طفلة صغيرة غطى ملامحها تراب المدينة، أقدامها حافية، وقطرات دم على تراب الأنقاض! صامتة تحدق في عيني بصمت، مددت لها يدي، لأنقذها من الموت، فاستدرت ابحث عن مساعدة، يعتصر الخوف أحشائي، لعلها تكون على قيد الحياة.
أدفن وجهي في وسط الرمال وارفع تلك الاحجار الثقيلة، تزلزلت الأرض من تحتي.
وقذائف تتدلى من سابع سماء. لا ترى شيئا سوى رائحة التراب، وبركة دماء في كل شبر من المدينة، لازلت مستمرة في رفع الاحجار والأبواب، هي تنظر إلي بابتسامة حزينة، أحاول الإسراع، فيبطئ من سرعتي سقوط الأبواب، في الكثبان الرملية وسط المدينة راية بيضاء علامة السلام تلوح بيدي، شهيقها ينثر التراب على ثغرها ويعطيني أملاً بأنها ما زالت على قيد الحياة، زفيرها المتكسر بصدرها، يخرج بين عبرات الهم والخوف، اقترب شيئا فشيئا من جسدها الصغير الوحيد في المدينة، أنين انفاسها بدأت أسمعها، من خلف التراب، اتعثر هنا واتعثر هناك بسبب الحجر والحديد المليء بالأنقاض، أنامل رقيقة تغير لونها، تحاول أن تمسك بي، ساعات قد مضت، وأنا مازلت مستمرة في رفع الأثقال عن جسد الطفلة، تأخذ نفسا عميقاً، تمسح التراب على وجهها الحزين، يأخذها الجوع والعطش في رحلة نوم على وسادة الأنقاض، وحدها من دون الأطفال تتوارى من الوجع، وصلتُ إليها، ها هو جسدها الصغير بين راحة يدي، الخوف يكتم غيظه، ارتعشت، وأنا ارفعها من بين الألواح الخشب، وقطع الزجاج متحطمة، ورغم أن قصاقيص شعرها منثورة، بدا كأنه أقواس السماء على وجهها، نسمات هواء خفيفة تلامس جسدها النقي عبر ثوب ممزق، تنادي..!أمي.. يا أمي. يمضي الليل والقلب متوجعا كسيرا، تفتقد أسرتها، رفضت أن تغادر المكان إلا بعد أن ترى أمها واخوتها الصغار، تتوسد ذراعها الجريح بالدموع وسط الحطام، تتأمل سَراباً من الأحلام، ويأتيها صوت من الأرض: إغمضي عينيك، نامي يا صغيرتي، أو اقضي الليل سهدا، لن أعود، أمي.. أمي.. صرخات.. بين الأنقاض تعلو.. رحلت أسرتها ولم يبقَ منها سوى طفلة ذات سبع سنوات، تتكئ على يدي وتقف وسط المدينة، تنادي
أيتها الأنقاض الصاخبة بالأنين.. ألم تكتفي بعد من احتضانهم!!.
أي شوق هذا ...؟
أرحمي أجسادهم..
لا تغيري ملامحهم .
هل تذكرين أيتها الأنقاض .
صدى ضحكاتهم .
هل تذكرين.
أمي أبي
منى ورنا ..
هل تذكرينهم .
أرجوحتها المعلقة
يا أرجوحة الذكرى؟
كفي عنقا؟؟؟ . اتركيهم
حلبٌ هي أمي النائمة
وأبي يُقام القصاص عليه
أخوتي شهداء سقطوا.
كلهم تحت التراب
كلكم سراب يا عرب
لم يبقَ منكم أي أثر.
لأنكم كلاب .
من قتل الأطفال من العرب
من قتل النساء من العرب
من قتل الشيوخ من العرب
من هدّم البنيان من العرب
من قتل النفس البريئة بلا ذنوب من العرب
لله درك يا حلب
في ذهني سؤال، من كان سببا في الدمار؟ الرئاسة، أم الطغاة.
عند كل صباح تكفكف دمعها الجاري على خدها الرقيق، عبرة تخنقها، تقطع أنفاسها الهادئة، مرة اخرى ينهدر سيلاً من الدمع القاسي ليترك اثره على الخد المتفتح كالزهرة.
أمي.. يا أمي.. يا أمي.. شيء في صدري.. يؤرقني.. يا أمي..أجيبيني.. لمَ كانت مأساتي؟.. بين الأنقاض ؟.
اضف تعليق