دأبت المنظمات والناشطون المعنيون بحقوق الإنسان على تأكيد أهمية تنظيم انتخابات نزيهة ومعبرة عن إرادة الشعب، كون الحقوق السياسية للمواطن تأخذ الحيز الأكبر من الاهتمام، اذ تنص المادة الخامسة من دستور جمهورية العراق على ان الشعب مصدر السلطة والسند الوحيد لمنحها الشرعية في ممارسة الاختصاصات المسندة اليها، الا ان السؤال كيف للشعب ان يمارس سلطته وتجيب عن ذلك المادة الدستورية عينها حينما تضع آلية الانتخاب بالاقتراع العام السري العام المباشر عبر مؤسسات دستورية، وأفاضت المادة (102) تنظيماً للمؤسسة الحكومية التي تتخصص بإدارة الانتخابات وكل ما يتصل بوسائل التعبير عن الرأي الشعبي لتكوين المؤسسات الدستورية سالفة الذكر التي سيعهد اليها ممارسة السلطة نيابة عن الشعب الا وهي المفوضية العليا المستقلة للانتخابات.

ولخطورة دورها وعظم المسؤولية الملقاة على كاهلها لابد من تحديد أهم الضمانات التي تكفل حيادها واستقلالها لتكون الوسيلة والأداة التي تتوسط بين الشعب وممثليه أي بعبارة أخرى لتكون الانتخابات ترجمة للإرادة الحقيقية للشعب وبعيدة كل البعد عن التلاعب والتزوير، ومن الطبيعي ان تسعى الأحزاب والكيانات السياسية لإرضاء الناخبين وتكوين قاعدة شعبية وطريقها الطبيعي لذلك كما يعبر عنه المرجع الراحل الإمام السيد محمد الشيرازي في كتاب فقه السياسة هو البرامج الانتخابية التي تطرح في مرحلة الحملات الانتخابية ثم يقيم الشعب مدى مصداقيتها بعد ذلك في التطبيق العملي والترجمة العملية للوعود الانتخابية.

وتعرف المفوضية العليا للانتخابات بأنها هيأة مهنية حكومية مستقلة ومحايدة تتمتع بالشخصية المعنوية تحت رقابة مجلس النواب العراقي، وظيفتها الدستورية هي وضع الأسس والقواعد اللازمة لتسهيل تنفيذ القوانين المنظمة للانتخابات أو الاستفتاءات الشعبية والإشراف على هذه الفعاليات وإعلان نتائجها سواءً أكانت على المستوى الوطني أو الاتحادي أو على المستوى الإقليمي والمحلي فلابد ان يتصف كل العاملين فيها بالنزاهة والاستقلالية والحيادية وأعلى درجات المهنية لإبعاد شائبة الطعن في نزاهة الانتخاب والانحراف عن مقاصد أبناء الشعب، وقد أنشأت المفوضية أول الأمر في العام 2004 من قبل السفير بريمر رئيس سلطة الائتلاف المؤقتة المنحلة بالأمر التشريعي رقم (92) وبعد صدور الدستور العراقي الحالي أكدت المادة (102) على ضرورة تنظيم تشكيل وعمل المفوضية بقانون وبالفعل صدر القانون رقم (11) لسنة 2007 والذي عدل بالقانون رقم (21) لسنة 2010.

وبهذا الصدد سنحاول استعراض أهم الأسس التي تكفل حياد المفوضية والمعوقات التي من شأنها ان تجنح بها نحو ترسيخ المحاصصة الطائفية والسياسية المقيتة وتجعل منها مجرد واجهة لتمرير إرادة قادة الأحزاب والكتل والتكتم على النتائج الحقيقية للانتخابات والاستفتاءات وما يمكن ان يسجل لها من نقاط قوة يمكن ان تستغل من قبل منتسبيها للوقوف بوجه أطماع الساسة في الوصول للسلطة بأي ثمن وكالآتي:

أولاً: تقول الحكمة التي يرددها البرت أنشتاين ان من يحاول تكرار الأمر نفسه متوقعاً نتائج مغايرة فهذا الجنون بعينه وهو ما يرافق المطالبات الحالية بتغيير مجلس مفوضي الانتخابات ولو تساءلنا كيف تم تعيينهم؟ يكون الجواب هو الآتي:

في ظل الأمر رقم (92) لسنة 2004 بموجب القسم الخامس كان التعيين يتم من خلال قيام الأمم المتحدة بتقديم أسماء المفوضين السبعة ممن يحق لهم التصويت في مجلس المفوضين لترفع القائمة إلى مجلس الحكم وبعد موافقة الأخير يتم رفع الأسماء إلى المدير الإداري لسلطة الائتلاف المؤقتة المنحلة لتعيينهم، اما القانون الحالي رقم (11) لسنة 2007 فقد نص في المادة (3) على ان يتألف مجلس المفوضين من تسعة أعضاء اثنان منهم من القانونيين على الأقل يختارهم مجلس النواب بالأغلبية بعد ترشحهم من لجنة من مجلس النواب على ان يكونوا من ذوي الخبرة...

