تعد حرية الاعتصام مظهراً من مظاهر حرية الرأي والتعبير وتتمثل باجتماع نفر من الناس في محل عام أو خاص للتعبير عن وجهة نظر معينة يؤمنون بها ويدافعون عنها، وهي تعد مرحلة متقدمة في ممارسة حرية الرأي أكثر من المظاهرات وتعتبر دليل ان الرأي العام لم يعد يحتمل تماهل أصحاب الشأن في اتخاذ قرارات تترجم ما يدافعون عنه إلى واقع عملي.
ويمكننا أن نعرف الاعتصام بأنه "مقاومة مدنية شعبية تتسم بالطابع السلمي ضد ما يجده أفراد المجتمع انحرافاً عن إرادتهم والذي يتجلى بسياسات أو قرارات حكومية تمرق عن المصلحة العامة" وهذا أمر طبيعي فالشعب كما تعبر عنه المادة (5) من الدستور مصدر السلطات وسبب شرعيتها يمارس السلطة بالاقتراع السري المباشر لاختيار نواب عنه، فالديمقراطية المطبقة عندنا في العراق نيابية إلا أن الأخيرة لا تعني إن دور الشعب ينتهي عند صندوق الانتخابات بل يبقى الأخير هو الرقيب الحقيقي على أداء ممثليه في الحكومة والبرلمان وله محاسبة من لم يمثله وينزل على إرادته ويحقق مصالحه، وان كان لا يملك أدوات الديمقراطية المباشرة وشبه المباشرة في إقالة نوابه أو سلوك طريق الاقتراح أو الإلغاء الشعبي، إلا انه يملك الحق في رفض ما يصدر عن ممثليه بالوسائل التي يراها مناسبة وحسب مقتضيات الحال ومن هذه الوسائل الاعتصام.
ولعل الفارق بين المظاهرة والاعتصام هو إن الأولى محددة بوقت قصير نسبياً إلا إن الاعتصام يستمر لأيام ويأخذ شكل المبيت في الشوارع والساحات العامة وهو بذلك يكون أكثر فاعلية بتعطيل مرور بعض الأشخاص أو منعهم من دخول مبنى معين إذ يؤدي إلى إغلاق منافذ الدخول والخروج لمنطقة معينة ولا يبرح المعتصمون أماكنهم إلا بعد الاستجابة لمطالبهم.
وبالعادة لا يلجأ الأفراد للاعتصام إلا إذا وصلت الأمور إلى طريق مسدود مع السلطات العامة بعد استنفاذ جميع الطرق السلمية الأخرى كالاحتجاج الشعبي والتظاهر ويأخذ الاعتصام حالة وسط بين الثورة والتظاهرات، فالقصد منه الإطاحة سلمياً برؤوس الفساد والممانعة التي تقف حائلاً دون الاستجابة للمصلحة العامة، وبذلك يمكننا أن نصف الاعتصام بأنه حركة شعبية تهدف إلى المحافظة على القيم السامية ومقاومة الفساد والتعسف باستخدام السلطة وترسيخ مبادئ العدل والحرية، كما يهدف أولاً وآخراً إلى المحافظة على الحقوق والحريات العامة والخاصة، وان لم يجد استجابة قد يتحول إلى عصيان مدني بتعطيل مظاهر الحياة العامة وتخرج الأمور عن السيطرة ويحصل ما لا يحمد عقباه وللاعتصام عناصر قوة من أهمها ((الحضور الشعبي الواسع، توحيد الشعارات الممثلة لمطالب المعتصمين في الوقت الذي قد تتشتت في المظاهرات، حسن اختيار المكان والزمان، ورمزية بعض الأماكن أو الأزمنة، الاستخدام الأمثل لوسائل الإعلام والاتصال ووسائل التواصل الاجتماعي، تفعيل الجوانب الثقافية والاجتماعية ما يزيد من فاعلية الاعتصام، إثارة الروح الوطنية للمعتصمين من خلال بعض الشعارات والأناشيد، المنهج السلمي للاعتصام)).
والسير في طريق التعبير عن الرأي بالتظاهرات أو الاعتصامات يعد سبيلاً حضارياً يدل على وعي الشعب السياسي والقانوني فهي وسائل سلمية للمطالبة بالحقوق وإصلاح الأوضاع السياسية والاقتصادية وغيرها السائدة في البلاد.
