادة (90) من الدستور المشار اليها، فلا يستقيم للمواطن وطنين في قلبه يستويان لديه، فالجنسية المصرية المتطلبة كشرط للترشيح لعضوية مجلس الشعب، لا تحتمل شركة مع غيرها، ولا تقبل معها في القلب والنفس مزاحماً ولا منافساً ولا شريكاً....)(57).
كما أكدت المحكمة على منع متعدد الجنسية من تولي المناصب السيادية في حكمها الصادر بالرقم (1960) لسنة 47 ق في 6/11/2000 في الطعن المقدم ضد حكم محكمة القضاء الاداري في دعوى رقم (244) لسنة (23ق)، إذ أستقت ذلك من مفهوم الجنسية، وذلك لأنَّ الجنسية هي رابطة ولاء بين الدولة والفرد، وايضاً فأن قانون مجلس الشعب يفيد أن يكون ولاء المرشح مطلقاً لمصر، حيث جاء في قرارها (....، ومن حيث أنه يتعين بادئ ذي بدء تعريف الجنسية، فالجنسية تعنى فقهاً وقضاءً، رابطة تقوم بين الفرد والدولة بحيث يدين الفرد بولائه للدولة التي ينتمي اليها بجنسيته، وفي المقابل يكون، بل يتعين على تلك الدولة أن تحميه بإسباغ الحماية عليه إذا ما تعرض في دولة أخرى لأي مساس أو تعدٍ، فإذا كان ذلك فإن مفاد ما تقدم ومؤداه الحتمي والمنطقي أنْ يكون الشخص الذي ينتمي الى دولتين بحكم تمتعه بجنسيتين متعدد الولاء بتعدد الجنسية)(58).
وأشارت المحكمة أنَّ المشرع عندما أقر بأنْ يكون المرشح لعضوية مجلس الشعب مصرياً من أب مصري، وذلك لكي يكون المرشح ذات انتماء عميق الجذور في تربة الوطن، مهموماً بمشاكل وطنه، وأنَّ حيازة الشخص لجنسية اخرى غير الجنسية المصرية معناه أنَّ الولاء المطلق من قبله لمصر قد أنشطر قانوناً الى ولائين أحدهما لمصر وثانيهما لموطن أجنبي آخر(59).
وعلى هدي ما تقدم، فأننا لا نتفق مع ما آلت اليه المحكمة الادارية العليا بحرمان متعدد الجنسية من الترشيح لعضوية المجالس النيابية، لأنه لا يوجد نص دستوري أو تشريعي يمنع متعدد الجنسية من ممارسة هذا الحق، لأن المشرع لو اراد منع متعدد الجنسية من ممارسة حقوقه لذكر ذلك في نص صريح، فلا يجوز أنْ تضيف المحكمة شرط لم يتضمنه القانون، أي أنَّ المحكمة قد أخذت باتجاه لا سند له في الدستور ولا في القانون، وكان على المحكمة أنْ تلفت نظر المشرع لوجهة نظرها وتطالبه بالتدخل لحرمان متعدد الجنسية في حال أراد المشرع ذلك، وليس لأنَّ المحكمة تريده، إذ أنَّ إرادة المشرع تعلو على أرادة المحكمة(60)، ولو أراد المشرع منع متعدد الجنسية من الترشيح لعضوية البرلمان لأغلق عليه أي ثغرة يدخل منها الى عضوية البرلمان.
وهذا ما أدركه المشرع بعد إلغاء قانون مجلس الشعب المصري وحلول قانون مجلس النواب رقم (46) لسنة 2014 محله، حيث أقرَ الأخير بأنه لا يجوز لمتعدد الجنسية أنْ يرشح لعضوية مجلس النواب، إذّ اشترط وبصريح العبارة أنِّ يكون المرشح منفرد الجنسية، وهذا ما نصت عليه المادّة (8/1) والتي اشترطت في المرشح لمجلس النواب (أن يكون مصرياً متمتعاً بالجنسية المصرية منفردة، ومتمتعاً بحقوقه المدنية والسياسية)، وبهذا حسم المشرع الخلاف المثار حول احقية متعدد الجنسية في الترشيح للعضوية البرلمانية في مصر.
