تقنيات الاستدامة والذكاء الاصطناعي تهيمن على سابع قوائمنا السنوية المختارة للابتكارات الأكثر إثارة للاهتمام، المختبرات ذاتية التشغيل، مثل هذا المختبر في اتحاد إسراع وتيرة اكتشاف المواد في ولاية تورونتو الكندية، يستخدم الخوارزميات والروبوتات لدفع عجلة تطوُر علوم المواد، من العمارة المستدامة إلى علاجات السرطان والمعالجة الحيوية للملوثات، وصولًا إلى الحوسبة الفوتونية...
بقلم: مايكل آيزنشتاين
الاقتباس: تقنيات الاستدامة والذكاء الاصطناعي تهيمن على سابع قوائمنا السنوية المختارة للابتكارات الأكثر إثارة للاهتمام، المختبرات ذاتية التشغيل، مثل هذا المختبر في اتحاد إسراع وتيرة اكتشاف المواد في ولاية تورونتو الكندية، يستخدم الخوارزميات والروبوتات لدفع عجلة تطوُر علوم المواد، من العمارة المستدامة إلى علاجات السرطان والمعالجة الحيوية للملوثات، وصولًا إلى الحوسبة الفوتونية...
تقنيات الاستدامة والذكاء الاصطناعي تهيمن على سابع قوائمنا السنوية المختارة للابتكارات الأكثر إثارة للاهتمام.
المختبرات ذاتية التشغيل، مثل هذا المختبر في «اتحاد إسراع وتيرة اكتشاف المواد» Acceleration Consortium في ولاية تورونتو الكندية، يستخدم الخوارزميات والروبوتات لدفع عجلة تطوُر علوم المواد.
من العمارة المستدامة إلى علاجات السرطان والمعالجة الحيوية للملوثات، وصولًا إلى الحوسبة الفوتونية، إليك سبع تقنيات نتابع مستجداتها في دورية Nature هذا العام.
المختبرات "ذاتية التشغيل"
العام الماضي، أعلن فريق بحثي دولي عن ابتكار مجموعة من المواد الواعدة للاستعانة بها في الأجهزة المعتمدة على المواد العضوية الصلبة لتوليد الليزر1. وتُعد تلك محطة مهمة على طريق ابتكار إلكترونيات زهيدة التكلفة موفرة للطاقة. وجانب كبير من الأبحاث التي أسفرت عن هذا الابتكار أُجرته شبكة من خمس مختبرات روبوتية موجهة بتقنية الذكاء الاصطناعي، تمتد عبر ثلاث قارات. تعقيبًا على هذا الحدث، يقول ألان أسبورو جوزيك، اختصاصي علم الكيمياء الحاسوبية من جامعة تورونتو في كندا، وهو مؤلف رئيس للورقة البحثية الخاصة بهذه الدراسة، إن المشروع صمم بهدف استعراض قدرة المختبرات "ذاتية التشغيل" على التصدي لدراسة فئة من المواد التي تعد مفيدة لكن تخلق إشكاليات في استخدامها. ويضيف: "عندما بدأنا في عام 2017، كان عدد المركبات العضوية التي أفادت الدراسات المنشورة بأنها تُستخدم في توليد الليزر لا يربو على عشرة مركبات، لكننا في نهاية المطاف اكتشفنا 21 مادة من أفضل المواد في هذا الإطار".
نذكر هنا أن الأبحاث الكيميائية المؤتمتة مغلقة الحلقة (المعززة بالتغذية الذاتية بالمعلومات، أي التي تقوم فيها حاسوبات بتوجيه روبوتات "ُتجريب" لتغيير استراتيجياتها تبعًا للنتائج) تعود إلى سبعينيات القرن الماضي. غير أن مختبرات اليوم ذاتية التشغيل باتت أكثر تطورًا، إذ تمزج بين علم الروبوتات الحديث واستخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي القادرة على وضع خطط لسير عمل معقد عالي الإنتاجية وتفسير نتائجه.
في ذلك الصدد، تقول جي شو، عالمة المواد من مختبر آرجون الوطني في بلدة ليمونت بولاية إلينوي الأمريكية إن أدواتً كتلك يمكن أن توسع بشكل كبير آفاق أبحاث الكيمياء وعلم المواد. وهو ما توضحه بقولها: "فضاء علم الكيمياء يشبه فضاء الكون، لكننا في الوقت الحالي نسبر مجرة واحدة منه. ويمكن للذكاء الاصطناعي أن يساعدنا في استكشاف مناطق أخرى بخلاف المنطقة التي ألفناها".