وكل من يستعرض تكوين مجلس الحكم المنحل أو مجلس النواب الحالي يكتشف وبما لا يدع مجالاً للشك تشكيلهما من كتل وأحزاب يتقاسمون المناصب الحكومية والتشريعية ويحاولون ليل نهار تجذير نفوذهم وضمان وصول كوادر أحزابهم وأقاربهم وتابعيهم لأعلى المناصب ولضمان ذلك لابد ان تحقق الأحزاب المتنفذة موطأ قدم في المفوضية بما يمكنها من الاستمرار في السلطة بكل الوسائل المشروعة وغيرها.

والمطالبة بتغيير المفوضين لتحقيق الإصلاح ستبقى جوفاء ان لم نغادر نظام المحاصصة أصل البلاء ويتم اختيار خبراء من خارج مجلس النواب ليرشحوا المفوضين ما يعني ضرورة تعديل القانون رقم (11) وهذا الامر مستحيل اذ ستقف الكتل والأحزاب النفعية بالضد ولن يمر التعديل الا ان تمكنوا من الالتفاف عليه ليضمنوا حصتهم كاملة في مجلس المفوضين والمناصب العليا بالمفوضية.

ثانياً: انصبت المطالبات على تغيير مجلس المفوضين ولكن السؤال هل ان تغيير المجلس يحل المشكلة ؟ اذ يعاون المفوضين في عملهم الإدارة الانتخابية التي تتكون من المكتب الوطني والمكاتب الانتخابية في الأقاليم والمحافظات وانصب التعديل الأول لقانون المفوضية رقم (21) لسنة 2010 على المادة (5) البند (ج) وجعل من تعيين الأمين العام لمجلس المفوضين ومعاونا رئيس الدائرة الانتخابية ووكلاء المفوضين ومدراء هيأة الأقاليم ومدراء مكاتب المحافظات بوظيفة مدير عام يتم ترشيحهم من قبل مجلس المفوضين بأغلبية عدد أعضائه ويتم تعيينهم وفق القانون ما يعني العودة مجدداً لمجلس النواب لتعيين الدرجات الخاصة وفق المادة (61/خامساً من الدستور) والبقية يختص بتعيينهم مجلس الوزراء وفق المادة (2/البند الثاني عشر) من النظام الداخلي لمجلس الوزراء رقم (8) لسنة 2014، ما يمكن كلا الجهتين من أعمال المحاصصة وبأجلى صورها والزج بأشخاص متحزبين ومرشحين لأحزاب بعينها وسيسهمون في تكريس هيمنة تلك الجهات على عمل المفوضية ولربما الحرص على انحراف البوصلة باتجاه تمكين مرشحي تلك الجهة من الفوز عنوة، وقبل التعديل كان الأمر يرجع لمجلس المفوضين في التعيين بعد الترشيح من مجلس المفوضين للمدراء الموجودين بمركز المفوضية اما الموجودون في الأقاليم والمحافظات فيتم ترشحهم من قبل خمسة على الاقل من نواب الاقليم والمحافظة، ما يعني ان المشرع ابعد أعضاء مجلس النواب من ترشيح من يرونه الا انه سلب من مجلس المفوضين سلطة التعيين ومنحها لمجلسي الوزراء والنواب.

ثالثاً: ما ورد بالبند عاشراً من المادة التاسعة من قانون المفوضية العليا المستقلة للانتخابات ((يراعى في تشكيل المفوضية العليا للانتخابات ما يحقق التوازن في تمثيل مكونات الشعب العراقي وفقاً للأنظمة والتعليمات)) وفي هذا النص الكثير من المنافذ التي من شأنها ان تفسح المجال واسعاً للمساومات وبحجة تمثيل المكونات حيث ستتمسك الكتل بمسميات ما انزل الله بهل من سلطان لأجل الزج بمرشحيها في مجلس المفوضين، أضف إلى ذلك ان النص يعلوه الغموض فما المقصود من التوازن وفق الأنظمة والتعليمات هل يقصد ما ستضعه الهيأة ذاتها ام السلطة التنفيذية ولماذا لم يكن النص وفق ما رسمه الدستور مثلاً؟.

