مقدمة
تعد شبكة الإنترنت بيئة باثولوجية لانتشار التحرش الجنسي الإلكتروني، وذلك لارتباطها بغياب الهوية التي تعد من أبرز المحفزات على انتشار هذا النوع من التحرش(1). وقد استخدم مصطلح التحرش الجنسي لأول مرة على يد الباحثة ماري روي (Mary Roy)، في تقرير قدمته لمعهد ماساتشوستش للتكنولوجيا عام 1973، عن أشكال مختلفة من قضايا المساواة بين الجنسين(2). ومع التطور التكنولوجي تطورت أشكال التحرش لينتقل من المجتمع الواقعي إلى المجتمع الإلكتروني، وأصبحت وسائل التواصل الإلكترونية أرضًا خصبة لما يعرف بظاهرة التحرّش الإلكترونيّ، فبعض النساء قد يتعرضن للتحرش عند استخدامهن شبكات التواصل الاجتماعي، فلا تكاد المرأة تستخدم اسمها أو صورتها الحقيقية في صفحتها الشخصية حتى تُنتهك خصوصيتها.
ويمكن أن يحدث التحرش الجنسي الإلكتروني عبر مجموعة متنوعة من التطبيقات، أهمها: غرف الدردشة، منتديات الإنترنت، مواقع التواصل، الرسائل الفورية، البريد الإلكتروني. الصور الرمزية، النوافذ المنبثقة، الإعلانات، الروابط التلقائية، البريد المزعج(3).
أولاً: ما التحرش الجنسي الالكتروني؟
لقد أدخلت القواميس مفردات مستحدثة لوصف ظاهرة التحرش عبر الإنترنت، كالتحرش الإلكتروني، التحرش من بعد، التحرش الافتراضي، والتحرُّش الرقمي، التحرش السابيري... الخ. تتعدد المفردات وتختلف لتلتقي عند وصف كل سلوك غير لائق له طبيعة جنسية يضايق المرأة، ويتعدّى على خصوصيتها ويجرح مشاعرها، ويجعلها فاقدة للشعور بالأمان أو الاحترام، ويؤثر على حالتها النفسية والمزاجية.
تعرف روي (Rowe) التحرش الجنسي بأنه "فعل أو لفظ يحمل إيحاءات جنسية ضد رغبة الضحية" (4). كما يعرف بأنه "أي صيغة من الكلمات غير مرغوب بها أو الأفعال ذات الطابع الجنسي والتي تنتهك خصوصية أو مشاعر شخص ما وتجعله يشعر بعدم الارتياح، أو التهديد، أو عدم الأمان، أو الخوف، أو عدم الاحترام، أو الترويع، أو الإساءة، أو الانتهاك أو أنه مجرد جسد"(5).
تعرف الورقة الحالية التحرش الالكتروني بأنه؛ "استخدام شبكة الإنترنت في التواصل مع المرأة بقصد إيذائها والإضرار بها جنسيًا وابتزازها اجتماعيًا". وعلى ذلك يمكن التفرقة بين التحرش في المجتمع الواقعي والتحرش الإلكتروني، حيث إن الأول مادي والثاني رمزي لا يحدث فيه انتهاك للجسد، بجانب تخفي فاعله، إلا أنه يجب التعامل مع النوع الثاني بعيدًا عن القيمة المجتمعية السلبية، التي تجعل الشخص يبتعد عن الحل والمواجهة، حيث ينبغي أن يكون هناك تدخل فعلي لمنع محاولات التحرش الإلكترونية، وأن يكون هذا التدخل على قدر الحدث حتى لا يتجرأ المتحرش على تكرار أفعاله.
ثانيًا: التحرش الجنسي الإلكتروني.. الأنماط والداوفع
أولاً: التحرش الجنسي الإلكتروني محاولة في التنميط
أ- أنماط التحرش الإلكتروني
التحرش الجنسي الالكتروني يمكن أن يشمل عدة أنماط هي(6)؛
- النمط الأول: التحرّش اللفظي؛ ويتمثل في إرسال الكلمات الخادشة للحياء، أو مكالمات صوتية، وتلفّظ بكلمات ذات طبيعة جنسية، أو وضع تعليقات ذات إيحاء جنسي، والنكات الجنسية، وطلب ممارسة الجنس الإلكتروني.
- النمط الثاني: التحرش البصري؛ ويتمثل في إرسال الصور والمقاطع الجنسية، والطلب من الضحية الكشف عن أجزاء من جسدها، أو قيام المتحرش بإرسال صور أو فيديو له وهو في أوضاع مخِلَّة بالآداب.
