المقدمة:
يشكل موضوع الحداثة أهمية كبرى في الدراسات الفلسفية، خاصة مع بداية القرن العشرين، لأنها فتحت جدالاً واسعاً بين المدافعين عن الحداثة بكونها مشروع لم يكتمل وحامل لواء الدفاع الفيلسوف الألماني هابرماس، ومن يرفض الحداثة لأنها جعلت الطبيعة هي من تسيطر على الذات الإنسان وأن الإنسان أصبح عبداً لها وحامل لواء الرد على الحداثة هو الفيلسوف الفرنسي ليوتار، وهو أحد رواد ما بعد الحداثة.
ولكن ظهور الحداثة الفعلي هو في القرن الثامن عشر وتطور في القرن التاسع عشر، وخاصة مع كانط ومن ثم هيغل، إذ أن كانط بنى مشروع حداثي ليخرج العقل الإنساني من نكوصه، وإن هيغل لم يكتف بإيجاد بناء فلسفي بل إنه عمل على تطبيق بناءه المعرفي على الوجود، وإن الوجود يسير حسب خطوات هذا البناء المعرفي.
نشأة الحداثة:
لا يمكن أن نتحدث عن الحداثة لدى كانط إن لم نتحدث عن اشتقاقها اللغوي وبداياتها ومميزاتها. فهي من حيث الاشتقاق اللغوي في اللغة العربية أن مصدر الحداثة من فعل حَدَثَ، أي حَدَثَ الشيءُ يحدُثُ حدُوثاً وحدَاثة. وكذلك يشتق من لفظ الحدوث في الوجود، فالحدوث من حدث يحدث حدوثاً، أي وجد وأصبح حدثاً بعد أن لم يكن. هذا من ناحية الاشتقاق اللغوي في اللغة العربية، أما من ناحية اللغات الأجنبية فهي تشتق من الكلمة اللاتينية Mode، وهو لفظ يطلق على شيء منتمي إلى الزمن الحاضر أو إلى حقبة زمنية حديثة أو جديدة نسبياً.
وكذلك لا بد أن نميّز بين كلمة (حديث) وهي ما تقابل كلمة قديم، وبين مفهوم (الحداثة) الذي يعطي اليوم دلالة معرفية أكثر من كونها زمانية.
ويرى رايموند ويليامز "بدأ تعبير (الحديث) مرادفاً لتعبير (الآن) أواخر القرن السادس عشر، وفي كل الأحوال فقد كان من المألوف أن يميّز الفترات الزمنية التالية للعصور الوسطى والعصور القديمة، وحين كانت جين أوستن* تستخدمه كتصريف متميّز كان بوسعها أن تقدم له تعريفاً بأنه ((حالة من التغيير ربما إلى الأفضل)) لكن معاصريها في القرن الثامن عشر استخدموا ((يحدِّث)) و((الحداثة)) و((حداثي)) -دون حسها الساخر- ليعنوا به التعصير والتحسين".
أما من حيث المنظور الفلسفي، فنجد أن الحداثة تنحصر بين بُعدين، وهذان البُعدان يشكلان ماهية الحداثة. البُعد الأول هو البُعد التاريخي ذو دلالة حاسمة في تحديد مسارات البشرية وتعيين الحقب التي تميّزت بالتطور والتقدم في مختلف المجالات. والبُعد الثاني هو البُعد المعياري الذي يعتبر أساساً في فهم تصنيف الحداثة تاريخياً.
وباختصار أن "الحداثة هي حركة تجديد في حقول الإنتاج والأفكار وأنماط الحياة والحكم والفن خرجت على جمود سنوات العصور الوسطى الطويلة، وعليه فهي تلحق عموماً الحقبة التي تلت الخروج من العصر الوسيط، أي منذ القرن السادس عشر، إلا أنه وبمعايير أكثر دقة، هنالك من يؤرخ للحداثة بين النصف الثاني من القرن الثامن عشر والنصف الثاني من القرن العشرين".
