البيئة في اللغة مشتقة من الفعل (بوأ) و (تبوأ) أي نزل وأقام. والتبوء: التمكن والاستقرار. والبيئة بمعناها اللغوي الواسع تعني الموضع الذي يرجع إليه الإنسان، فيتخذ فيه منزله ومعيشته. أما البيئة في الاصطلاح فهي الوسط المكاني الذي يعيش فيه الإنسان، بكل ما يتضمنه من عناصر، سواء كانت طبيعية، كالحيوان والنبات والتضاريس والهواء والمياه، أو من صنع الإنسان كالعمران ووسائل المواصلات والطرق والجسور والمصانع وغيرها من العناصر المصطنعة.
كما يمتد المدلول الإصلاحي لمعنى البيئة عند البعض ليشمل كذلك تفاعلات الإنسان وعلاقاته الحيوية بباقي الكائنات الحية وغير الحية الأخرى الموجودة ضمن نفس المحيط الطبيعي. وبناء على هذه العناصر يمكن تعريف البيئة في دلالتها القانونية: بأنها الوسط البيئي الذي يتصل بحياة الإنسان وصحته في المجتمع، سواء كان من خلق الطبيعة أم من صنع الإنسان.
السؤال هنا؛ هل للبيئة علاقة بحقوق الإنسان؟ وكيف يمكن أن تؤثر البيئة على هذه الحقوق إيجابا أو سلبا؟، وما هو التطور التاريخي للاهتمام بالبيئة من ناحية كونها حق من حقوق الإنسان، يحظى بالأهمية القصوى مع التغيرات البيئة السريعة بالخصوص ما يحدث من زيادة نسبة التلوث البيئي نتيجة التطورات الاقتصادية والصناعية الحديثة؟.
لقد أدى تزايد حدة المشاكل البيئية وتداعياتها الخطيرة على النظم والعناصر الطبيعة عبر نطاق واسع من دول العالم، خلال العقود الأخيرة إلى تحول كبير في مواقف المجتمعات المعاصرة اتجاه قضايا المحيط البيئي من خلال ارتفاع درجة اهتمامها بالوضع البيئي الراهن وإدراكها لحقيقة أثاره الوخيمة على استدامة البيئة الطبيعة.
ومن ثمة فان تبلور فكرة الحق في البيئة والإقرار القانوني لها لم يكن وليد الصدفة أو الاجتهاد القانوني المجرد، بل ارتبط ذلك بمسار متواصل من التحولات والتطورات في موقف المجتمعات الإنسانية ووعيها بحيوية البعد البيئي ضمن مختلف مناحي الحياة العامة المشتركة فيها.
إن الحقوق البيئية، أي الحقوق التي تُفهم على أنها ذات علاقة بحماية البيئة، هي آخر ما انضم إلى ترسانة قانون حقوق الإنسان. ذلك أن الذين صاغوا صك حقـوق الإنـسان الأول، وهو الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام ١٩٤٨، لم يضمّنوه الحقوق البيئية. وفي ذلك الوقت أيضاً، لم تتضمن الدساتير الوطنية، هي الأخرى، والتي كان القائمون على صياغة ذلك الصك يستلهمونها، أي إشارة إلى تلك الحقوق. وكان هذا الصمت أمراً يمكن تفهمه، فعلى الرغم من أن البشر كانوا يعون دائماً وأبداً اعتمادهم على البيئة المحيطة بهم، إلا أنهم لم يلتفتوا إلى الضرر الهائل الذي يمكن أن تلحقه أنشطة الإنسان بالبيئة إلا مؤخرا.