وبتحليل نص هذه الفقرة، نجد أنَّ المشرع قد تلافى أي مشكلة بخصوص هذه الحالة، حيث نص على حرمان متعدد الجنسية من الترشيح لعضوية مجلس النواب وذلك باشتراطه أنْ يكون المرشح حاملاً للجنسية المصرية منفردة، وقد يكون هدف المشرع من وراء ذلك هو المحافظة على الأمن الوطني للدولة، رافضاً أنْ يتولى شؤونها مواطناً اجنبياً اكتسب الجنسية الاجنبية، أو مواطناً مصرياً أكتسب الجنسية الاجنبية(61).
ولكن المحكمة الدستورية العليا حكمت بعدم دستورية عبارة (متمتعاً بالجنسية المصرية منفردة) والواردة في البند (1) من المادة (8) من قانون مجلس النواب وذلك في حكمها بالقضية رقم (24) لسنة 37 ق.د في 7/3/2015، وقد أسست حكمها على أنَ النص جاء مخالفاً لمواد الدستور المتعلقة بحق الترشيح والانتخاب، وكذلك مخالفاً لمواد الدستور المتعلقة بالسيادة الشعبية، والمواطنة، ومبدأ تكافؤ الفرص، ومبدأ المساواة(62).
وأهم ما جاء في حيثيات حكم المحكمة (.... إنَّ الدستور القائم قد أولى صفة المواطنة أهمية بالغة، إذّ قرنها بسيادة القانون، وجعل منهما أساساً للنظام الجمهوري الديمقراطي الذي تقوم عليه الدولة، ونص كذلك على أن السيادة للشعب وحده، وهو مصدر السلطات، ويصون وحدته الوطنية، التي تقوم على مبادئ المساواة والعدل وتكافؤ الفرص بين المواطنين،....)
كذلك فأن (... نص المادة (102) من الدستور قد حسم الشروط المتطلبة في طالب الترشيح لمجلس النواب بلا لبس أو غموض، إذّ اشترطت في المرشح لعضوية المجلس أنْ يكون مصرياً متمتعاً بحقوقه المدنية والسياسية،... ومن ثم فقد أورد المشرع الدستوري الشروط الرئيسية والجوهرية بحيث لا يجوز للمشرع العادي الخروج عليها أو الانتقاص منها بما يهدرها أو يفرغها من مضمونها، ومن بين هذه الشروط حمل الجنسية المصرية على نحو مطلق من أي قيد أو شرط،...)(63).
وهكذا يمكن القول أنَّ المحكمة الدستورية العليا قد أجازت في حكمها هذا لمتعدد الجنسية أنْ يمارس حقه في الترشيح للمجالس النيابية، وهذا يعني أنها أيدت ما أصدرته محكمة القضاء الاداري من أحكام بخصوص هذا الأمر، واستناداً لهذا الحكم فقد أصدر رئيس الجمهورية قراراً بالرقم (92) لسنة 2015 بتعديل البند الأول من نص المادة الثامنة من قانون مجلس النواب رقم (46) لسنة 2014 ليصبح النص كالاتي (مع عدم الاخلال بالأحكام المقررة في قانون تنظيم مباشرة الحقوق السياسية يشترط فيمن يرشح لعضوية مجلس النواب: 1. أن يكون مصرياً متمتعاً بحقوقه المدنية والسياسية).
واستناداً الى النص اعلاه فقد أكتفى المشرع في المرشح لعضوية مجلس النواب أنْ يكون مصرياً دون تمييز بين صاحب الجنسية الأصلية وصاحب الجنسية المكتسبة عدا مرور المدة الزمنية المذكورة في قانون الجنسية النافذ، مغايراً بذلك الموقف الذي كان سائداً في ظل قانون مجلس الشعب رقم (38) لسنة 1972 الملغى، والذي كان يشترط في المرشح أنْ يكون مصرياً من أب مصري، حارماً بذلك صاحب الجنسية المكتسبة من مزاولة هذا الحق، وذلك ليكون ولاء المرشح خالصاً للدولة المصرية.