وأما من حيث نشوء الحداثة فيربط بعض الباحثين ظهورها مع ديكارت، ويذهب في هذا الاتجاه غروندان، وذلك لتأسيسه (=ديكارت) فكرة المنهج: وهي الفكرة التي يرتكز عليها المشروع العلمي للأزمنة الحديثة وكذلك الحداثة. ومن هنا ربط غروندان نشأة الحداثة بتأسيس ديكارت المنهج. وكذلك هابرماس قريب من هذا الرأي على الرغم من أنه يرى ظهور الحداثة مع كانط ولكنه يرى بأن كانط قد تأثر بالكوجيتو الديكارتي، إذ يقول هابرماس "إن بنية الذاتية مُدركة في الفلسفة كذاتية مجردة في الكوجيتو الديكارتي: أنا أفكر إذن أنا موجود، وفي صورة الوعي المطلق بالذات لدى كانط يتعلق الأمر ببنية تخص علاقة الأنا بذات عارفة تنكب على نفسها باعتبارها موضوعاً بغية إدراك ذاتها كما يتم ذلك في صورة مرآوية وبالتحديد بطريقة ((تأملية)). يتخذ كانط من هذه المقاربة الفلسفية قاعدة لكتبه النقدية الثلاثة، إنه يجعل من العقل المحكمة العليا التي يتوقف على ما يطمح إلى صلاحيته ما أن يبرر نفسه أمامها".
ولكن أدورنو يرى أن مفهوم الحداثة لم يسبق أن أستخدم كلفظ إلا مع الفن الطليعي الفرنسي ولا سيما مع بودلير في منتصف القرن التاسع عشر. وذلك من خلال نصه (رسام الحياة الحديثة) إذ عرّف الحداثة بكونها ذلك العابر والهارب من الزمن والذي يشكل نوعاً من المؤقت والزائل.
ويرى بودريار أن الحداثة تعبر عن مجال ثقافي وأخلاقي، وذلك بتمجيدها العميق للذاتية والأهواء والتفرد والصدق الذاتي، وما هو عابر وما لا يمكن إدراكه. كما تعبر عن نفسها بتحكيمها للقواعد وإبراز الشخصية الذاتية الواعية بنفسها.
ولكن د.علي عبود المحمداوي يرى أن الحداثة "هي السيرورة في علاقة الحاضر بالماضي والمستقبل والتي تحاول أن تتجدد باستمرار، وحينما نعكس هذه التصورات على واقع زمني معين فإنه سينتج مقولات خاصة بحداثة خاصة لحقبة تاريخية معينة".
ولكن هابرماس على الرغم من رؤيته أن تأسيس الحداثة بالذات بدأ مع كانط، لكنه في الوقت نفسه يربط فكرة تطور مفهوم الحداثة بتطور الفن الأوربي، وهذا ما يدعوه هابرماس بمشروع الحداثة عندما يصبح مرئياً والذي يتجاوز اهتمامنا بالفن الذي ظهر إلى الآن. وكذلك يؤكد هابرماس أن الحداثة تكمن في الفصل القائم بين دائرتي الحياة الخاصة والعامة، فالدائرة العامة تكون باستعمال العقل بحرية دائمة، والدائرة الخاصة باستعماله المحدد جداً(العقل) وفي سيرورة الدائرتين يكمن خروج العقل من نكوصه.
وترتبط نشأة الحداثة بسؤال كانط حول ما هي الأنوار؟ ويجيب كانط عن هذا السؤال بأن الأنوار هي "خروج الإنسان من قصوره الذي هو نفسه مسؤول عنه لأن سببه يكمن ليس في عيب في العقل، بل في الافتقار إلى القرار الشجاعة في استعماله دون إشراف الغير، تجرأ على استعمال عقلك أنت: هو شعار الأنوار".
سمات الحداثة:ـ
يوضع هايدغر خمسة سمات للحداثة وهي:ـ
1ـ العلم.