- النمط الثالث: التحرش بالإكراه أو البلطجة؛ حيث أنه من الممكن أن يحدث التحرش الجنسي من خلال اختراق جهاز الاتصال الخاص بالمرأة، والحصول على صور خاصّة، ومعلومات شخصيّة عنها، وإجبارها على الموافقة على اللقاء بالمتحرّش على أرض الواقع، وذلك من خلال الملاحقة، أو التهديد والابتزاز بنشر الصور، أو التشهير عبر وسائل إلكترونية مختلفة، أو الملاحقة والتجسس، أو التتبع بالتعليقات المسيئة، أو انتحال الشخصية بتزوير البريد الإلكتروني أو انتحال الحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي.
ب - أنماط المتحرشون إلكترونيًا
تقسم الورقة الحالية المتحرشون إلكترونيًا إلى ثلاثة أنماط؛
- النمط الأول؛ أشخاصاً يخشون مواجهة الآخر فيتحرشون بأشخاص لا يعرفونهم للبعد عما يخشونه، وينتشر التحرش الإلكتروني بكثرة بين الشخصيات المنغلقة التي لا تتمتع بالحريات، لأن المتحرش في هذا النمط يجد في أحاديث الإنترنت متنفساً له.
- النمط الثاني: يشمل الأشخاص الذين يسعدون بالنصب على الآخرين واستغفالهم، وهذه الشخصيات غير سوية ولها دوافعها التي تتعلق بطبيعتها.
- النمط الثالث؛ فيه من يشعرون بسعادة جنسية لمجرد تحدثهم بكلمات فيها إيحاءات جنسية على الإنترنت، ويثارون من هذا، وقد تزداد سعادتهم عندما تقابل أحاديثهم بالرفض أو الإهانة(7).
ج - أنماط المتحرش بهن إلكترونيًا
تشير الكثير من الدراسات(*) إلى أن النسوة هن الأكثرية من ضحايا التحرش بالرغم من وجود فئات أخرى مثل الأطفال والمراهقين. وتوجد عدة أنماط للمتحرش بهن جنسيًا عبر شبكة الإنترنت؛
- النمط الأول؛ تستجيب فيه الضحية مباشرة كأنها تنتظر من يتحدث معها، وهذه الشخصية لديها نفس سمات من يخشى مواجهة من أمامه، وتريد عمل صداقات وهمية من خلال العالم الافتراضي الذي يوفره الكمبيوتر.
- النمط الثاني؛ تستجيب فيه الضحية بعد إلحاح، وتبدأ استجابتها بعبارات رفض الحديث مع من أمامها تحت شعار الأخلاق، ويكون مدخل التحدث مع هذا النمط الكلام الجميل الأخلاقي والتأكيد على عدم التجاوز في أي أحاديث.
- النمط الثالث؛ فيضم كل من تتصرف بطريقة منطقية وسوية وترفض جميع هذه المحاولات بصفة دائمة، مهما كانت درجة الإلحاح.
ثانيًا: دوافع وأسباب التحرش الجنسي الإلكتروني
يثير موضوع العوامل التي تدفع الشخص لممارسة التحرش جدلاً ونقاشًا حادًا، فهناك من يقول إن الكبت الجنسي هو أحد أسباب التحرش، إلا أن الشواهد من المجتمعات "المنفتحة أو غير المحافظة" تدحض هذا الافتراض، إذ إن التحرش الجنسي مشكلة موجودة لديهم أيضًا. في المقابل فإن آخرين يقولون إن غياب التقاليد الدينية أو المحافظة عن المجتمع هو سبب التحرش، ولكن يناقض هذا الادعاء حقيقة أن الكثير من المجتمعات المحافظة "مثل المجتمع المصري" تعاني من أرقام وبائية في التحرش الجنسي.
لذلك فإن الورقة الحالية ترى أن هناك عوامل اجتماعية مختلفة ودوافع عديدة وراء ظاهرة التحرش الإلكتروني، التي انتشرت منذ سنوات، ومن أبرز هذه الدوافع ما يلي؛
(1) انهيار منظومة القيم الاجتماعية
من أبرز الأسباب التي أفضت لظاهرة التحرش الجنسي؛ تراجع منظومة القيم الاجتماعية الراسخة في أعماق المجتمع العربي، وظهور منظومة قيمية جديدة أفرزها التغير الاجتماعي السريع في هذا المجتمع، تلك المنظومة التي أسست لمعايير جديدة مغايرة تمامًا للمعايير التقليدية للأسرة العربية. من أبرز تجليات المنظومة الجديدة تراجع المعنى السليم للتدين، واستبداله بتدين طقوسي براني قائم على الاستغراق في أداء الشعائر الدينية، وانفصال ذلك عن السلوك الواقعي، بحيث لا تتجلى فضائل الطقوس في إصلاح النفوس، ولا يظهر أثر الشعائر في ترقيق المشاعر(8).