المطلب الثاني
موقف المشرع العراقي من تولي متعدد الجنسية للمنصب السيادي
اتجه المشرع العراقي الى تقييد حق متعدد الجنسية في تولي المنصب السيادي وذلك من خلال اشتراطه أن يتخلى عن أي جنسية أخرى مكتسبة إذا ما رغب تولي هذا المنصب، وهو ما ستتم مناقشته في هذا المطلب من خلال مطالعة النصوص القانونية الناظمة لحق متعدد الجنسية في تولي المنصب السيادي أولاً، ثم بحث الاجراءات اللازمة للتخلي عن الجنسية المكتسبة ثانياً.
الفرع الأول
النصوص القانونية الناظمة لحق متعدد الجنسية في تولي المنصب السيادي
لم يشهد العراق قبل عام 2003 أي خلافِ حول أحقية متعدد الجنسية في تولي المنصب السيادي، وذلك لأن القوانين النافذة في تلك الفترة لم تكن قد نظمت ظاهرة تعدد الجنسية، بل اتجهت الى العكس من ذلك الى الحد منها، حيث بيّنت المادّة (13) من قانون الجنسية العراقية رقم (42) لسنة 1924بأنّه (كل عراقي يتجنس بجنسية اجنبية في دولة اجنبية عن اختيار منه تزول عنه الجنسية العراقية ولا يعترف بجنسيته الجديدة في العراق ما لم تأذن الحكومة العراقية بها، واذا عاد الى العراق فللحكومة العراقية الحق باعتباره عراقياً او اخراجه من العراق)، كما أشارت المادّة (11/1) قانون الجنسية العراقية رقم (43) لسنة 1963 إلى أنه (كل عراقي اكتسب جنسية اجنبية في دولة اجنبية باختياره يفقد جنسيته العراقية)، كذلك نصت الفقرة الثانية من المادة ذاتها على أنه (إذا تزوجت المرأة العراقية من أجنبي أو من عراقي اكتسب جنسية أجنبية بعد تاريخ الزواج، تزول عنها الجنسية العراقية متى اكتسبت جنسية زوجها باختيارها)، أي أنَ المرأة العراقية التي تتزوج من أجنبي أو من عراقي اكتسب جنسية أجنبية، تبقى محتفظة بجنسيتها العراقية، ولكن في حال اكتسبت جنسية زوجها الأجنبي بمحض إرادتها واختيارها تفقد جنسيتها العراقية بحكم القانون.
أما قانون الجنسية العراقية والمعلومات المدنية رقم (46) لسنة 1990 فقد نص في المادة (11/ أولاً) على أنه (كل عراقي اكتسب جنسية أجنبية في دولة أجنبية باختياره يفقد جنسيته العراقية من تاريخ اكتسابه الجنسية الأجنبية).
وقد تغيّر الحال بعد عام 2003، إذّ كرس المشرع ظاهرة تعدد الجنسية في الوثائق الدستورية الصادرة بعد عام 2003، سواء في قانون أدارة الدولة للمرحلة الانتقالية المؤقتة، أو في دستور جمهورية العراق 2005، وكذلك في قانون الجنسية العراقي النافذ رقم (26) لسنة 2006.
ويعود اقرار ظاهرة تعدد الجنسية الى ما نصت عليه الأسباب الموجبة لهذا القانون والتي جاء فيها (....، ولغرض ربط العراقي بوطنه أينما حـل في بقاع العالم ودفعه الى الانتماء الى تربة العراق رغم حصوله على جنسية أخرى شرع هذا القانون)، كما قد يعود الى الظروف الاجتماعية والامنية والاقتصادية التي شهدتها الساحة العراقية وما لهذا الأمر من أثر كبير في هجرة أبناء الوطن وعدم استقرارهم داخل البلاد(64)، هذا فضلاً عما اتخذه النظام السابق من قرارات تعسفية تسببت بتسفير بعض المواطنين أو هروبهم إلى خارج البلد، فمراعاة لهؤلاء جميعاً اقر المشروع تعدد الجنسية(65).
