الرئيس بايدن حقق الهدف الأول بعودة بلاده بعد انقطاع فاعل وانقسام داخل صفوف دول الحلف. أما في مسألة احتواء الصين، فقد حقق بعض التقدم لدى بعض الأوروبيين في ظل إعراض هائل لديهم عن التماشي معه باعتبار الصين مصدر تهديد، وخصوصاً في مجال التبادل التجاري، نظراً إلى اعتماد...
بقلم: د. منذر سليمان و جعفر الجعفري
تسويق البيت الأبيض للجولة الخارجية الأولى للرئيس بايدن أثمر تجميداً لتدهور العلاقات بين القوتين العظميين، الولايات المتحدة وروسيا، وسعياً لتحقيق تقدم في معالجة أبرز التحديات العالمية وأخطرها بينهما.
بعد أن استهلّ بايدن الجولة بالقول إنها تحقيق حلم عمره "50 عاماً"، انهالت آيات الثناء على ملامح الإنجازات، أهمها من وزير الدفاع الجمهوري الأسبق، تشاك هيغل، الذي قال إن الرئيس بايدن "كان دائماً ما يرى السياسة الخارجية عنصراً غير مستقل عن السياسات الداخلية أو المصالح القومية" للبلاد، نظراً إلى ترابطهما الوثيق، "سواء في مجالات التجارة الخارجية أو قضايا المناخ والإرهاب والشؤون الدفاعية، وكلها مجتمعة تشكل عناصر مصالحنا" (نشرة "بوليتيكو"، 7 حزيران/يونيو 2021).
هذا "التقدم قد تظهر نتائجه بعد 6 أشهر"، بحسب توقعات طواقم مستشاري البيت الأبيض، وهي فترة زمنية قد تشهد جهوداً للتغلب على تشنجات السياسة الأميركية، إرضاءً لعقلية معسكر الحرب الباردة، ثم الانتقال إلى مرحلة "التفاؤل الحذر، للتوصل إلى ترتيبات مهذّبة مع (الرئيس) بوتين" (صحيفة "نيويورك تايمز"، 18 حزيران/يونيو 2021).
وعليه، اعتبرت مراكز صنع القرار السياسي في واشنطن "مجرد لقاء القمة إنجازاً كبيراً" لرؤية الرئيس بايدن، الذي أعطى الأولوية للمسار الديبلوماسي في الانفتاح وتقديم حلول للتحديات الراهنة، محلياً وعالمياً، والذي جسّده إعلان الرئيسين عودة سفيري بلديهما لممارسة مهامهما المعتادة، وترجمةً عمليةً أيضاً لشعار الرئيس بايدن بأن "أميركا عادت، وعادت معها الديبلوماسية"، لرسم معالم المرحلة المقبلة.
أما النخب الفكرية والسياسية الأميركية، فقد اعتبرت أن الرئيس بايدن ينتمي إلى عقلية الحرب الباردة، وخصوصاً أن بوصلة "سياساته الخارجية عالقة في آفاق القرن العشرين، وخططه للأزمات العالمية لا تفارق نمطية حلولٍ تقليدية عفا عليها الزمن"، وذلك في أول تحدٍ حقيقي له خلال العدوان الصهيوني على قطاع غزة "والحظر (الأميركي) المتكرر لإصدار مجلس الأمن الدولي" قراراً يدين العدوان (مجلة "نيو ريببلك"، 4 حزيران/يونيو 2021).
في مجال التوقعات الأميركية "المتواضعة" من الجولة الأوروبية ولقاء القمة، تجمع مراكز صنع القرار على 3 أهداف يمكن تحقيقها، أوجزتها صحيفة "نيويورك تايمز" بالقول: "إقناع الحلفاء الأوربيين بأن أميركا عائدة (لممارسة دورها الريادي)، وحشدهم خلف توجهات واشنطن لاحتواء صعود الصين، وإرساء "خطوط حمر" أمام الرئيس الروسي" الذي أضحى "خصماً معتبراً" ("نيويورك تايمز"، 18 حزيران/يونيو 2021).
النتيجة العامة، وفق تقييم هؤلاء، أن الرئيس بايدن "حقق" الهدف الأول بعودة بلاده بعد انقطاع فاعل وانقسام داخل صفوف دول الحلف. أما في مسألة احتواء الصين، فقد "حقق بعض التقدم لدى بعض الأوروبيين في ظل إعراض هائل لديهم عن التماشي معه باعتبار الصين مصدر تهديد، وخصوصاً في مجال التبادل التجاري"، نظراً إلى اعتماد اقتصاديات الدول الأوروبية، ولا سيما الغربية، على المنتجات الصينية بشكل ملحوظ.