لنتأمل، على سبيل المثال، أداة الذكاء الاصطناعي «بولي بوت» Ploybot، التي أطلقتها شو مع فريقها البحثي في عام 2021، بهدف تقديم خدمات في مجال ابتكار المواد بمختبر آرجون. استخدم الفريق البحثي هذه الأداة في تجارب أولية لتخليق بوليمرات موصلة للطاقة قابلة للتمدد والاستطالة بالإضافة إلى مواد أخرى يمكن تغيير خواصها البصرية بتعريضها لمجال كهربي.
ويمكن للجيل التالي من المختبرات ذاتية التشغيل اكتساب المزيد من المهارات المذهلة. تدلنا على ذلك دراسة منشورة في نوفمبر من عام 2024، قدم فيها فريق بحثي من «اتحاد إسراع وتيرة اكتشاف المواد» الكائن في جامعة تورونتو توصيفًا لنظام «أورجانا» ORGANA، وهو نظام يسمح للعلماء بتوجيه أبحاث المختبرات المؤتمتة باستخدام لغات طبيعية وليس لغات برمجة2. وفي الوقت الحالي، يستكشف أسبورو-جوزيك، رئيس الاتحاد آفاق مجالات مثل الروبوتات السيَّارة والمعالجة الحوسبية للبيانات البصرية، وغير ذلك من الابتكارات التي من شأنها أن توسع نطاق الأنشطة التي يمكن أتمتتها في التجارب المختبرية، وإن كان يشدد على أن البشر، في المستقبل المنظور، "سينهضون دومًا بدور في سير العمل".
في الواقع، قد تعزز المنصات البحثية المؤتمتة دور العلماء وتكمله. وفي ضوء تحديات مثل التغير المناخي والجوائح، يمكن للمختبرات ذاتية التشغيل أن تقدِّم على مستوى العالم نتاجًا علميًا بتكلفة ميسورة، في وقت بلغت فيه حاجة البشرية إلى ذلك أشدها. ما يؤكد عليه أسبورو-جوزيك قائلًا: "نحتاج إلى تمكين كل من علمائنا، ليصبح نتاجه البحثي أكبر بعشر مرات أو مائة مرة، إذ لا يمكن تصور ما سنواجهه مستقبلًا".
آفاق جديدة للعلاج بالخلايا التائية
يُعد العلاج بالخلايا التائية المنتجة لمستقبلات المستضدات الخيمرية (اختصارًا خلايا CAR-T) علاجًا قياسيًا لعديد من أنواع سرطان الدم. ومنذ دخول هذا العلاج حقل الممارسة الإكلينيكية قبل سبع سنوات، تلقاه عشرات الآلاف من الأشخاص حول العالم. ولإنتاجه، تخضع الخلايا التائية لدى الشخص المصاب إلى إعادة برمجة وراثية بحيث تفرز بروتينًا مُهندسًا وراثيًا يتعرف على خلايا الورم السرطاني ويشن هجمات مناعية قوية ضدها. وفي مواجهة بعض أنواع سرطان ابيضاض الدم، والأورام الليمفاوية والأورام النخاعية، قد يثمر هذا العلاج عن فوائد إكلينيكية كبيرة؛ حيث يؤدي إلى القضاء التام على أعراض الإصابة بالورم السرطاني في أكثر من 50% من الحالات.
ويذكر أن جميع ما اعتُمد من العلاجات القائمة على الخلايا التائية المنتجة لمستقبلات المستضدات الخيمرية يستهدف بروتينات تعبر عنها الخلايا البائية المُفرِزة للأجسام المضادة، التي تُعد المسؤول الرئيس عن العديد من أنواع سرطان الدم، لكن خلال السنوات الأخيرة أحرز أيضًا تقدم كبير على صعيد العلاجات التي تستهدف فيها تلك الخلايا التائية الأورام الصلبة. على سبيل المثال، نجح فريق بحثي بقيادة مارسيلا ماوس، اختصاصية علم الأورام من مستشفى ماساتشوستس العام في مدينة بوسطن الأمريكية في هندسة خلايا تائية تستهدف أنواعًا معينة من الأورام الدماغية. وفي العام الماضي، أثبت الفريق البحثي أن هذه الخلايا يمكنها أن تقلص سريعًا الأورام الأرومية الدبقية متجددة الظهور، رغم أن هذه الاستجابة تباينت مدتها 3. وقد أظهرت دراسات أخرى نتائج واعدة لهذا العلاج في حالات سرطان الدماغ التي تصيب الأطفال وفي حالات أورام الجهاز الهضمي والأمعاء. من هنا، ترى مارسيلا ماوس أن هذه المقاربة العلاجية قد تثبت قابليتها للاستخدام على نطاق واسع في الحالات التي يمكن فيها للباحثين الوقوف على مستهدفات ورمية مناسبة.