والاعتصام يعد الوسيلة الأنجع والأكثر فاعلية في المطالبات الشعبية في ظل دولة ديمقراطية تحترم فيها آدمية الإنسان وكرامته وشهدت بعض البلدان تجارب يحتذى بها في هذا الخصوص ومنها التجربة الهندية وزعيمها الراحل غاندي الذي انتهج سبيلاً سلمياً للاحتجاج وإظهار الامتعاض من الاحتلال البريطاني وتمكن في النهاية من انتزاع استقلال لبلاده من اعتى إمبراطورية آنذاك.
ولا شك في مشروعية الاعتصام وقانونيته عراقياً كان أو دولياً فلو تصفحنا الوثائق الدولية المنظمة لحريات وحقوق الإنسان سنجد الكثير من النصوص القانونية التي تكفل حرية الاعتصام وترسي سلطة الشعوب في مقاومة الحكام المستبدين والذين انحرفوا باستعمال ما خولهم إياه الشعب من سلطة ليحققوا مقاصدهم ومصالحهم الذاتية على حساب المصلحة العامة، وحاد هؤلاء عن العدل والإنصاف وركبوا موجة الظلم والاستبداد، ونلاحظ إن الحكام العرب عامة والعراقيين خاصة يتبجحون بمحاربة الفساد على إنهم دعاة الإصلاح والحقيقة إنهم بعيدون عن ذلك الادعاء تماماً، قال تعالى "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُون، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ".
وتعضيدا لحق الشعب العراقي في انتهاج سبل التعبير عن الرأي كافة ومنها الاعتصام نجد إن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 نص في المادة (19) منه على الحق في حرية الرأي والتعبير بمختلف الوسائل وأكد ذلك العهدين الدوليين لعام 1966 وبخاصة العهد الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في المادة (21) والتي ورد فيها، "يكون الحق في التجمع السلمي معترفاً به ولا يجوز أن يوضع من القيود على ممارسة هذا الحق إلا تلك التي تفرض طبقاً للقانون وتشكل تدابير ضرورية في مجتمع ديمقراطي...".
كما إن الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان لعام 1950 في المادة (10) أوردت حكماً مقارباً، "يكون لكل إنسان الحق في حرية التعبير"، وورد في المادة (11) النص على الحق في الاجتماعات السلمية، ومن جانبه أكد الميثاق العربي لحقوق الإنسان لعام 2004 في المادة (24) بان لكل مواطن حرية الاجتماع والتجمع بصورة سلمية.
وعلى الصعيد الداخلي أورد الدستور العراقي لعام 2005 نصاً عاماً للتعبير عن الرأي هو المادة (38) "تكفل الدولة بما لا يخل بالنظام العام والآداب العامة حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل.... حرية الاجتماع والتظاهر السلمي وتنظم بقانون"، وهذا النص الدستوري بغاية الجلاء والوضوح فهو يبيح صراحة التظاهر السلمي وحرية الاجتماع في محل عام أو خاص وحرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل ومنها الاعتصام السلمي الهادف للتعبير عن الرأي، وفيما يخص وجوب التنظيم بقانون يشار إلى إن المجلس النيابي إلى اليوم لم يتمكن من سن هذا القانون لينظم طرق التعبير عن الرأي، إلا إن هذا لا يعني عدم وجود نصوص نافذة وفق المادة (130) من الدستور والتي قررت سريان جميع القوانين المطبقة إلى أن تلغى أو تعدل.
وحرية التظاهر منظمة في العراق بموجب الأمر التشريعي رقم (19) لسنة 2003 المعنون بحرية التجمع الصادر عن سلطة الائتلاف المؤقتة المنحلة إذ إن قانون العقوبات العراقي رقم (111) لسنة 1969 كان يجرم التظاهر والتجمع في محل عام أو خاص ويعاقبهم بالحبس والغرامة إذا ما ابلغ المشتركون بضرورة التفرق ولم يستجيبوا وفق المواد (220-221) واللتين ألغاهما الأمر أعلاه الخاص بحرية التجمع، بيد إن الأخير لم يشر من قريب أو بعيد إلى إباحة أو حضر الاعتصام.