وقد جاء النص على تعدد الجنسية بصورة صريحة في قانون ادارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية لسنة 2004 حيث نصت المادة (11/ج) على أنه (يحق للعراقي أن يحمل أكثر من جنسية واحدة، وإن العراقي الذي أُسقطت عنه جنسيته العراقية بسبب اكتساب جنسية أخرى، يُعد عراقياً)، كما تأكد ذلك بصدور دستور جمهورية العراق لسنة 2005 والذي نصت المادة (18/ رابعاً) منه على أنه (يجوز تعدد الجنسية للعراقي...)، وصدر قانون الجنسية العراقية رقم (26) لسنة 2006 مؤكداً هذا المبدأ بصورة صريحة في المادة (10/ أولاً) والتي نصت على أنه (يحتفظ العراقي الذي يكتسب جنسية أجنبية بجنسيته العراقية ما لم يعلن تحريرياً عن تخليه عن الجنسية العراقية).
إلّا أنَّ دستور 2005 وقانون الجنسية لسنة 2006 قيدا بصورة صريحة حق متعدد الجنسية في تولي المنصب السيادي، حيث ورد في شطر المادة (18/ رابعاً) من الدستور (...، وعلى من يتولى منصباً سيادياً أو أمنياً رفيعاً التخلي عن اية جنسية أخرى مكتسبة، وينظم ذلك بقانون)، كما ورد في المادة (9/ رابعاً) من قانون الجنسية النافذ أنه (لا يجوز للعراقي الذي يحمل جنسية أخرى مكتسبة أن يتولى منصباً سيادياً أو امنياً رفيعاً إلا إذا تخلى عن تلك الجنسية).
ويرى البعض أنَّ ما سلكه المشرع الدستوري في تقييده لحق متعدد الجنسية في تولي المنصب السيادي أمر صحيح، وذلك لأن اكتساب جنسية جديدة لدولة ما يقتضي قانوناً أداء يمين الولاء لتلك الدولة، وإنَّ هذا اليمين يتضمن التنصل من أي ولاءات وطنية سابقة وبشكل مطلق وغير مقيد، وحسب هذا القسم يكون الفرد ملزماً بالدفاع عن مصلحة الدولة وأمنها(66).
كذلك فإن وضع هذا القيد في الدستور العراقي قد يكون بسبب ما تتمتع به هذه المناصب من حساسية وخطورة من جهة، ولتركيز ولاء الفرد بدولته من ناحية أخرى(67)، إذّ أنَّ تخلي المرشح لتولي المنصب السيادي عن الجنسيات الاخرى المكتسبة يمثل تعبيراً عن ولاءه الحقيقي لدولته الاصلية، فإذا كان اكتسابه لتلك الجنسيات قد تم بفعل ظروف استثنائية معينة، فيجب عليه التخلي عنها بزوال تلك الظروف.
وقد يعود السبب في ذلك الى أن المشرع أوجس خيفة من أنَّ أغلب المتصدين للعمل السياسي والاداري هم من العراقيين المغتربين الذين حصلوا على جنسيات دول مختلفة نتيجة مطاردة النظام الديكتاتوري السابق لهم(68).
وقد أحال المشرع الدستوري تنظيم هذه المسألة الى قانون تسنّه السلطة التشريعية متمثلة بمجلس النواب، إلاّ أنَّ الأخير لم يبادر لتشريع قانون التخلي عن الجنسية المكتسبة لمن يشغل منصباً سيادياً من متعددي الجنسية رغم ورود مشروع قانون بهذا الخصوص من مجلس الوزراء.