(2) النظر إلى المرأة باعتبارها جسدًا
من تجليات انهيار منظومة القيم الاجتماعية، اختزال المرأة في مجرد جسد فاتن، وتغييب المرأة ككائن اجتماعي واع يسهم مع الرجل جنبًا إلى جنب في نهضة الأمة وتطورها. ولقد فرق بيتر بيرجر (P. Berger) بين مصطلحين مهمين في سوسيولوجيا الجسد. فلقد طرح برجر مفهومين مهمين في تصور الجسد، الأول أن يكون الإنسان جسداً Man is a Body، والثاني أن يمتلك الإنسان جسدًا Man has a Body، واستناداً لهذه الرؤية يرى حسني إبراهيم أن كثيرين من أبناء المجتمع العربي ينظرون إلى المرأة باعتبارها جسدًا Woman is a Body ولا يراها كائناً اجتماعياً يمتلك جسداً Has a Body، ولذلك فوفقًا لتلك النظرة، يعد التحرش أمرًا طبيعيًا في ظل تراجع منظومة القيم الأصيلة المرتبطة بضرورة حماية المرأة والدفاع عنها ضد أي اعتداء(9).
(3) تقلص الرقابة الأسرية
إنّ تفاقم مشكلات غياب الرقابة الأسرية، ونقص الوعي والتوجيه، وعدم القدرة على الإشباع العاطفي للأبناء وحتى البالغين، والتربية بالمنع أو العقاب بدلاً من التوعية والإشباع النفسي، وانتشار ثقافة الاستعراض من خلال نشر الصور والمعلومات الشخصية بحثاً عن الاهتمام والانتباه من قبل الآخرين، والفراغ النفسي والعاطفي، يدفع الأشخاص لقضاء ساعات طويلة على شبكة الانترنت أو في استخدام الأجهزة الالكترونية، وتفاقم مشاكل الإدمان الالكتروني، كل هذا قد يؤدى إلى زيادة التحريض على ممارسة التحرش من خلال الانترنت، وبالتالي زيادة إمكانية تعرض مستخدمي الشبكة والأجهزة الالكترونية لهذه الممارسات(10).
(4) سهولة إخفاء الهوية (القناع الرقمي)
إن سهولة إخفاء الهوية على شبكة الإنترنت تساعد في خلق متحرشين جدد، لأنه إذا كان التحرش الواقعي يتطلب بعض الجرأة التي تصل إلى درجة الصفاقة، فإن نظيره الإلكتروني لا يحتاج لذلك، فقد يكون الشاب شديد الخجل في الحقيقة، لكنه يتحول على شبكة الإنترنت إلى ذئب لاطمئنانه بأن أحدًا لا يعرف شخصيته الحقيقية، بالإضافة إلى الهروب من نظرة المجتمع السلبية تجاه من يفعل ذلك في الواقع على أنه غير منضبطًا اجتماعياً، وهي أمور يتم التخلص منها في العالم الافتراضي، الذي لا يستطيع أحد أن يتأكد فيه من شخصية الآخر. وهنا قد يصبح هذا الشاب أخطر، لأنه يعوض فشله في الواقع بانتصارات في الفضاء البديل ويستعين بكل ما يساعده في مهمته من صور جنسية وعبارات فجة(11).
