مع نهاية القرن التاسع عشر، عاش علماء الفيزياء في سكينة ورضا بعدما زعموا أن النظريات العلمية تمكنت من تفسير كل ظواهر الطبيعة، من خلال الثورة الكبيرة التي أحدثها أرباب الميكانيكا الكلاسيكية ابتداءً من العالم البولندي نيكولاس كوبرنيكوس، مروراً بالإيطالي غاليليو غاليليه، والفرنسي بليز باسكال، وانتهاءً بالإنجليزي إسحاق نيوتن.
لكن في الواقع بعد ذلك لم تجرِ الرياح بما تشتهي سفن العلماء، إذ إنه قد ظهرت بعض الإشكاليات والظواهر الطبيعية التي تتحدى المنطق والبداهة، ولم تستطِع القوانين المعمول بها آنذاك من تفسيرها، من هذه الظواهر أنه عندما يتم تسخين أنبوب من الغاز فستنطلق منه طاقة على شكل توهج ضوئي وحرارة، وعند تحليل هذا الأنبوب على موشور، فإننا سنرى مجموعة منفصلة من الألوان، وهو ما يخالف السائد آنذاك بأن الطاقات المنبعثة من الأجسام تخرج باستمرار وتواصل، جاء العالم الألماني الفذ ماكس بلانك؛ ليثبت أن تلك الطاقات تنبعث من الأجسام في شكل وحدات أو "كم" معين يمكن قياسه بمعادلة أنيقة: الطاقة تساوي ثابت بلانك في التردد E = hxf
ساهم هذا الاكتشاف في إطلاق "نظرية ميكانيكا الكم" في العوالم ما تحت الذرية، التي تعتبر اليوم إحدى أهم أسس وقواعد الفيزياء الحديثة، وأكثرها غرابة وجدلية، لكنها في الوقت عينه أكثرها تأثيراً وتضميناً وتطبيقاً من مجالات الحياة، فكلنا يملك اليوم حواسيب وأجهزة الهواتف الذكية التي تعمل كما الإلكترونيات الأخرى وفق قوانين فيزياء الكم العجيبة، والتي كنا قد تطرقنا في مقالة سابقة إلى بعض أسسها وقواعدها الغريبة، مفصلين بعض التجارب العملية والذهنية التي قام بها علماء الفيزياء، في محاولة منهم لتقريب قوانين هذا العالم المذهل. فالغوص في أساسيات ميكانيكا الكم أمر في غاية الأهمية؛ لأنه من الشائن أن يجهل الإنسان أبسط المعلومات عن أهم وأعظم منجزات العصر الذي يعيش فيه.
ترتبط ميكانيكا الكم ارتباطاً "وثيقاً" بالذرة وسائر العالم الصغروي، لقد نشأ مفهوم الذرة من خلال سؤال طرحه الإنسان من الأزل بناءً عن مشاهدات طبيعية تحصل أمامه، يكمن هذا السؤال في إمكانية تقسيم الأشياء إلى أشياء أصغر منها إلى ما لا نهاية، مثلاً، الجبال تنقسم بفعل الزلازل إلى صخور، والصخور تنقسم إلى حصى، والحصى إلى حبات رمل...
فهل هناك حد معين تصل إليه المادة لا يمكن بعدها أن تقسم إلى شيء أصغر منها؟ يجيب أرسطو عن هذا السؤال بـ"لا"، فلا شيء يمنع المادة من أن تنقسم مجدداً مهما كان صغر حجمها، لكن المدرسة الإغريقية بزعامة ديمقريطس كان لها رأي آخر، واعتبر أن للمادة حداً معيناً لا يمكن بعدها أن تنقسم، أطلق عليها ديمقريطس اسم أتوموس، ومعناه غير قابل للتجزئة، ومن هنا جاء اسم الذرة أو، "Atom".
ظل الجدل بين المدرستين قائماً حتى بداية القرن السابع عشر، عندما وضع الكيميائي جون دالتون أول نموذج للذرة على أنها دقائق غير قابلة للتجزئة تتألف منها المادة، وهي تختلف من عنصر إلى آخر، لكنها تتشابه في الكتلة والشكل في العنصر نفسه، بعد ذلك وتحديداً سنة 1898 عندما قام العالم الإنجليزي طومسون باقتراح نموذج جديد يقوم على اعتبار الذرة كفطيرة بالزبيب، هذه الفطيرة مشحونة بكهرباء موجبة موزعة بانتظام ومحشوة بحبات الزبيب التي اعتبرها إلكترونات مشحونة سالباً، وأن مجموع الشحنات الموجبة والسالبة يساوي صفراً، أي أن الذرة متعادلة كهربائياً.