ورغم ما أورده الدستور من قيد صريح إلاّ إنَّ الواقع لا يزال يشهد تولي بعض العراقيين مناصباً سيادية رغم حيازتهم لأكثر من جنسية واحدة، ولعل ذلك راجع الى أسباب سياسية، فأغلب التيارات السياسية المهيمنة على السلطة مستفيدة من هذا الوضع، ومن ثم فإن موقف السلطات لم يكن حاسماً تجاه هذا الموضوع، الأمر الذي يعني عدم احترام نصوص الدستور، بل وعدم احترام ارادة الشعب التي ساهمت في وضعه عن طريق الاستفتاء.
هذا وقد سبق لمجلس النواب أن قدّم طلباً الى المحكمة الاتحادية العليا لبيان المقصود من نص البند (رابعاً) من المادة (18) من الدستور وتوضيح ما يمكن أن يُعد من المناصب السيادية وفقاً للنص الدستوري المذكور، وبعد التدقيق والمداولة من المحكمة الاتحادية العليا توصلت الى (....، إنَّ تعبير المنصب السيادي أو الأمني الرفيع الذي تنص عليه المادة (18\رابعاً) من الدستور مناط تحديده الى التوجهات السياسية في العراق والقائمون عليها من يحدد هذه المناصب ومدى تأثيرها في السياسة العامة للدولة وتنظم مدلولاتها وفقاً لذلك القانون)(69).
ويمكننا القول في ضوء القرار المذكور إنَّ المحكمة لم تبيّن وبصورة صريحة معنى المنصب السيادي أو الأمني الرفيع، وكان الأجدر بها أنْ تبيّن ماهية هذه المناصب بصورة تقطع الشك أو التأويل.
هذا فضلاً عن المشاكل التي تنجم عن تولي متعدد الجنسية للمنصب السيادي، فقد شهدت الساحة العراقية هروب بعض المسؤولين ممن يحملون جنسية أخرى بالإضافة الى الجنسية العراقية عند اتهامهم بالفساد أو التقصير في أدائهم لمهامهم مما شكل عائقاً كبيراً أمام السلطات المختصة في القبض عليهم.
ومما تجدر الاشارة اليه في هذا الصدد إنَّ الأمين العام لحزب الوفاء الوطني العراقي تقدم بدعوى أمام المحكمة الاتحادية العليا ضد كل من رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء، مدعياً مخالفتهما نص المادتين(60/ أولا وثانياً) و (80\ ثانياً) من الدستور، وإنَّ وجه المخالفة الدستورية يتمثل بالإهمال المتعمد لتطبيق المادة (18/ رابعاً) من الدستور، حيث أنَّ الغاية من تشريع هذه المادة هو ضمان ولاء المسؤول لوطنه الأصلي (العراق) وعدم الازدواجية في الولاء، وإنَ الاحتفاظ بامتيازات الجنسية المكتسبة تفتح باب المجال للفاسدين للتهرب من المسؤولية القانونية، وإنَّ عدم تفعيل قانون مزدوجي الجنسية يفسح المجال للعديد من المسؤولين للعودة الى الدول التي اكتسبوا جنسيتها مما يضيّع على القضاء فرصة الفرصة الاقتصاص منهم أو القبض عليهم، ورغم مضي مدة طويلة على نفاذ الدستور إلّا أنَّ القانون لم يشرع، وطلب وكيل المدعي دعوة المدعى عليهما وإلزامها بتطبيق المادة (18/ رابعاً) من الدستور وخلال فترة زمنية محددة.
ولدى التدقيق وجدت المحكمة الاتحادية العليا أنَّ المدعى عليه الثاني رئيس مجلس الوزراء اضافة لوظيفته قد أوفى التزامه الدستوري وقدّم مشروع القانون المطلوب تشريعه وفقاً للمادة (80/ ثانياً) من الدستور، أما بالنسبة للمدعى عليه الأول رئيس مجلس النواب اضافة لوظيفته فإن الطلب بإلزامه بتشريع القانون في فترة زمنية محددة لا يجد له سنداً في الدستور وذلك لأنه يتعلق بأمور تنظيمية تخص مجلس النواب، فضلاً عن عدم اختصاص المحكمة بنظر هكذا طلبات لتعارضها مع أحكام المادة (47) من الدستور التي تقضي بالفصل بين السلطات فيما يتعلق باختصاصاتها ومهامها، وبناءً على ما تقدم قررت المحكمة الاتحادية رد الدعوى(70).