2ـ التقنية الميكانيكية.
3ـ سيرورة دخول الفن أفق الأستيتيقا، الشيء الذي يعني أنه قد صار موضوعاً لما يسمى بالتجربة المعاشة، ليتحول بذلك إلى تعبير عن الحياة الإنسانية.
4ـ التأويل الثقافي لكل مساهمات التاريخ الإنساني.
5ـ الانسلاخ عن المقدس واستبعاده.
مقولات الحداثة
تمتلك الحداثة ثلاث مقولات رئيسية وثلاث مقولات فرعية، أما المقولات الرئيسية فهي:ـ
1ـ التمركز حول الذات:ـ تعد مقولة الذات الأساس الأول للحداثة، وذلك لأنها تعيد للذات الإنسانية جميع المعايير والحقائق وجعلها كفيلة بصناعتها، والهدف السعي لإتمام القطيعة المبتغاة مع التراث. إذ "شكلت الحداثة أولى تجلياتها مع ديكارت ـ بمقولته: أنا أفكر إذن أنا موجود- فكراً متمركزاً حول الذات، باحثاً من خلالها عن المعنى النهائي والأخير للعالم والذات سوياً من منطلق ذاتي صرف". ومن هنا يمكن أن نقول إن الحداثة قد جاءت للإعلاء بالذات الإنسانية، وقد أصبحت مركزية الإنسان عبارة عن انتصارات للذات ورؤية ذاتية للعالم. ومن خلال هذه المقولة يمكننا أن نلمس الاهتمام بالذات وجعلها محور معرفتنا، وإذ "إن كانط يذهب إلى أن الأنا ليست كياناً مادياً، أو ((الأنا أفكر)) هي افتراض سابق لكل عمليات التمثل عندنا...ومن ثم فلا بد أن تكون قادرة على مصاحبة جميع هذه التمثلات (=التصورات)".
2-العقلانية:ـ وهذه المقولة مرتبطة مع مقولة التمركز حول الذات بل وحتى تدعمها، وهذه المقولة "دفعت الإنسان الحديث إلى نشوة الانتصار بعد رفع لواء التغلب على الفكر الديني والخرافي بنوع من العقلنة، التي بدأت جذورها مع رؤية لايبنتز للذات والعالم معاً، فهو من أسس للحداثة الفلسفية مقولة العقلانية، وذلك بتقعيده للمبدأ القائل: إن لكل شيء سبب معقول، وأن على الإنسان أن ينتقل من كونه متأملاً في العالم ومتعجباً به إلى منقب فيه وكاشف لأسراره. وإذ يمكن أن نعرّف العقل بوصفه فعاليّة أو ممارسة وهو يرتبط بالممارسات العقلية لأن العقل ما هو إلا فاعلية التمييز والتجريد والتأمل والإدراك وغيرها من هذه الفعاليات المرتبطة بالعقل، وبهذا فأننا نتكلم عن عقلانية وعن ممارسات عقلية تجاه الموضوعات، ويمكن أن نقسم العقلانية إلى قسمين: عقلانية طبيعية، وعقلانية اجتماعية.
ونجد العقلانية الاجتماعية واضحة وجلية عند ماكس فيبر، ويعطي فيبر معنى أوسع للعقلانية، وذلك لإنجازه مفهوم العقلنة الاجتماعية، ووصفه للمجتمعات الحديثة بأنها المجتمعات العقلانية. إذ يعتقد فيبر أن المجتمعات الغربية هي المجتمعات الوحيدة التي استطاعت ابتكار وإبداع العقلانية العملية والعلمية، من الطبيعة إلى عقلنة الاقتصاد والقانون والإدارة والتعليم، وأغلب مجالات الحياة الاجتماعية الأُخرى. وبهذا نرى أن فيبر هو أول من شدد على الربط بين الحداثة والعقلانية، وهي العلاقة التي يرى فيها أنها شرط ضروري ما كان للحداثة الأوربية أن تعرف طريقها نحو تجسيد الجزئي وتمظهر التقني والسياسي-البيروقراطي.
