تقتضي سنن الله في الأرض تطبيق العدالة والمساواة بين بني البشر، وهذا الأمر يعد منهج الرسالات السماوية جميعاً وثقافة حاول النبي الأكرم غرسها في المجتمع الإسلامي، إذ قال تعالى في سورة النساء " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَة ٍوَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً"، وقال تعالى في سورة الأحزاب، "إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً"، وقال رسول الله (ص) "إن أكرمكم عند الله اتقاكم".
والظاهر إن القرآن الكريم يهدف إلى القضاء على الرواسب الاجتماعية القائمة على التمييز بين الناس على أساس الجنس، كما إن الشريعة الخاتمة تسعى لإزالة المتلازمة السائدة في زمن الجاهلية بالحط من قدر النساء، ومن بعد ذلك برزت العديد من المحاولات الدولية والفردية الساعية لتذويب الفوارق بين الأفراد وإذابة أو تهذيب بعض الثقافات والنظم الحضرية التي تمييز بين النساء والرجال لاسيما في المجتمعات الريفية، ويذكر في هذا الشأن ما ورد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 في المادة الأولى منه، (يولد جميع الناس أحرار ومتساوين بالكرامة)، ومن بعد ذلك أبرمت العديد من الاتفاقيات وصدرت دساتير وقوانين وطنية هدفها تحقيق المساواة بين الجنسين لاسيما في الحماية القانونية والتمتع بالحقوق والحريات.
وفي العراق كانت ولا تزال النساء لاسيما في المناطق الريفية من أكثر الفئات الاجتماعية تضرراً من بعض الممارسات الرسمية والأعراف والتقاليد المتوارثة مما ساعد على تكريس واقع مؤلم في العديد من الحالات ما ينذر بخطر مستقبلي محدق، فالمرأة الريفية تعاني الأمرين نتيجة الإهمال الحكومي والمجتمعي ونتيجة الآثار السلبية التي أخذت تتراكم وتترك بصماتها عليهن وعلى أطفالهن وأسرهن من جهة الواقع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والصحي وغير ذلك، وهذا الأمر يشكل انتقاص من حقوق المرأة الريفية أو على الأقل يجعل منها في مركز قانوني أدنى من الرجال، بل وأقل من نظيرتها المرأة في المدن، رغم التضحيات والإسهامات اليومية التي تقدمها، فهي تشارك الرجل في تحقيق الأمن الغذائي للأسرة وسد جانب من حاجة السوق المحلية من الأغذية والمنتجات النباتية والحيوانية، كما إن المسؤولية الملقاة على عاتقها ليست باليسيرة فهي من يتصدى لتربية الأطفال والنشء، وفي الغالب نجد أنها فقدت الزوج أو الأب، فتصدت لمسؤولية إعالة الأسرة.
بيد إن هذا كله يكون على حساب نصيبها من التعليم والرعاية الصحية، والواقع إن المناطق الريفية تعد من أكثر أنحاء العراق إهمالا من جانب الحكومة، فلا تتوفر مدارس تستوعب أعداد السكان هناك وفي حال توافرها فأنها تفتقر لأبسط مقومات العملية التعليمية والتربوية وفي الغالب هي من القصب أو الطين أو البناء القديم المتهالك وتفتقر تلك المناطق للمستشفيات أو المستوصفات الطبية ويزيد الأمر سوءً افتقار المنطقة لمشاريع تحلية وتصفية المياه وتذبذب خدمات الكهرباء وانعدام للخدمات البلدية، والأدهى من كل ما تقدم إن الحكومة المحلية أو المركزية لا تملك رؤية إستراتيجية للنهوض بالمنطقة خدمياً ما ساعد على تراكم المشاكل المتقدمة واستفحالها.
ونجد فيما تقدم فضلا عن انه مخالف للعدالة والمساواة فانه يخالف أيضاً التزامات العراق بمقتضى المادة (2) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والذي ورد فيه ( تتعهد كل دولة طرف في هذا العهد باحترام الحقوق المعترف بها فيه وبكفالة هذه الحقوق لجميع الأفراد الموجودين على إقليمها والداخلين في ولايتها دون تمييز بسبب العرق أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين..)، كما ورد بالمادة (3) بان تتعهد جميع الدول الأطراف في هذا العهد بكفالة تساوي الرجال والنساء في حق التمتع بالحقوق المدنية والسياسية المنصوص عليها في هذا العهد، وأكد المعنى ذاته العهد الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في المادة (3) منه.