ويتضح من القرار اعلاه أنَّ المحكمة لم تلزم رئيس مجلس النواب بتشريع قانون يمنع متعددي الجنسية من تولي المناصب السيادية خلال فترة زمنية محددة، وذلك لعدم وجود نص في الدستور يخول القضاء ذلك، فضلاً عن احترام مبدأ الفصل بين السلطات والذي لا يعطي الحق للقضاء بالتدخل في شؤون السلطة التشريعية ما لم يبيح الدستور ذلك، وأنَّ رئيس مجلس الوزراء قد نفّذ التزامه الدستوري حين أعدَّ مشروع القانون وأرسله الى مجلس النواب للتصويت عليه.
الفرع الثاني
اجراءات التخلي عن الجنسية المكتسبة
قضت المادة (18/ رابعاً) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005 بوجوب تخلي متعدد الجنسية عن اي جنسية أخرى مكتسبة عند توليه منصباً سيادياً، إلّا أنَّ نصوص الدستور والقوانين ذات الصلة لم تتضمن الحديث عن اجراءات التخلي عن الجنسية المكتسبة.
إنَّ تخلي متعدد الجنسية عن الجنسية الأخرى المكتسبة يتطلب تقديم ما يثبت أنه قد تخلى فعلاً عن تلك الجنسية، فالتخلي لا يكون بتعهد يقدمه من تولى المنصب السيادي وإنما بأجراء قانوني أو وثيقة تصدر عن الدولة التي تخلى عن جنسيتها، وتقدم لوزارة الخارجية عن طريق السفارات للتأكد من صحة هذه الوثيقة ومدى قانونية الاجراءات المتبعة في التخلي عن الجنسية المكتسبة، ومن ثم تقرر الخارجية كجهة صاحبة اختصاص أنَّ هذا الشخص قد تخلى فعلاً عن الجنسية المكتسبة(71)، وهكذا فلا يمكن قبول توليه منصباً سيادياً إلاّ بعد أن يقدم اثباتاً رسمياً على تخليه عن الجنسية الاجنبية التي كان يحملها. وإنَّ تخلي الفرد عن الجنسية الاجنبية هي بمثابة تحول لمركزه من محل الشك الى محل الثقة، فهو اعلان عن ولائه الحقيقي لدولته الاصلية وبمحض ارادته لتحمل أعباء المشاركة في ادارة شؤونها العامة(72).
وذهب رأي اخر الى أنَّ اجراءات التخلي عن الجنسية الاجنبية المكتسبة إنما تكون عن طريق خطاب تحريري يوجهه متعدد الجنسية الى الدولة الاجنبية التي يحمل جنسيتها يبيّن فيه رغبته بالتخلي عن الجنسية المكتسبة وذلك بسبب تبوئه منصباً سيادياً في دولته الأم، مع تقديمه تعهداً بعدم العودة إليها بعد زوال صفته الوظيفية نتيجة لخطورة المعلومات التي سيتسنى له الاطلاع عليها عند اشغاله لهذا المنصب. أما عن الجهات الرسمية ذات العلاقة حسب الرأي اعلاه فهما وزارة الداخلية متمثلة بمديرية الجنسية ووزارة الخارجية التي تكون مهمتها أجراء المخاطبات الرسمية أضافة الى التنسيق ما بين الدولة الاجنبية ومديرية الجنسية في متابعة القضية(73).