3ـ العِلموية:ـ وتمثل العِلموية المقولة الثالثة من مقولات الحداثة، وهي تعني إيمان العلم بنفسه، أي القناعة بأنه لم يعد باستطاعتنا اعتبار العلم كأحد الأشكال المعرفية الممكنة، بل اعتبار العلم والمعرفة بوصفهما الشيء نفسه، وإن العِلموية أصبحت تشير إلى ثقة الإنسان بالعِلم إلى الحد الذي جعل منه المعيار الأوحد للحقيقة، إذ المعرفة تصبح مساوية للعلم، والعلم وحده هو المعيار للمعرفة الحقة والصحيحة. وبذلك قد ساهمت العِلموية وباعتمادها على العقلانية في استمرار فاعليّة إزالة الوهم والخرافة عن العالم. ومن هنا نرى أن الحداثة قد حلت فكرة العِلم محل فكرة الله، وذلك لقلب المجتمع وأن تقتصر الاعتقادات الدينية على الحياة الخاصة بكل فرد فقط.
ويمكننا أن نلخص المقولات الأساسية الثلاثة بفقرة واحدة وهي: إن الحداثة قد شكلت بنية فلسفية وفكرية متمثلة ببروز النزعة الإنسانية بمدلولها الفلسفي، التي تعطي للإنسان قيمة مركزية ومرجعية أساسية في الكون، وفي بروز نزعة عقلانية صارمة في مجال المعرفة والعمل معاً، حيث نشأت العلوم الدقيقة والحديثة والعلوم الإنسانية الحديثة والنزعات الحديثة على أساس معايير عقلية.
وأما المقولات الفرعية فهي:ـ
1ـ تاريخية ـ فلسفية: فكرة التقدم وتفسير التاريخ على أنه مسار خطي تقدمي دائم إلى الأمام.
2ـ أفكار سياسية اجتماعية: كالديمقراطية وحقوق الإنسان العالمية.
3ـ اقتصادية – اجتماعية: مثل الليبرالية التي عنت بالفرد وقدسته اقتصاديا وفي الرأسمالية والحق الخاص، واجتماعيا في الفرادة والحرية الخاصة.
كانط والحداثة
ترتبط الحداثة مع كانط بصورة أساسية كما قلنا سابقاً، وخاصة في سؤاله عن ما هي الأنوار؟.
إذ أن فلسفة كانط تدعو بصورة أساسية ورئيسية إلى بناء الفلسفة بناءً نسقياً، وكذلك أعادت للعقل مكانته لأنها نظرت له من داخله. وإذ أن كانط قد عمل ثورة فكرية في الفلسفة، لأنه نقل مركز البحث عن الماهيات والجواهر من العالم الخارجي إلى الذات الإنسانية إلى عقل الإنسان، وبذلك أصبح العقل الإنساني مركز المعرفة. وباختصار "ينظر إلى المجرد عادة على أنه: فكرة، أو تصور، أو كلي، تجرد من العيني، أو الواقع الذي يمكننا إدراكه. غير أن كانط في كثير من كتاباته يصر على أن الفعل لابد أن يستخدم كفعلٍ غير متعدٍ، بمعنى أننا لسنا نحن الذين نجرد شيئاً (لاسيما إذا كان تصوراً) بل أن التصور نفسه هو الذي يفعل ذلك. كما نحن نستخدم تصوراً مجرداً من شيء ما، لاسيما السمات العارضة غير الماهوية للعيني". وبذلك رأينا أن كانط يصر على أن الأفكار هي بذاتها مجردة وليس الفرد هو من يجردها، وهنا دلالة على أن كانط أعطى للعقل أهمية كبرى، وأصبحت الجواهر يتم الاستدلال عنها بالعقل وليس بالعالم الخارجي. وهذه الفكرة يمكن ترجمتها بالمقولتين الأولى والثانية، حيث التمركز حول الذات والعقلانية.