ومن رأينا إن الاعتصام مباح استناداً للمادة (160) من القانون المدني العراقي رقم (40) لسنة 1951 المعدل التي أمرت بان المطلق يجري على إطلاقه ما لم يقم دليل التقييد نصاً أو دلالة، ولم يشر المشرع إلى حضر الاعتصام صراحة ما يعني انه مباح بلا شك، ويشار إلى إن الأمر رقم (19) حّد من حرية التظاهر بوضعه شروطاً مجحفة بحق المواطنين ومنه الترخيص الواجب الحصول عليه من رئيس الوحدة الإدارية (المحافظ) ومنع التظاهر قرب سفارات الدول الأجنبية أو التظاهر في الشوارع في أوقات الذروة المرورية.
وعلاوة على ما تقدم نعتقد إن الأمر رقم (19) يخالف المادة (38) من دستور جمهورية العراق لعام 2005 التي كفلت حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل وهذه الأخيرة جاءت مطلقة ماخلا قيد واحد هو عدم الإخلال بالنظام العام والآداب العامة، كما إن المادة (146) من الدستور أوردت حكماً ملزماً بان تنظيم الحقوق والحريات الواردة في الدستور يجب أن لا يمس أصل الحق أو الحرية وحضر الاعتصام يمس جوهر الحق في حرية التعبير، لذا يرشح لدينا إن الحرية في الاعتصام سواء أكانت منصوصاً عليها صراحة أم لا فهي من ابسط حقوق المواطن العراقي والاحتجاج بعدم تنظيمها قانونياً حجة واهية لا تقوم على سند قانوني سليم.
ومما تقدم ترشح لنا جملة من التوصيات نؤشرها وندعو المختصين إلى الالتفات إليها علها تطرق أسماع صاحب القرار:-
1- على الجميع حكومة وبرلمان الاستماع إلى صوت المتظاهرين والمعتصمين وتصحيح المسار الذي تنتهجه مؤسسات الدولة لإنهاء أسباب السخط الشعبي وعلى رأسها المحاصصة والفساد الإداري والمالي المستشري واحترام الحقوق والحريات العامة والخاصة والنهوض بالخدمات العامة في البلاد.
2- أهمية إصدار قانون ينظم حرية التظاهر والاعتصام بشكل يتوافق مع المبدأ الدستوري القاضي بإباحتها كأصل عام بما لا يتناقض مع الآداب والنظام العام والنص فيه صراحة على حرية الاعتصام بشكل خاص كشكل من أشكال التعبير عن الرأي.
3- أن يتضمن القانون عقوبات رادعة بحق كل من تسول له نفسه الاعتداء مادياً أو معنوياً على المتظاهرين أو المعتصمين سواء كان موظفاً مدنياً أو عسكرياً استغل سلطة وظيفته لإلحاق الأذى بهم أمراً كان أم مجرد أداة تنفيذ.
4- أن يلغى كل نص يشترط الإجازة أو الرخصة لخروج المظاهرة أو الاعتصام والاكتفاء بمجرد الإعلام أو الإبلاغ عن موعد ومكان الفعالية الشعبية والذي يقدم إلى المفوضية العليا لحقوق الإنسان المؤسسة بموجب المادة (102) من الدستور والقانون رقم (53) لسنة 2008 والأخيرة هي من يشعر الجهات المختصة أمنياً وإدارياً بذلك لتوفير الأمن كما تلزم المفوضية بإيفاد موظفيها للفعاليات الشعبية التي تتخللها ممارسة حرية التظاهر أو الاعتصام لتسجل تقرير متكامل عن طبيعة التعامل الأمني والإداري ليرفع نسخ منه إلى البرلمان ومجلس الوزراء ويعلن بشكل رسمي على موقعها الاليكتروني ليعتمد من قبل المؤسسات الحقوقية الدولية.
5- ضرورة أن تفتح المؤسستين التنفيذية والتشريعية قنوات التواصل والحوار مع أبناء الشعب لاسيما من المتظاهرين والمعتصمين وتبتعد كل البعد عن التلويح بالحل الأمني.
6- تفعيل دور مؤسسات المجتمع المدني المعنية بحقوق الإنسان باتجاه الاشتراك الحقيقي في صياغة قانون حرية التظاهر والاعتصام والأخذ بنظر الاعتبار بملاحظاتها ومطالباتها، ومنحها الحق بإقامة الدعوى على أي موظف مدني أو عسكري أو سلطة في العراق تتعسف باستخدام السلطة الأمر الذي يحد من الحقوق أو الحريات.
...................................................
اضف تعليق