كذلك أثبتت فرق بحثية أن الخلايا التائية المنتجة لمستقبلات المستضدات الخيمرية عند استهدافها للخلايا البائية يمكنها أيضًا أن تكبح بعض الأمراض المناعية التي يهاجم فيها الجسم نفسه. إذ تنجم هذه الأمراض في كثير من الأحيان عن خلايا بائية معيبة تنتج "أجسامًا مضادة ذاتية" تستهدف الخلايا السليمة. على سبيل المثال، في عام 2021، اختبر فريق بحثي قاده جورج شيت اختصاصي الأمراض الروماتيزمية من جامعة إيرلانجين نورنبيرج في ألمانيا قدرة هذه الخلايا التائية على المساعدة في علاج امرأة شابة مصابة بنوع موهن من داء الذئبة 4.
ويسترجع شيت أحداث هذه التجربة قائلًا: "ما قام به العلاج بشكل أساسي هو القضاء على داء الذئبة في هذه المريضة، بعد أن كنا قد أوقفنا تمامًا جميع العقاقير التي تتلقاها". ومنذ ذلك الحين، نجح شيت وفريقه البحثي في كبح تقدم مرض أربعة وعشرين شخصًا مصابين بداء الذئبة أو بأمراض مناعية ذاتية أخرى، ولم تشهد إلا حالة واحدة انتكاسًا لمرضها، ما يُعقب عليه شيت قائلًا إن هذه المقاربة العلاجية قد تحسن مآل حالات أخرى مصابة بأمراض مرتبطة باضطراب عمل الخلايا البائية، مثل التصلب المتعدِّد.
غير أن إنتاج هذه الخلايا التائية والعلاج بها مكلف، ناهيك عن كونه شاق جسمانيًا لمن يتلقونها. مع ذلك، كما يقول شيت، تجدر الإشارة إلى أن العلاج نفسه قد يخدم كحل اقتصادي فعال لمن واجهتهم تحديات مع العلاجات الأخرى الحالية. إذ "بمرور الوقت، تصبح التكلفة كبيرة لهؤلاء المرضى"، بتعبير شيت، الذي أضاف: "يبرهن التطور في هذا المجال على أنه من ناحية المبدأ، من الممكن درء أمراض المناعة الذاتية لسنوات دون أية تدخلات علاجية أخرى".
تقنيات المعالجة الحيوية للملوثات
في فيلم الخيال العلمي الصادر عام 1993، «حديقة الديناصورات» Jurassic Park، يقول الممثل الأمريكي جيف جولدبلام: "وسط الصعاب، الحياة تشق طريقها". ولا شك أن هذه المقولة تسري على عالم الميكروبات، حيث تزدهر الكائنات الدقيقة في أكثر البيئات قسوة وتستمد غذاءها من أغرب العناصر، بما في ذلك البلاستيك.
تتحلل المواد البلاستيكية بمرور الوقت إلى جسيمات دقيقة ضارة وسامة للبيئة. وتتكيف أنواع بكتيرية في الوقت الحالي مع هذه العملية، فلا تكتسب فقط القدرة على احتمال نواتج هذا التحلل، وإنما تستغل أيضًا هذه النواتج، حسبما يفيد رونان ماكارثي، اختصاصي علم الأحياء الدقيقة من جامعة برونيل في لندن. وفريق ماكارثي ليس إلا واحدًا من العديد من الفرق البحثية التي تتقصى الآليات التي يمكن بها استخدام هذه الكائنات الدقيقة في كبح تلوث البيئة مستقبلًا بالبلاستيكيات الدقيقة.
وهي فكرة جذابة، إذ يقدر تقرير أن حجم الاستثمار في استراتيجيات "المعالجة الحيوية" الميكروبية للملوثات قد ينمو بواقع أكثر من 8 مليارات دولار أمريكي بين عامي 2023 و2028 (انظر go.nature.com/42cweuj)
فالعديد من الإنزيمات الطبيعية قادر على تحليل المواد البلاستيكية، لكن بطرق لا تتسم بالكفاءة. من هنا، بُنيت «قاعدة بيانات الإنزيمات المحفزة للتفاعل النشط مع البلاستيك» Plastics-Active Enzymes Database وتضم أكثر من 230 إنزيمًا من هذه الإنزيمات، التي أخذ باحثون في وضع استراتيجيات لتعزيز كفاءتها. على سبيل المثال، يستحث فريق ماكارثي البكتيريا المحللة للبلاستيك على تشكيل أغشية حيوية سميكة على أسطح شظايا البلاستيك5. وهذه الأغشية، كما يوضح ماكارثي، تسمح للبكتيريا بإفراز الإنزيمات سالفة الذكر مباشرة على الركيزة المستهدفة، وتحول في الوقت نفسه دون زوال الإنزيمات في هذه العملية.