وكان سبب اهتمام كانط بالعقل، لأنه قد لاحظ مأزق الفلسفة وتأخرها مع تقدم باهر للعلم، وبهذا كان لزاماً على كانط أن يضع العقل ومعارفه تحت المجهر وبصورة دقيقة. وقد أعطى بذلك كانط للعقل دور المنظم للمعرفة وكذلك المصدر لها، والذي بنزوع العقل الذاتي تشكل لدينا نظام إبستمولوجي يوحي لنا بأن ثمة في العالم الخارجي ((نسقاً)) ينبغي للعقل فقط أن يميط اللثام عنه.
بصورة أخرى، يمكننا أن نقول إن الاهتمام بالعقل لدى كانط، هو ناتج لجوابه عن سؤاله ما هي الأنوار؟ ففي إجابته لهذا السؤال بخروج العقل من نكوصه، هو ما عمله كانط، لأنه حاول أن يخرج العقل من نكوصه بوضعه فلسفة حداثية متكاملة، والتي يسميها بـ ((الفلسفة المثالية النقدية)). ولهذا يمكننا أن نعد كانط هو من فتح الباب للحداثة على مصراعيها، والتي اهتمت بالعقل وبمركزية الذات، وأكد على الذاتية.
ويرى كانط أن الكسل والجبن هما الوسيلتان اللتان يمكننا أن نفسر من خلالهما القصور الفكري لدى غالبية الناس، ومن خلالهما يمكننا أن نرى كم من السهل على البعض أن ينصبوا أنفسهم أوصياء على هؤلاء الناس. ويعمل هؤلاء الأوصياء على تكريس هذه الوصاية بكل قوتها على الناس لكي لا يجرؤ أي فرد أن يخرج من طاعتهم. ومن خلال هاتين الوسيلتين يمكن للرجال الكهنوت أن تفرض وصايتها على العوام، فهي توحي لهم بأنها تفكر بدلاً عنهم، وإلا يتعبوا بالتفكير بمشكلاتهم أو بمشكلات مجتمعهم. وحتى أن الخروج من هذا القصور الفكري يكون صعباً وهذا ما نلمسه من خلال كلام كانط في سؤاله عن ما هي الأنوار؟ إذ يقول "من الصعب على كل فرد أن يخرج بمفرده من القصور الذي كاد أن يصبح له طبعاً. فهو قابع فيه بارتياح، وهو عاجز الآن فعلاً عن استعمال عقله هو، لأنهم لم يدعوه أبداً يحاول ذلك. فالمؤسسات والصيغ الجاهزة، أدوات استعمال العقل الميكانيكية هذه، وبالأحرى أدوات سوء استعمال المواهب الطبيعية، تلك هي القيود التي كبلوا بها قصوراً مازال مستمراً. حتى ان من يتخلص منها لن يستطيع القيام إلا بقفزة غير مأمونة فوق أضيق الحفر، لأنه لم يعتد على تحريك سياقه بحرية. وهكذا فإن الذين توصلوا بالجهد الخاص لذهنهم إلى التحرر من القصور والمشي بخطى ثابتة، هم قلة" .
ولكن علينا أن نفرق بين الحداثة عند كانط والحداثوية عند هيغل، وإن الحداثة تعني "المنهج الذي ينحته الفيلسوف لكي يدل على أفكاره، ويربطها في إطاره الفلسفي من دون الادعاء بأن هذا هو نسق مطلق الجوهر، وضروري العلة، وشمولي العناصر". وبهذا نرى أن كانط لا يفرض نسقه المعرفي على الوجود بكونه هذا النسق المعرفي هو الذي يسيّر الوجود، عكس النسق الهيغلي الذي يفرضه على الوجود والذي يسمى النسقوية أو الحداثوية. إذ يمكن أن نعتبر أن "الفلسفة الكانطية هي فلسفة نسقية، لأنها عبارة عن منهج فلسفي إبستمولوجي يحاول أن يقف على عدم إمكانية المعرفة في العقل النظري وفي الأحكام الأخلاقية والجمالية وفقاً لحدود هذا العقل النظري، ولكنها لا تقدم نفسها على أنها ((تفكر)) يعكس لنا العالم الموضوعي والحقيقة العليا واليقين المطلق، وبالتالي هي نسق منهجي أكثر من كونها نسقاً أيدلوجياً".