والملاحظ إن المرأة الريفية تفتقد أبسط الحقوق ولا تتمكن من ممارسة الحريات بسبب الفقر وغياب أو تغييب الوعي المجتمعي لديهن ومحاولة البعض من عليّة القوم مجتمعياً أو سياسياً وحتى دينياً تكريس هذه الحالة بحجج واهية، فغابت المرأة الريفية عن المشهد السياسي وأهدرت حقوقها المدنية وأضحت مجرد أرقام انتخابية سهلة الكسب عند العزف على وتر العشائرية أو المعتقدات الدينية، وغدت مشاركتها في الانتخابات شكلية إذ يسهل التأثير على ارادتها وتضليلها، كما تعاني المرأة الريفية من النزاعات العشائرية إذ يتخذ البعض منها سلعة لإحلال السلام بين العشائر المتناحرة فيتم إجبارها على الزواج من أحد أفراد عشيرة أخرى كنوع من التعويض للضرر الذي أصاب هؤلاء أو ما يعرف بالفصل العشائري ونمط السلوك هذا ممنوع قانوناً وشرعاً، فمن الثابت إن عقد الزواج لا يقع صحيحاً منتجاً لآثاره إلا إذا جاء برضاً صحيح من كلا الطرفين، وبخلاف ذلك يعد أمراً آخر قد يكون بنظر الشريعة الإسلامية نوع من "الزنا"، وفي نظر القانون جريمة مواقعة بلا رضا وفق قانون العقوبات العراقي رقم (111) لسنة 1969 المعدل (المادة 393)، وهذا السلوك غير الحضاري يخالف ما جاء بالمادة (16) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 (لا يعقد الزواج إلا برضا الطرفين المزمع زواجهما رضاءً كاملاً لا إكراه فيه).
ومن المشاكل الأخرى التي تواجهها المرأة الريفية هي المشكلة الاقتصادية المتمثلة في قلة الموارد في الأرياف العراقية بسبب سوء التخطيط الحكومي والإهمال المتعمد على مستوى السياسات الزراعية أو الاروائية فتذبذب مياه السقي وانتشار الأوبئة وانعدام الدعم الحكومي ورافق ذلك ارتفاع في درجات الحرارة والجفاف ما سبب تفاقم ظاهرة التصحر الذي أدى إلى هلاك قسم كبير من مواشي تلك العوائل وسبب في هجرة العديد من أبنائها نحو البحث عن الوظائف الحكومية أو العمل في المشاريع التجارية والصناعية، وكل ما تقدم ألقى بضلاله المدمرة على المرأة الريفية كونه سبب تراجعاً حاداً في المستوى المعيشي لسكان المناطق الريفية، وتتزايد معاناة تلك النسوة مع تبدل فصول السنة فمع ما يحمله الربيع من تباشير الخير يخشى سكان المنطقة الريفية من موجات الأمطار وما تخلفه من سيول تأتي على كل ما يملكونه أحياناً فتجرف مزارعهم وتضيع مصادر عيشهم، وفي فصلي الشتاء والصيف تبرز مشاكل جديدة مع ارتفاع أو انخفاض ملحوظ في درجات الحرارة لا اقلها تفشي بعض الأمراض والأوبئة التي ترافق ذلك كمرض الكوليرا أو التيفوئيد وغيرها.
ونتج عن ذلك آثاراً سلبية ظهرت على شكل أمراض مزمنة أصابت شريحة كبيرة من النساء الريفيات وألقت بظلالها على المواليد الجدد بسبب سوء أو انعدام الرعاية الصحية الأولية في المنطقة الريفية وما تتطلبه مرحلة الحمل والولادة من نظام غذائي وبعض العلاجات لتدارك الخلل الذي يصيب المولود في المستقبل ورغم افتقار المحافظات العراقية لإحصائية دقيقة في هذا الخصوص إلا إن المؤشرات شبه الرسمية تشير إلى ارتفاع مخيف في عدد المواليد المشوهة أو من ذوي الاحتياجات الخاصة وسجلت حالات متزايدة من النسوة التي تعاني صعوبات في الإنجاب، ما يلقي على العائلة والدولة بالمستقبل أعباء إضافية.
كما إن تغييب الوعي الثقافي عند الكثير من النساء الريفيات افرز واقعاً مؤلماً فالكثير منهن تتعرض للعنف الأسري من قبل أزواجهن أو ذويهن ولا تتمكن من أن تبلغ عن ذلك أو تأخذ الأجهزة الرسمية دورها في مكافحة هذا التنوع من الإجرام الخفي، ما سبب اختفاء أثار عشرات بل مئات الجرائم التي ترتكب ضدهن تصل إلى حد القتل بدعوى الحفاظ على الشرف، وتأكيدا للنهج القائم على ضرورة المحافظة على حقوق المرأة أوردت اتفاقية الأمم المتحدة للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة التي اعتمدت بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة (34/80) في 18/كانون الأول 1979 والتي دخلت حيز النفاذ في 3/أيلول/1981 المادة (2) والتي ألزمت الدول الأطراف بتجنب جميع أشكال التمييز ضد المرأة وعلى أن تنتهج بكل الوسائل المناسبة ودون إبطاء سياسة تستهدف القضاء الجذري على أسباب التمييز ضد المرأة وتحقيقاً لذلك تتعهد بالقيام بما يلي:-
أ- إدماج مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في دساتيرها الوطنية وتشريعاتها المناسبة الأخرى.