(5) الرغبة في الانتقام مع عدم القدرة على المواجهة
أشارت دراسات أجريت على أشخاص يستخدمون التحرش الإلكتروني كوسيلة لإزعاج ضحاياهم، إلى أنهم يعانون من تقدير ذات متدن، ولا يوجد لديهم قدرة على المواجهة وجهًا لوجه، وأن لديهم مقدارًا من اضطراب الشخصية الذي يقلل من قدرتهم على تقدير نتائج أفعالهم، فيرتكبون أفعالاً لا سقف لدرجة السوء الذي قد تؤدي إليه، طالما أنها تخدم شهوتهم للانتقام. كما أن استخدامهم التحرش الإلكتروني يشعرهم بمزيد من القوة والسيطرة التي تتطلبها نرجسيتهم، وهوسهم المرضي بملاحقة ضحاياهم في كل زمان ومكان، وهو ما يوفره بسهولة الاتصال الدائم لهم ولضحاياهم على الشبكة العنكبوتية من خلال أجهزة الهواتف والأجهزة المحمولة الأخرى، المرتبطة في شكل دائم بالإنترنت، حيث تقوم إستراتيجيتهم في إيذاء الآخرين على الإصرار والمطاردة، وتتبع أصدقائهم ومن يتفاعلون معهم على شبكات التواصل الاجتماعي ليروجوا إشاعاتهم عن ضحاياهم وتشويههم أمامهم(12).
(6) الحرمان الجنسي
يعد الحرمان الجنسي لأسباب مختلفة أبرزها تأخر سن الزواج بسبب الغلاء وارتفاع تكاليف المهور، محرك الإثارة الذي يجعل الشخص يفكر التحرش الجنسي، ويرى وليد رشاد أن مشكلات الواقع تنعكس على المجتمع وتصرفاته، ويأتي على رأس هذه المشكلات تأخر سن الزواج، الذي أسهم في تزايد الشعور بالحرمان، مما أدى إلى لجوء الشباب للتخلص من هذا الشعور من خلال إشباع احتياجاتهم الجنسية في العالم الافتراضي، والذي يبدأ عادة بالتحرش بالفتيات عبر شبكة الإنترنت والتعمق في الحديث معهن في حالة الاستجابة لهم، وذلك للوصول إلى الهدف الأكبر وهو إشباع الرغبات العاطفية والجنسية في بعض الأحيان". ويؤكد رشاد أن ظاهرة التحرش الإلكتروني تنتشر بكثرة في فئة الشباب، لأنها الفئة التي تعاني من الحرمان وتعد أكثر جرأة ودراية بالتعامل على مواقع الإنترنت، مقارنة بالأجيال الأكبر، كما تنتشر بصفة بين الرجال مقارنة بالفتيات، وهذا يرجع إلى طبيعة الفتاة الخجولة، بالإضافة إلى القيود المختلفة عليها في العالم الواقعي، والتي تنعكس على العالم الافتراضي(13).
(7) التنشئة غير الصحيحة ونقص الوعي
من أبرز أسباب التحرش الإلكتروني؛ نقص الوعي والتنشئة غير الصحيحة والكبت الاجتماعي، والأسري "السلطة الأبوية"، حيث ينشأ الابن أو البنت في بيئة خالية من التواصل والود، وعندما يصطدم الشاب الذي تكمن بداخله عاطفة جياشة بذلك، لا يجد سوى التحرشات والمضايقات التي يمكن ممارستها بسهولة عبر حسابات مواقع التواصل، خاصة مع انتشار الصور المثيرة عبر هذه الوسائل، وغياب الرقابة الأسرية(14).
(8) الانفتاح الاجتماعي (الصدمة الثقافية)
لقد أسهم الانفتاح الهائل والمفاجئ على خصوصيات الأشخاص الآخرين، من خلال شبكات التواصل الاجتماعي، والأجهزة الإلكترونية التي يتوافر لديها اتصال مستمر بشبكة الإنترنت، وسهولة الوصول إلى الآخرين في أي زمان ومكان، من خلال وسائل التواصل الفوري، في حدوث ما يعرف بالصدمة الثقافية لدى مستخدمي هذه الشبكات، وعدم القدرة على إدارة العلاقات مع الآخرين من خلال هذه الوسائل في شكل صحي.
(9) التهيج المستمر عبر وسائل الإعلام
يرى الشهري أن سبب انتشار التحرشات الالكترونية وخاصة في المجتمعات المحافظة "التهيج المستمر" الذي يتعرض له الشباب والأطفال، والتي صرفت طاقاتهم بالممارسات غير المشروعة، مبيناً أن الخطورة الأعظم تكمن في دعم المسلسلات العربية و"المدبلجة"، إضافةً إلى "الفيديو كليب"، الذي يختصر العلاقة بين الجنسين بالحياة الوردية من نظرة وابتسامة إلى الممارسة، دون المرور بالوضع الطبيعي، مما ساهم بشكل كبير في هروب الفتيات نتيجة الأوضاع المضطربة وغير السوية، والتي سببت لهؤلاء الضحايا صدمة في الواقع، مؤكداً على أن كل هذه المغريات تؤثر على الكبار فكيف بالشباب؟.