أيضًا تدرس سوزي داي، عالمة الكيمياء من جامعة ميزوري في مدينة كولومبيا الأمريكية القدرة الفطرية التي يتمتع بها فطر العفن الأبيض على تحليل "المواد الكيميائية الأبدية"، وهي مواد مسرطنة دائمة البصمة تُعرف أيضًا بالمواد البيرفلورية والبوليفلورية الألكيلية، ويشار إليها بالاختصار (PFAS) (وهو الاسم الشائع لها). وقد ابتكر فريق داي منصة باسم «رابيمير» RAPIMER، يُستزرع فيها هذا الفطر على سقالة اصطناعية تشبه في خواصها النباتات وتشكلها ألياف طبيعية6. ويمكن لهذه الألياف أن "تخدم كمادة ماصة تعزز جمع الملوثات (من البيئة)، ليُستحث بعدها الفطر على القيام بمهمته". وتشير داي إلى أنه يمكن استخدام هذه المنظومة في معالجة مياه الصرف أو في منشآت معالجة الحمأة (الأوساخ الراسبة).
ذهب باحثون آخرون إلى استخدام هندسة البروتينات والأساليب المختبرية التي توظف عملية التطور البيولوجي لتحسين الإنزيمات المتوفرة حاليًا وإنتاج ميكروبات ذات قدرة معززة على معالجة المُلوِّثات. غير أن اللوائح التنظيمية والمخاوف المجتمعية إزاء استخدام كائنات مُعدلة وراثيًا كتلك قد تحدان من التطبيقات المحتملة لها.
ويأمل ماكارثي في أن ينعقد نقاش حول السبل التي يمكن بها استخدام أنظمة المعالجة الحيوية القائمة على الهندسة الوراثية ببراعة وأمان. ويعد مختبره جزءًا من «مركز التكنولوجيا الحيوية للابتكارات البيئية» في جامعة كرانفيلد، الذي دُشن العام الماضي ويعتزم أن يتناول بالدراسة قضايا كتلك خلال تطوير تقنيات للتصدي لطيف من الملوثات البيئية، بدءًا من المعادن الثقيلة إلى المضادات الحيوية إلى الهرمونات. في هذا الصدد، يقول ماكارثي: "أعتقد أن [المعالجة الحيوية للملوثات] قد تتصدى لتكسير أي ملوثات تقريبًا إذا وُجدت القدرة الإنزيمية التي تتيح ذلك في المجال الحيوي الميكروبي".
تطبيقات نماذج الأساس في علم الأحياء
بصرف النظر عما إذا كان هذا يعود بالسلب أم بالإيجاب، اليوم، تُستخدم المنصات القائمة على النماذج اللغوية الكبيرة، مثل «تشات جي بي تي» ChatGPT كـ"محطة واحدة" يُجري منها مئات الملايين من المستخدمين حول العالم عددًا لا يحصى من المهام، بدءًا من الحصول على المعلومات، إلى صوغ المقالات البحثية حتى كتابة الشعر والأكواد البرمجية. وتختلف جودة ما تنتجه هذه المنصات، لكن مما لا شك فيه أن نماذج القوالب اللغوية الكبيرة تمثل خطوة جديرة بالاهتمام في تطوُر أنظمة ذكاء اصطناعي أوسع استخدامًا.
لذا، مما لا يثير الكثير من العجب أن علماء الأحياء تزايد اهتمامهم بتسخير إمكانات كتلك في أبحاثهم. غير أن المشكلة التي واجهتهم في هذا السياق لم تكن ندرة الأدوات، وإنما وجود فيض وفير منها. وهو ما يوضحه بو وانج اختصاصي علم الأحياء الحاسوبي من جامعة تورونتو قائلًا: "ثمة الآلاف من نماذج الذكاء الاصطناعي المُعدة لمهام بسيطة، وتشيع الكثير من الطرق الحوسبية التي لا تمت بصلة إلى بعضها البعض".