وفي حال لم يتخلى الوطني متعدد الجنسية عن جنسيته الأخرى المكتسبة، وترشح بالرغم من ذلك لتولي منصباً سيادياً فإنه يكون قد أقترف ضرباً من الغش يفسد تمتعه بهذا الحق، وإنَّ عدم تخليه عن هذه الجنسيات إنما يؤكد ضعف ولائه للجنسية الوطنية التي يحملها وتفضيل الجنسية الاجنبية، وبذلك لا يستحق التمتع بالحقوق التي تثبت للوطني منفرد الجنسية(74).
والسؤال الذي يطرح هنا ما هو الوقت الذي يتم فيه التخلي عن الجنسية الاخرى المكتسبة؟
لم نجد ايضاً في نصوص الدستور النافذ أو قانون الجنسية أو مشروع قانون التخلي عن الجنسية المكتسبة تحديداً للوقت الذي يتم فيه التخلي عن الجنسية الاجنبية المكتسبة، فالبعض يرى أنَّ متعدد الجنسية يجب عليه التخلي عن الجنسية المكتسبة قبل المصادقة عليه كمرشح للمنصب السيادي(75)، ونحن لا نتفق مع هذا الرأي لأن الدستور كفل حق الترشيح لجميع العراقيين سواء كانوا حاملين للجنسية الاصلية أو المكتسبة(76).
ويرى البعض الآخر أنْ يكون التخلي عن الجنسية الاجنبية المكتسبة قبل أداء اليمين الدستورية وذلك لأن الفرد لا يستطيع أن يباشر عمله إلاّ بعد اداء اليمين الدستورية، وهذا ما يفهم من عبارة (من يتولى) التي أوردتها المادة (18\رابعاً) من الدستور، حيث يسري الحكم على من يتولى المنصب السيادي وليس على من يرشح له، فالمرشح لعضوية مجلس النواب مثلاً لا يتخلى عن جنسيته المكتسبة اثناء فترة الترشيح، لكنه يلزم بالتخلي عنها في حال فوزه بأحد المقاعد النيابية(77)، وهذا ما حصل عند تولي أياد السامرائي منصب رئاسة مجلس النواب بدلاً عن محمود المشهداني، إذ أعلن تخليه عن جنسيته البريطانية قبل صدور موافقة مجلس النواب على توليّه رئاسته(78).
ونحن نتفق مع هذا الرأي، لأن أداء اليمين الدستورية هو بمثابة الاذن للمسؤول بالقيام بالأعمال المناطة به، ومن ثم فلا يمكن السماح لمتعدد الجنسية بمباشرة مهام منصبه قبل تخليه عن الجنسية المكتسبة، والقول بخلافه سيؤدي الى التهاون في تطبيق نصوص الدستور واهدار غايتها، إذ يصبح الموضوع رهناً بمشيئة المرشح إن شاء تخلى عن جنسيته، وإن شاء امتنع عن ذلك.
هذا وقد شهد العراق بعض تطبيقات التخلي عن الجنسية المكتسبة، فقد تخلى رئيس الوزراء (حيدر العبادي) عن جنسيته البريطانية التي كان يحملها كجنسية ثانية قبل اشغاله للمنصب المذكور(79)، كما تخلى رئيس الجمهورية (فؤاد معصوم) عن جنسيته البريطانية المكتسبة وعن جواز سفره، مع ابداء شكره للمملكة المتحدة على الجواز الذي أتاح له حرية السفر أبان النظام السابق، إذ فاتح السلطات البريطانية فور انتخابه رئيساً لجمهورية العراق لإتمام إجراءات اعادة الجواز وسحب الجنسية امتثالاً للدستور العراقي الذي يمنع متعددي الجنسية من تولي المناصب السيادية(80).
الخاتمة
بعد أنْ أنهينا البحث في موضوع (التنظيم القانوني لحق متعدد الجنسية في تولي المنصب السيادي)، توصلنا الى جملة من النتائج والتوصيات ندرجها فيما يلي:
أولاً: النتائج
1. تميّز دستور جمهورية العراق لسنة 2005 عن كافة الدساتير العراقية السابقة بأنه أجاز وبشكل صريح تعدد الجنسية وذلك في المادة (18/ رابعاً) منه، كما تأكد هذا المسلك في قانون الجنسية العراقية النافذ رقم (26) لسنة 2006، مسجلاً بذلك سابقة جديدة في تاريخ التشريع العراقي.
