جاء الرد الروسي مدوياً على الاستراتيجية الكونية الجديدة للولايات المتحدة، التي وضعت روسيا – ومعها الصين – في عداد أخطر قوتين رجعيتين، تهددان الولايات المتحدة... بوتين كشف عن "سلالات" جديدة من الأسلحة، يمكنها – مبدئياً – كسر التفوق الأمريكي واستعادة التوازن في موازين القوى العسكرية، فيما بدا أنه رد مباشرة على الاستراتيجية الدفاعية والنووية الجديدة للبنتاغون، وما يمكن وصفه بـ "سبق تسلح جديد" بين موسكو وواشنطن، يستعيد مفردات الحرب الباردة ويذكر بها.
ردود الفعل الدولية الأولية على خطاب بوتين الأخير، تفاوتت ما بين القلق والتحذير من عواقب "خرق روسيا لمعاهدات خفض سباق التسلح" إلى محاولة التقليل من شأن ما تم الكشف عنه من أنظمة تسلح جديدة، أما في العالم العربي فقد توزعت الآراء والتقديرات، المنقسمة أصلاً، على ثلاثة وجهات نظر: أولاها؛ تبشر بانتهاء عصر "الأحادية القطبية" وعودة روسيا لأن تكون القطب الدولي الثاني... ثانيتها؛ ترى الأمر سابقاً لأوانه، وتجزم بأن الولايات المتحدة ستبقى على عرش القطب الواحد لسنوات عديدة قادمة... وثالثتهما؛ ترى أننا أمام سنكون أمام مزيج غير متجانس من "التعددية القطبية" حين سيتوزع القرار الدولي على عدد من الدول العظمى القديمة والناشئة، وإن بتفاوت.
فيما النظرتين الأولى والثانية، تتكشفان عن نزعات "رغائبية" لدى معسكرين متناحرين في العالم العربي والإقليم من حولنا، الأول، يجد خلاصه في التحالف مع موسكو، وهو يتمنى تصاعد وتصعيد دورها الإقليمي والدولي، والثاني، يجد مصيره مرتبطاً ببقاء الولايات المتحدة، سيدة للعالم، لا منازع لها ولا بديل عنها... أما الثالث، ففي ظني أنه يشف عن قراءة واقعية، من خارج خنادق حرب المحاور المندلعة في المنطقة، مباشرة أو عبر الوسطاء، وربما يقدم التوصيف الأدق للنظام العالمي الجديد، الآخذ في التشكل، من دون أن تتضح ملامحه أو قواعده الناظمة بعد.
لا شك أن روسيا، قبل وبعد الكشف عن السلالات الجديدة من أسلحتها الاستراتيجية المتطورة، لم تكن تشكو اختلال عسكرياً في ميزان القوى... الاختلال قائم، ولكن في مواقع أخرى، اقتصادية بالمقام الأول والأساس... الاتحاد الروسي، كما الاتحاد السوفياتي المنحل، الذي ورثته، لديه من الأسلحة ما يكفي للوصول إلى أية بقعة في العالم، بل وربما لديه ما يكفي لتدمير الحضارة الإنسانية عدة مرات، وليس مرة واحدة فقط... لم يسقط الاتحاد السوفياتي بفعل اختلال في توازنات القوى العسكرية، أو لنقص في عناصر الاقتدار الحربي، التقليدي والنووي لديه وحلفائه... سقط لأنه هزم في "المباراة الاقتصادية"، ولعجز "نظامه السياسي" عن استيعاب العصر ومتغيراته، بوصفه نظام الحزب الواحد الشمولي.
بهذا المعنى، ما زالت الولايات المتحدة في الصدارة، اقتصادها يتفوق بأكثر من 14 ضعف على الاقتصادي الروسي، وميزانيتها الدفاعية تتفوق على نظريتها الروسية بالقدر ذاته تقريباً، آخذين بنظر الاعتبار أن الزيادة (فقط) في الانفاق الدفاعي الأمريكي في أول سنة على حكم دونالد ترامب، تتجاوز بحدها الأدنى إجمالي الموازنة الدفاعية الروسية، وربما بأكثر من عشرين بالمائة.
تستطيع روسيا أن تحدث اختراقات ملموسة في "سباق التسلح" مع الولايات المتحدة، لكن منطق "المباراة الاقتصادية" وفلسفة "سباق التسلح" بين العملاقين، تقوم على "النفس الطويل"، وما إذا كان سيكون بمقدور موسكو أن تجاري الولايات المتحدة، في المديين المتوسط والبعيد، وهل تقوى البنية الاقتصادية والصناعية والتكنولوجية الروسية على "مجاراة" الولايات المتحدة، حتى لا نقول تجاوزها؟... مثل هذا السؤال، لا يبدو أن الإجابة عليه، ستكون مغايرة للإجابة التي توفرت في الفصل الأخير من الحرب الباردة.
والحقيقة أن ثمة مبالغة أخرى، لا تقل أهمية عن سابقتها، تتصل بموقع روسيا ونفوذها على الساحة الدولية وفي دول الأزمات، بل وفي منطقة الشرق الأوسط... ومن يدقق في أزمات بلادنا على أقل، يرى أن لروسياً دوراً رئيساً في ساحة واحدة فقط، هي سوريا، أما في بقية الساحات، فهي لاعب من بين لاعبين، بل وليس لاعباً رئيساً، لا في العراق ولا في اليمن أو ليبيا... أما في الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، فلروسيا تأثير محدود كذلك، سواء على إسرائيل التي نسجت معها أوثق الروابط والعلاقات، أو على الجانب الفلسطيني، فروسيا لم تفلح في جمع عباس بنتنياهو في الكرملين، والمؤكد أن تأثيرها كان متواضعاً على طريق التوسط لإتمام المصالحة الفلسطينية البينية... وحتى في سوريا ذاتها، يبدو أن الدور القائد لروسيا، لم يحظ بالاعتراف الإقليمي والدولي بعد، وهو ما زال عرضة للمنافسة والتحدي والتهديد.
لكن هذا التوصيف، لموقع روسيا وموفقها و"وزنها" على الساحتين الدولية والإقليمية، لا يعني أن ليس ثمة جديد على الساحة الدولية... الصين بدورها تنهض كمارد اقتصادي، وتتبعها الهند على الخطى ذاتها، وهذه الدول بحاجة لتعظيم أدوارها السياسية والأمنية والعسكرية، ذوداً عن مصالحها الاقتصادية المتنامية في المنطقة والعالم... وأوروبا العجوز، ما زالت قادرة على تجديد شبابها، واثنتين من دولها عضوتين في النادي النووي وتتمتعان بحق النقض "الفيتو"، وألمانيا من بين أكبر ثلاثة اقتصادات في العالم.
لن يستمر نظام القطب الواحد، الذي اختبر لأول مرة في العراق زمن حرب الخليج الثانية (تحرير الكويت)، لكننا لن ندلف عتبة نظام "الثنائية القطبية"، فروسيا أضعف من أن تكون قطباً موازياً ومعادلاً للقطب الأمريكي... الأرجح أننا سنكون سائرين صوب نظام "متعدد الأقطاب"، ستظل الولايات المتحدة تلعب دوراً مقرراً فيه، بيد أنه لن يكون دوراً منفرداً أو مهيمناً، والأرجح أن سوريا ستكون ساحة الاختبار الأولى لنظام "التعددية القطبية" الناشئ.
اضف تعليق