ويرى وانج في "نماذج الأساس" حلًا ناجعًا لهذه المشكلة، ويشاركه في هذا التوجه عدد متزايد من العلماء. يصف هذا المصطلح - "نماذج الأساس" - خوارزميات ذكاء اصطناعي تخضع لعملية تدريب مسبق، وتُلقم في هذا التدريب بكم هائل من البيانات غير المُصنفة. على سبيل المثال، دُرب نموذج الذكاء الاصطناعي «تشات جي بي تي» على البيانات في مجموعة ضخمة من النصوص على الإنترنت، لكن المقاربة نفسها قد تُستخدم مع بيانات التسلسلات الجينومية أو بيانات التعبير الجيني أو بيانات أنماط التغيرات التي تطرأ على الحمض النووي.
إذ تستحدث الخوارزمية في هذه الحالة نموذجًا معممًا بناءً على ما تستشفه من أنماط معقدة وخفية في البيانات. ويمكن بعدئذ استخدام هذا النموذج لإجراء طيف من المهام، بدءًا من تفسير ما يُستجد من البيانات وصولًا إلى تصميم بروتينات أو مسارات متخصصة. وترى تشارلوت بون، اختصاصية علم الحاسوب من المعهد الفيدرالي السويسري للتكنولوجيا في لوزان أن هذه النماذج قد تتمكن مع تطورها أن تتيح رؤى متعمقة فيما يخص عدد من الآليات والمفاهيم البيولوجية المهمة.
وقد برهن بقوة على ذلك عدد من الدراسات السابقة. على سبيل المثال، في عام 2024، طرح وانج وفريقه البحثي توصيفًا لنموذج الأساس «إس سي جي بي تي» scGPT، الذي دُرب على بيانات ترانسكربتومية لحوالي 33 مليون خلية مفردة، وهي بيانات استحدثتها مبادرة تشان زوكربيرج (CZI) في مدينة ريدوود بولاية كاليفورنيا الأمريكية7. وبحسب ما أفاد به الفريق، أمكن للنموذج أن يصنف بدقة أنواع الخلايا في أنسجة متعددة، وأن يقف على الشبكات الجينية التي تتحد لإطلاق عدد من العمليات البيولوجية المختلفة. كذلك أمكن له التنبؤ بتأثير عدد من الطفرات المسببة لاضطرابات في أنماط التعبير الجيني، وهي خاصية مفيدة في استكشاف العقاقير الدوائية، ما أكده وانج قائلًا: "وردتني الكثير من التعليقات الإيجابية ]بشأن النموذج[ من شركات دوائية".
كما أن فرصًا أكبر تسنح بالدمج بين نماذج أساس مختلفة. على سبيل المثال، خلال شهر ديسمبر من العام الماضي، طرح فريق من باحثي «مبادرة تشان زوكربيرج»، بالتعاوُن مع باحثين آخرين، من بينهم بون ووانج، خارطة طريق لتطوير "نموذج خلوي افتراضي"، هو في جوهره نموذج معقد يدمج في تكوينه بين عدة نماذج أساس، بالبناء على بيانات على مستوى الحمض النووي الريبي والبروتينات والحمض النووي وغير ذلك من مستويات البيانات8. وقد يتفوق هذا النموذج في أدائه بفارق كبير على أدوات الجيل الأول، مثل نموذج الأساس «إس سي جي بي تي»، من خلال رصد طيف أوسع من العمليات البيولوجية في الخلايا أو الأنسجة، ليوفر بذلك موردًا قويًا تنتفع به الأبحاث في مجال الصحة البشرية والبيولوجيا التخليقية، فضلًا عن مجالات أخرى.
تقنيات مستدامة لتبريد المدن
يتزايد احترار كوكبنا، والجهود التي تبذلها الدول الغنية لإبطاء عجلة هذا الاحترار أو التصدي له لا تقترب حتى من الوفاء بالمستوى المنشود. ويقتضي هذا الواقع المرير تبني حلول لتخفيف وطأة ارتفاع درجات الحرارة، ووضع حد للمعاناة والفوضى اللذين يخلقهما الحر الشديد.
فحلول كتلك ستغدو من الضرورة بمكان في بؤر "الجزر الحرارية الحضرية" التي قد تؤدي إلى ارتفاع درجة حرارة الهواء فيها بمقدار يتراوح ما بين خمس إلى عشر درجات عنه في المناطق المحيطة. في هذا الإطار، يقول ماثيوس سانتاموريس، الباحث في العمارة من جامعة نيو ساوث ويلز في مدينة سيدني الأسترالية: "الاحترار المفرط في العديد من المدن يُعزى بالدرجة الأولى إلى امتصاص مواد البناء الشديد للإشعاع الشمسي".