ثالثًا: المضاعفات الاجتماعية والنفسية للتحرش الالكتروني
الكثير من المتحرش بهن ينعزلن عن محيطهن ويهربن من المجتمع بسبب هذا الأمر. وتعد المضاعفات الكبرى لظاهرة التحرش الالكتروني أن الآثار النفسية لها ربما تمتد لسنوات، حيث توضح دراسة نشرت في دورية جمعية الطب الأميركية أن ضحايا مثل هذه الممارسات يصبحن أكثر عرضة من غيرهن للإصابة بالقلق والاكتئاب والرهاب والهلع.
يؤكد ذلك ما توصلت إليه دراسة أجريت في الولايات المتحدة الأمريكية في عام 2011، بهدف دراسة مخاطر التحرش الإلكتروني التي تهدد المراهقين على الإنترنت، وقد توصلت الدراسة إلى أن التحرش الالكتروني يهدد المراهقين ويترك فيهم تأثيرات نفسية سلبية تمتد لفترة طويلة(15).
كما توصلت الدراسة التي أجرتها شركة الأمن الرقمي "نورتون Norton"، في استراليا، إلى وقوع واحدة من بين كل عشر نساء دون سن الـ 30، ضحية الابتزاز بالمعلومات الحميمة وإجبارهن على دفع مبالغ مالية (16). ولا تعد هذه هي الآثار الوحيدة التي ربما تنجم عن التحرش بكل أشكاله سواء كان ذلك في العالم الافتراضي أو في عالم الواقع، نظرًا لأن الأمور ربما تصل إلى ما هو أسوأ من ذلك حيث يتحول الضحية مستقبلاً إلى شخص عدائي تقوده رغبة كبيرة في الانتقام.
وقد يؤدي في بعض الأحيان إلى الانتحار، كما حدث مع عدد من المراهقات في الولايات المتحدة وكندا وأيضًا فرنسا، وقد أشارت إحدى الدراسات إلى أن واحدًا من كل خمسة أشخاص يصل به التفكير إلى الانتحار أو إلحاق أذى أو إصابة بنفسه، وهو سلوك دائم الحدوث بين الأشخاص الذين يشعرون بالإهانة والذل بسبب الرفض.
رابعًا: التحرش الإلكتروني
بين المواجهة الذاتية والعلاج المجتمعي
نؤكد في البداية على وجود صعوبات وليس استحالة في مواجهة هذا النّوع الجديد من التحرّش، تتمثّل هذه الصعوبات في أنّ عدداً كبيراً من حسابات متحرّشي الفيسبوك مزيّفة أو يتمّ إقفالها بعد فترة، إذ يمتلك المتحرّش أكثر من حساب وهمي عبر شبكات التواصل يمارس من خلالها التحرّش الجنسيّ الإلكترونيّ.
(1) المواجهة الذاتية للتحرش الجنسي الإلكتروني
تتحدث ضحايا التحرش الجنسي الالكتروني عبر شبكات التواصل الاجتماعي عن محاولاتهن المتكررة لتجاهل طلبات الصداقة من أشخاص غير معروفين، والرسائل التي تصلهن إلى قائمة رسائل أخرى "Other"، وفي محتواها طلبات غير لائقة للتعارف، تبدأ من صورة رمزية لـ "قُبلة"، وتنتهي بالعروض الصريحة لممارسة أفعال جنسية. ورغم أن بعض الفتيات حاولن تلقين المتحرشين درسًا بنشر صورهم ومحتوى رسائلهم على صفحاتهن على مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أنّ ذلك عرضهن لمشكلات ومتاعب جديدة.
ومن أبرز أساليب المواجهة الذاتية للتحرش الإلكتروني لجوء بعض الفتيات من ضحايا التحرش الإلكتروني إلى فتح صفحات خاصة على مواقع التواصل ينشرن فيها أسماء المتحرّشين وصورهم ومحتوى الرسائل التي يرسلها هؤلاء، مثل صفحات "لا للتحرش، وشفت تحرش، والعربي المريض"، وغيرها.