وأعرب عدد لا بأس به من النخب الفكرية الأميركية عن شكوكهم في تمكّن الرئيس بايدن من إحداث تحوّل كبير في السياسة الخارجية في ولايته الأولى برمتها، نظراً إلى عدم اكتراث "قيادة الحزب الديموقراطي الحالية بإعادة التفكير (الجدي) في سياسات بلادها، وتجلياتها بإحاطة الرئيس بايدن نفسه بشخصيات موالية من داخل المؤسسة الحاكمة"، وتأييدها قرار العدوان على العراق وغزوه (مجلة "نيو ريببلك"، 4 حزيران/يونيو 2021).
النخب الفكرية الأميركية الأشد تأثيراً في صنع القرار السياسي، والمنضوية تحت مظلة "مجلس العلاقات الخارجية"، الذي يصدر دورية شهرية رصينة بعنوان "فورين أفيرز"، شاطرت الأوروبيين خشيتهم من تداعيات "أميركا عادت"، متسائلة "لكن إلى متى؟"
وأوضحت أن ترسّخ ذلك الشعور جاء نتيجة "اتساع هوة الخلافات الحزبية العميقة (في واشنطن)، والتي تؤسس لأرضية عدم اليقين بالتوجهات المستقبلية للسياسة الخارجية الأميركية" ("فورين أفيرز"، 14 حزيران/تموز 2021.
أما خلاف الأوروبيين مع توجهات واشنطن برفع حالة العداء مع الصين، فقد ترجم بعدم الرضى عن تصريحات وزير الخارجية الأميركي توني بلينكن، حين اتهم الصين بارتكاب سياسة "التطهير العرقي" بحق أقلية الأيغور، والإقلاع عن الاصطفاف وراء أولويات السياسة الأميركية.
بالنسبة إلى الهدف الأهم للجولة، المتمثل بإرساء تفاهمات عملية مع الرئيس الروسي، فإن المؤشرات الناتجة من مؤتمريهما الصحافيين المنفَصِلين "لا تدل على حدوث اختراق ملموس بوسعه إحداث تغيير كبير في تردي علاقاتهما" ("نيويورك تايمز"، 18 حزيران/يونيو 2021).
بعبارة أوضح، فشل الرئيس بايدن في ترجمة التوقعات الوردية، بسب ما أسماه كبار مستشاريه بأنه يتميز "بدوام التفاؤل، وربما هو الوحيد" الذي يؤمن بذلك، ويأخذ بعين الاعتبار توصيات مستشاريه بضرورة عدم عقد "مؤتمر صحافي مشترك"، لخشيتهم من بؤس أداء الرئيس الأميركي أمام نظيره الروسي، الذي "يعود مجدداً" إلى دائرة الاهتمام العالمي، والذي نجح نجاحاً باهراً في تسجيل تنازل واشنطن عن معارضتها أنبوب الغاز الروسي "نورد ستريم-2" إلى ألمانيا الغربية مباشرة.
التحول في قرار الرئيس بايدن بإجازة استكمال أنبوب النفط والغاز، اعتبرته شبكة "سي أن أن"، بنسختها العربية، أنه يشكل تأكيداً واضحاً على "حرصه تحقيق اختراق في قمة جنيف، ولو كان ذلك خلافاً لتوصية الخارجية الأميركية".
وربما الأدق في هذا السياق ما أثير قبيل مغادرة الرئيس بايدن البيت الأبيض، بأن الرئيس بوتين استطاع "اختطاف أضواء المسرح الدولي" بسياساته الوطنية محلياً، وتحديه النفوذ الأميركي على المستوى العالمي، كما شهدنا في مؤتمره الصحافي بحضور وسائل الإعلام الأميركية والأوروبية. وعليه، من غير اللائق ظهور الرئيس بايدن إلى جانبه في وضع ضعيف، في ظل تراجع حالته الذهنية وظهور أعراض الشيخوخة عليه، كما يتردد بكثافة في واشنطن هذه الأيام.
العلاقات الثنائية بين العظميين، قبل لقاء القمة، شهدت موجة توترات أوشكت على أن تؤدي إلى نشوب اشتباكات عسكرية مباشرة بينهما، على خلفية تمدد حلف الناتو عسكرياً في منطقة البحر الأسود، أوجزتها مؤسسة "راند" النافذة لدى محافظي المؤسسة الأميركية الحاكمة، بالإشارة إلى انقطاع سبل "التواصل بينهما، والتي شهدت خللاً وظيفياً على كل مستويات العلاقة، بما فيها أعلى المستويات" (مؤسسة "راند"، 10 حزيران/يونيو 2021).