رابعاً: هنالك العديد من العوامل التي من شأنها ان تحد من استقلالية المفوضية وتجعل منها عرضة للتأثر من السلطات الأخرى:

1- موازنة المفوضية:- وفق المادة التاسعة من قانون المفوضية ترفع الموازنة من قبل مجلس المفوضين بالتشاور مع وزارة المالية ويصادق عليها مجلس النواب ما يجعل هذه الموازنة عرضة للمرور بمرحلتين الأولى موافقة مجلس الوزراء عليها والثانية استخدام مجلس النواب لسلطته وفق المادة (62) من الدستور وتخفيض مجمل النفقات.

2- إقالة أعضاء مجلس المفوضين: مجتمعين أو منفردين في حالتين وفق ما رسمته المادة السادسة من قانون المفوضية وكالآتي:

الأولى: بتوصية من خمسة من أعضاء مجلس المفوضين بإقالة أحد زملائهم اذا انتهك قواعد السلوك بيد ان القانون لم يحدد هل ان مجلس النواب يقوم باستجواب المفوض ام يصوت مباشرة وهذا نقص واضح في القانون.

الثانية: لمجلس النواب إعفاء مجلس المفوضين مجتمعاً أو منفردين بعد ثبوت مخالفتهم القانونية، وبكل الأحوال لابد لإثبات المخالفة ان يتم استجواب المفوض أو مجلس المفوضين مجتمعاً.

إذ بينت الفقرة (هـ) من المادة (61/ثامناً) من الدستور العراقي ان مجلس النواب يمكن ان يستجوب مسؤولي الهيئات المستقلة وفق الإجراءات المتعلقة بالوزراء وإعفائهم بالأغلبية المطلقة.

ولعل أهم الأسباب التي تحدونا الى التركيز على ضمانة استقلال المفوضية المستقلة العليا للانتخابات هي:

1- ان المفوضية هي الأداة التي تتوسط المسافة بين الشعب وبين التعبير الحقيقي عن ارادته في تكوين السلطات العامة في البلد.

2- ان التنوع في مكونات الشعب العراقي يتطلب المهنية والحيادية في عمل المفوضية لضمان اداء مهني وموضوعي.

3- ان طبيعة الانتخابات والإشراف عليها يتطلب استقلالية القائم بذلك وحياديته كونه ينشد الحقيقة والموضوعية فحسب.

4- اوجب الدستور العراقي التداول السلمي للسلطة عبر الوسائل الديمقراطية (المادة السادسة) ولا مناص من مفوضية مستقلة تشرف على وسيلة التداول السلمي الوحيدة الا وهي صندوق الانتخابات.

5- كفل الدستور العراقي بالمادة (20) منه للمواطنين رجالاً ونساءً حق المشاركة في الشؤون العامة والتمتع بالحقوق السياسية وبالأخص حق الترشح والانتخاب ولا سبيل لذلك إلا من خلال المفوضية المعنية بتنظيم الانتخاب أو الاستفتاءات المتعلقة بإقرار الوثائق الدستورية أو استطلاع رأي الشعب في أمر معين كإنشاء إقليم جديد على سبيل المثال الذي نظمه قانون الإجراءات التنفيذية الخاصة بتكوين الأقاليم رقم (13) لسنة 2008 بالمادة الثالثة وما بعدها.

على الجانب الآخر أهم الضمانات التي تكفل استقلال المفوضية وحيادية ومهنية جميع منتسبوها لاسيما القيادات العليا في مجلس المفوضين والإدارة الانتخابية هي:

1- ان الدستور العراقي أشار للمفوضية في الفصل الرابع المعنون بالهيئات المستقلة من الباب الثالث الذي حمل عنوان السلطات الاتحادية، وعندما يقرن الدستور أسم المفوضية بصفة الاستقلال ينبغي ان تكون أسم على مسمى.

2- عدم ارتباط المفوضية باي سلطة وفق ما ورد بالمادة (102) من الدستور وانها تراقب فقط من خلال مجلس النواب باعتبار الأخير الممثل لإرادة الشعب المالك الحقيقي للسلطة وما ورد بالقانون رقم (11) المادة الثانية التي وضعت تعريفاً لها بانها (هيأة مهنية حكومية مستقلة ومحايدة تتمتع بالشخصية المعنوية).

3- شروط المرشح لعضوية مجلس المفوضين والتي حددته المادة الثالثة من قانون المفوضية ومنها (ان يكون عراقياً مقيماً في البلد إقامة دائمة، وان يكون حسن السيرة والسلوك، من ذوي الكفاءة والخبرة في مجال العمل الإداري، مستقلاً من الناحية السياسية، غير مشمول بقانون المساءلة والعدالة، غير محكوم بجريمة مخلة بالشرف).