من هنا، يعكف سانتاموريس وعدد من الباحثين الآخرين على تطوير "مواد بناء فائقة البرودة"، قادرة على خفض درجة حرارة الحوائط والأسقف وغير ذلك من الأسطح في المدن. في هذا الإطار، ينوه سانتاموريس إلى أنه حول العالم، يشيع استخدام مواد "التبريد الإشعاعي" من الجيل الأول، التي تعكس أشعة الشمس وتبث حرارتها بأطوال موجية معينة، قادرة بسهولة على النفاذ من الغلاف الجوي لتعود إلى الفضاء. وقيد التطوير أيضًا حلول جديدة أكثر كفاءة.
على سبيل المثال، في اختبار ميداني أُجري العام الماضي في مدينة الرياض بالمملكة العربية السعودية، أثبت سانتاموريس وفريقه البحثي إمكان الجمع بين استخدام "مواد فوتونية فائقة البرودة" وتدابير أخرى بهدف خفض درجة حرارة الهواء المحيط بحوالي 5 درجات مئوية، ما من شأنه أن يخفض بدرجة كبيرة أحمال الطاقة اللازمة لتبريد المدينة 9. علاوة على أن هذه الحلول تمتاز أيضًا بأنها غير باهظة التكلفة؛ فيقدر سانتاموريس أن الأسطح فائقة البرودة تربو تكلفتها على المواد العادية المستخدمة في واجهات وأسقف المباني بحوالي 10% فقط. بالمقارنة، تقترب التكاليف التي يكبدها الاحتباس الحراري الحضري على مستوى العالم من 450 مليار دولار أمريكي كل عام".
لكن حتى مع تبني هذه التدابير، ستنشأ الحاجة إلى مزيد من تقنيات التبريد التي تؤمن الراحة في المنازل والشركات، إذ تسهم التقنيات الحالية في مفاقمة أزمة تغير المناخ. ما يوضحه إيتشيرو تاكيوتشي، اختصاصي علم المواد من جامعة ميريلاند في مدينة كوليدج بارك الأمريكية قائلًا: "سيتزايد استخدام أجهزة تكييف الهواء. ومن المؤسف أن استخدامها سينتشر في الدول الأفقر، حيث لا تتوفر المعدات المتطورة". ويعني هذا استهلاك المزيد من الكهرباء، وإطلاق المزيد من مركبات التبريد الهيدروفلوروكربونية في الغلاف الجوي، وهي فئة قوية الأثر من غازات الدفيئة.
ولعل أجهزة تكييف الهواء المعتمدة على التبريد الكهروحراري والتي لا تتطلب مواد تبريد هيدروفلوروكربونية تقدم حلًا يتسم بالكفاءة. على سبيل المثال، عام 2023، قدم تاكيوتشي وفريقه البحثي توصيفًا لنظام تكييف هواء يعتمد على "المرونة الحرارية للمواد الصلبة تحت الضغط"، وهو تأثير تُطلق فيه خلائط معدنية معينة الحرارة عند تعرضها للضغط، وتمتص هذه الحرارة عند تحررها من الضغط 10. وفي أولى تجارب الفريق في هذا الإطار، نجح في توليد قدرة تبريدية تعادل تلك التي قد يتمتع بها براد صغير، إذ أمكن له الوصول إلى درجات حرارة أقل بما يزيد على 20 درجة مئوية.
من هنا، يرى تاكيوتشي بصيصًا من الأمل، رغم أن منظومات التبريد التي ابتكرها فريقه اتسمت بالضخامة، وتطلبت - كي تغدو ملائمة للاستخدام - طاقة أكبر بعشرة أضعاف على أقل تقدير. فيقول في هذا الصدد: "إن صممنا جميع مكونات المنظومة، فقد نصل إلى نقطة... ننافس فيها تقنيات ضغط البخار الحالية".
أدوات التحليل الميكروبي للخلايا المفردة
سواء في البحار أو التربة أو في أجسامنا، تتسم المجتمعات الميكروبية بالتعقيد إلى حد مذهل. على سبيل المثال، التنوع الوظيفي والجينومي داخل نوع واحد من بكتيريا الإشريكية القولونية قد يثير الدهشة والعجب. فتقول أوفيليا فينتوريلي، اختصاصية هندسة الطب الحيوي من جامعة ديوك في مدينة دورهام بولاية كارولينا الشمالية الأمريكية: "قد تجد طفرات في كل موقع تقريبًا من الجينوم داخل مستعمرة واحدة لبكتيريا الإشريكية القولونية. ولك أن تتخيل كيف قد يؤثر ذلك على التفاعلات داخل الأمعاء".