ولهذا نرى أن كانط عندما لمس القصور الفكري في مجتمعه، وبأن هذا العقل تابع للكهنوت عمل على تحرير هذا العقل، فتوجب عليه أن يعليّ من شأن العقل ورفعه إلى مرتبة عليا، وكذلك توجب عليه أن يميّز بين الحقيقة واللاحقيقة، فأعطى للعقل دور المنظم للمعارف الفيزيقية، وأما المعارف الميتافيزيقية فأعتبرها مسلمة أخلاقية لا أكثر لأنه لا يمكننا أثباتها. وكذلك رأى كانط أن لا مرجع للإنسان سوى عقله المتحرر من قيود الأوصياء، وإن الجبن والكسل يجب أن ينتفي عن العوام. ولذلك نلمس أن ظهور الحداثة مع كانط لأنه بالفعل جعل الذات هي مركز الحقيقة.
وإن التنوير بالمعنى الكانطي هو أن يتحرر الإنسان من الوصايا التي يفرضها على نفسه، ومن دلالات هذه الوصايا هي عجزه عن استعمال قدراته في الفهم بدون الحاجة للتوجيه من الأخرين، وإن الحداثة هي القطيعة المتجددة مع هيمنة التراث التي تكبل الإنسان وحريته، فيصبح بذلك حبيساً لكلام الموتى، وإن الحداثة تهيئ للإنسان تمكينه من أدوات الفهم والاستعمال الواعي للعقل باستقلالية تامة.
نتائج الحداثة
كما قلنا سابقاً أن كانط أهتم بالعقل، وأصبح العقل سمة أساسية من سمات الحداثة، بل حتى تعد مقولة من مقولاتها. ورؤية كانط حول العقل والتي تأثر بالمنهج الديكارتي قد خلقت تمركزاً خطيراً حول الذات. وذلك لأن الإنسان الحديث قد بدأ يدرك نفسه كذات مستقلة، بحيث يستطيع أن يروض العالم ويجعله مقياساً بالمقياس الإنساني. وبهذا أراد الإنسان من الطبيعة أن تكون تحت سلطته، ولكن ما ثبت هو عكس ذلك، فقد كانت نتيجة الفكر الحداثي هو أن العلم قد هيمن على الإنسان وجعل منه بائساً مغترباً مشرداً بسبب ما قام به من حروب أدت إلى قتل ملايين من البشرية.
وحتى الحركات الرومانسية التي ظهرت في أوربا هي رد فعل لحركة التنوير والمذهب العقلي في القرن الثامن عشر والمذهب المادي بوجه عام. وإن الحركات الرومانسية أكدت على الفرد والذاتية الشخصية والعاطفة والأحلام على كل ما يسمو فوق الوجود المادي. وكذلك لأن التقنية المنتجة للأداتية والمختزلة للعقل الأنواري أصبحت تشكل اللوثيان الجديد الذي يهيمن ويسيطر على كل مفصليات الحياة الإنسانية.
كان كانط يأمل من خلال دعوته للتنويرالى القضاء على القصور الفكري وعلى تحقيق سلام دائم، ووضع بذلك كتابه (مشروع السلام الدائم) ولكن ما ثبت هو عكس ذلك، إذ أصبحت النزعة الفردية والذاتية طاغية على ملامح المجتمع الأوربي، ولم تنتهي الحروب بل بالعكس قد زادت وأصبحت أكثر دموية، وأصبح العقل أكثر أداتياً من ذي قبل، وبسبب هذه الحروب والفردية الطاغية استدعت الحاجة إلى نشوء حركات رومانسية لتقلل من طغيان العقل الأداتي، وكذلك ظهرت حركات ما بعد الحداثة التي كانت رد فعل على النسق والنظام والسرديات الكبرى والأصل والمركز.