جاء العالم راذرفورد ليقدم نموذجاً أكثر تطوراً من نموذج طومسون، معتمداً على تجربة غاية في الذكاء تنص على تسليط جسيمات ألفا (المشحونة موجباً) على صفيحة رقيقة من الذهب، شاهد راذرفورد أن معظم الجسيمات مرت دون انحراف في المسار، وهذا يعني أن معظم الذرة مؤلف من فراغ، كما شاهد أن نسبة قليلة من جسيمات ألفا لم تنفذ وارتدت عكس مسارها، وأن نسبة ضئيلة أيضاً نفذت من صفيحة الذهب ثم انحرفت عن مسارها، مما دل على أن كتلة الذرة بشحنتها الموجبة تتركز في حيز صغير يدعى النواة.
إن كان رذرفورد قد أبلى بلاءً حسناً في تقديم نموذج متقدم للذرة، إلا أنه فشل في تفسير ظاهر مهمة، ألا وهي استقرار الذرة، فالإلكترون جسيم مشحون يتحرك بشكل كوكبي حول النواة، فيشع طاقة كهرومغناطسية أثناء حركته، مما يجعل طاقته وسرعته تقلان، ويقترب من النواة شيئاً فشيئاً في مسار حلزوني إلى أن يلتحم بالنواة، وتصاب الذرة بالانهيار، وهذا ما يعرف بالـ Collapse، لكن في حقيقة الأمر هذا لا يحدث أبداً، والدليل على ذلك أننا موجودون، ولو كانت الذرة تنهار على نفسها لفني الوجود بأسره.
جاء بعد ذلك العالم الدنماركي الشهير نيلز بور، أحد أهم أعمدة ميكانيكا الكم؛ ليحل هذه المعضلة، ويضع أفضل نموذج للذرة، يقوم نموذج بور على تشبيه حركة الإلكترون حول النواة بدوران الكواكب حول الشمس، لكن الإلكترون يدور في مدارات محددة جداً، وليس في أي مدار يريده، واستفاد بور من معادلة بلانك؛ ليشرح أن خصوصية الإلكترونات في الذرات تجعل طاقتها تأتي على شكل كميات محددة صغرى تدعى "الكم"، ولهذا السبب هناك مدارات محددة تستطيع الإلكترونات أن تشغلها، وعندما تسخن الذرة تصبح الإلكترونات محفزة، فتقفز من مدار ثابت إلى آخر، وكل قفزة نزولاً ستبعث الطاقة على شكل ضوء بموجات محددة.
وهذا ما يفسر الظاهرة التي تحدثنا عنها في بداية المقال، حول تسخين الأجسام والحصول على توهج ضوئي بعدة ألوان، وهذا ما يعرف بالقفزة الكمية، الأكثر غرابة والأدعى إلى الدهشة والذهول أن هذا الإلكترون يقفز من مدار إلى آخر دون أن يمر بالفضاء الفاصل بينهما، أي أن الإلكترون ينتقل آنياً من مدار إلى آخر دون أن يقطع المسافة بين المدارين، كان هذا أول لغز محير ومناقض للعقل في النظرية الكمومية,
لنفهم مدى غرابة ذلك سنضرب هذا المثال: لنفترض أن عمر يعيش في عالم ذري، وهو الآن موجود في جنوب فرنسا، يستطيع عمر أن ينتقل لحظياً (أي في اللحظة نفسها) من جنوب فرنسا إلى قريته في شمال لبنان، دون أن يقطع المسافة بينهما، أي أنه سيختفي في فرنسا وسيظهر في لبنان بشكل آني، يبدو هذا مدهشاً حقاً، لكنه لم يمنع العلماء من التفكير جدياً في النقل الآني الكمومي أو ما يعرف بالـTeleportation، وفعلاً، نجح العالم النمساوي المعاصر أنطوان زايغلر في نقل فوتون بشكل آني من جزيرة لابالما إلى جزيرة تينيريف التي تبعد 143 كلم في جزر الكناري، مستفيداً من نظرية التشابك الكمي في ميكانيكا الكم.
وهي النظرية التي كنا قد تطرقنا إليها في المقالة السابقة.. والتي تسببت بواحد من أشهر النقاشات العلمية على الإطلاق بين مدرسة كوبنهاغن بقيادة العالم نيلز بور من جهة، والمدرسة الكلاسيكية بقيادة العالم ألبرت أينشتاين من جهة أخرى، إذاً، نجح زايغلر في نقل الفوتون لحظياً بين جزيرتين متباعدتين.
هذه الفكرة المدهشة تعيد إلى ذهني قصة سيدنا سليمان وعرش بلقيس الواردة في القرآن الكريم، بقوله جل من قائل في سورة النمل: "يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قبل أن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبلَ أنْ تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِي أَمِينٌ قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِي كَرِيمٌ"، فالمتأمل في هذه الآيات العظيمات يتحسس الإعجاز الذي خصه الله لأنبيائه ورسله، فسبحان الذي جعل في كتابه إشارات تلهم العقول للعلم والفهم والتأمل من الذرة إلى المجرة.
اضف تعليق