بالنسبة للباحثين المتخصصين في دراسة الكائنات متعددة الخلايا من حقيقيات النواة، فإن فك تعقيد التنوع بين هذه الكائنات يكاد يكون عملية روتينية؛ ينجزونها بمجرد استخدام تقنية تعيين التسلسل الجيني للخلايا المفردة. بيد أن الوصول إلى الإمكانات نفسها على صعيد دراسة الميكروبات، ثبت أنه مليء بالتحديات. وجانب من السبب، يُعزى إلى أنه من الصعوبة بمكان نقب جدران الخلايا الميكروبية، نظرًا إلى أن الخلية الواحدة لا تحوي إلا قدرًا ضئيلًا من الحمض النووي والحمض النووي الريبي، ما يضفي صعوبة على استخلاصهما بكفاءة. لكن على مدى عدد قليل من السنوات الماضية، ظهرت ترسانة متنامية من أدوات سبر الخصائص البيولوجية للميكروبات بدقة على مستوى الخلية المفردة.
ففي هذا السياق، شهدت البحوث الترانسكروبتومية (المعنية بدراسة تسلسل الحمض النووي الريبي) بالأخص تقدمًا ملحوظًا في تطوير هذه الأدوات؛ ما أتاح اليوم ما لا يقل عن اثنتي عشرة تقنية جديدة في هذا المضمار. على سبيل المثال، تقنية تعيين تسلسل الحمض النووي الريبي البكتيري «MATQ-seq» - وهي تقنية طورها فريق بحثي بقيادة يورج فوجل، اختصاصي علم الكيمياء الحيوية من «معهد هلمهولتز لأبحاث الحمض النووي الريبي لحالات العدوى» في مدينة فورتسبورغ الألمانية - قادرة على تحليل التعبير الجيني عن مئات من الجينات في كل خلية على مستوى الآلاف من الميكروبات 11. وفي هذا الصدد، يقول فوجل: "ننشد دراسة جانب كبير من [الترانسكريبتوم] في إطار سعينا إلى الوصول إلى فهم شامل للمسارات الخلوية". وما ينتج من معلومات، قد يخدم على سبيل المثال، في الوقوف على جوانب الاستجابة للعقاقير بين الأنواع البكتيرية النادرة "العنيدة" القادرة على احتمال المضادات الحيوية. وتتيح تقنيات أخرى كمًا أكبر من البيانات الخلوية لكن على حساب رصد عدد أقل من الجينات في الخلية الواحدة، وإن بدا أن بعض التقنيات الجديدة مثل تقنية «M3-seq» تحقق توازنًا في هذا الإطار12.
أما التقدم المشهود على صعيد تحليل الحمض النووي الميكروبي، فهو أضعف. لكن يُذكر في هذا الصدد أن باحثون بقيادة فينتوريلي وفريمان لان اختصاصي هندسة الطب الحيوي من جامعة تورونتو قد قدموا توصيفًا العام الماضي لتقنية «DoTA-seq»، وهي تقنية ترصد الخلايا المفردة في قطيرات صغيرة، وتقف على تسلسل الحمض النووي لعشرات من المواقع المحددة في جينوم كل خلية13. وترى فينتوريلي أن هذه التقنية تبدو مفيدة بوجه عام في دراسة طيف متنوع من أنماط وأنواع الخلايا البكتيرية. وهي اليوم تستخدمها في فهم الآليات التي تؤدي بها البيئة داخل الأمعاء البشرية والنظم الإيكولوجية المغايرة إلى تشكيل الجينوم الميكروبي.
على أن الدراسات الميكروبيولوجية للخلايا المفردة تظل نسبيًا مجالًا قاصرًا على عدد محدود من الباحثين. من هنا، لم يدخل أي من هذه التقنيات الأسواق، وبعضها يتطلب معدات متطورة يصعب على العديد من العلماء الوصول إليها. فضلًا عن ذلك، حسبما تقر فينتوريلي، ثمة نقص في الدراية بهذه التقنيات. فتضيف: "يجهل كثيرون أن هذه الإمكانات حقيقية. فلا يدركون حتى أن بالإمكان دراسة خصائص هذه المجتمعات الميكروبية على مستوى الخلية المفردة".
الحوسبة الفوتونية في مجال الذكاء الاصطناعي
بدأت خوارزميات نماذج الذكاء الاصطناعي تشكل تحديًا لإمكانات تقنيات المعالجة الحوسبية والبِنى التحتية لأنظمة الطاقة. وهذا الوضع "لا يحقق الاستدامة البيئية"، بتعبير لو فانج، اختصاصية الهندسة الكهربية من جامعة تسينجهوا في بكين. فتضيف: "علينا أن نهتدي إلى طرق جديدة، وإلا فستعجز القدرات الحوسبية الحالية عن دعم هذه النماذج الضخمة مستقبلًا".