ولكن بصورة أساسية يمكن أن نلمس أن فشل مشروع الحداثة كان بسبب اعتماد العقل الإنساني على العلم، ولأنه أهتم بالعلم فكان معناه أنه أهمل الجانب العاطفي منه، وبذلك بدأنا نشاهد إنسان مقيد بالعقل والعلم بعيد عن العاطفة، أصبح الإنسان يسير بصورة رتيبة، وبهذا أنحرف العقل عن مساره، وبسبب اهتمام الإنسان بالتقنية والعلم وإهمال جانبه العاطفي والأخلاقي أنتج لنا إنسان شرير ووحشي، وهذا ما ثبت من خلال تصنيع الأسلحة وبأصناف متطورة ومدمرة بنفس الوقت، وقد أصبح الإنسان مهدداً لوجوده بسبب ما أنتجه العقل الأداتي من نرجسية وحب الصراع والحروب المدمرة، ولذلك ظهرت عدة حركات تجابه الحداثة ومشروعها الذي أصبح خطراً على الإنسان من الانقراض بسبب ما يصنعه من أسلحة.
الخاتمة:ـ
إن نشوء الحداثة كان لعدة أسباب، فمنها بسبب سيطرة الكنيسة على المجتمعات، إذ هي وحدها التي تفكر، وإن أفكارها مقدسة، وتشويه صورة الإنسان الفرد وحريته، إذ الإنسان في المجتمعات الأوربية كان يعيش في جو من الاستلاب والاغتراب، وإن كل من يفكر يتم معاقبته، ودليل ذلك معاقبة العالم برونو بالحرق، وحتى غاليليو لم يسلم من المحاكمات، لأن الكنيسة قد أنشأت محاكم التفتيش لكي تتبع كل من يأتي بأفكار جديدة تخالف تعاليم الكنيسة.
وهذه الأسباب هي التي دفعت بعض المفكرين إلى الثورة على تعاليم الكنيسة، وإلى أن يكون الفرد سيد ذاته، ولا يحتاج لمن يفكر بدلا منه، وإذ بدأ ديكارت بمقولته الشهيرة "أنا أفكر، إذن أنا موجود" انعطافة كبيرة في جوهرية الفكر الأوربي، حيث بدأت منذ هذه اللحظة إلى أن يثبت الإنسان وجوده من خلال فكره، وهنا نلمس بدايات نشوء الحداثة، ولكن مع كانط قد نضج الفكر الحداثي، وخاصة في مشروعه الأنواري، إذ حاول كانط أن يضع نسق معرفي يخرج الإنسان من نكوصه الفكري، وفي الوقت نفسه عمل على التمييز بين الحقيقة والظاهر، وكذلك أنه جعل أفكار "الله والنفس والعالم" مجرد مسلمات أخلاقية، وإنه أعطى للميتافيزيقا دور المنظم.
وهنا حدثت انعطافة كبيرة على مجرى التاريخ الفكري، والتي أنتجت فيما بعد حداثوية هيغل، وكذلك قد نشأت عدة اتجاهات تأثرت بكانط منها الكانطية الجديدة. ولكن بسبب الفكر الحداثي الذي جاء به كانط، والذي أراد من خلاله أن يخرج الإنسان من نكوصه الفكري وكذلك أن يضع مشروع سلام دائم، أصبح الإنسان مقيد أكثر، وأصبح جزء من التقنية، وبسبب إيمان الإنسان الزائد بنفسه، قد جعل منه إنسانا مغرورا لا يمتلك جوانب أخلاقية، مما أنتج الحروب والقتل والدمار، وهذه كانت آثار إيمان الفرد بنفسه وبذاته بصورة خاطئة.
اضف تعليق