4- أداء أعضاء مجلس المفوضين اليمين القانوني الوارد بالمادة الثالثة أمام رئاسة مجلس القضاء الأعلى بالصيغة الآتية ((اقسم بالله العظيم ان أؤدي مسؤولياتي القانونية بأمانة وتفان وإخلاص وأعمل على انجاز المهام الموكلة الي باستقلال وحياد)).

5- استقلال المفوضية بوضع الأنظمة والتعليمات الخاصة بتسهيل مهمة انجاز الانتخابات بنزاهة حيث ورد بالبند الثامن من المادة الرابعة (يخص مجلس المفوضين بوضع الأنظمة والتعليمات التي تحفظ للعملية الانتخابية نزاهتها).

6- منح مجلس المفوضين سلطة قضائية بالبت في الطعون المقدمة ضد قرارات وإجراءات المفوضية ويكون قرار المجلس بحسب البند الخامس من المادة الرابعة قابلاً للطعن أمام هيأة قضائية تمييزية خاصة منبثقة عن محكمة التمييز الاتحادية.

7- إسناد كل ما يتعلق بالعملية الانتخابية بالمفوضية بدءً من إنشاء وتحديث سجل الناخبين وتنظيم سجل الكيانات أو الائتلافات الانتخابية وتنظيم سجل قوائم المرشحين والمصادقة عليها.

8- منح قانون الأحزاب والهيئات السياسية الصادر بالأمر رقم(97) لسنة 2004 القسم (2) وقانون الأحزاب النافذ (36) لسنة 2015 المادة (11) المفوضية سلطة تسجيل ومنح إجازة تأسيس الأحزاب والكيانات السياسية من خلال دائرة الأحزاب التابعة لمجلس المفوضين.

التوصيات:

1- نوصي بضرورة إعادة النظر بقانون المفوضية العليا المستقلة للانتخابات فيما يتعلق بتكوين ذراعيها مجلس المفوضين والإدارة الانتخابية وان يكون ترشحهم من خلال السيد رئيس الجمهورية بعد الاستئناس برأي لجنة خاصة يشكلها لهذا الغرض تضم أساتذة الجامعات من ذوي الاختصاص وممثلين عن المنظمات غير الحكومية المهتمة بحقوق الإنسان والانتخابات ومن ثم عرض الترشيحات على مجلس النواب.

2- إشراك القضاء في عملية مراقبة إجراءات المفوضية العليا المستقلة وتضمين المادة السادسة نصاً يجيز الطعن بجميع الأنظمة والتعليمات التي تصدرها أمام محكمة القضاء الإداري العراقية، وإشراف القضاة التابعين لمجلس القضاء الأعلى على جميع تفاصيل الانتخاب يوم الاقتراع وان يعلن رئيس الاستئناف في كل محافظة النتائج عشية يوم الاقتراع بنفسه بما يدفع شبهة التلاعب بالنتائج في المركز الوطني.

3- منح منظمات المجتمع المدني صفة مراقب دائم على إجراءات المفوضية قبل وأثناء وبعد الاقتراع على ان يتم صياغة تقرير موحد يتلى علنا على الرأي العام يتضمن خلاصة الملاحظات على أداء المفوضية بجزئيها مجلس المفوضين والدائرة الانتخابية.

4- العمل على تعديل قانون انتخاب مجلس النواب العراقي رقم (45) لسنة 2013 وقانون انتخاب مجالس المحافظات والأقضية والنواحي رقم (36) لسنة 2008 بإقرار نظام الانتخاب الفردي وتعدد الدوائر الانتخابية بما يمكن الناخب العراقي من ان يراقب بنفسه سير العمل يوم الاقتراع ويحد من التزوير والتدليس على الرأي العام أو الانحراف الذي يرافق جميع الإجراءات والإعلان عن النتائج.

.....................................

** مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات/2009-Ⓒ2017

هو أحد منظمات المجتمع المدني المستقلة غير الربحية مهمته الدفاع عن الحقوق والحريات في مختلف دول العالم، تحت شعار (ولقد كرمنا بني آدم) بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو المذهب. ويسعى من أجل تحقيق هدفه الى نشر الوعي والثقافة الحقوقية في المجتمع وتقديم المشورة والدعم القانوني، والتشجيع على استعمال الحقوق والحريات بواسطة الطرق السلمية، كما يقوم برصد الانتهاكات والخروقات التي يتعرض لها الأشخاص والجماعات، ويدعو الحكومات ذات العلاقة إلى تطبيق معايير حقوق الإنسان في مختلف الاتجاهات...

هـ/7712421188+964
http://ademrights.org
ademrights@gmail.com

اضف تعليق