وفريق فانج هو واحد من عديد من الفرق البحثية التي تتناول بالدراسة إمكانات أطر العمل الحوسبية "الفوتونية" المعتمدة على الضوء فيما يخص دعم المعالِجات الإلكترونية الدقيقة المستخدمة في الوقت الحالي. إذ تتسم المعالِجات الفوتونية بالقدرة على إجراء عمليات معالجة بيانات متوازية أسرع وتيرةً، كما يمكنها تعزيز كفاءة مهام الاستدلال، وهي العمليات التي تستخدمها خوارزميات الذكاء الاصطناعي في تحليل نماذج البيانات المتاحة لها للاستجابة لأوامر المستخدم. في هذا السياق، يقول هاريش باسكاران، عالم المواد من جامعة أكسفورد بالمملكة المتحدة: "يتحدث الكل عن مقدار الطاقة اللازمة لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي، مع أن مهام الاستدلال تشكل في الوقت الحالي 80% من عبء العمل الحوسبي".
جدير بالذكر أن الفكرة التي أسست لقيام حقل الحوسبة الفوتونية تعود إلى 50 عامًا مضت، إلا أن ازدهار تقنيات الذكاء الاصطناعي كان بمثابة قبلة الحياة لهذا الحقل. كذلك يلفت باسكاران إلى الدور الذي لعبه التقدم السريع في تطوير مواد "تحوُل طوري" تتحكم في الضوء وغير ذلك من الركائز المفيدة التي قامت عليها المعالِجات الفوتونية، وإلى ازدهار الصناعات التجارية التي تفسح المجال أمام إسراع تجريب وإنتاج النماذج الأولية من عناصر المعالجة الفوتونية، وإلى تصميم "الرقائق الحوسبية الدقيقة" بتكلفة معقولة.
لكن النقلة من المعالجة الإلكترونية إلى الفوتونية لا تنطوي فقط على إحلال مكونات مادية محل غيرها. فتشير فانج إلى أن التصميم الحالي للمكونات المادية في المعالِجات قد يفضي إلى معدلات خطأ غير مقبولة إذا استُخدم في المعالِجات الفوتونية. من هنا، عكف باحثون على دراسة إمكانات التصميمات "المحاكية للبِنى العصبية البيولوجية"، والتي لا تستغل فقط مزايا التأشير الضوئي، وإنما تحاكي أيضًا المبادئ التنظيمية وملكات المعالجة التي يتمتع بها الدماغ البشري.
وقد استعرض باسكاران وفريقه البحثي في دراسة طرحوها العام الماضي تصميمين لمكونات مادية تستخدم التأشير الفوتوني وتتمتع بأداء جيد في مهام متعددة، منها التعرُف على المصابين بداء «باركنسون» بناءً على الاختلاف في حركتهم.14. أيضًا عرضت ورقة بحثية لفانج وفريقها البحثي بمعهد تسينجهوا منصة حوسبة قائمة على رقائق «تاي تشي» الحوسبية الضوئية التي صممها الفريق. وقد أظهرت في مهام محددة كفاءة حوسبية أكبر بمائة مرة مقارنة بأحدث وحدة معالجة رسوميات أنتجتها شركة «إنفيديا» Nvidia15. بالإضافة إلى ذلك، طور الفريق البحثي بالفعل نظامًا جديدًا يُسمى «ووجي» Wuji، أشارت فانج إلى أنه قادر على معالجة متغيرات أكثر بمائة مرة من تلك التي قد تعالجها رقائق «تاي تشي» الضوئية في مهام الذكاء الاصطناعي، كما أنه مناسب لتطبيقات النماذج اللغوية الكبيرة.
ختامًا، يقول باسكاران إن تحقيق الاستفادة القصوى من إمكانات الحوسبة الفوتونية يتطلب جهودًا شاقة وينوه إلى أن الحواسيب الفوتونية يرجح أن تكون أكثر تخصصًا من نظائرها الإلكترونية المُعدة للأغراض العامة. أما فانج، فتتوقع أن تسنح فرص وفيرة خلال عدد قليل من الأعوام أمام "التطبيقات المتقدمة للذكاء الاصطناعي"، تضطلع فيها الروبوتات والمركبات المُسيرة، وأجهزة أخرى جوالة أو محمولة باليد أو قابلة للارتداء، بمهام معالجة البيانات بسرعة. ما تعقب عليه فانج بقولها: "عندئذ، سيمكننا أن نعول على القدرة الحوسبية الهائلة التي تتيحها الحوسبة البصرية (الفوتونية)، مع استهلاك قدر أقل كثيرًا من الطاقة".
اضف تعليق