2. لم يتطرق المشرع العراقي لتعريف المنصب السيادي لا على مستوى الدستور النافذ ولا التشريعات ذات الصلة، فضلاً عن أنه لم يضع معياراً محدداً للتمييز ما بين المناصب السيادية من جهة، والمناصب الامنية الرفيعة من جهة أخرى، وكان الأجدر بالمشرع الدستوري أنْ يكتفي بذكر المنصب السيادي دون ذكر المنصب الامني الرفيع، وذلك منعاً لكثرة التفسيرات والتأويلات، باعتبار أنَّ المنصب السيادي هو كل منصب يتصل بسيادة الدولة وأمنها.
3. يمكن تحديد المفهوم الاصطلاحي للمنصب السيادي بأنه كل منصب يتصل بصورة مباشرة بسيادة الدولة وأمنها، بحيث يمنح شاغله القدرة على اتخاذ القرارات المتعلقة بسيادة الدولة وأمنها ومصالحها العليا، ويخضع اشغال المناصب السيادية لأحكام خاصة تختلف عن تلك التي تخضع لها المناصب العادية، فشروط تولي هذه المناصب واجراءات توليها تكون أكثر تعقيداً من تلك المتبعة في اشغال المناصب العادية.
4. لم يجعل المشرع العراقي من تعدد الجنسية مانعاً من الترشح لتولي المناصب السيادية بصورة عامة، لكنه اشترط عند تولي متعدد الجنسية لأحد هذه المناصب أن يتخلى عن أي جنسية أجنبية مكتسبة.
5. خلت النصوص الدستورية والقانونية ذات الصلة من أي تحديد لإجراءات التخلي عن الجنسية المكتسبة، كما خلت تلك النصوص من تحديد الوقت الذي يتم فيه تخلي متعدد الجنسية عن جنسيته الأخرى المكتسبة عند توليه منصباً سيادياً، وكان الأولى أن ينص المشرع على أنْ يتم التخلي عن الجنسية الاجنبية الأخرى قبل أداء اليمين الدستورية اللازمة لشغل المنصب السيادي.
ثانياً: التوصيات
1. نقترح على المشرع الدستوري تعديل نص المادة (18/ رابعاً) من الدستور وذلك على النحو الآتي: (لا يجوز للعراقي الذي يحمل جنسية اجنبية مكتسبة أن يتولى منصباً سيادياً إلاّ إذا تخلى عنها، وينظم ذلك بقانون).
2. نوصي البرلمان الاتحادي بضرورة الاسراع في تشريع قانون التخلي عن الجنسية المكتسبة، إذ أنَّ تأخير اقرار هذا القانون يعد خرقاً واضحاً لنص المادة (18) من الدستور.
3. نوصي المشرع العراقي بضرورة تحديد مفهوم دقيق وواضح للمنصب السيادي الذي تنطبق عليه أحكام المادة (18/ رابعاً) من الدستور وذلك لقطع دابر التأويل والاختلاف في التفسير.
4. ندعو المشرع العراقي إلى إيراد نص صريح في مشروع قانون التخلي عن الجنسية المكتسبة يحدد الجهة التي يقدم لها طلب التخلي عن الجنسية المكتسبة، مع تحديد الوقت الذي يتخلى فيه متعدد الجنسية عن الجنسية الاخرى المكتسبة، والذي تقترح أن يكون قبل أدائه اليمين الدستورية اللازمة لتولية المنصب.
5. نقترح أن يضّمن المشرع العراقي في مشروع قانون التخلي عن الجنسية المكتسبة نصاً يلزم فيه متعددي الجنسية المستمرين بشغل بعض المناصب السيادية التخلي عن الجنسية المكتسبة التي يحملونها خلال فترة زمنية معينة، وبخلافه فعلى متعدد الجنسية ترك المنصب السيادي.
اضف تعليق