ولعلّ فضح هذه الممارسات يمكن أن يُسهم في الحد من تعرضهن لهذه الرسائل. كما أن استخدام إعدادات تضمن تحقيق أعلى مستوى من الخصوصية على الشبكة أو على الأجهزة الالكترونية يُسهم إلى حد كبير في الحد من التعرض للتحرش الالكتروني، وذلك بعدم قبول طلبات الإضافة من أي شخص غير معروف، وعدم نشر الصور الشخصية أو أرقام الهواتف أو المعلومات الشخصية في نطاق أوسع من نطاق الأصدقاء، سواء كان ذلك على مواقع التواصل، أو وسائل التراسل الفوري، ووضع نظام "فلتر" جيد للبريد الالكتروني يضمن تحول الرسائل التي تحمل أسماء أو كلمات غير مرغوبة إلى قائمة "Spam"(17).
وتقترح الورقة الحالية بعض الخطوات التي يمكن من خلالها مواجهة التحرش الإلكتروني:
* استخدام إعدادات تضمن تحقيق أعلى مستوى من الخصوصية على الشبكة أو على الأجهزة الإلكترونية، ما يسهم إلى حدّ كبير في الحدّ من التعرّض للتحرّش الإلكتروني، وذلك بعدم قبول طلبات الإضافة من أي شخص غير معروف، وعدم نشر الصور الشخصية أو أرقام الهواتف أو المعلومات الشخصية والأخبار في نطاق أوسع من نطاق الأصدقاء، سواء كان ذلك على مواقع التواصل، أو وسائل التراسل الفوري.
* الاحتفاظ بأدلة تتضمن المضايقات والتعليقات والرسائل المرسلة من الشخص المتحرش، لأنها ستساعد في إثبات هذه الوقائع؛ ثم عرضها على محامٍ خبير في قوانين الجرائم الإلكترونية، ثم اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة.
* في حال معرفة هوية الشخص الذي يقوم بالتحرش فيمكن محاولة التوصل إلى حلّ وديّ، وتوعيته بعواقب ما يقوم به، قانونيًا.
(2) المواجهة المجتمعية للتحرش الجنسي الالكتروني
تنقسم آليات المواجهة المجتمعية للتحرش الجنسي إلى آليتين، إحداهما آنية سريعة، والأخرى بعيد المدى، ويتمثل الحل السريع في المواجهة القانونية الصارمة لكل صور التحرش وتشديد العقوبة على مرتكبيها، وفيما يلي عرض لكلا الآليتين؛
أ- المواجهة القانونية للتحرش الإلكتروني
التحرش الجنسي مسلك أو تصرف مجرم أو محرم قانونًا سواء في أماكن العمل أو المؤسسات التعليمية المختلفة، ومع هذا نجد أن التحرش شائع ويتخذ أشكال مختلفة بعضها قد يكون في صورة تحرشات إلكترونية من خلال التقنيات الحديثة، ويمكن للأشخاص الذين يتعرضون للتحرش الجنسي سواء كان ذلك بتلقّيهم رسائل تنطوي على تحرش جنسي، أو استخدام المتحرِشين لصورهم أو كتابة عبارات غير مناسبة عنهم، في مواقع على شبكة الانترنت، أو عن طريق الرسائل الفورية، التقدم بشكوى رسمية لمراكز الشرطة، حيث أن غالبية الدول لديها أجهزة أمنية خاصة بالجرائم الالكترونية. ورغم أنه لا يوجد في جميع الدول قوانين خاصة بالتحرش الالكتروني، فضلاً عن التحرش الجنسي المباشر، واختلاف القوانين بين دولة وأخرى، إلا أن وجود عقوبات على الجرائم الالكترونية وإزعاج الآخرين عن طريق الانترنت والأجهزة الالكترونية، يسمح بملاحقة أصحاب هذه الحسابات والأجهزة، والتعرف على هويتهم الحقيقية، وبالتالي تعرضهم للملاحقة القانونية(18).
ب- المواجهة المجتمعية بعيدة المدى
أما الحل بعيد المدى فهو وضع برنامج اجتماعي شامل لتنمية فكر وثقافة احترام المرأة، وتغيير نظرة المجتمع إليها، ومحاصرة القيم الاجتماعية الجديدة التي تختزل المرأة في البعد الجسدي، وتطوير الخطاب الديني وتعميقه، وإعادة الأسرة لدورها الريادي في التنشئة الاجتماعية وتلقين الأجيال الجديدة كل القيم الإيجابية المتعلقة بالمرأة باعتبارها كائنًا اجتماعيًا وإنسانيًا يشارك بقوة في نهضة الأمة. ولاشك أن للقيادات النسائية والرجال المهمومين بقضايا المرأة ووسائل الإعلام ومؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الدينية دورًا كبيرًا في تفعيل ذلك البرنامج و إنجاحه(19).
اضف تعليق