وصعّدت المؤسسة خطابها السياسي الذي يعكس عقلية الحرب الباردة بامتياز، معتبرة أن جدول أعمال الرئيس بايدن يشمل "على الأرجح مناقشة التدخل في الانتخابات (الأميركية)، والحملة الدعائية المضادة، والحد من الأسلحة، والاستقرار الاستراتيجي، وتمظهر روسيا العسكري، وإغلاق البعثات الديبلوماسية" لديهما.
وكذلك فعلت شبكة "سي بي أس" الأميركية للتلفزة، إذ حرّضت على روسيا بالقول: "استباقاً للقاء القمة بين بايدن وبوتين، نفذت روسيا ما وصفته بأنه أضخم مناورة عسكرية بحرية في المحيط الهاديء منذ (أفول) الحرب الباردة"، في إشارة إلى موقع المناورات البحرية التي تبعد عن شواطيء جزر هاوايي الأميركية بنحو 300-500 ميل، والتي "اشتركت فيها سفن عائمة وطائرات مضادة للغواصات وقاذفات بعيدة المدى".
سرعان ما تبخرت "أجندة مؤسسة راند" في مؤتمر الرئيس بايدن الصحافي، بانتهاجه أسلوباً تصالحياً مع موسكو، قائلاً: "جدول أعمالي ليس معادياً لروسيا"، مؤكداً استكمال "إنجاز ما أتيت لأجله"، أي "انتهاج مسارٍ شديد التفاؤل" في العمل المشترك، والذي "يرسي أرضية لتوجه عظيم للمرة الثانية على الصعيدين الداخلي والخارجي" للرئيس بايدن (نشرة "آكسيوس"، 17 حزيران/تموز 2021).
في هذه الأثناء، برز حجم الهدر المالي في ميزانيات وزارة الدفاع الأميركية، أهمها "إنشاء منظومة دفاعية مضادة للصواريخ"، دشّنها الرئيس الأسبق جورج بوش الإبن في العام 2001، بتخصيص زيادة ثابتة في الميزانية الدفاعية، قيمتها 8 مليار دولار سنوياً، والتي وُوجهت برفض شديد من قبل "الاختصاصيين والديبلوماسيين وقيادات الحزب الديموقراطي" (نشرة "ديفينس وان"، 15 حزيران/يونيو 2021).
وأضافت النشرة أنه تم إنفاق "أكثر من 400 مليار دولار على مدى عدة عقود" على برامج تطوير وانتاج أسلحة لم تثبت نجاعتها، على أقل تقدير. واستعادت تعليقاً للسيناتور بايدن آنذاك، حذّر فيه من الهدر المنظم للموارد المالية، وخصوصاً أن الولايات المتحدة "لا تمتلك بنى تحتية لنظام رعاية صحية باستطاعته معالجة الجراثيم المسببة للأمراض التي تداهمنا على عجل".
وذكّرت النشرة كل الأوساط السياسية بأن تحذير السيناتور بايدن من سباق التسلح النووي كان باستطاعته "توفير مئات الميارات من الدولارات على أسلحة لم تستوفِ شروط انتاجها، بل فشلت ميدانياً".
ومضت النشرة المختصة بالشؤون العسكرية محذرةً قيادات البنتاغون ومؤيديهم في الكونغرس بأنهم "تجاهلوا عن عمد" إعلان الرئيس بوتين "دخول 5 نظم تسليح حديثة الخدمة الميدانية، من شأنها التغلب على نظم الدفاعات الأميركية أو تفاديها"، في العام 2018، وطالبتهم "بالاصغاء جيداً الآن"، وترجيح تحذيرات الرئيس بايدن من هول سباقات التسلح وتكاليفها المتزايدة باطّراد، والذي "باستطاعته تصحيح تراكم أخطاء الماضي".
الاستنتاج الثابت من قمة العظميين أنها أرست مساراً لـ "خفض حدة التوتر" والذهاب النشط للتعاون المشترك في "الحد من التسلح." أما الملفات المحلية والإقليمية، مثل سوريا وعلاقة روسيا بالصين، فقد تم إرجاؤها للمزيد من البحث بين اللجان المشتركة المختصة في المدى المنظور، والتي ستتأثر سلباً أو إيجاباً بتعاون البلدين في القضايا الكبرى التي تؤسس للاستقرار العالمي.
اضف تعليق