ب- اتخاذ التدابير التشريعية وغير التشريعية المناسبة لحظر كل تمييز ضد المرأة.
ج- فرض حماية قانونية لحقوق المرأة على قدم المساواة مع الرجل وضمان الحماية الفعالة للمرأة عن طريق المحاكم ذات الاختصاص والمؤسسات العامة الأخرى.
د- الامتناع عن مباشرة أي عمل تمييزي أو ممارسة تمييزية ضد المرأة.
هـ- اتخاذ جميع التدابير المناسبة للقضاء على التمييز ضد المرأة من جانب أي شخص أو منظمة أو مؤسسة.
و- اتخاذ جميع التدابير المناسبة بما في ذلك التشريعي منها لتغيير أو إبطال القائم من القوانين والأنظمة والأعراف والممارسات التي تشكل تمييز ضد المرأة.
التوصيات:-
1- على الحكومة العراقية إعداد قاعدة بيانات لإحصاء عدد النساء الريفيات وتنظيم سجل صحي لكل منهن يتضمن تأصيلاً لحالتها الصحية والاجتماعية وعدد أفراد أسرتها وأولادها والمشاكل الصحية التي تعانيها.
2- إنهاء ظاهرة عمل النساء في الأماكن الصناعية التي لا تتوافر فيها ابسط مقومات السلامة المهنية والتي يكون لها الأثر البالغ على صحة المرأة ومستقبلها الأسري كالعمل في معامل الطابوق في بعض المحافظات الوسطى والجنوبية، والعمل على توفير سبل العيش الكريم للمرأة العراقية عموماً والريفية خصوصاً.
3- العمل على رفع المستوى الثقافي للمرأة الريفية وفق برامج تنمية بشرية وطنية كي تتمكن النساء من التعرف على حقوقها المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية وسبل الدفاع عنها قضائياً وقانونياً، على أن تأخذ المفوضية العليا لحقوق الإنسان دورها الطبيعي في هذا الموضوع.
4- لابد أن يرافق ما تقدم العمل على رفع وعي أولياء أمور الفتيات والنساء الريفيات للسماح لهن بالالتحاق بالمدارس والجامعات، والامتناع عن كل ما من شأنه أن يصنف على انه عنف ضد المرأة جسدياً أو نفسياً.
4- العمل الجاد وفق برنامج وطني لإنقاذ النساء الريفيات من الواقع الصحي المتردي بتخصيص الأموال اللازمة والبنى التحتية الأساسية التي يمكن من خلالها إحداث تغييرات جوهرية في القطاع الصحي، وضرورة تبني برامج إعلامية تثقيفية تحذر من إهمال المرأة في فترات معينة من الحمل أو الرضاعة وضرورة أن تولى العناية اللازمة والحث على إجراء الفحوصات الطبية الأولية اللازمة قبل الزواج للتأكد من سلامة كلا الزوجين من الأمراض.
5- العمل على استفادة النساء الريفيات من انجازات الثورة التكنولوجية الحديثة واستثمارها في حياتهن الزراعية أو الأسرية والاجتماعية.
6- على جميع مؤسسات المجتمع المدني في العراق والمنظمات الخيرية المعنية بملف حقوق الإنسان الإعداد لمؤتمر دولي عن واقع المرأة الريفية في العراق والخروج بخارطة طريق تمهد لدراسة شاملة في أسباب تردي أوضاعها وسبل النهوض بها على كل الأصعدة.
7- أهمية النهوض بالمناطق الريفية حضرياً بالتأسيس لمشاريع بنى تحتية متكاملة لمدها بخدمات الماء والكهرباء والخدمات البلدية اللازمة والتي ستساعد على تقليل الهجرة باتجاه المدن وتحد من ظواهر تفتيت الأراضي الزراعية وتحويل استخدامها إلى نشاط آخر.
8- ضرورة تعديل قانون العقوبات العراقي رقم (111) لسنة 1969 بإيراد نص في المادة (393) يساوي بين المواقعة بلا رضا والعقد غير المقترن برضا صحيح للأنثى وإفراد عقوبة رادعة للجناة ولو كانوا هم من أفراد أسرة المرأة كالأب أو الأخ أو غيرهم واعتبار إجبار المرأة على ذلك باستغلال السلطة الأسرية عليها ظرفاً مشدداً للعقوبة.
...................................................
اضف تعليق