تعود البوادر الأولى لتبلور فكرة الإقرار القانوني بحق الإنسان في التمتع بمحيط بيئي صحي وملائم إلى الآراء والتوجهات التي طرحت لأول مرة خلال "مؤتمر ستوكهولم" حول البيئة سنة 1972. إذ يعد "إعلان ستوكهولم" أول نص قانوني أشار لمفهوم البيئة في إطار منظومة حقوق الإنسان. حيث جاء في ديباجته أن البيئة وبعنصريها الطبيعي والاصطناعي هي الفضاء الضروري والحيوي لتمتع الإنسان بكامل حقوقه المقررة لها ومنها بالأخص الحق في الحياة. ونص الإعلان في المبدأ الأول منه على أن " للإنسان حق أساسي في الحرية وفي المساواة وفي ظروف حياة مرضية، في بيئة ذات نوعية تسمح له بالعيش في كرامة ورفاهة" وهو ما شكل محطة انطلاقة فعلية لتوجه الرامي إلى الربط القانوني بين مفهوم البيئة وفكرة الحق، وعلى النحو الذي يجعل من البيئة موضوع أو جوهر هذا الحق.
وبالرغم من الإجماع الغالب لدى رجال القانون بان إقرار "إعلان ستوكهولم" بفكرة الحق في البيئة كحق إنساني لم يصل من الناحية القانونية إلى مستوى الإقرار الذي وصلت إليها باقي حقوق الإنسان الأخرى -حقوق الجليين الأول والثاني- فان ما تضمنته هذا الإعلان قد شكل بالمقابل تحولا وتطورا غير مسبوق في المضمون القانوني لمفهوم البيئة من خلال ربطه بين مضمون البيئة وفكرة الحق الإنساني والذي تبرز معالمه الأساسية في نقطتين أو فكرتين رئيسيتين: تتعلق الأولى بعملية الربط المباشر بين مفهوم الحق في البيئة والأهداف الأساسية التي تضمنتها قواعد وفلسفة ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 1948 والمتعلقة أساسا بتحقيق كرامة ورفاهية الإنسان، والثانية في تأكيد الإعلان على العلاقة الحيوية بين تمتع الإنسان بحقوقه المقررة له قانونا وبين طبيعة المحيط البيئي الذي يعيش فيه بشكل عام. إذ يشير الإعلان وبكل وضوح إلى أن تمتع الإنسان بحقوقه المكرسة قانونا لا يمكن أن يتحقق بالوجه المطلوب إلا في إطار بيئة سليمة وملائمة تضمن كرامته وتمتعه بأحسن ظروف الرفاهية.
بعد "إعلان ستوكهولم" أصبحت العلاقة بـين حقـوق الإنسان وبين البيئة موضوعاً جاداً يحظى بالعناية الدائمة في العديد من المحافل، ومنها هيئـات الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، وهيئات حقـوق الإنـسان الإقليمية، والمؤتمرات الدولية المعنية بالتنمية المستدامة، والاتفاقات البيئية المتعددة الأطـراف، والمجالس التشريعية والمحاكم المحلية والدراسات الأكاديمية ومنظمات المجتمع المـدني.
فقد أشار تقرير لجنة حقوق الإنسان عن دورتها التاسعة والخمسين لسنة 2003 المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة إلى أن حماية البيئة والتنمية يمكن أن تسهم أيضا في رفاه البشرية واحتمالات التمتع بحقوق الإنسان، كما أن الأضرار البيئية يمكن أن تترتب عليها آثار سلبية بالنسبة للتمتع ببعض حقوق الإنسان.
وقرّر مجلس حقوق الإنـسان، في قـراره ١٠/١٩ الـذي اعتمـده في ٢٢ آذار/ مارس ٢٠١٢، تعيين خبير مستقل يُعنَى بمسألة التزامات حقوق الإنسان المتعلقة بالتمتع ببيئة آمنة ونظيفة وصحية ومستدامة تكون واجباته كالتالي:
(أ) إجراء دراسة بشأن التزامات حقوق الإنسان، بما في ذلك الالتزامات بعدم التمييز، فيما يتعلق بضمان التمتع ببيئة آمنة ونظيفة وصحية ومستدامة؛
(ب) تحديد أفضل الممارسات في استخدام التعهدات والالتزامات المتصلة بحقوق الإنسان لتوجيه ودعم وتعزيز عملية صنع القرارات البيئية، خصوصاً في مجال حمايـة البيئـة والتشجيع على الأخذ بتلك الممارسات وتبادل الآراء بشأنها، وإعداد خلاصة وافية عن أفضل الممارسات في هذا الصدد؛
(ج) تقديم توصيات تتماشى مع ولايته، يمكن أن تساعد في تحقيـق الأهـداف الإنمائية للألفية، وبخاصة الهدف ٧ (كفالة الاستدامة البيئية)؛
(د) مراعاة نتائج مؤتمر الأمم المتحدة للتنمية المستدامة لعام ٢٠١٢، والإسـهام بمنظور حقوق الإنسان في عمليات المتابعة؛
(هـ) تطبيق منظور جنساني، بما في ذلك من خلال النظر في الحالة الخاصة للنساء والفتيات، وتحديد أوجه التمييز والضعف التي تعاني منها المرأة.
من جانب آخر، أسهمت المحاكم الإقليمية لحقوق الإنسان بقسط وافر من الاجتـهادات الفقهية بشان العلاقة بين حقوق الإنسان وبين البيئة. فقد وجدت اللجنة الأفريقية المعنية بحقوق الإنسان والشعوب، والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، ولجنة/محكمة البلدان الأمريكية لحقوق الإنسان أن الضرر البيئي يمكن أن يـؤدي إلى وقـوع انتهاكات لجملة من الحقوق منها الحق في الحياة والخصوصية؛ والملكية؛ والصحة. وبلغ تطور القضاء الأوربي في مجال إقراره العملي بفكرة الحق في البيئة إبعادا أخرى تجسدت في قرار المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان في قضية "قويرا" ضد الحكومة الايطالية والذي اعتبرت من خلاله أن حرمان الإنسان من حقه في الوصول للمعلومات البيئية انتهاك ومساس بحق هذا الإنسان في حياته الخاصة وحقوقه العائلية.
وعلى المستوى الإقليمي، نص الميثاق الأفريقـي لحقوق الإنسان الصادر عام ١٩٨٨، على أن "لكل الشعوب الحق في بيئة مُرضية وشـاملة وملائمة لتنميتها" (المادة ٢٤). وينص البروتوكول الإضافي للاتفاقيـة الأمريكيـة لحقـوق الإنسان على أن "لكل فرد الحق في أن يعيش في بيئة صحية (الفقرة ١ من المـادة ١١). ونص الميثـاق العربي لحقوق الإنسان الصادر عام ٢٠٠٤، على أن "لكل شخص الحق في مستوى معيشي كاف يضمن له الرفاهية والعيش الكريم والحق في بيئة سليمة " (المادة ٣٨). وبالمثل، يـنص إعلان حقوق الإنسان، الذي اعتمدته رابطة أمم جنوب شرق آسـيا، في تـشرين الثـاني/ نوفمبر ٢٠١٢، على "الحق في بيئة آمنة ونظيفة ومستدامة" كعنصر من عناصـر الحـق في مستوى معيشي لائق (الفقرة ٢٨(و)).
ومع تنامي المعرفة العلمية بشأن البيئة، تولّت كل دولة من دول العالم، تقريباً، سنّ قـوانين محلية الغرض منها الحد من تلوث الهواء والماء، وتنظيم استخدام المواد السميّة والحفاظ علـى الموارد الطبيعية. وانطلقت دعوات إلى الاعتراف الرسمي بأهميـة حمايـة البيئـة بالنسبة إلى رفاه الجنس البشري. وقد صيغت تلك الدعوات في الغالب بلغـة منطلقهـا حقـوق الإنسان. ولا عجب في ذلك بل إنه كان أمراً محتوماً. ذلك أن حقوق الإنسان إنما تستند إلى احترام صفات ونعوت إنسانية جوهرية مثل الكرامة والمساواة والحرية. وتحقيق تلك الـصفات والنعـوت إنما يعتمد على وجود بيئة تمكّنها من الازدهار.
وقد اتخذ الاعتراف بالعلاقة الوثيقة بين حقوق الإنسان وبين البيئة أساساً، شـكلين اثنين هما:
(أ) اعتماد حق جديد واضح في التمتع ببيئـة صـحية أو مأمونـة أو مـستدامة أو مرضية.
(ب) زيادة المزيد من الاهتمام بعلاقة حقوق معترف بها فعلاً، مثل الحق في الحياة، وفي الصحة، بالبيئة.
...................................................
اضف تعليق